الندم
دخلت عليه فرأته جالسًا على السرير وبين يديه لوح يقرؤه ويهز رأسه، فلما دخلت وضع اللوح إلى جانبه ورحب بها قائلًا: «مرحبًا بالحبيبة الصادقة.»
فأكبَّت على يده تقبلها فقبلها وأمرها أن تجلس إلى جانبه، فجلست مطرقة فقال لها: «قد أسأنا الظن بك وأنت بريئة من أسباب الريبة.»
فقالت الزهراء: «إني جارية أمير المؤمنين، وهو ولي نعمتي أفديه بروحي، ولا فضل لي.»
قال الناصر: «بل لك الفضل، فإنك أصدق مودة إليَّ من ابني، ذلك الخائن. لقد سمعت ما دار بينكما بأذني. لله درُّك من صديقة أمينة! وتبًّا له من خائن مارق!»
قالت الزهراء: «كيف عرف سيدي بوجود ابنه هنا وعهدي أنك في قرطبة؟»
قال الناصر: «دلني عليه ياسر الخائن حال وصولي، وقد أراد الإيقاع بك فأخذني إلى الشرفة ورأيتكما تتحدثان، فلما تحقق من براءتك من التهمة التي وجهها إليك خجل، ولكنه نال جزاءه.»
قالت الزهراء: «أما عبد الله فإني سأعود إلى مخاطبته، وأنا على ثقة من ندمه ورجوعه؛ لأن في فطرته شيئًا من طيب عنصر والده، وإنما خدعته أقوال المفسدين كالفقيه ابن عبد البر وأمثاله، أما هو فإنه طيب القلب شديد التديُّن كما لا يخفى على أمير المؤمنين.»
وكان الناصر طروبًا بحديثها لأنه كان يطرب لكل حركة من حركاتها، فلما أثنت على عبد الله وقالت إنها كانت ترجو صلاحه أحس بتسرعه في قتله، وشعر بالندم. لكنه تذكر الخطر الذي كان يهدده لو لم يفعل، فبادر الزهراء قائلًا: «أنا لا أرجو صلاحًا ممن يخون أباه وأخاه، وعلى كل حال فقد قُضي الأمر.» ورفع اللوح بيده ووجهه نحوها لتقرأه، فما أتت على بعضه حتى صاحت: «ويلاه! قتلت عبد الله؟!» ولطمت وجهها ونظرت إلى عيني الناصر وتفرست فيهما كأنها تستوضحهما الأمر، فرأت الشرر يكاد يتطاير منهما، فأعادت قراءة اللوح حتى بلغت إلى اسم صاحب النقمة فاقشعرَّ بدنها؛ لأنها تذكرت أخاها وأنه سيُقتل مثلهم، فغلب عليها البكاء للسببين معًا، فظنها الناصر تبكي على عبد الله فقال: «ما بالك تبكين؟»
فقالت الزهراء: «أبكي على شباب عبد الله.»
قال في لهجة الغضب: «أتبكين الخائن وأنت أعلم الناس بخيانته؟!»
قالت الزهراء: «أوليس هو بضعة من أمير المؤمنين؟ فكيف لا أبكيه وقد كنت أعتقد أنني سأتمكن من إرجاعه عن خطئه.»
قال الناصر: «أنت أمرت بالقبض عليه بعد أن يئست من صلاحه.»
قالت الزهراء: «قبضت عليه إرهابًا، ولم يكن عندي ريب من ندمه في الغد، ولكن ويلاه! هل قُتل عبد الله فعلًا؟»
قال الناصر: «نعم قُتل، وكذلك سيُقتل أمثاله الخائنون، فبعد أن يعلموا أني قتلت ابني لهذه الخيانة فلا يلومون إلا أنفسهم إذا وقعوا في يدي، فإني قاتلهم جميعًا، والقتل أنفى للقتل.»
فتذكرت أخاها وما يكون من أمره إذا وقع في قبضة الناصر، فأحبت أن تستطلع رأي الخليفة في العفو عن أمثاله فقالت: «وإذا رجعوا تائبين؟»
قال الناصر: «أقتل ابني وأعفو عن سواه؟! لا يقع في يدي واحد من الخائنين إلا قتلته أيًّا كان.»
فوقع قوله في نفسها وقعًا شديدًا؛ لأنها تعرف شدة الناصر وبطشه، وازدادت خوفًا من ذكر اسم أخيها، ورأت تأجيل طلب العفو إلى فرصة أخرى، وهي لا تعلم إذا كان أخوها يرضى بطلب العفو. فرأت أن تقنعه أولًا بالرجوع، ثم تتوسط له في العفو عنه.
وبعد قليل أمر الخليفة بانصرافها، وبعث اللوح لتعليقه بالباب وتوسَّد يطلب النوم، فتذكر ما دار بينه وبين الزهراء، وتمثلت له صورة ابنه عبد الله عند آخر نظرة، فغلب عليه الحنان وأخذ الندم يتسرب إلى قلبه شيئًا فشيئًا، وهو يغالبه وينتحل الأسباب التي تسوغ السرعة في القصاص تخلصًا من الفتنة، لكنه مع ذلك غلب عليه الأرق وتولاه القلق، فلم يغمض له جفن وهو يتقلب كأنه نائم على الشوك.
ولما طلع النهار أحس بضعف وانقباض، فاستدعى طبيبه سليمان بن تاج، فأتاه مسرعًا فشكا إليه حاله، وكان سليمان قد قرأ اللوح المعلق بالباب، فعلم سبب ذلك الانحراف، فوصف له بعض المنعشات أو المبردات في اصطلاحهم، وقال: «لا يخفى على أمير المؤمنين سبب هذا الانحراف، والعلة تُزال بضدها، فيُستحسن أن يلهو سيدي بما يشغله عن التفكير.»
قال الناصر: «وكيف ذلك؟»
قال سليمان: «تأمر جارية مغنية تغنيك ألحانًا مفرحة، فإن من الألحان ما يبعث على الحزن، ومنها ما يبعث على الفرح، وعرفت فيلسوفًا من أبناء مهنتنا اخترع ألحانًا تُضحك، وأخرى تُبكي، وألحانًا تُفرح أو تُغضب لغير سبب موجب للضحك أو البكاء أو الفرح أو الغضب، وإنما يحدث ذلك من تأثير الألحان على النفس، وأظن أن ذلك الفيلسوف قد مات الآن، ولست أدرى إذا كان قد علَّم أحدًا هذه الألحان.»
فتذكر الناصر أن عابدة تُحسنها فقال: «إن جاريتنا عابدة تعلَّمت هذه الألحان من معلمها سعيد الوراق.»
فقال ابن تاج: «إن سعيدًا هذا من عجائب الدنيا، لا يوجد شيء من العلوم لا يعرفه، حتى الموسيقى، فإذا شاء مولاي أمر جاريته عابدة أن تجالسه فتسقيه هذه المرطبات، وتغنِّيه على انفراد، فإني أرجو شفاءه عاجلًا.»