أين الزهراء؟
أما سعيد فدخل الغرفة، فرأى الخادم قد أعد له الطعام، فتناوله ثم جلس واستغرق في التفكير فيما سيكون عند اجتماعه بالزهراء، وهو يعلم أنه سيجتمع بها وهي وراء الستار، وكلما تصور ذلك الاجتماع خفق قلبه، وقد قضى ذلك اليوم على أحر من الجمر بين الجلوس في الغرفة والتمشي في الحديقة، وقد طال عليه الوقت، فلما غربت الشمس عاد إلى الغرفة ولبث في انتظار الرسول.
ولما دنا وقت العشاء ولم يأتِ الرسول شُغل خاطره، ثم رأى جوهرًا قادمًا فهشَّ له، وهو يتوقع أن يدعوه للذهاب إلى الزهراء، فرآه يمشي نحوه ولا يتكلم فابتدره قائلًا: «ما وراءك؟»
قال جوهر: «ليس ورائي شيء.»
قال سعيد: «وكيف ذلك؟ ألم تبعثك الزهراء في طلبي؟»
قال جوهر وهو يهز كتفيه: «كلا، وقد كنت أنتظر أمرها بذلك.»
فقال سعيد: «وهل عدلت عن تعلم الغناء؟»
قال جوهر: «لا، ولكنني لا أعلم أين هي.»
قال سعيد: «كيف ذلك؟ أليست في غرفتها؟»
قال جوهر: «ليست هناك.»
قال سعيد: «لعلها عند الخليفة.»
قال جوهر: «كلا.»
قال سعيد: «أين هي إذن؟»
قال جوهر: «لا أدري يا سيدي، وإنما أعلم أن وصيفًا جاءها في أصيل هذا اليوم ومعه امرأة قال إنها ماشطة، فخرجت الزهراء معها ولم تعُد بعدُ.»
فاستغرب سعيد قوله وقال: «أليس في القصر مواشط؟»
قال جوهر: «في القصر مواشط كثيرات، ولكن يظهر أن هذه الماشطة لها براعة خاصة في تصفيف الشعر.»
قال سعيد: «ألم تفتش عنها في القصر؟»
قال جوهر: «فتشت عنها في كل مكان أعهدها تقيم فيه، فلم أجدها.»
فدهش سعيد وأطرق لحظة ثم قال: «ألا تعرف ذلك الوصيف؟»
قال جوهر: «أعرفه، وقد كان في هذا الصباح عندها.»
فانتبه سعيد وقال: «لعله صاحب المنطقة الحمراء؟»
قال جوهر: «نعم، هو هو بعينه. كيف عرفت ذلك؟»
قال سعيد: «عرفته. وهو نفسه الذي أتاها بالماشطة؟»
قال جوهر: «نعم، هو بعينه.»
قال سعيد: «هل رأيت الماشطة؟»
قال جوهر: «لم أرَ وجهها؛ لأنها مبرقعة.»
فأحس سعيد أن في الأمر دسيسة، وقال: «الآن وقتك يا جوهر!»
قال جوهر: «لبيك يا سيدي.»
قال سعيد: «تبحث عن الزهراء في كل غرفة ودهليز حتى في السراديب وعلى السطوح. ابحث عنها الآن وأتني بالخبر، لا بد من وجودها هنا.»
فقال جوهر: «سمعًا وطاعة.» وخرج.
وبقي سعيد وقد أخذته الدهشة، وجعل يفكر فيما سمعه وهو لا يكاد يصدقه لولا اعتقاده في صدق ذلك القزم، وبعد قليل جاءه جوهر والبغتة بادية في وجهه وقال: «تعالَ يا سيدي.»
فمشى معه حتى بلغ دهليزًا من دهاليز القصر يؤدي إلى باب يستطرق إلى حديقة خاصة لا يدخلها أحد إلا بأمر الزهراء، فلما وصلا إلى الباب أشار جوهر بأصبعه إلى نور ضعيف يظهر من خلال الأغصان وقال: «انظر!»
فنظر فرأى الزهراء وإلى جانبها شبح بملابس النساء، وتفرس في وجهه فإذا هو عبد الله بن الناصر، فخفق قلبه، وارتعدت ركبتاه من شدة التأثر، ولولا رباطة جأشه ما تمالك عن أن يثب عليهما، ولكنه تجلَّد وأعاد النظر فلم يرَ وجه الزهراء، ولكنه عرفها من ثيابها كما وصفها جوهر. أما عبد الله فرأى وجهه. وأصغى فسمعهما يتحادثان همسًا، وهمَّ أن يدنو لسماع الحديث، فسمع وقع خطوات في الدهليز، فخشي أن يؤخذ بالتلصص ويعود الذنب عليه، فتحول وجوهر معه نحو الدهليز، فرأيا ياسرًا قادمًا يتمشى، فلما رأى سعيدًا سلم عليه وسأله عما يريده فقال: «أنا في انتظار السيدة الزهراء لأعلمها الغناء حسب أمر الخليفة.»
قال ياسر: «اذهب إلى غرفتها، ألا تعرفها؟»
قال سعيد: «هذا خادمها يعرف الغرفة، ولكنه يقول إنها ليست هناك.»
قال ياسر: «لعلها في الحمام؟»
قال جوهر: «ليست في الحمام يا سيدي، ولا في محل آخر أعرفه، وقد جئت للتفتيش عنها، ورأيت في الحديقة نورًا فهل تظنها هناك؟»
قال ياسر: «أين؟ تعالَ» ومشى جوهر معه. أما سعيد فرجع إلى غرفته، فلما وصلا إلى الباب رآها ياسر مع عبد الله فدهش وقال: «هي هنا. ماذا تعمل؟»
قال جوهر: «لا أعلم، وأخشى إذا رأتني أن تقتلني. إني ذاهب يا سيدي إلى غرفتها أنتظرها فيها.»
قال ياسر: «اذهب، واحذر أن تذكر ذلك لأحد.»
قال جوهر: «سأكتمه عن كل إنسان.» ومضى.