المشورة
أما الناصر فنهض ومشى وياسر بين يديه، وقد تولَّته الدهشة وظهر الفشل واليأس في وجهه، ولم ينبس بكلمة، وظل الناصر ماشيًا حتى دخل غرفته وقد أعدوا له المائدة، فذهب إليها فأكل وهو لا يتكلم لعظم ما قام في نفسه من الأمر الخطير، وقد جاءه الخبر بغتة فلم يدرِ كيف يتصرف، وكان على موعد من لقاء سعيد بعد أن أرسله إلى الزهراء بالأمس يستطلع سر اجتماعها بعبد الله، فخطر له أن يستقدمه ليمتحن معرفته ويستشيره في الأمر لأنه أصبح شديد الثقة به.
أما سعيد فكان في غرفته في ذلك المساء ينتظر رجوع الناصر، فعلم من حركة أهل القصر أنه جاء فلبث ينتظر وصوله، وبعد ساعة أتاه ياسر وقد امتقع لونه من الدهشة والفشل وقص عليه ما كان، وهو يأسف لأن مهمته ضد الزهراء لم تنجح، وكان يحسب أن سعيدًا يشاركه في الأسف أو يشير عليه بشيء، فتظاهر سعيد بمشاركته في ذلك، ولكن الرعب وقع في قلبه مخافة أن يصرِّح الأمير عبد الله بخبره فيذهب سعيه أدراج الرياح، ويصبح مهددًا بالقتل، فأشار على ياسر أن يذهب ويكتم ما دار بينهما، فمضى وبقي سعيد وحده يفكر، وقد غلب عليه القلق والخوف.
وبينما هو في ذلك إذ جاءه غلام الناصر يدعوه إليه حالًا، فخفق قلبه خوفًا لئلَّا يكون الناصر قد اطلع على شيء من سره، ولكنه تجلَّد ووضع كتاب التنجيم في جيبه ومشى بقدم ثابتة حتى دخل على الناصر فرآه في فراشه، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا وهو يتظاهر بالهدوء والتكتُّم، فوقف سعيد بين يديه متأدبًا ينتظر أمره كالعادة، فأشار إليه أن يجلس، فجلس على البساط جاثيًا وأطرق، فقال له الناصر: «أظن أنك استبطأتني؟»
قال سعيد: «نعم، وقد كنت أنتظر رجوع مولاي بفارغ الصبر.»
قال الناصر: «ولماذا؟»
قال سعيد: «لأتبرك برؤيته، ولأنقل إليه نتيجة المهمة التي عهد بها إليَّ.»
قال الناصر: «أظنك تعني خبر الزهراء وما دار بينها وبين ولدنا عبد الله.»
قال سعيد: «نعم يا مولاي.»
قال الناصر: «ما الذي دلَّك عليه علمك؟»
قال وهو يبتسم: «لم أجد إلا كل ما يحسن بالجارية الأمينة المحبة.»
قال الناصر: «هذا لا يكفي إن كنت تعرف التنجيم، قل ما هو الحديث الذي دار بينهما؟»
فأطرق سعيد وأخذ يقلِّب الكتاب بين يديه وينظر إلى الناصر خلسة، والناصر متكئ على جنبه الأيسر، وخده على كفه اليسرى، وهو يراقب حركات سعيد، فلما رآه يتردد قال له: «ما بالك؟ قل الذي رأيته.»
فأظهر سعيد أنه يخشى التصريح، فقال الناصر: «قل كل ما سمعته. لا بأس عليك.»
قال سعيد: «سمعت شيئًا لا أجسر على التفوه به، وأكاد أكذِّب تنجيمي ولا أصدقه لغرابته.»
فضحك الناصر وهو يعتدل في مجلسه وقال: «لا تكذِّب تنجيمك بل كذِّب ظنك بالناس خيرًا. ألم تقل لي مرة أن الأذى يأتيني من أقرب الناس إليَّ؟»
قال سعيد: «يظهر أن مولاي الخليفة قد اطلع على السر من سواي.»
قال الناصر: «نعم، قل قولًا صريحًا، ولا تبالِ.»
قال سعيد وهو يُظهر الاهتمام: «أما وقد اطلع مولاي على ذلك الأمر الفظيع، فلا أكتمه ما ظهر لي من الأسرار المتعلقة به.»
قال الناصر: «قل، أرشدني، إني مضطرب البال من التعب وليس من الخوف.»
قال سعيد: «يحق لمولاي أن يعتب على ابنه إذا أراد الغدر به.»
فلما رآه كشف السر بالتنجيم حسب اعتقاده عظُم سعيد في عينيه، وعزم على استشارته والعمل برأيه فقال: «قل ما يدلك عليه علمك ولا تحاذر.»
قال سعيد: «دلني علمي على أن الزهراء — حفظها الله — قد اجتمعت بالأمير عبد الله لتردَّه عن جريمة كان يحاول ارتكابها ضد أمير المؤمنين.»
قال الناصر: «صدقت، وما العمل الآن؟ قل، إني عامل برأيك.»
فانشرح صدر سعيد لهذا النجاح وعوَّل على قطع السبل المؤدية إلى كشف سرِّه هو، فأعاد النظر إلى كتاب التنجيم ورمى البخور في النار، ثم أطرق يفكِّر، والناصر ينتظر فراغه من التعزيم والتبخير، ورأى عينيه تحمران وتدمعان وقد تبدلت سحنته، وأخيرًا وضع الكتاب من يده وأشار بيديه معًا إشارة القبض وقال: «اقبض عليه حالًا، اقبض عليه وعلى رفيقه في منزله، إنه شريكه في جرمه، واقبض على رجل ثالث كان معك الليلة، فإذا قبضت على هؤلاء بادرْ إلى الإعدام، إلى الإعدام؛ فإن بقاء واحد منهم يُفضي إلى الفتنة. والحازم من اجتث شجرة الشر من جذرها. هذا هو رأيي بصراحة، وقد نفضت يدي من خطر المستقبل إن لم يعمل أمير المؤمنين برأيي.»
وكان الناصر يسمع كلام سعيد ويتفهمه جيدًا، وهو ينوي أن يعمل بكل حرف منه بعد أن تحقق من صدق تنجيمه وسداد رأيه مرارًا.
أما سعيد فلما فرغ من كلامه، أظهر أنه تعب وأخذ يرتعش كأنه أصيب بالبرداء، فقال له الناصر: «ما بالك يا حكيم؟»
قال سعيد: «إني أخاف أن يتأخر مولاي وتأخذه الشفقة فيذهب بالدولة إلى الخراب. يقبض الآن على فقيه الأمير عبد الله الذي يئس من منصب القضاء فنقم على الخليفة، ولا دخل للبرِّ في شيء منه سوى اسمه، ويقبض أيضًا على رفيق أمير المؤمنين الليلة؛ فإنه شريك في الأمر، وإذا سأل أمير المؤمنين نفسه يعلم أن هذا الأخير من أكبر الأعداء مع أنه من أقرب المقربين، ويفعل ذلك سريعًا وفي الخفاء، فإن لم يفعل فإني أول من يموت.»
فحمل الناصر منه هذا التعبير محمل الغيرة الشديدة على الدولة وخاف مما خوَّفه منه، وخصوصًا لأن كلام سعيد عن كل من الثلاثة وافق ما في نفسه، فأمر أحد غلمانه أن يقبض على ياسر حيثما كان، ويزج به في السجن، وبعث آخرين إلى قصر مروان للقبض على ابن عبد البر، وحمله إلى قصر الزهراء.