العتاب
ترك الخليفة غرفته وهو يغالب غضبه ويكظم غيظه، فلما أقبل على غرفة الزهراء كانت قد خرجت لاستقباله وهي تجر ذيل ثوبها تيهًا. ثم وقفت تنتظر ما يبدو منه، فرأته ظل ماشيًا لا يلتفت إليها فأحبت أن تبادئه، فهمَّت بيده وأكبَّت عليها كأنها تريد تقبيلها، فاجتذبها من بين يديها، وظل ماشيًا إشارة إلى غضبه عليها، فمشت في أثره وهي مطرقة بلا تذلل أو خوف، وأظهرت العتاب لهذا الجفاء. أما هو، فظل ماشيًا حتى تصدَّر القاعة فجلس على وسادة غاضبًا، ولم يدعُ الزهراء للجلوس، فظلت واقفة. ثم رفع بصره إليها فرآها توجه إليه نظرة عتاب بما يعجز عنه اللسان، فصبر لعلها تقول شيئًا، فبسطت كفها وقدمتها له فقرأ عليها بيتًا منقوشًا بالحناء وهو:
فلما وقع نظره عليه وجد للكلام سبيلًا، فحَّول وجهه عن تلك الكف وقال: «قد كان ذلك من عهد بعيد.» وهز رأسه هزة الغضب.
فقالت الزهراء: «هل يأذن لي أمير المؤمنين بالجلوس؟»
فأشار إليها أن: «اجلسي.»
فجلست بين يديه وقالت: «مالي أرى مولاي قد تغير على جاريته؟»
فقال الناصر: «لم أتغير أنا يا زهراء.»
قالت الزهراء: «ولا أنا يا سيدي. كيف يخطر ببالي التغير وأنا في نعمة لم يحلم بها أحد قبلي؟!»
قال الناصر: «أراك سعيدة في هذه القصور؟»
فابتسمت الزهراء وقالت: «كيف لا أكون سعيدة وأنا مشمولة برضى أمير المؤمنين، رافع لواء الإسلام والمسلمين؟!»
قال الناصر: «لا تكذبي، كم من مرة رأيت مظاهر التعاسة على محيَّاك وسألتك عن علة ذلك فأنكرت؟ أظنني عرفت العلة الآن!» قال ذلك بنغمة الظافر ولسان حاله يقول: «كشفت سرك.»
فلما أشار إلى انقباضها أجفلت وأخذ الانقباض يغالبها وهي تبتسم وقالت: «لا تخلو حياة الإنسان من أسباب قهرية للانقباض حتى لا يكون أهل الأرض مثل أهل السماء، فلولا هذ الانقباض القليل الذي يتولاني في بعض الأحايين لكنت أحسبني في الفردوس.»
فأعجبه تخلصها بهذا الإطراء، ولكنه لم يقتنع فقال: «نعم، ولكن أحب أن أعرف سبب ذلك الانقباض! ما هو سبب انقباضك الفجائي أحيانًا وأنت جالسة إليَّ ونحن في طرب وغناء؟»
فتنهدت رغم إرادتها وقالت: «يندر أن يحدث ذلك، ولا أذكر سببه.»
قال الناصر: «أنا أعلم سببه.»
قالت الزهراء: «طبعًا، أمير المؤمنين أعلم.»
قال الناصر: «لم أكن أعلم ذلك قبل اليوم.» وتنحنح.
فأدركت أنه لا يلبث أن يذكر ما شاهده منها فقالت: «وكيف عرفته؟»
قال الناصر: «عرفته بالمصادفة. هل تلقيت درسك في الألحان اليوم؟»
قالت الزهراء: «كلا يا سيدي.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قالت الزهراء: «لأني كنت في شاغل.»
قال الناصر: «وما الذي يشغلك عن ذلك وأنت الآمرة الناهية في هذه القصور كلها، وأنت صاحبة السيادة على ما فيها من الجواري والغلمان؟»
قالت الزهراء: «وهل كثرة الجواري وسعة القصور تغني الإنسان عن الاشتغال؟! هذا أمير المؤمنين يده فوق كل يد ومع ذلك فهو يرى ما يشغله أحيانًا.»
فتبادر إلى ذهنه أنها تؤنِّبه على تعلقه بعابدة وتشير إلى ما استخفه من الطرب في تلك الليلة، فقال: «أظنك تحاسبينني على خطواتي وتعدِّين عليَّ أنفاسي! ها أنت قد عرفت ما شغلني أحيانًا. فقولي ما الذي يشغلك؟ قولي ما الذي شغلك عن الدرس الليلة؟» قال ذلك بصوت فيه شيء من التهديد، وحدق بصره فيها.
فلم تتهيَّب تهديده وظلت رابطة الجأش وقالت: «إن ما شغلني عن الدرس هو أهم من الدرس في نظري.»
قال الناصر: «طبعًا هو أهم من الدرس! وتقولين ذلك صريحًا؟»
قالت الزهراء: «لقد تعودت الصراحة في القول.»
قال الناصر: «فإذن اصدقيني الآن.»
قالت الزهراء: «بماذا؟»
قال الناصر: «مع من كنت مختلية هذا المساء؟»
قالت الزهراء: «مع الأمير عبد الله ابن أمير المؤمنين.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قالت الزهراء: «لسبب لا أقوله.»
قال الناصر: «هل تكتمين ذلك عني؟»
قالت الزهراء: «نعم يا سيدي أكتمه.»
قال الناصر: «ولكن ذلك يسوءني كما تعلمين.»
قالت الزهراء: «لم أكن أعلم أنه يسوءك، ومع ذلك فقد حصل.»
قال الناصر: «تقولين بجسارة إنه حصل، ولا تريدين أن تطلعيني على السبب؟! تقولين ذلك صريحًا دون خوف؟! يا لله من هذه الوقاحة!»
فتبينت الغضب في عينيه وساءها لفظ (الوقاحة) فقالت: «لم أتعود هذا الغضب من أمير المؤمنين ولا هذه الألفاظ.» وأطرقت دلالًا واشتغلت بإصلاح الأساور في زندها وهي تنظر إليها.