حديث ذو شجون
غربت الشمس ولم يأتِ أحد، وبعد الغروب رأى ياسر ساهرًا برفقة رجل في ملابس الخصيان دخلا من باب القصر ولم يعترضهما أحد من الحراس كأنهم كانوا على موعد، فعلم ياسر أن أحدهما عبد الله، فتنحى ريثما مرَّا، وراقب جهة مسيرهما فرآهما سائرين نحو قصر المؤنس إلى الحديقة التي اجتمعا فيها في المرة الماضية، فسار من جهة أخرى بحيث يتحقق أن الزهراء نزلت لمقابلة عبد الله، فلما تحقق من ذلك، أصبح همه أن يأتي الناصر قبل أن يفترقا ليرى الاجتماع بنفسه، فيكون ذلك أدعى إلى غضبه وسرعة انتقامه.
فرجع إلى الباب الخارجي الذي يدخل منه الناصر إذا عاد من قرطبة وأخذ يتشوَّف عن بعد، وقد دنا العشاء وأظلمت الدنيا، لكن قصور الزهراء كانت تُنار ليلًا بالمصابيح من كل أطرافها. ورآهم ينيرون الطريق بينها وبين قرطبة استقبالًا للخليفة، ولم تمضِ هنيهة حتى رأى الخصيان والفرسان وعليهم الجواشن مسرعين يليهم سائر الموكب وفي وسطه الخليفة، وإلى جانبه تمَّام رئيس الخصيان زميل ياسر، ولم يكن بينهما تحابٌّ، شأن المتنافسين في المناصب في كل زمان، ولكن الناصر كان يقدِّم تمَّامًا في أكثر الأحيان ويقلل من نفوذ ياسر، وهذا يعتقد أن الزهراء هي التي أوحت إلى الناصر بأن يقلل من شأنه؛ ولذلك زاد رغبة في الانتقام منها، ورأى أن هذه الفرصة أثمن الفرص ليُظهر إخلاصه للناصر وتفانيه في خدمته، ليغيِّر ما في نفسه ويرتفع في نظره على تمَّام.
فلما رأى الناصر في موكبه وتمَّامًا إلى جانبه، لم يعد يصبر عن التصدي لمخاطبته قبل الوصول إلى القصر، مخافة أن يذهب إلى قصر آخر غير المؤنس، ثم يشقَّ عليه استقدامه في تلك الساعة.
فلما وقع نظر الناصر على ياسر توسَّم في وجهه خبرًا، فانفرد عن الموكب نحوه، فمشى ياسر في ركابه حتى دنا من قصر المؤنس، وترجَّل الخليفة وأشار إلى الناس بالانصراف، وظل ماشيًا مع ياسر فقال له: «ما وراءك يا ياسر؟»
قال ياسر: «ما ورائي إلا الخير، وكنت أود أن لا يعلم مولاي إلا بما يسرُّه لو لم أعلم أنه راغب في معرفة سرِّ ذلك الاجتماع.»
ففطن الناصر إلى أنه يعني اجتماع الزهراء بعبد الله، فقال: «هل جاء ولدنا عبد الله إلى هنا؟»
قال ياسر: «نعم يا سيدي، ولو أنه جاء كما يجيء سائر إخوته وأهله لم يكن بأس من مجيئه، ولكنه أتى متنكرًا.»
قال الناصر: «وكيف يأذن الحراس بدخوله؟»
قال ياسر: «يأذنون له بأمر الزهراء، فإنها توصيهم بذلك عن طريق أحد خدمها.»
فغضب الناصر وقال: «وأين هو الآن؟»
قال ياسر: «هو في الحديقة المعهودة، وهي معه.»
فأطرق الناصر حينًا ثم ضرب الأرض برجله وقال: «كأن عبد الله ينتقم مني لأني حبست عابدة عنه؟ إلى هذا الحد بلغت جسارته أن يتعدى على جاريتي الزهراء نفسها؟»
فسرَّ ياسر من غضب الناصر، وأحب أن يزيده من الغضب عليها وحدها فقال: «لا أظنه يطلب انتقامًا ولكنها خدعته، والنساء لا يخفى على أمير المؤمنين حالهن.»
فمد الخليفة يده إلى جيبه وأخرج ورقة وقال: «وهذا كتابه جاءني بالأمس في قرطبة، ولم يصبر عليَّ حتى أعود إلى هذا القصر فيخاطبني.»
فقال ياسر: «هل يطلب عابدة؟»
قال: «بل هو يهددني إذا أنا لم أعدها إليه، ولم أفهم معنى تهديده. لقد فهمت الآن إنه يريد أن ينتقم مني بأخذ الزهراء، ولكن كيف توافقه هي على ذلك؟!»
فقال ياسر: «إن النساء …»
فقطع الناصر كلامه وقال: «أحب أن أراهما وأسمع حديثهما ولي بعد ذلك رأي فيهما.» قال ذلك والغضب بادٍ على أساريره.
ففرح ياسر لهذا التهديد وأسرع بين يدي الخليفة، وبعث الأوامر إلى خدم القصر أن يُخلوا هذا الجناح لأن أمير المؤمنين سيمر فيه، ولم تمضِ بضع دقائق حتى لم يبقَ هناك أحد، فمشى ياسر بين يدي الناصر حتى وصلا إلى غرفة لها شرفة تطل على الحديقة، فوجداها مقفلة، فقال ياسر: «لقد أغلقتها حتى لا يطل أحد منها عليهما.» وأخرج من جيبه مفتاحًا فتحها به بخفة بحيث لا ينتبه أحد لفتحها، ودخل وأعد للناصر مقعدًا بجانب الشرفة يطل منه على الحديقة.
فرأي الناصر الزهراء جالسة على مقعد من حجر، وقد كشفت عن وجهها كأنها مع بعض أهلها، وعبد الله جالس أمامها وقد رفع اللثام عن وجهه فبان على نور المصباح جليًّا، ولم يبقَ عند الخليفة شك أنه ابنه وأنها الزهراء جاريته، فاضطرب وثارت غيرته، لكنه صمت كأنه أصيب بالجمود. أما ياسر فكاد قلبه يطير من الفرح لنجاح مهمته.
وكان أول شيء سمعاه قول عبد الله: «أنت تعلمين يا زهراء منزلتك عندي قبل الآن.»
فأجابته: «نعم أعلم؛ ولذلك فإني بعثت إليك لأخاطبك بهذا الشأن، ولولا حبي لك لم أفعل.»
قال عبد الله: «إن رضاك عزيز عليَّ، ولكن طفح الكيل ولم أعد أستطيع صبرًا.»
فقالت الزهراء: «مهما يكن من طفح ذلك الكيل لا أرى ما يوجب هذه النقمة.»
فقطع عبد الله كلامها قائلًا: «كيف لا أنتقم وقد عاملوني معاملة العبد المملوك! لم يكفِ أنهم سلبوني ولاية العهد حتى أصبحوا يسلبونني أسباب راحتي؛ هذه جارية أتتني واستلطفتها وطلبها أخي مني فاعتذرت له، فشكاني إلى أبي، فبعث يطلبها ليراها فأرسلتها، فحبسها عنده لنفسه.»
قالت: «أهذا يوجب كل هذه النقمة حتى تنصر الغرباء على أبيك؟ أليس هو ولي نعمتنا؟ أليس هو أمير المؤمنين وأرواحنا حلال في قبضة يده؟ يجب أن تعلم أني أحبك؛ لأني حين علمت بتغيير قلبك على أبيك بعثت إليك أنصح لك، ولولا حبي وغيرتي على سيدي الناصر ولي نعمتي لم يكن أسهل عليَّ من أن أرفع أمرك إليه، وهو لا يعجز عن القصاص.»
قال عبد الله: «إنه لم يتصرف معي كما يتصرف مع سائر أولاده، وقد قال لي ابن عبد البر الفقيه، وهو أعلم فقهائنا، إن من كان مثل أخي الحكم لا يليق للخلافة، لاشتغاله عن أمور الدين بالدنيا.»
فقالت الزهراء: «كأنك تطمع في أن تكون ولاية العهد لك؟»
قال عبد الله: «وما المانع؟! ألم يحدث ذلك في الإسلام؟! إن الخليفة غير مقيد بمبايعة أكبر أولاده، بل هو يجب أن يلاحظ أخلاقهم وقدرتهم.»
فقطعت كلامه قائلة: «ليس في ولي العهد ما يمنع مبايعته … ثم لم أكن أنتظر منك أن تخالف أباك في شيء، وإلا تكون قد أيقظت الفتنة، فأنا قد تحملت تهمة الريبة من سيدي الناصر؛ لأني خاطبتك المرة الماضية على انفراد، وقد هددني فلم أتكلم بشيء خوفًا عليك، فأصغِ إلى قولي وارجع إلى رشدك، فما أنت أولى من أخيك بولاية العهد ولا كنت أهلًا لها. هذا إلى أن طاعة مولانا الناصر واجبة، وهو الذي اختار أخاك، أما إذا كنت تنوي الخروج عليه فذلك أمر آخر، وأنت أعجز من أن تستطيعه.»
وكان الناصر وهو جالس يسمع ذلك الحديث ترتعد فرائصه، وقد أخذته الدهشة من عظم الاستغراب، وكان يسترق اللحظ مرة بعد أخرى إلى ياسر، فيرى الفشل باديًا على محيَّاه وكأنه سُقِط في يده، ومع ذلك فإن اشتغال ذهنيهما بسماع تتمة الحديث ألهاهما عن كل شيء.
أما عبد الله فلما سمع استخفاف الزهراء به هز رأسه وقال: «أتظنين أني وحدي ناقم على والدي؟ إني آخر الناقمين؛ لأنه أساء إلى كل الأحزاب؛ استبد بالسلطة، واستبدل رجال الدولة من العرب والبربر بالخصيان من الصقالبة، فلذلك نقم عليه الناس، ولو قلت كلمة لالتف حولي ألوف من أهل الحرب؛ فيهم كثيرون مثل صاحب النقمة.»
فلم تتمالك الزهراء عند سماع ذلك الاسم عن الوقوف، ثم شغلت نفسها عنه وقالت: «لله أنت من أمير مغرور! اعلم أني نصحتك وأعيد النصح ثانية، فإذا لم تقبل النصح فإني سأتحدث بأمرك إلى أبيك؛ لأني أضن بهذه الدولة أن تذهب فريسة الغرور، وقد بناها أبوك على هام الرجال فأحيا بها دولة المسلمين وعزز الإسلام، فلا تهدمها بطيشك. وأشير عليك قبل أن تقدِم على هذا العمل أن تستشير العقلاء.»
فقاطعها عبد الله قائلًا: «قد استشرت الفقيه ابن عبد البر وهو أعلم الفقهاء، وإن كان والدي قد نبذه وفضَّل عليه سواه.»
قالت الزهراء: «أحسب أن هذا الفقيه هو الذي أغراك على أبيك انتقامًا لنفسه من الفشل الذي أصابه يوم ذلك الاحتفال؛ إذ امتنع عليه الكلام.»
فضحك عبد الله وهو ينهض وقال: «أنا أعقل من أن أنقاد لسواي، وسترين.»
قالت الزهراء: «لا، بل أرجو أن ترجع إلى رشدك وتعدني أنك تائب في هذه الساعة، وإلا فإنك غير خارج من هذا المكان قط.»
قال عبد الله: «تهددينني؟»
قالت الزهراء: «لا تستخفَّ بي، فإني أضحي بحياتي في سبيل نصرة مولاي ومولاك.»
فهز عبد الله رأسه استخفافًا ومشى، فصاحت الزهراء: «ساهر!»
فجاء ساهر بأسرع من لمح البصر، فأشارت إليه أن يقبض على الأمير عبد الله، فهجم عليه وقد أعد وثاقًا شدَّ به يديه، وعبد الله ينظر إليه مستغربًا وهو يقول: «اخسأ يا غلام، ألا تعلم من أنا؟»
فلم يُجب، ولكن الزهراء أجابت: «أنا أعرف من أنت، ولا يغرَّنَّك أنه كان خادمًا لك، فقد كان عينًا لي عندك خوفًا من أن ينال مثل هذا الطيش شعرة من مولاي الناصر.»
فلم يتمالك الناصر أن صاح وهو بالشرفة: «لله درُّك يا زهراء!»
فعرفت الزهراء صوت الخليفة، وكانت قد وثقت من القبض على عبد الله فانسلَّت واختفت، أما عبد الله فإنه أُسقِطَ في يده وجمد الدم في عروقه، ولم يعد ينفعه الندم، فساقه ساهر إلى سجن خاص وأغلقه عليه.