التعليم
وفي صباح اليوم التالي استيقظ وجلس ينتظر أمر الخليفة، فلما أبطأ عليه لبس ثيابه وخرج يتمشى في الحديقة، وأمر الخصيَّ المخصص لخدمته أن يوافيه في مكان بالحديقة حدده له، إذا طلبه الخليفة، وقد توجه سعيد إلى حديقة بجوار ذلك القصر، فيها بركة يتدفق الماء فيها من أنابيب الرصاص، فوقف عندها، وأخذ يتأمل حركات الماء، وأفكاره تائهة فيما هو فيه، فلاحت منه التفاتة، فرأى شبحًا خارجًا من جانب القصر من باب لم يعرفه، فحول نظره إليه فرآه رجلًا في ملابس الخصيان من طبقة الوصفاء الذين يلبسون الدروع السابغة، لكنه كان يمتاز عنهم بمنطقة حمراء مطرزة بالذهب تدل على تقدمه بين الأقران في المنصب والخدمة، وتبين في وجهه شيئًا يعرفه، فحدَّق فيه فإذا هو ساهر غلام الأمير عبد الله، ولاحظ من حركاته أنه يحاول الخروج خلسة لا يريد أن يختلط بخصيان القصر، فقال في نفسه: «لا يخلو أن يكون مجيء ساهر هذا لأمر ما!» وانزوى في ظل دفلة وأخذ يتأمل أزهارها، فمر ساهر مرور اللص وهو يحسب أن سعيدًا لم ينتبه له، فلما تجاوز الدفلة أعاد سعيد النظر إليه فتحقق من أنه ساهر بعينه، ولو لم يره وهو يحاول إخفاء أمره لم يسئ الظن به، فحفظ ذلك في ذاكرته، وظل يتمشى في الحديقة نحو ذلك الباب لعله يكشف شيئًا جديدًا، فرأى الخصيَّ الموكَّل بخدمته مسرعًا نحوه، فعلم أن الخليفة يطلبه فتجاهل وظل ماشيًا، فأدركه الخصيُّ وناداه، فالتفت سعيد إليه وسأله عن غرضه.
فقال الخصيُّ: «إن أمير المؤمنين بعث في طلبك.»
قال سعيد: «هلم إليه»، ومشى نحو الباب الذي خرج منه ساهر.
فاعترضه الخصيُّ قائلًا: «من هنا يا سيدي» وأشار نحو الباب الآخر.
فقال سعيد: «لكن هذا أقرب. أليس مولانا أمير المؤمنين في هذا القصر؟»
قال الخصيُّ: «بلى، ولكن المرور من هذا الباب محظور.»
فأطاعه سعيد ومشى، وهو يقول: «لماذا؟»
قال الخصيُّ: «لأنه يؤدي إلى مكان السيدة الزهراء.»
فحفظ ذلك في خاطره وسكت.
وبعد ذلك دخل قصر المؤنس إلى بيت المنام، فاستقبله ياسر رئيس الخصيان وقد بدت البغتة على وجهه وقال: «أين كنت؟»
قال سعيد: «كنت أتمشى في الحديقة.»
قال ياسر: «بعث أمير المؤمنين في طلبك.»
قال سعيد: «ها أنا ذا.»
قال ياسر: «انتظر ريثما أستأذن لك.»
فوقف سعيد ودخل ياسر ثم عاد، وأشار إليه أن يتقدم فمشى حتى دخل غرفة في صدرها سرير، عليه فراش من ريش النعام المكسو بالحرير الأحمر الزاهي، وقد جلس فيه الناصر وهو لا يزال بملابس النوم، وعلى رأسه قبعة (طاقية) من الحرير الموشَّى بالذهب، وقد تعلقت بالسقف مراوح من ريش النعام تتحرك بنظام خاص، ووقف الخدم بالملابس الفاخرة كما تقدم، فلما دخل سعيد أشار الخليفة إلى الجميع بالخروج، واستدناه، فمشى حتى وقف بين يديه، فقال له: «لا أظنك تجهل منزلتك عندنا بعد أن دعوناك للدخول علينا ونحن في الفراش، فإن رفع الكلفة يدل على الرضاء والصفاء. تفضل، اجلس.»
فانحنى سعيد وظل واقفًا، فأمره ثانية أن يقترب منه ويجلس، فمشى حتى صار بجانب السرير. وجلس جاثيًا على وسادة هناك، وهو مطرق تأدبًا، فقال له الناصر: «يحسُن بالعقلاء التأدب بين يدي الملوك، ولكنني ذكرت لك منزلتك عندي بالأمس لما آنسته من علمك وصدق لهجتك، فدع التهيُّب.»
قال سعيد: «إن تنازل أمير المؤمنين مع مملوكه إلى هذا الحد يحملني على زيادة الشعور بحقارتي، ويزداد المولى — حفظه الله — رفعة في عيني.»
قال الناصر: «إن مقام أهل العلم محفوظ عندنا؛ إنهم عيون الملك ونبراسه. وقد رأيت أنك من خيرة العلماء المخلصين.»
فأشار بالانحناء وسكت. فقال الناصر: «لا تظن أننا نطلب إليك التنجيم الآن، فقد أجَّلنا ذلك إلى فرصة أخرى، ولكن جاريتنا الزهراء سمعت غناء تلميذتك عابدة، فأحبت أن تتقن الغناء على يدك، فهل تفعل؟»
فنهض سعيد وهو يتلملم من التأدب وقال: «إن العبد لا يخيَّر فيما يريد مولاه، وإنه ليسعدني أن أشعر أن عندي شيئًا أستطيع أن أخدم به أمير المؤمنين.»
فقطع الناصر كلامه قائلًا: «أنت سعيد على كل حال؛ إنك سعيد بعلمك وأدبك، ولا تظن أنني نسيت ما طلبته من كتمان حقيقة منصبك وإظهار أنك تعلِّم عابدة. وفي هذا المساء يأتيك رسول الزهراء فتذهب إلى غرفتها لتلقينها بعض ألحان بغداد.»
فأشار بيده على رأسه إشارة الطاعة.
فقال الناصر: «أنت تعلم منزلة الزهراء عندنا؟»
فكرر سعيد انحناء رأسه، كأنه يقول: «نعم، أعلم جيدًا.»
فقال الخليفة: «فأعدد لها ألحانًا جميلة مما أعدها إبراهيم بن المهدي؛ فإننا نحب فنون أبناء الخلفاء، ولا بأس من تعليمها بعض ألحان إسحاق الموصلي.»
قال سعيد: «سيرى أمير المؤمنين ما يسرُّه؛ فإن عبده لا يحتاج إلى إيضاح.»
فقال له الناصر: «وقد أمرنا لك بجائزة هي دون ما تستحقه، وسنوالي ذلك عليك ما دمت على حسن ظننا فيك.»
فوقف سعيد وقد أحس أنه ينبغي له أن ينصرف، فاستأذن وخرج، فلقيه ياسر في الدهليز، فأخبره بما أمر له به الخليفة من العطاء وقال: «يظهر أنك أصبحت صاحب حظوة عند أمير المؤمنين.»
قال سعيد: «أنا لا أستحق هذه الحظوة، ولكن لكل أجل كتاب.»
فاكتفى ياسر بذلك، ومشى مع سعيد إلى باب غرفته، وتركه خوفًا من الرقباء.