موعد آخر
وبينما هو جالس على فراشه في الظلام، وبصره متجه إلى نور يظهر له من نافذة تطل على داخل القصر، إذ وقع نظره على شبح يتمشى هناك بخفة كأنه يحاذر أن يسمع أحد وقع خطاه، فتفرَّس فيه، فإذا هو ساهر وعليه ملابس الوصفاء كما رآه في المرة الماضية، فنهض واقتفي أثره، فرآه يلتمس غرفة الزهراء، فما زال في أثره حتى رآه دخل الغرفة وقد وقفت الزهراء لاستقباله، وهي لا تزال بثوبها العادي كأنها كانت على موعد معه، فثارت الغيرة في قلب سعيد وجعل يغالب نفسه فلم يستطع صبرًا على ما شاهده، فمشى حتى دخل الغرفة ولم يشعر به أحد منهما، فرأى ساهرًا جاثيًا أمام الزهراء وهو يقول لها بصوت المحب الولهان: «مريني يا سيدتي فأنا رهين أمرك، وليس أشهى على قلبي من أن أنفذ إرادتك، ويكفيني شرفًا وسعادة أن تسمع أذني أوامرك.»
فأجابته الزهراء: «انهض يا ساهر، بارك الله فيك، إني مسرورة من مروءتك وصدق مودتك. قل لسيدك أني لولا حبي له لم أطلب مقابلته، ولا بأس عليه من أهل هذا القصر، فليأتِ على عجل.» ولما وصلت إلى هنا لمحت سعيدًا داخلًا فبُغتت وظهرت البغتة في عينيها ولاحظ ساهر تغيُّرها فالتفت حوله، فلما رأى سعيدًا تنحى ثم انصرف.
أما سعيد فظل ماشيًا وهو يتجلَّد حتى صار بين يدي الزهراء وهي تنظر إليه والغضب ظاهر في عينيها، فقالت له: «ما الذي جاء بك يا سيدي؟»
قال وهو يتلطف في التعبير: «جئت لأتمتع برؤيتك قبل الذهاب إلى الفراش، وقد تمتعت بما يُذهب عني النوم!» وتنحنح.
فقالت باستخفاف: «ما كان أغناك عن هذا المجيء! كأنك تتلصص عليَّ وتراقب حركاتي ومن يدخل أو يخرج من عندي! إن أمير المؤمنين لم يفعل ذلك.»
فقطع سعيد كلامها وقال: «لأن أمير المؤمنين لا يحبك مثلما أحبك.» قال ذلك وتنهد.
فقالت وهي تبالغ في الاستخفاف: «صدقت، إن الناصر لا يحبني أبدًا، ولكن أنت وحدك تحبني. ما كان أغناني عن هذه المحبة! بل ما أحوجني إلى بغضك!» قالت ذلك وصرت على أسنانها.
فلما رأى جفاءها تقدم نحوها وهو يتكلَّف الاسترضاء وقال: «سامحك الله يا حسناء، كلما شكوت إليك غرامي وذلِّي زدت نفورًا وجفاءً.»
فلما دعاها باسمها الأصلي تذكرت أخاها فخافت عليه، فعادت إلى التجلُّد والملاطفة فقالت: «لقد أسأت إليَّ بمجيئك على هذه الصورة حتى أغضبتني وحملتني على ما قلت، ونحن كما تعلم قد تواعدنا واتفقنا.»
قال: «إنما حملني على المجيء حبي لك وغيرتي عليك.»
فمدت يدها نحوه كأنها تستوقفه وقالت: «لا فائدة من الغيرة وأنا في هذا القصر، وعما قليل أكون لك، لا تسألني عن شيء.»
فلما سمع قولها استخفه الفرح وصاح: «تكونين لي؟ قبلت ذلك، وعفا الله عما سلف.»
قال ذلك وهو ينظر في عينيها وقد نسي الغيرة والشك، وتناول يدها كأنه يهمُّ بتقبيلها، فجذبتها منه ونظرت إليه نظرة عتاب وتوبيخ، وقالت: «امضِ الآن ولا تجعل للناس سبيلًا إلى الظنون.»
فتحوَّل وخرج وهو يحسب أنه قد تحققت له أهم أسباب السعادة بما سمعه من وعودها، فدخل غرفته واستلقى على فراشه، فعادت إليه هواجسه فأخذ يفكر في حاله، فاستغرب انقياده الأعمى لداعي قلبه ونسيانه المهمة الأصلية التي قام من أجلها، وقد قامت معه إفريقية كلها، وعوَّل خليفتها عليه ووضع ثقته فيه، حتى إنه لو كتب إليه يطلب تجريد جيش لفعل، فكيف يشتغل عنه بحب جارية لا تحبه؟! فأحس بصغر نفسه وضعف إرادته كأنه عبد لعواطفه، فأخذ يوبخ نفسه على ذلك الضعف. ولكنه كان كلما همَّ بالرجوع إلى رشده والعدول عن الغرام إلى طلب العلى بحدِّ الحسام، تمثَّل الزهراء وتصوَّر أنها طوع إرادته، فتنحل عزيمته ويفتر حماسه.