الغناء
وكان سعيد في أثناء ذلك يوجِّه انتباهه إلى ما وراء ذلك الستار، لعله يسمع شيئًا يهمه، فشعر بحركة، فأدرك أن الزهراء لا بد قد ملَّت سماع ذلك الحديث من فلسفة التاريخ، وأنها صارت شديدة الميل إلى سماع الغناء، فنظر إلى عابدة وأومأ إلى جيبها يشير إلى القانون الذي كانت تركِّبه وتعزف عليه، والتفت إلى الخليفة وقال: «إن الحكمة لا تحلو من فم المرأة يا أمير المؤمنين كما يحلو الغناء.»
فضحك الناصر وأشار إلى السقاة، فصبوا الأشربة من أباريق الفضة في أقداح الذهب، وقدموا للناصر ولسعيد، وأمر الجارية أن تشرب فاستأذنته في إعفائها من الشرب.
فقال الناصر: «اشربي يا عابدة، ليس هذا مُسكرًا، وإنما هو نبيذ التفاح، اشربي.»
فمدت يدها وتناولت القدح، فرأت عليه نقشًا يحيط به هو بيتان من الشعر هذا نصهما:
فشربت وشرب سعيد، فقال الناصر: «هل تُسمعيننا شيئًا من الغناء؟»
قالت عابدة: «كما تشاء يا أمير المؤمنين.»
فقال سعيد: «هل يأمر أمير المؤمنين أن تغني غناء أهل الأندلس، أم غناء أهل العراق، أم أهل المدينة؟»
فقال الناصر: «أما غناؤنا فإننا نسمعه وعندنا من يحسنه، ولكننا نحب سماع غناء أهل بغداد، أما غناء أهل المدينة فهو الغناء القديم ولا بأس به.»
فتذكر سعيد أنه يشير إلى الزهراء، وهي التي تُحسن غناء أهل الأندلس، وهو يعلم أنها وراء هذا الستار، وأحب أن يسمع غناءها فقال: «إذا أحب مولانا أن يأمر بعض جواريه المغنيات بالغناء على طريقة أهل الأندلس، وعابدة تغني على طريقة أهل بغداد، كان ذلك مجاوبة جميلة.»
فقال الناصر: «صدقت.» وأومأ إلى إحدى الجواري الواقفات في خدمتهم فتقدمت نحوه، فأشار إشارة فهمتها فمضت إلى وراء الستار، ففهم سعيد أنه أمر الزهراء بالغناء، وقال الناصر: «سنسمع غناءً أندلسيًّا على العود، فأين عود عابدة؟»
قال سعيد: «إنها تعزف على عود لا مثيل له، ولا أظنكم سمعتم به؛ لأنه حديث العهد في الصناعة، ومخترعه لا يزال حيًّا.»
فشخص الناصر ببصره إلى عابدة فلم يجد معها عودًا إلى جانبها، وهمَّ أن يسأل سعيدًا عما يعنيه، فرأى عابدة تمد يدها إلى جيبها ثم أخرجت منه القانون، وأخذت تركِّب عيدانه حتى أصبح آلة قد شدَّت أوتارها، فقال الناصر: «أهذا عود؟»
قالت عابدة: «نعم يا سيدي هي بعينها.»
فقال الناصر: «أظنه الآلة التي ركَّبها الفارابي في حضرة سيف الدولة؟»
قالت عابدة: «نعم يا سيدي هي بعينها.»
قال الناصر: «سمعت أنها أدهشت الحضور فأبكتهم، ثم أضحكتهم. فهل تعرفين العزف عليها؟ ومن أين تعلمت؟»
فأجاب سعيد عنها قائلًا: «أدركتُ الرجل في مكان، وأخذت عنه مثال قانونه ومبادئ صناعته، وعلَّمت ذلك لعابدة.»
فقال الناصر مستغربًا: «وأنت علَّمتها الموسيقى أيضًا؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي.»
فقال الناصر: «بورك فيك. إنك تصلح لكل شيء» والتفت إلى عابدة وقال: «أسمعينا، أو تمهلي لنسمع صوتًا من غناء أهل الأندلس.» وصفق وأصغى الجميع، فخرج من وراء الستار صوت عود بصناعة جيدة، وكان أكثر الناس إصغاءً سعيد، ثم سمعوا الغناء فطرب الناصر طربًا شديدًا، حتى إذا فرغ الغناء وراء الستار نظر الناصر إلى عابدة كأنه يستطلع رأيها فيما سمعته، فقالت: «إنه صوت مطرب سمعت مثله ممن يحفظ غناء زرياب المغني.»
فقطع الناصر كلامها قائلًا: «غناء زرياب؟ صدقتِ، إن هذا المغني هو الذي حمل هذه الصناعة إلى الأندلس، وقد قال الذي نقل هذا الصوت إلينا إنه من أصوات زرياب، فأسمعينا ما عندك من غناء بغداد.»
وكانت قد أصلحت القانون فتناولته واعتدلت في مجلسها، وجعلت تعزف عليه عزفًا لم يسمع الناصر مثله، وكان قد استخفه الطرب وهاجه الشراب فجعل يحرك يديه ورجليه ويزحف عن سريره، فاغتنمت عابدة تلك الفرصة وغنت صوتًا لإبراهيم بن المهدي أحسنت توقيعه وأداءه، فلم يتمالك الناصر أن صاح من الطرب: «لله درُّكِ من مطربة معربة! زيدينا زادك الله جمالًا وصنعة!»
فغنته صوتًا آخر على لحن زاده طربًا، وأشار إلى الجواري أن يسقينه، فدارت الأقداح وسعيد يُظهر أنه يشرب ولا يشرب، وكذلك عابدة، فلما أحس سعيد أن الشرب أخذ من الناصر أشار إلى عابدة، فأصلحت العود على إصلاح الفارابي كما فعل في حضرة سيف الدولة، ففعلت فغلب على الناصر الضحك وأغرب فيه، وسعيد يرقب ما يبدو وراء الستار، فسمع همسًا وضحكًا فأدرك أن ضحك الناصر وشدة طربه من غناء عابدة يهيجان حسد الزهراء.