كشف الحجاب
فلم تعد الزهراء تستطيع استبقاء الحجاب بينها وبين سعيد، فنهضت وأطلت من وراء الستار، وقد أرخت على رأسها خمارًا مزركشًا، وعيناها تلمعان من الدهشة، فنهض سعيد عند رؤيتها كأنه وقف احترامًا لها فقالت: «الخطر عليه من أمير المؤمنين؟» قالت ذلك وحالما وقع نظرها على سعيد تراجعت وحوَّلت بصرها عنه لحظة، ثم أعادت النظر إليه وتفرست في وجهه كأنها تعرفه، أو تعرف رجلًا يشبهه، ولكنها أحست بقشعريرة.
أما هو فنظر إليها بهدوء، وقال بصوت خافت: «لا تضطربي يا حسناء إن أخاك سالمًا لا بأس عليه، ولو كان الخليفة خصمه.»
فلما سمعته يناديها باسمها القديم أجفلت وزادت رعدتها، ولم تعد تقوى على الوقوف، وقالت: «لست منجمًا، ولكنك نبي!»
فضحك سعيد وحوَّل وجهه عنها ليهدأ روعها وقال: «لست نبيًّا ولا منجمًا.»
فغطت الزهراء وجهها بكفها وقالت: «ماذا أرى، ويلاه! هل أنا في يقظة أو في منام؟»
قال سعيد: «بل أنت في يقظة يا حسناء.»
فرفعت كفيها عن عينيها ثم أعادتهما وتحولت مسرعة إلى ما وراء الحجاب وهي تقول: «نعم في يقظة. يا ليتني كنت في منام.»
وكان جوهر واقفًا يسمع ما دار بينهما، وقد أخذته الدهشة، فلما رأى الزهراء عادت إلى وراء الستار تبعها، وقال لها: «ما بالك يا سيدتي؟ اسأليه أين أخوك الآن. أتمي الحديث.»
فدفعته بيدها فأظهر أنه استلقى على ظهره من شدة الدفعة، وأخذ يتماجن فقال: «الحق عليَّ لأني خالفت مولاي وأذنت بخروجك إلى المعلم.»
أما سعيد فإنه ظل واقفًا لا يتكلم، ثم تقدم وأزاح الستار بيده، فرأى الزهراء جالسة وقد جعلت رأسها بين كفيها، وأطرقت كأنها أصيبت بالجمود فقال لها: «ما بالك يا سيدتي. هل عدلت عن الاستفهام؟ هل أذهب؟»
فأدارت ظهرها له وانزوت وراء الستار وقالت: «نعم اذهب، اذهب، لا، لا تذهب.»
فقال سعيد: «أذهب؟ أم لا أذهب؟ أذهب لأني قلت لك الحق؟! إني ذاهب.» وأرخى الستار من يده وتحول، فوثب جوهر إليه وأمسك بردائه وقال: «تعالَ، إلى أين أنت ذاهب؟»
فأشار سعيد إلى جوهر أن يخرج من الغرفة ويتركهما فخرج.
فلما أصبح سعيد وحده وقف والستار لا يزال مسدلًا بينه وبين الزهراء، وقال لها: «اخرجي إليَّ وانظري في وجهي.»
فلم تجبه، فرفع الستار ودخل، فرآها واقفة وهي مطرقة تنظر في الأرض، وقد امتقع لونها، وتبدلت سحنتها وتولَّتها الرعدة فقال لها: «انظري إليَّ.»
فرفعت يدها كأنها تتقي بصره بكفها، وقالت: «دعني، لا أستطيع أن أنظر إليك. قل من أنت؟»
قال سعيد: «قولي أنت من أنا؟ كما قلت لك من أنت.»
فقالت الزهراء: «قل من أنت!»
قال سعيد: «أنا سعيد الوراق. بعثني أمير المؤمنين لأعلمك غناء أهل العراق.»
فرفعت بصرها إليه وتفرست فيه وهي تتجلَّد وقالت: «كلا، بل أنت لص غادر.»
فضحك وقال: «لست لصًّا. إنما اللص من يخون ولي نعمته ويختلي بالغرباء، يأتي بهم إلى قصر الخليفة في أثواب النساء.»
فصاحت الزهراء: «ويلك! إنك شيطان، بل أنت عفريت من العفاريت.»
فقال بصوت هادئ: «أنا من أنا، فالأفضل لك أن ترجعي إلى رشدك، وتتكلي عليَّ؛ إذ ليس لك من يفرج كربك سواي.»
فتماسكت ووقفت وهي تفرك عينيها ولا تصدق أنها في يقظة، وصاحت به وقالت: «قل لي. قل من أنت حالًا!»
قال سعيد: «أقول أم تكتفين بما قلته؟»
قالت الزهراء: «قل، قل سريعًا» وعيناها تبرقان من الدهشة، وشفتاها ترتجفان من الغضب، وقد شخصت فيه.
فقال سعيد: «أنا سليمان.»
فلما سمعت اسمه صرخت ووقعت مغشيًّا عليها، فبادر إلى رشها بعطر كان معه حتى أفاقت، وحين فتحت عينيها ورأته تراجعت وغطت وجهها بيديها، وقالت: «أنت سليمان! إنك أصل بلائي. سوف أريك عاقبة عملك. ألا تزال تتعقبني وكنت السبب في ضياع أخي.» قالت ذلك ونهضت وهمَّت بالخروج كأنها تريد أن تستعين عليه بأحد، فأمسك بيدها وأوقفها وقال: «تمهلي ولا تلقي بيديك إلى التهلكة. اعلمي أن حياتك وحياة أخيك في يدي.»