صاحب النقمة
تنكرت عابدة في ملابس رجل، ومشت حتى دخلت ذلك الدهليز، واتصلت منه إلى الباب وطرقته الطرقة التي عرفتها، فخرج إليها شاب ملثَّم الوجه وقال: «من الطارق؟»
فقالت عابدة: «افتح وخذ هذه الرسالة»، ففتح كوة صغيرة في الباب، فمدت الخاتم منها، فلما رآه فتح الباب ودعاها للدخول وهو يحسبها رجلًا، فقالت: «إن صاحب هذا الخاتم يدعوك إليه الآن. إنه على مقربة من هذا المكان.»
قال صاحب النقمة: «هل هو في ضيق؟»
قالت عابدة: «لا، ولكنه يحب أن يراك وحدك.»
فدخل وغيَّر ثيابه وخرج معها حتى تجاوز الدهليز، وهو يتفرس فيها لأنه طرب لرخامة صوتها، وشعر بأنها امرأة، فقضى مسافة الطريق وهو يوجه إليها أسئلة، ولو بغير باعث ليسمع صوتها، وكلما سمعه زاد استئناسًا به، وقد تذكر أنه سمعه قبلًا وطرق باب قلبه.
وبعد قليل اقتربا من البستان فسمع صهيل الأفراس، وعلم أنها أفراس صقالبة الناصر، فوقف وقال لها: «أخشى أن يكون في الأمر دسيسة يا رجل، أو يا امرأة!»
قالت عابدة: «كلا يا سيدي، وسترى ذلك حال وصولك.»
قال صاحب النقمة: «لا، لن أخطو خطوة واحدة من هذا المكان قبل أن ترفعي عنك هذا القناع.»
قالت عابدة: «أخشى أن تعرفني»، قالت ذلك وأزاحت اللثام.
فلما وقع نظره عليها عرفها فصاح: «عابدة! أين سعيد؟ ماذا أرى؟»
قالت عابدة: «لا تخف يا سالم. أما وقد عرفتني فلم يبقَ باعث على الحذر، وعما قليل ترى سعيدًا وهو يقص عليك خبرًا جديدًا.»
وكان سالم قد خرج وعليه عباءة وتحتها السيف والخنجر، وكان طويل القامة عظيم الهيبة جميل الخلقة، يكاد الشرر يتطاير من عينيه، لا يهاب عشر رجال إذا لقيهم وحده، وقد تعوَّد الضرب والطعن، فلما سمع قول عابدة وهو يعلم منزلتها عند سعيد ويعرف غيرتها على أحزابه، مشى معها حتى وصلا إلى باب البستان، وكانت الزهراء قد اختبأت في إحدى الغرف ريثما يقابل أخوها سعيدًا ويمهد السبيل للتعارف.
فمشت عابدة بين يدي سالم في البستان، ومشى هو في أثرها مشية البطل الباسل، لا يبالي بما هناك من الخيول حتى وصل إلى باب البيت فسبقته عابدة إلى سعيد وأنبأته بمجيئه، وكلَّفته بأن يخاطبه ليستأنس به لئلَّا يشك في الأمر، فصاح من الداخل: «سالم!»
فلما سمع صوته وثب إليه وهو يقول: «لبيك يا سيدي»، وما عتَّم أن رآه موثقًا على تلك الصورة حتى صاح: «ماذا أرى؟» واستلَّ سيفه وقال: «تفديك روحي، من أوثقك؟»
فأجابه سعيد بهدوء وسكينة: «تمهَّل يا بني، نحن في حال آخر، أنا أوثقت نفسي، وإنما دعوتك لأعترف لك أني خدعتك.»
فاستغرب سالم قوله وقال: «خدعتني! معاذ الله.»
قال وهو يغص بريقه: «نعم خدعتك وخدعت آخرين، ما لنا ولذلك! أحب أن أنصحك نصيحة الوالد، اعلم يا سالم أن المشروع الذي قمنا من أجله قد فشل، ولعلك عرفت ذلك من مقتل الأمير عبد الله ورفيقه لأنهم اتُّهموا بالانتماء إلينا، والصواب الآن هو الرجوع عن هذا الأمر.»
فصاح: «نرجع عنه؟ أنا لا أرجع؛ خصوصًا بعد أن جاهر ذلك الخليفة برغبته في القصاص مني، فقد بلغني أنه كتب ذلك على اللوح الذي أعلن فيه تنفيذ حكم الإعدام.»
قال سعيد: «نعم فعل، ولكن لا فائدة من مقاومته، وليس من الحكمة مقاومته عبثًا، فالرجوع إلى الصواب أولى، أخبر بذلك سائر الرفاق.»
قال سالم: «لا حاجة إلى إخبارهم، فقد تفرَّقوا منذ أمس خوفًا على أنفسهم، بعد اطلاعهم على ذلك الخبر.»
قال سعيد: «وأنت؟»
قال سالم: «كنت عازمًا على الثبات والمثابرة على السعي في هذا السبيل عملًا بما بثثته فيَّ من الأنفة وطلب الحق، ولكن …»
قال سعيد: «لقد قلت لك رأيي في هذا الشأن.»
قال سالم: «وأنت إلى أين ذاهب بهذا الوثاق؟»
قال سعيد: «إني سأساق إلى الخليفة ليحاكمني.»
قال سالم: «وكيف تقبل ذلك؟ دعني أنجيك من الآن بحد هذا الحسام.»
قال سعيد: «لا تفعل.»
قال سالم: «أذهب معك للمحاكمة أو القتل، ولا أتخلى عنك.»
قال سعيد: «تأتي معي، ولكن لتكون سعيدًا صاحب القول الفصل والكلمة النافذة في بلاط الخليفة.»
فدهش لهذا القول ولم يفهمه فقال: «ماذا تعني؟ إن الناصر لا يكاد بصره يقع عليَّ حتى يأمر بقتلي؛ لأني كنت أكثر أعدائه مجاهرة بعداوته.»
قال سعيد: «نعم، ولكن لك شفيعًا لا ترد شفاعته.»
قال سالم: «من هو ذلك الشفيع إن لم يكن أنت؟»
قال سعيد: «ألا تذكر أختك حسناء؟»
قال سالم: «دعني من ذكراها، فقد مضت عدة أعوام لم أذكر اسمها، وإن كانت صورتها لا تبرح ذهني. ما الذي بعث إلى ذكراها الآن؟»
قال سعيد: «لأنها ستكون شفيعة لك عند الخليفة.»
فصاح سالم قائلًا: «أختي حسناء! هل هي على قيد الحياة؟ أين هي؟ أم أنت تعني شيئًا آخر.»
قال سعيد: «أختك حسناء على قيد الحياة، وهي الآن صاحبة المقام الأول عند الناصر.»