الوعود
فوقفت وهي تنظر إليه وتتفرس في سحنته، وهو يرنو إليها بلطف وسكينة ثم قال: «لا تغضبي يا حسناء، ولا تنقمي عليَّ، فإني ارتكبت العظائم في سبيل حبك. إني أحبك.» قال ذلك بنغمة المحب الولهان.
فلم يزدها ذلك إلا غضبًا وقالت: «أنا لا أحبك. يكفي ما سببته لي من البلاء.»
قال سعيد: «لم أسبب لك بلاء، ولا ذنب لي عندك سوى أني أحبك، وقد عرفتك قبل أن يعرفك صاحب هذا القصر.»
قالت الزهراء: «وتتجاسر على جارية أمير المؤمنين. ألا تعلم أن الناصر إذا اطلع على حقيقة أمرك قتلك حالًا.»
قال سعيد: «لا تجعلي للطيش سبيلًا إلى عقلك. تذكري أخاك وأن حياته في يدي، إذا شئت قتلته في هذه الساعة.»
قالت الزهراء: «كذبت. قد عرفت الآن أنك تحتال عليَّ وتحملني على خيانة مولاي ومولاك الناصر، فلا تطمع في نيل مرامك، إنك ميت لا محالة، دعني وإلا صرخت صرخة جمعت عليك أهل القصر فيسوقونك إلى حتفك.»
فترك سعيد يدها وقال: «يظهر أنك لم تصدقي قولي، إن أخاك حي، وإنه معرض للقتل، ولا ينقذه من الموت سوى استرضائي. لا تتهوري. إذا كنت تعتقدين أني كاذب وأنك قادرة على أذاي فهذا لا يفوتك في أي وقت تريدين، فلا تتعجلي فتعود العائدة عليك. إن لأمير المؤمنين ثقة فيَّ وفي تنجيمي لا تتزعزع.»
فقطعت كلامه قائلة: «أنا أخبره أنك خائن وأطلعه على حقيقة أمرك.»
فقال سعيد: «هل تظنين أنه يصدقك؟»
قالت الزهراء: «نعم يصدقني.»
قال سعيد: «لا، ومع ذلك فإن الخطر يظل يهدد أخاك؛ لأن الناصر حين يعلم بوجوده يبعث إليه فيطلب رأسه، فالأحسن أن تتبصري.»
فاقشعر بدنها وخافت على أخيها، وتجلَّدت وكظمت، وقالت: «ها أنا متبصرة، فقل ما هو خبر أخي.»
فتقدم نحوها ونظر إلى عينيها نظرة استرضاء، وقال: «إني أشكو إليك غرامي بك وفنائي في خدمتك، وأنت تشتمينني وتهددينني. تأمَّلي الفارق بيننا! أما أخوك فقد سألتني عن اسمه، وقلت لك إن له اسمين، ذكرت أحدهما، ولم تسأليني عن الآخر.»
قالت الزهراء: «وما هو الاسم الآخر؟»
قال سعيد: «اسمه صاحب النقمة.»
وكانت تعلم أن ذلك اسم رجل من أشد أعداء الناصر، وأكثرهم سعيًا في خلعه، وقد قام بتحريض العرب والبربر على مناوأته، وإخراج الدولة من يده، وقد بذل الناصر الأموال وبث الجواسيس للبحث عنه فلم يظفر به؛ ولذلك لم تشك في أن الناصر حين يسمع به يأمر بقتله، ولو عرف أنه أخوها قد يغضب عليها من أجله. لكنها برغم ذلك، ظلت تظن أن سعيدًا يكذب تخويفًا لها، فلما ذكر اسم أخيها هذا أظهرت الاستخفاف، وقالت: «لا يمكن أن يكون هذا الرجل أخي، إنك تخدعني كي تحقق غرضك. دع عنك هذا وارجع، وأنا أعدك إذا رجعت عن غيِّك وأفدتني عن حقيقة حال أخي (وتنهدت) أني أعفو عنك وأكتم أمرك.»
قال سعيد: «يا سيدتي، أو يا حبيبتي، إني لا أكذب. إن صاحب النقمة هو أخوك سالم نفسه، وإذا شئت أتيتك بالدليل المحسوس.»
قالت الزهراء: «وما دليلك؟»
قال سعيد: «دليلي قريب. ألا تعرفين خط أخيك؟»
قالت الزهراء: «أعرفه.»
فمد يده إلى جيبه وأخرج رقًّا ملفوفًا في منديل. تناوله وفتحه وقال: «اقرئي.»
أنا سالم صاحب النقمة، أعاهد أنصار الحق أني أبذل حياتي في سبيل قتل عبد الرحمن الذي يسمى الناصر.
فأخذت تقرؤه وتعيد قراءته، وتتفرس في الخط، فإذا هو خط أخيها نفسه، فرفعت بصرها إلى سعيد فحدَّق هو فيها عنوة، فأحست بتيار كهربائي سرى في عروقها، فأضعف عزيمتها، فتولاها الخوف على نفسها وعلى أخيها، فوقفت مبهوتة لا تبدي حراكًا، ولفَّ سعيد الرَّقَّ في أثناء ذلك ووضعه في جيبه وهو يقول: «ما رأيك الآن يا حسناء؟»
فشعرت بقوتها تنهار، ولم تعد تستطيع الوقوف، فجلست على البساط وأطرقت وظلت ساكتة.
فقال: «هل رأيت أني ناصحك، وأني أتيت لإنقاذك وإنقاذ أخيك؟ ألا ترين أني قادر على أن اقتله بكلمة واحدة؟ ارجعي عن جفائك وقسوة قلبك وارحمي قلبًا كاد يذوب شوقًا إليك. إن سليمان الذي رأيته على ظهر تلك السفينة يوم خروجك من صقلية رجل يحبك ويهواك، وما أنا ربان السفينة يا حسناء، ولا أنا خادم فيها، وستعلمين متى أخلصت الحب لي أني أهل لمحبتك، لقد ركبت الأخطار في سبيلك، ولو علمت حقيقة ما فعلته من أجلك لم ترفضي طلبي، وسوف تعلمين، ولا يغرَّنَّك ما ترينه من القصور والزخارف، إنها لا تلبث أن تذهب ولا يبقى غير الحب. ها أنا أعرض عليك هذه النعمة فلا ترفضيها.»