الفشل
فلنتركهم يخوضون الماء ونرجع إلى عابدة عند الناصر وهي تسقيه المرطبات وتغنيه وتنادمه. قضت بقية ذلك النهار عنده وهو يتلهى بالحديث والشراب، فلما اقترب وقت العشاء كان الشراب والغناء والخلوة قد نبهت فيه ذكرى ابنه عبد الله، فتصور ما كان من تسرعه في قتله وكيف أن الزهراء قالت له إنه كان في إمكانها إقناعه واستبقاؤه حيًّا، ولامته على تسرُّعه، فأحس بشوق لرؤيتها ومحادثتها، فبعث في طلبها فلم يجدها في غرفتها، فألحَّ في البحث عنها فلم يقف لها أحد على خبر، فغضب وغلبت عليه الحدَّة فأمر برفع المائدة وأخرج عابدة وطلب الانفراد ليناجي نفسه فيما فعله، هل أخطأ في قتل ابنه أم كان يُستحسن أن يستبقيه، فقضى بقية تلك الليلة في أمثال هذه الهواجس، ولا يجسر أحد على مخاطبته.
أما عابدة فكان إخراجها من حضرة الخليفة صدمة قوية بالنسبة للهدف الذي كانت تهيئ نفسها له، وسارت توًّا إلى غرفة سعيد فلم تجده هناك، ولاحظت من حال الغرفة أنه خرج منها خروج المسافر، ومكثت على ذلك وهي تصبِّر نفسها لعله يأتي، فمضى هزيع من الليل ولم يأتِ، فخرجت تلتمسه عند الزهراء فوجدت مربِّيتها، وكانت قد تعرَّفت إليها، فسألتها: «هل رأيت سعيدًا؟» فقالت: «لا هو ولا الزهراء.»
فأجفلت عابدة للحال، ودلَّها قلبها على مكيدة فقالت: «وكيف اتفق خروجهما معًا؟»
فهزت كتفيها كأنها تتنصل من تبعة ما خطر ببالها، فأدركت عابدة أن تلك الوصيفة تشك في ذلك الأمر، ثم شاع في القصر خبر خروج الزهراء، ولم تبقَ وصيفة، ولا وصيف، ولا خادم، ولا خادمة إلا عرف به، وكلَّف تمَّام رئيس الخصيان بالبحث عنها في سائر القصور فلم يقف لها على خبر.
أما عابدة فإنها عادت إلى غرفة سعيد لتعيد النظر وتتفرَّس في الأشياء، فلم تزدد إلا اعتقادًا بفراره، فانقبضت نفسها وتولَّاها اليأس، فجلست على مقعد هناك، وقد وهنت عزيمتها واسترخت كأنها أصيبت بغيبوبة، واستغرقت في الهواجس، وأخذت تراجع تاريخ حياتها مع سعيد وكيف كانت متيمة به، وهو يعدها بأن يتزوجها، وكيف جعل شرط الزواج فوز العبيديين على الأمويين، واستخدمها في كثير من الأحوال لتنفيذ أغراضه وآخرها دخولها قصر الزهراء على ما علمت، وكيف أراد أن يستخدمها في الفتك بالخليفة، وكيف أنها قبلت ذلك على أن تكون هذه المهمة آخر العقبات في سبيل الظفر بما تريد، ثم هو يفر من القصر بالزهراء! ولما تصوَّرت فراره معها، أجفلت وجلست على المقعد والظلام حالك، فغلب عليها الانقباض وعمدت إلى البكاء.
وبينما هي مستغرقة في البكاء إذ سمعت الأذان، وعلمت أنه أذان نصف الليل، فتذكرت وصية سعيد أن تسقي الخليفة العقار وتشربه في تلك الساعة فغلبت عليها الطاعة للاستهواء، فنهضت وأخرجت الورقة من جيبها وعمدت إلى الكأس وفيها الماء وصبت العقار فوقه وأخذت تتأمله وتقول: «هل الموت مختبئ في هذا الماء؟ الموت ولا هذا العذاب، ولكن لا، لا، ربما صدق سعيد فيأتيني بعد قليل. كيف يأتي وقد فرَّ بالزهراء؟ لا، لا أظنه يفعل، بل هو يشفق على قلبي لأنه يعلم مقدار حبي له.»
ثم وضعت الكأس من يدها وأسندت رأسها على الحائط، فغلب عليها النعاس من فرط التعب، فتوالت عليها الأحلام المزعجة، ولم تستيقظ إلا على أذان الصبح، فنهضت مذعورة لصوت الأذان ورأت الكأس لا يزال كما هو فتناولته، وكان الاستهواء قد ذهب تأثيره فانتبهت لنفسها وقالت: «أين ذهب سعيد؟ هل يعود ويشفق على قلبي؟ سامحك الله، ما أقسى قلبك! وإذا لم ترجع فهل أبقى على قيد الحياة! تبًّا للحياة بعدك! الأفضل أن أموت، إن الموت في هذه الكأس.»
ورفعت الكأس وتأملته، وهمَّت أن تضعه على شفتيها، فإذا بيد قد قبضت على ذراعها، فوقع الكأس إلى الأرض وانسكب ما فيه، فأجفلت والتفتت فرأت ساهرًا ينظر إليها بوجه عبوس ويقول لها: «أين معلمك؟ أين سعيد الوراق الخائن؟» قالت عابدة: «لا أعلم أين هو، إني أبحث عنه؟»
قال ساهر: «قبحه الله من خائن! قد وشى بالأمير عبد الله والفقيه وعجَّل بقتلهما، وهو سبب خروجهما على الخليفة، وأنت معه لأنك رفيقته.»
فقالت عابدة: «أنا؟ أنا المسكينة الذليلة؟ إنه خانني قبل الجميع.»
وأطلقت لنفسها البكاء، فرقَّ ساهر لها وقال: «خانك أنت؟»
قالت عابدة: «قد عذَّبني عدة أعوام وهو يعدني بالزواج فأطعته إلى هذه الساعة، ثم ظهر لي أنه فرَّ. ألم يفر؟»
قال ساهر: «يظهر أنه فر والزهراء معه، وقد علم الخليفة بذلك وبعث إليَّ فأمرني أن أبحث عنه، فلما وجدتك هممت بالقبض عليك لأنك رفيقته.»
قالت عابدة: «ويلاه من ذلك الظالم الخائن! آه لو ألقاه لقتلته بيدي! قد كنت حتى هذه الليلة أتعشقه وأتفانى في حبه، أما الآن بعد أن تحققت من خيانته فليس في الدنيا أبغض إليَّ منه، ولو استطعت أن أمتصَّ دمه لفعلت.» قالت ذلك وهي ترتعد وتصر على أسنانها.
ومن نواميس الحب أن يزداد بالتبادل أو بالأمل؛ فالمحب يزداد تعلقًا بحبيبه إذا تحقق أنه يحبه أو استدل من تصرفه أنه سيحبه، فيحيا بالأمل، فإذا علم بعد ذلك أن أمله في غير موضعه وأن ذلك الحبيب كان يخادعه تصيبه صدمة الفشل، فينقلب حبه بغضًا، ويشتد غضبه بنسبة ذلك الحب. وهذا ما حدث لعابدة حين تحققت من خيانة سعيد لها، فإنها نقمت عليه نقمة لا تقاس بها نقمة أعدى الأعداء.
فقال لها ساهر: «أنت طبعًا تعرفين منزله ومخبآته في قرطبة وأرباضها؟»
قالت عابدة: «أعرف، نعم أعرف كثيرًا من أحواله.»
قال ساهر: «اتبعيني» ومشى نحو غرفة الخليفة فلقى تمَّامًا رئيس الخصيان، فقال له: «إن هذه الجارية تعرف كثيرًا من مخبآت ذلك الخائن لأنها كانت معه، وقد خدعها وخانها، وكاد يقتلها. فهي تدلنا عليه إذا أمر الخليفة بفرقة ترافقنا، فنذهب الآن للبحث حالًا.»
فدخل تمَّام على الناصر، وقص عليه ما قاله ساهر، فأمر أن يرسلوا معه فرقة من الفرسان الأشداء، ومعهم عابدة ترشدهم إلى المكان، فهيئوا الأفراس وأعدوا لعابدة فرسًا ركبت عليه، وركب ساهر على فرس إلى جانبها، وقد أعجبه ما ظهر من أدبها، وكان قد استلطفها كثيرًا منذ رآها في قصر مروان منزل الأمير عبد الله، وتولدت فيه حاسة الشفقة عليها بعد أن عرف حقيقة أمرها، وكان حسن السريرة مخلص الطوية شديد الحب، مع أنه خصيٌّ لا يرجو من وراء الحب غير تعب القلب، ولكنه كان قد أحب الزهراء إلى درجة العشق، وكان يكفيه من حبها أن تبتسم له وتُظهر رضاها عنه، وقد خدمها بالتجسس على عبد الله كما أوحت إليه؛ ولذلك كان من أكثر الناس غضبًا على سعيد لفراره بها.