نحنحة من وراء الستار
وبينما هم في ذلك، إذ سمعوا نحنحة من وراء الستار، لم يفطن لها إلا سعيد، وراقب ما يبدو من الناصر بعدها، فرآه انتبه لنفسه بغتة وأمسك عن الضحك، وقال لعابدة: «لقد أطربتنا بارك الله فيك.»
فأدرك سعيد أنه يريد فض الجلسة، فأومأ إلى عابدة فتحفزت للنهوض فلم يدعُها الناصر للبقاء، لكنه أشار إلى قيِّمة الجواري الواقفات للخدمة أن تزيد عابدة حفاوة، فمشت بين يديها إلى غرفتها.
وتحفز سعيد للنهوض والاستئذان، فأومأ إليه الناصر أن يمكث، فمكث، ونهض الناصر ودخل من باب يؤدي إلى غرفة أخرى، وأشار إلى إحدى الجواري فدخلت وراء الستار، فشعر سعيد أنه بعث إلى الزهراء لتمضي إليه، فلبث يفكر فيما عسى أن يكون سبب تلك الدعوة، ولم يبقَ في تلك القاعة سواه.
وبينما هو في ذلك إذ رأى الستار يتحرك، وإذا بجوهر خارج من ورائه، فلما رآه فرح بمجيئه وتوقع أن يسمع منه شيئًا جديدًا، فأشار إليه، فتقدم وهمس في أذنه: «إن الغيرة كادت تقتلها!»
ففهم أنه يعني الزهراء فقال: «ماذا فعلت؟»
قال جوهر: «لم تتمالك أن تنحنحت للناصر لتزجره عما أظهره من الإعجاب والخفة.»
فضحك سعيد وقال: «لا بد أنك ساعدت في إثارة تلك الغيرة، طبعًا، وأخيرًا ماذا ترى؟»
قال جوهر: «إني أثرت غيرتها وأوحيت إليها أن إتقان غناء عابدة سيقدِّمها عليها لدى الخليفة، وأشرت عليها أن تتقن الغناء.»
قال سعيد: «على من؟»
قال وهو يتطاول ليهمس في أذن سعيد: «ستطلب من الخليفة أن يكلفك بتعليمها غناء بغداد.»
فظهر البشر على وجه سعيد، وقال: «وهل تظنه يقبل؟»
قال جوهر: «إذا طلبت ذلك إليه أذعن لها، فهو طوع إرادتها؛ ألم ترَ مبلغ تأثير تلك النحنحة فيه وهو في إبان طربه؟»
قال سعيد: «لقد أحسنت يا جوهر، بورك فيك، طالما توقعت منك المهارة والذكاء. إني أسمع صوت مفتاح في باب، وأسمع وقع خطوات، لعل الخليفة قادم، امضِ.»
قال جوهر: «لا أظن أن الخليفة يعود إليك بنفسه، ولكنه يبعث رسولًا بما يريد. هذا هو الرسول قادم، أستأذنك، إني منصرف» قال ذلك وعاد إلى وراء الستارة.
ولبث سعيد صامتًا يشغل نظره بما هنالك من الأنوار والزخارف، وإذا هو بياسر قد دخل، فهش له ونهض لاستقباله، فتوسم في وجهه خيرًا، فقال: «خيرًا إن شاء الله.»
فابتسم ياسر وقال: «جئتك برسالة من أمير المؤمنين، فهو يثني على علمك وقد أمر لك بجائزة سنيَّة. هذا أولًا، وثانيًا طلب منك أن تمكث في هذا القصر بضعة أيام لأنه يحتاج إليك في أمر.»
قال سعيد: «ألم يقل لك ما هو ذلك الأمر؟»
قال ياسر: «كلا.»
فأطرق كأنه يفكر ثم قال: «أنا أقول لك.»
قال ياسر: «هل تعرف ما يجول في ذهن الخليفة؟»
قال سعيد: «وما الفرق بيني وبينك إذن؟!» وضحك مماجنة.
فجاراه ياسر في الضحك وقال: «قد تعوَّدنا منك معرفة الغيب. قل ما الذي يريد منك؟»
قال سعيد: «يريد أن أعلِّم جاريته الزهراء الغناء. ما قولك؟»
فربَّتَ ياسر على كتف سعيد توددًا وإعجابًا وقال: «قد لاحظت ذلك منه، ولم يقله لي.»
قال سعيد: «أنا أقوله.»
قال ياسر: «وهل يسوءك ذلك؟»
قال سعيد: «كلا، ولكنني جئت من منزل الأمير عبد الله على أن أعود إليه مع عابدة بعد يوم أو يومين، وكيف أمكث هنا أيامًا؟ أخشى أن …»
فقطع ياسر كلامه قائلًا: «مهما يكن ما تخشاه، فإن قول أمير المؤمنين لا يُردُّ.»
قال سعيد: «نعم، أعرف ذلك، وأنا باقٍ كما أمر. ولكن هل علمت أن عابدة باقية معي، أم ذاهبة.»
قال ياسر: «لم يقل لي شيئًا من ذلك، ولكنني أستدل من قرائن الأحوال أنها باقية؛ لأنه أمر أن نعدَّ لها غرفة خاصة، ونقدم لها كل ما تحتاج إليه.»
قال سعيد: «لكنه لا يلبث أن يأمر بإخراجها لأن الزهراء …»
ففهم ياسر مراده فابتدره قائلًا: «لا، لا، إن الزهراء إذا أظهرت الغيرة من عابدة لصناعتها في الغناء فهي لا تخاف أن تتقدم عليها؛ لعلمها أنها جارية أدب ومنادمة، وقد فهمت ذلك منذ جاءت، وزد على ذلك أن الزهراء ذات دهاء وتعقُّل، وقد سيطرت على مشاعر الناصر بتعقُّلها أكثر مما استهوته بجمالها. ما لنا ولهذا! امضِ الآن إلى حجرة في هذا القصر أعددناها لك ريثما يبعث الناصر في طلبك.»
قال سعيد: «حسنًا.» ومشى مع ياسر حتى خرج من ذلك القصر إلى بناء بجانبه، فأدخله ياسر إلى غرفة هناك ببابها خصيٌّ أمره أن يكون في خدمته وانصرف.
دخل سعيد تلك الغرفة، فوجد فيها كل ما يحتاج إليه لتبديل ثيابه، فجلس فترة من الوقت يتدبر ما سمعه، وما يتوقع أن يكون، ثم بدل ثيابه ونام.