طارق آخر
وبينما سعيد في تلك الهواجس وقد استبدَّ به الأرق، ولم يبقَ في ذلك المكان ساهر سواه، وقد ساد السكون على القصر، ولم يعد يسمع إلا خرير الماء في برك الحديقة، وفي البركة الداخلية في بيت المنام، وكان يحمل نفسه على النوم ويحاول نسيان تلك الأفكار عبثًا، وبينما هو في ذلك الهدوء والظلام سائد إذ سمع حركة في غرفته، فجلس فرأى شبحًا داخلًا عليه عرف حالًا أنه عابدة، وما زالت تمشي الهوينى حتى رأته قد جلس على فراشه، فأسرعت إليه وجثت بين يديه وقالت: «بالله يا سعيد، إلى متى تضحك مني؟»
فأظهر الاستغراب وقال: «أضحك منك؟! ما هذا الكلام؟» قالت وصوتها مختنق: «نعم تضحك مني وتهزأ بحبي.»
قال سعيد: «دعي عنك الأوهام.»
قالت عابدة: «يكفيني ما قاسيته من الصبر على وعودك. قل لي: إني لا أحبك، ودعني أمضي لسبيلي.»
قال سعيد: «كيف أقول لك ذلك، وأنت تعلمين أني أحبك؟! ولكننا لم نفرغ من مهمتنا بعد، وأنت على بيِّنة من كل شيء.»
قالت عابدة: «نعم أنا على بينة من كل شيء؛ ولذلك لم أعد أستطيع صبرًا.»
فأدرك أنها تشير إلى اطلاعها على شيء يكتمه عنها، فقال: «ماذا تعنين؟»
قالت عابدة: «أعني أنك شُغلت عني ونسيت عابدة المسكينة!» وأجهشت بالبكاء، فأثر بكاؤها في قلبه وأحس أنه أساء إليها، ولكنه ما لبث أن تصوَّر الزهراء حتى نسي إساءته، وجعل همه تدبير الوصول إليها، فقال: «دعي عنك هذه الأوهام، ومن يشغلني عنك؟! وإذا رأيت مني تقربًا إلى أحد سواك فما ذلك إلا سعيًا في الوصول إلى الغرض المطلوب الذي تعلمينه.»
فتنهدت تنهدًا عميقًا ورددت قوله: «الغرض المطلوب! آه من ذلك الغرض! ما كان أغنانا عنه! ولا أظننا نصل إليه مع ما يحدق بنا من العوائق.»
فأظهر أنه استاء مما صرحت به من الشك في سبيل ذلك الغرض، وقال: «لا تُضعفي أملي في تحقيق الهدف المنشود.» وخفت صوته وقال: «سيأتي يوم نكون فيه ملوك هذه الجزيرة، وتكونين أنت ملكة عظيمة الشأن.»
قالت عابدة: «دعني من ذلك، دعني؛ إن السعادة ليست في السيادة ولا في الثروة، إن السعادة في الحب.» قالت ذلك وصوتها يتلجلج خجلًا وبلعت ريقها ثم قالت: «لو كنت أعلم أنك تحبني مثل حبي لك لكنت أسعد امرأة على وجه الأرض. آه من يقول لي الحق!»
فقطع كلامها، وقال: «أنا أقول لك، صدقيني، وسوف تتحققين صدق قولي.»
فوقع كلامه على قلبها بردًا وسلامًا، وأحست بأنها في نعيم وقالت: «صحيح؟ صحيح أنت تحبني؟»
فمد يده إلى يدها وقبض على أناملها، فأحست عابدة بتيار كهربائي انتفضت له أعصابها وغُلبت على أمرها وقالت: «صحيح أنك تحبني؟! إذن فأنا سعيدة.»
قال سعيد: «بقي أن أسألك أنا، هل تحبينني؟»
ولم يتم سؤاله حتى تناثر الدمع من عينيها وقالت والبكاء يخنقها: «أتسألني إذا كنت أحبك؟! أمثلي يُسأل هذا السؤال، ولم تبقَ فيَّ جارحة لم تفتتن بك؟! ألا يكفيك من الأدلة ما أنا فيه؟! ما الذي حملني على التعرض لهذه الأخطار؟»
فقال سعيد: «لم تتعرضي لخطر بعد. إن وجودك في هذا القصر من أسباب السعادة ويتمناه كل إنسان، ولكننا سنواجه الخطر قريبًا، وعند ذلك يظهر المحب الصادق، ولا شك عندي أنك ستبرهنين على صدق محبتك لي وللإمام العبيدي صاحب إفريقية الذي نحن في خدمة مصلحته.»
قالت عابدة: «آه يا سعيد! إن كل شيء سهل في سبيل حبك. دعني أغتنم هذه الظلمة وأصرح لك بما يكنه فؤادي من الشغف بك. لو كنا في النهار أو كانت هذه الغرفة مضيئة لأحجمت، ولكن الظلام يستر. إني أحبك إلى حد الجنون ولا أراك تحبني وتهتم بأمري، مع أني أتفانى في سبيل مرضاتك. أفعل ذلك من كل قلبي ويلذ لي العذاب إذا كان فيه سرورك. فهل عندك مثل الذي عندي؟ أو مثل نصفه، أو ربعه يا ترى؟»
فضغط على يدها ثانية وقال: «كفى يا عابدة شكوكًا، وقد دنا الوقت، ولا نبرح أن نتفرغ لما نريد. لم يبقَ من المهمة التي جئنا من أجلها إلا خطوة واحدة، وهي عليك.»
قالت عابدة: «مر بما تشاء.»
قال سعيد: «ألا يزال ذلك الحُقُّ معك؟»
فضربت كفها على صدرها وقالت: «هو هنا في مكان حريز.»
فقال سعيد: «إليَّ به.»
فدفعته إليه، فأخرج من جيبه ورقة قطعها نصفين وصب ما في ذلك الحُقِّ فيهما، وهو مسحوق أبيض لامع، ولفَّ كل واحدة على حدة ودفعهما إليها وقال: «احتفظي بهاتين الورقتين جيدًا لوقت الحاجة.»
قالت عابدة: «وماذا فيهما؟ هل من بأس عليَّ إذا تناولت منهما شيئًا؟»
فابتدرها قائلًا: «احذري أن تفعلي.» وضحك يوهمها أنه يمزح.
فضحكت وقالت: «لم أكن أجهل ذلك، ولكنني أرجو أن لا أحتاج إلى تناول شيء منهما!»
فتجاهل مرادها وقال: «احتفظي بهما حتى آتيك غدًا أو بعد غد.»
فأحست أنها ينبغي أن تنصرف، فوقفت وودعته وهي تتفرس في وجهه والظلام يحجب علامات المكر والغدر، ولو لم يحجبها فإن عابدة لم تكن ترى في سعيد غير الكمال لأنه استهواها بجاذبيته.