اليأس
أما هي فكانت تسمع كلامه وهي مطرقة، فلما فرغ من قوله دفعته بيدها وقالت: «أتعترف بجرائمك وذنوبك ثم تطلب إليَّ أن أحبك؟! إني لا أحبك ولا أستطيع أن أحبك.»
فتلملم واعتدل في مقعده وقال: «نحن هنا وحدنا وترينني أستعطفك وأتذلل لك فلا تستبدي بي واسمعي نصحي.»
قالت الزهراء: «إن من يزعم أنه محب لا يكذب على حبيبته ولا يخونها.»
قال سعيد: «أنت حبيبتي. ومتى خنتك؟!»
قالت الزهراء: «ألم تأتِ بي إلى هنا لمشاهدة أخي، فأين هو؟»
قال سعيد: «قلت لك إنه رجع إلى القيروان، ودعوتك للذهاب إليه فلم تقبلي.»
قالت الزهراء: «هل يُعقل فرارهم جميعًا؟»
قال سعيد: «نعم، هكذا اتفقنا، أنه متى شعرنا بالفشل ننتقل إلى القيروان، فلما سمعوا بمقتل عبد الله وابن عبد البر وياسر واطلاع الناس على أمرهم فرُّوا، وقد أخطئوا لأنهم لو انتظروا مجيئي الآن لعلموا أن عدوهم الأكبر قد مضى.»
قالت الزهراء: «من تعني؟»
قال سعيد: «أعني أكبر عدو نخاف منه ونخشى بأسه.»
قالت الزهراء: «لا أعرف أحدًا تعنيه إلا أن يكون الناصر!»
قال سعيد: «هو أعني.»
فأجفلت وقالت: «ماذا تعني بأنه مضي؟»
قال سعيد: «لا تعجبي، أعني أنه مات.»
فتراجعت وصاحت: «الناصر! الناصر مات! خسئت! إن باعك أقصر من أن تناله.»
فوقف وهو يهز كتفيه ويقول: «سواء صدَّقت أو لم تصدِّقي فقد قلت لك الواقع، ومع ذلك فهو بعيد عنا، ولا شيء يمنعني مما أريده، وإذا بقيت على عنادك عمدت إلى العنف.»
فتفرست في وجهه وقالت: «لك أن تقتلني، وتستطيع أن تقذف بي في هذا الماء كما قذفت بذلك الخادم الأمين، ولكن لا يمكنك أن تحوِّل بغضي إلى حب، وأنت قد ارتكبت ما ارتكبته حسب قولك، التماسًا لحبي. إنني لا أحبك، لا أحبك، فافعل ما تشاء، اقتلني.»
فنظر إليها نظرة استغراب، وقال: «أظنك لم تفهمي مرادي. أنت إذا أقلعت عن هذا العناد وأطعتني فإنك لا تلاقين أخاك فقط، بل تعيشين عندي عيشة الملكة الآمرة الناهية.»
قالت الزهراء: «فهمت كل ما تقوله، ولكنني لا أستطيع أن أحبك. أقول ذلك مع علمي بأن موتي وحياتي بين يديك فافهم!»
قال سعيد: «يا لله! ما هذه الوقاحة؟!»
قالت الزهراء: «لا تكثر من الكلام، ليس عندي غير ما قلته لك، وإن ما تزعم أنك فعلته في سبيل حبي لا يزيدني إلا بغضًا لك، وإذا خيِّرت بينك وبين الموت لاخترت الموت. ألا يكفيك هذا التصريح؟ اقتل ثم اقتل.» قالت ذلك وقد احمرت عيناها من البكاء والغضب، وأخذت ترتعد وقد اصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف، فجلست وقد خارت قواها وأسرع تنفسها وأوشكت أن تصاب بنوبة عصبية، ثم انقلب ذلك الغضب بغتة إلى حزن، فغلب عليها البكاء، فأخذت تندب نفسها وتلطم خديها وتقول: «ويلاه يا زهراء! أين أنت يا سيدي الناصر! نصرك الله على أعدائك، وإذا علمت بموتي فاعلم أني مت على ولائك، فإني محبة لأحبائك، عدوة لأعدائك إلى آخر نسمة من حياتي. آه! آه! تبًّا لك يا سعيد أو يا سليمان أو كما تسمي نفسك، لقد ارتكبت آثامًا كثيرة. ألم يكن الأفضل لك أن تقتل نفسك وتخلص الناس من شرك؟ من أجل هذا الحب الذي تزعمه ارتكبت هذه الآثام! أنت تكلفني أن أحبك ولا طاقة لي بذلك. دعني، أو اقتلني وليس لك مأرب ثالث.» ولما فرغت من قولها كان قد أنهكها التعب، وهي لم تنم طول الليل الماضي فضلًا عن الغضب والخوف، فخارت قواها وهي لا تزال في ثوب صاحب البريد.
أما سعيد فكان يسمع توبيخها وتعنيفها وهو صابر يرقب حركاتها وسكناتها، ويتردد بين أن يبقي على المحاسنة أو يعاملها بالعنف، فلما رآها استلقت منهوكة القوى وقد امتقع لونها وكاد يغمى عليها، جلس أمامها ومد يده إلى رأسها وقد اعتزم أن يمررها على جبينها لعله يؤثر عليها بكهربائيته أو مغناطيسيته، وحين لمست يده جبينها نهضت مذعورة كأنها وُخزت بحربة ونفرت منه. فنهض وقد أخذه الغضب وجرى في أثرها وهو يحاول أن يلف خصرها بذراعيه، وهي تتحاشى أن يمسها فأفلتت منه، وقد تدلى شعرها على كتفيها، وهمَّت أن تخرج من البيت إلى البستان، فسبقها وأغلق الباب فأصبحت سجينة، ولكنها أحست بقوة لم تعهدها في نفسها من قبل، والتفتت إلى سعيد وقالت: «أهذا ما تزعمه من حبك، تثب عليَّ كالوحش الكاسر، والله إنك لن تأخذني إلا جثة هامدة.»
فتراجع وقال: «كم توسلت إليك وتذللت لك فلم تقبلي، وهل يليق بي — وأنا لا يعجزني قلب الممالك وتفريق الجنود — أن أعجز عن إخضاعك؟»
قالت الزهراء: «قلت لك إن كل ما في وسعك أن تقتلني، هذا كل ما يمكنك أن تفعله معي، والقتل لا يهمني، اقتلني كما قتلت سواي وعش هنيئا. ماذا ينجيك من غضب أمير المؤمنين؟! إلى أين تفر من سيف نقمته؟!»
فضحك ضحكة ضج لها المكان وقال: «قلت لك إن الناصر مضى إلى حال سبيله.»
فصاحت: «إن يدك أقصر من أن تناله.»
قال سعيد: «يظهر أنك لم تعرفي من أنا، وسوف تعلمين.»