الخوف
وبعد أن ترجَّلوا تناول جوهر أرسان البغال، وأخذ في شدها إلى بعض جزوع الشجر هناك، وأشار سعيد إلى الزهراء بأن تمشي معه، فمشت وهي تحاذر أن يمسها ذلك الكلب بسوء، وقلبها يخفق حذرًا من الخديعة. أما سعيد فكان يلاطفها حتى دنت من البيت، فتناول من جيبه مفتاحًا فتح به الباب، ودخل والظلام حالك فتراجعت وقالت: «لا أدخل في الظلام.» فأشار إليها أن تجلس، فقالت: «أين أخي؟»
قال سعيد: «ليس هو هنا، وإنما أردت أن تستريحي هنيهة.»
فأجفلت وقالت: «أستريح؟ كنت أفضِّل أن نظل سائرين حتى نصل إليه؛ فقد مضى معظم الليل وسيدركنا النهار، وينبغي أن نكون في القصر في صباح غد.»
فضحك سعيد، وقال: «لا بأس. سنكون هناك كما تقولين» قال ذلك وخرج.
فالتفتت حولها فلم تزدد إلا وحشة، وأخذت تفكر فيما أتته من الطيش في تسرُّعها، ولكنها شعرت أنها لم تكن مخيرة في ذلك، وأرادت أن تصيح وتستغيث، فخشيت العاقبة، فرجعت إلى رشدها وأخذت تتجلَّد وتفكر، فحدثتها نفسها أن تستغيث بجوهر لعله ينقذها، فنهضت ومشت إلى الباب فرأت سعيدًا واقفًا إلى جانبه يكلمه، ثم أشار إليه فأسرع نحو الشاطئ، وعاد سعيد نحو البيت والكلب يقفز حوله.
فرجعت الزهراء إلى مقعدها، وأحست أنها وحيدة هناك، وقد أصبحت في قبضة سعيد، فأخذ قلبها في الخفقان وجاش الحزن في صدرها وأحست بالحاجة إلى البكاء، ولم تستطع أن تحبس دموعها فبكت. ثم دخل سعيد، فلما رآها تبكي ضحك وقال: «ما بالك تبكين؟»
قالت الزهراء: «أخشى أن تكون قد خدعتني؟»
قال سعيد: «كيف أخدعك أو أريد بك سوءًا وأنا إنما أريد سعادتك، وقد تركت الدنيا كلها من أجل لقائك؟»
قالت الزهراء: «أين نحن الآن؟ أين أخي؟ بالله أرني إياه ثم لا أبالي بعد ذلك ما يصيبني.»
قال سعيد: «تمهَّلي، إنك سترينه، وتكونين في أوج السعادة.»
وبينما هما في ذلك، سمعا صفيرًا فأجفلت الزهراء وجعلت تتلفت وهي مذعورة، فقال لها سعيد: «لا تخافي.»
فقالت الزهراء: «وما ذاك؟»
قال سعيد: «هذا ربان السفينة يخبرنا بوصولها.»
قالت الزهراء: «وأية سفينة؟»
قال سعيد: «سفينة لنا في هذا النهر، سننتقل بها إلى المكان الذي فيه أخوك، وهو ليس بعيدًا.»
فصفقت وصاحت: «ويلاه! إلى أين تذهب بي يا سعيد؟ ألم تعاهدني على الذهاب إلى أخي؟»
قال سعيد: «نحن ذاهبون إليه عن طريق النهر، وذلك أهون من السفر عن طريق البر.»
فقالت الزهراء: «بالله دعني، أرجعني إلى القصر، لقد استغنيت عن رؤية أخي أو غيره، ويلاه ما هذا! أين أنا؟» قالت ذلك وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فتقدم سعيد إليها وأمسكها بيدها وقال: «لا تظني سوءًا يا حسناء، نحن ذاهبون إلى أخيك. تعالي، اخرجي، انظري إلى السفينة، فإنها ستحملنا إلى منزل تجدين فيه أخاك، فتتحققين صدق قولي.»
فجذبت يدها من يده وتراجعت، ثم أعملت فكرها، فرأت نفسها منفردة هناك وندمت ندمًا شديدًا على مجيئها، ولكنها لم تقطع الأمل من لقاء أخيها فتجلَّدت وأطاعت سعيدًا في الخروج إلى السفينة فرأت الشراع منصوبًا، فدعاها للنزول ولم تجد في السفينة أحدًا من النوتية، وما لبثت أن رأت السفينة تخترق عباب الماء، وليس فيها أحد غيرها هي وسعيد وجوهر.