شد الوثاق
قال ذلك وأراد أن يتحول عنها ليتناول شيئًا في غرفة أخرى، فسمع نباح الكلب، وكان ينبح إذا استغرب قادمًا، فأجفل سعيد وأنصت، وإذا بدبدبة خيول قد تعالت، فتركته الزهراء مشتغلًا بالإنصات، وفتحت الباب ووثبت إلى الخارج، فتعثرت بالعتبة ووقعت، لكنها عادت فنهضت، وإذا بعشرات من الفرسان قد ملئوا البستان وفي مقدمتهم فارسان عرفت منهما ساهرًا، فصاحت: «ساهر! ساهر! لله درُّك! عليكم بهذا الخائن أحيطوا بالمنزل واحذروا أن يفلت منكم.»
فهرولوا بأفراسهم حول المنزل وجاء بعضهم من ناحية الباب، فخرج إليهم سعيد وقد تبدلت سحنته وجحظت عيناه وقال لهم: «لا تزعجوا أنفسكم، ها أنا بين أيديكم لا أحمل سيفًا ولا سكينًا، ولا تخشوا فراري.» قال ذلك بهدوء وسكينة كأنَّ شيئًا لم يكن.
فتقدم إليه ساهر وخلفه جماعة قد صوَّبوا سيوفهم إلى سعيد وقال له ساهر: «تسمح لي أن أشد وثاقك؟»
فمد يديه وقال: «افعل.»
فأخذوا يشدون وثاقه وهو ينظر إلى ما بين يديه، فرأى عابدة بينهم فقال: «عابدة، وأنت أيضًا؟»
فلم تجبه، ولكنها تقدمت إلى الزهراء وأخذت تخفف عنها، فسألتها الزهراء عن الناصر فقالت: «هو بخير.» فقالت عابدة: «ولكن كيف جئت مع هذا اللعين؟»
قالت الزهراء: «أتيت معه لأرى أخي.»
قالت عابدة: «ومن أخوك؟»
قالت الزهراء: «يسمونه صاحب النقمة.»
قالت عابدة: «صاحب النقمة أخوك؟ ألم تريه؟»
قالت الزهراء: «لم أجده. هل تعرفين مكانه؟»
قالت عابدة: «نعم، أعرفه.»
فأشارت إليها أن تنتظر، والتفتت إلى ساهر، وكان قد شد وثاق سعيد وسلمه إلى أربعة يحرسونه، وجاء في الحال إلى الزهراء ووقف متأدبًا: «هل تأمر سيدتي بشيء، إني عبدك المطيع.»
قالت الزهراء: «بورك فيك من شهم، لقد جئتني بالفرج في وقت الضيق. جزاك الله خيرًا.»
فابتسم وقال: «إن هذه الكلمة من فمك تساوي عندي كل أموال العالم، ولا تنسي أن لعابدة الفضل الأكبر لأنها دلتنا على هذا المكان، ولولاها لم نعمل شيئًا.»
فالتفتت الزهراء إلى عابدة وضمتها إلى صدرها وقالت: «لن أنسى فضلك يا عزيزتي، ويزداد ذلك الفضل إذا استطعت أن تهديني إلى أخي.»
قالت عابدة: «أنا أعرف مخبأه، لكنني لا أستطيع أن أدعوه، فإنه لا يصدقني، بل إنه قد يفتك بي.»
فقال ساهر: «أنا أسير إليه، قولي أين هو مكانه.»
قالت عابدة: «ولا أنت فإنه يسيء الظن بكل رجال الناصر، وكل أهل الأندلس، وخصوصًا الآن بعد ذيوع خبر مقتل الأمير عبد الله.»
قال ساهر: «ما الحيلة إذن؟»
قالت عابدة: «الحيلة أن نأخذ إليه كتابًا أو علامة من سعيد فإنه يأتي سريعًا لأنه يحترمه احترام العبادة.»
فصاحت الزهراء: «بالله أين هو؟ خذيني إليه.»
فقال ساهر: «لا أظن أن سعيدًا يعطينا كتابًا أو علامة.»
قالت عابدة: «أنا أكلمه. دعوني أدخل إليه وحدي.»
قالت ذلك ودخلت عليه وهو مشدود الوثاق في إحدى غرف ذلك البيت، وكان جالسًا وقد قطب حاجبيه وأطرق كأنه يفكر، وظهر الاهتمام في عينيه، فلما لمح ظلها رفع بصره إليها فلم يتمالك عن إرسال دمعتين، فلما رأته يبكي خفق قلبها وتذكرت ما كان له من المنزلة الرفيعة في نظرها، وكيف قضت عدة سنوات وهي ترى السعادة في رؤيته والموت والحياة بين شفتيه، فتأثرت لمنظره وغلب عليها الحنان فقالت: «يسوءني يا سيدي أن أراك في هذه الحال، وأنا الجانية عليك لأني دللتهم على مكانك، ولكنك أذهبت رشدي بأعمالك.»
فقطع كلامها قائلًا: «لا ذنب لك يا عابدة، وإنما الذنب ذنبي. أنا لا أنسى ما سببته من ألوان الشقاء لك وكم عرَّضت حياتك للخطر. أعرف هذا كله؛ ولذلك فلا لوم عليك مهما فعلت، وسيسوقونني إلى الخليفة أو غيره وسيقتلني طبعًا، وهذا كله لا يهمني لأن الحياة لم تعد تحلو لي.»
وسكت هنيهة ثم قال: «ماذا فعلت بالناصر؟ هل أصابه سوء؟»
قالت عابدة: «لا؛ لأني لم أستطع تنفيذ أمرك.»
فتنهد تنهدًا عميقًا وقال: «الحمد لله، أشعر الآن يا عابدة كأني صحوت من نوم أو أفقت من إغماء، فإذا كنت قد تعمدت نجاة الخليفة فإن لك الشكر.»
قالت عابدة: «الحق يقال إني لم أتعمد ذلك قط.» وقصت عليه ما وقع باختصار، ثم قالت: «لعل الخليفة إذا تأكد من رجوعك وتوبتك يعفو عنك ليستفيد من علمك ودهائك.»
فهز رأسه هزة الإنكار والاشمئزاز وقال: «لا، لا أحب البقاء بعد الآن؛ لأن نفسي لا ترضى بأقل من منصب الملك أو الخلافة. أما وقد تعذر ذلك فالقبر أولى، وقد خدعتك وخدعت سواك، وفتكت وغدرت رغبة في ذلك المطمع فأُسْقِط في يدي، والآن هل أستطيع أن أخدمك في شيء تريدينه.»
قالت عابدة: «لا أريد شيئًا. سوى أن الزهراء، وهذه قد لحقها منك عذاب شديد (فصرَّ على أسنانه عند سماع اسمها) فإذا كنت تشعر بذلك، فأكرمها بإيصال أخيها إليها، وأنا أعرف مكانه، ولكنني أعلم أنه لا يصدِّق سواك ولا يثق بغيرك، فأرسل إليه علامة منك أو كتابًا كي يحضر إلى هنا، ومتى جاء كنت وسيلة في تعريفه إلى أخته، وهذه تكفر عن كل سيئاتك معها.»
قال سعيد: «أفعل ذلك. مدي يدك إلى هذا الخاتم، تناوليه من أصبعي، واذهبي إلى المنزل الذي تعرفينه واطلبي سالمًا، ولا تسمِّه صاحب النقمة، فمتى جاءك فأعطه هذا الخاتم واسأليه ما شئت.»
فمدت يدها وأخرجت الخاتم من يده، وأحست وهي تُخرجه ببرودة أطرافه فتجاهلت.
ولما أرادت الخروج ناداها فعادت، فقال لها: «أنت تعلمين أن القوم الذين أغريناهم على الثورة لا يزالون يجتمعون هناك، وتعلمين أن الذنب في ذلك ذنبي أنا، فهؤلاء لا تزال الدولة تعدُّهم أعداءها، فإذا عرفت مكانهم فربما فتك الجنود بهم، فتزيدين ذنبًا آخر إلى ذنوبي. لذلك ينبغي أن تذهبي أنت وحدك وتحتفظي بهذا السر، وتأتيني بصاحب النقمة وحده وأنا أرشده إلى الحقيقة، وهذا المفتاح في جيبي لتفتحي به الباب الخارجي، وهو يعود فيحل تلك الجمعية ولا يعرف أحد بها، ولا تجدين الآن منهم أحدًا هناك كما تعلمين.»
قالت: «حسنًا»، وأخرجت المفتاح ورجعت إلى الزهراء وقالت لها: «هذه هي العلامة، سأذهب بها لآتيكم بسالم، ومتى جاء فإن سعيدًا يتمم التعارف.»