الواقع
ذهب سعيد إلى فراشه، وقد أنهكه التعب لشدة ما أثر ذلك الحديث في نفسه، وقد كان يترقب هذه المقابلة منذ أعوام عديدة، وقد سعى إليها وبذل كل رخيص وغالٍ في سبيل الوصول إليها، وهو يعلم الخطر المحدق به، ولكنه جُنَّ بحب الزهراء، ولم يعد يحسب للحياة حسابًا، ورغم ما رأيت من تعقُّله ودهائه فإن حبه الزهراء غلب على عقله وأخذ بمجامع قلبه. وليس للعقل سلطان على قلوب المحبين؛ فقد تجد الرجل العاقل يقيس الأمور ويحلل أسبابها ونتائجها، وقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، فإذا استولى الحب على قلبه ارتكب من الهفوات ما يتنزَّه عنه الجهلاء، وهو يرى أنه عاجز عن تجنبه، وإذا فكر فيما يأتيه من الخفة والطيش في سبيل الحب خجل من نفسه، ولا يرى له مندوحة للخلاص من تلك الشِّرَاك.
•••
كان سعيد قد أحب الزهراء وافتتن بها منذ رآها في صقلية — وكان قد ذهب إلى تلك الجزيرة في مهمة سياسية من قبل المهدي صاحب إفريقية — فغلبت على عقله وأراد أن يستأثر بها لنفسه، وركب السفينة معها على أن يحتال في اجتذاب قلبها، ثم يبحث عن السبيل للفرار بها. أما هي فلما وقع نظرها عليه أحست بنفور منه، وصار كلما اقترب منها ابتعدت عنه وهي تزداد نفورًا، حتى فضَّلت أن يأخذها اللصوص على أن تبقى بقرب ذلك الرجل.
أما هو فأخذ أخاها معه وربَّاه على الغرض الذي أجمع عليه العبيديون في إفريقية، وهو كره آل مروان في الأندلس، والسعي في الاستيلاء على مملكتهم، وكان سعيد من كبراء هذه الشيعة وله نفوذ كبير عند المهدي العبيدي ومن جاء بعده على عرش الخلافة الفاطمية في القيروان، وقد عهدوا إليه بأغراضهم، وكانوا قد بثُّوا هذه الروح في كثيرين من كبراء القواد في الأندلس نفسها، ومنهم الجمعية التي كانت تجتمع في قرطبة سرًّا كما رأيت.
•••
جاء سعيد إلى قرطبة في مهمة سياسية منذ أعوام، وكان قد علم بالبحث والتدقيق أن حسناء التي عرفها في صقلية صارت إلى الناصر في قرطبة وسماها الزهراء. عرف ذلك بدهائه واهتمامه، وكتمه عن أخيها، وجعل همه الوصول إليها، وأقام حولها الجواسيس، وكاتبها بأساليب مختلفة يستعطفها وهي تستخف به وترذله، وهو يزداد شغفًا بها، حتى أصبح يسعى إلى الوصول إليها ولو نكاية فيها واستردادًا لكرامته ودفعًا لإهانته، وكان يعلم تعلقها بأخيها فأتاها بهذه الحيلة.
•••
قضى سعيد بضع ساعات بغرفته في الظلام، وهو غارق في بحار الهواجس، وقد فرَّ النوم منه وتولَّاه الأرق لعِظم ما جاش في خاطره في ذلك اليوم.