حديث عن الصبا
وكانت تلك الوصيفة أحب وصيفاتها إليها، وقد فتحت لها قلبها واتخذتها أمًّا وأطلعتها على بعض أسرارها، ولم تكد الزهراء تجلس على الفراش حتى نهضت الوصيفة واقفة تتوقع أمرها بما تريده، فنادتها الزهراء قائلة: «ألا تزالين جالسة يا خالة؟»
فقالت الوصيفة: «كيف أنام يا سيدتي وأنا أراك تتقلبين على فراشك؟ هل تحتاجين إلى خدمتي؟»
قالت الزهراء: «كلا.» وفي رنة صوتها دليل على شيء تكتمه.
فقالت الوصيفة: «يظهر لي أنك تحتاجين إلى شيء؟»
فتنهدت الزهراء وقالت: «نعم، ولكن …»
فتقدمت الوصيفة حتى وقفت بجانب السرير وقالت: «هل أرفع هذه الكلَّة (الناموسية)؟»
قالت الزهراء: «افعلي، إني أراني لا أستطيع النوم.»
قالت الوصيفة: «يظهر أن حديثك مع أمير المؤمنين أقلقك. لا بأس عليك، إنه لا يلبث أن يرضى صاغرًا.» قالت ذلك بصوت منخفض كأنها تحاذر أن يسمعها أحد.
فقالت الزهراء: «أعلم ذلك جيدًا، ولكن رضاءه لا يخفف شيئًا من قلقي.»
قالت الوصيفة: «ما الذي يقلقك وأنت سيدة هذه القصور وساكنيها، ربة الجمال والذكاء، لا يُردُّ لك أمر، حتى أمير المؤمنين صاحب السيادتين يتمنى رضاك؟!»
فتنهدت وتشاغلت بجمع شعرها عن وجهها وإرساله إلى الوراء، ثم قالت: «أتظنين السعادة يا خالة فيما ترينه من الرياش والأثاث، أو بما يحيط بي من الخدم؟! إني تعسة. إني شقية.» وغصَّت بريقها.
قالت الوصيفة: «ماذا حدث يا سيدتي؟»
قالت الزهراء: «لم يحدث شيء، ولكن هذا النور الضعيف ذكَّرني بأشياء كنت أحاول نسيانها.»
قالت الوصيفة: «هل أنير الشموع؟»
قالت الزهراء: «لا.»
قالت الوصيفة: «ماذا أفعل؟ ماذا تريدين أن أفعل لراحتك؟»
قالت الزهراء: «إن الذي يريحني لا تقدرين عليه.»
فأطرقت الوصيفة هنيهة، وكأنها تذكرت سبب ذلك القلق وقالت: «أظنك عدت إلى الحديث القديم! إن تلك الذكرى يا سيدتي لا فائدة منها؛ إن أخاك لا سبيل إليه، وقد آن لك أن تنسيه.»
فمدت الزهراء يدها إلى فم الوصيفة كأنها تحاول أن تُسكتها وقالت: «لا تقولي ذلك، كيف أنساه وأنا لا أزداد إلا تذكرًا؟! إني أتذكر صباي يوم حُملت من صقلية مع أخي كما أخبرتك مرة، أتذكَّر الآن وجهه الصبوح، وقد أخذ بيدي ووقف إلى جانبي على ظهر السفينة وهي تُقلع من مياه صقلية. يا ليتنا بقينا في تلك الجزيرة ولم ننتقل منها! يا ليتنا غرقنا معًا في تلك المياه!»
قالت الوصيفة: «ولكن انتقالك كان سببًا في وصولك إلى هذه النعمة التي يحسدك عليها أقرانك، بل يحسدك عليها نساء العالمين.»
قالت الزهراء: «هذا صحيح، ولكن ينقصني وجود أخي ليتمتع بهذه السعادة معي. آه مَن ينبئني عن مكانه! هل هو حي أم ذهب طعامًا للأسماك!» ومسحت عينيها بطرف كمها.
قالت الوصيفة: «لا يعلم ذلك إلا الله، ولو كان حيًّا لعلم بمقامك وجاء إليك.»
قالت الزهراء: «كيف يعلم وهو لا يعرف اسمي هذا، هو لا يعرف اسمي الزهراء، وإنما يعلم أن اسمي «حسناء»، فلو كنت معروفة بهذا الاسم لبلغه خبري.»
فقالت الوصيفة: «صحيح، وأين افترقتما يا سيدتي؟ هل تخبرينني لعلِّي أستطيع أمرًا ينفعك! هل تكاشفينني؟»
فقالت الزهراء: «فارقته في عرض البحر، اختطفني القرصان ونحن على تلك السفينة، ولا أعلم ماذا فعلوا بأخي.»
قالت الوصيفة: «ألم تسألي عنه؟»
قالت الزهراء: «من أسأل؟ وقد نُقلت من أناس لا أعرفهم إلى أناس لا أعرفهم، وكلهم لصوص. اختطفني لصوص من بين ذراعي والدي وباعوني إلى تجار من صقلية، ومكثت عندهم مدة علموني فيها اللغة العربية، ثم باعوني لأمير صقلية، وهذا أمر رجاله فحملوني على سفينة قالوا إنهم ذاهبون بي إلى ملك عظيم في إفريقية، فرضيت لأن أخي كان معي، ولم تنقضِ علينا سوى بضعة أيام — ونحن في السفينة — حتى سطَا علينا لصوص البحر في ليلةٍ ليلاء، وهو كثيرون في هذا البحر، يسطون على السفن وينهبون ما بها، ويسمونهم القرصان، وقد كان في إمكاني أن أبقى هناك ولكن …»
فتعجبت الوصيفة من قولها وقالت: «ولماذا لم تبقي؟»