اللقاء
فأطرق سالم وهو يفكر فيما سمعه ولا يصدقه. ثم رفع بصره إلى سعيد وقال: «اصدقني الخبر يا سيدي، فقد فهمت منك مرارًا أنها ماتت.»
قال سعيد: «نعم قلت لك هذا؛ ولذلك أعترف لك الآن أني خدعتك، فإن أختك لا تزال على قيد الحياة، وهي أقرب الناس إلى الناصر.»
قال سالم: «يا للعجب! ماذا أسمع؟ كيف غاب عني هذا الأمر كل هذه الأعوام وأنا على مقربة منها؟»
قال سعيد: «لأنك لا تعرف اسمها الجديد، فكما غيَّرت اسمك من سالم إلى صاحب النقمة غيَّرت هي اسمها من حسناء إلى الزهراء.»
فصرخ وقد دهش وقال: «الزهراء! الزهراء حظية الناصر أختي! ماذا تقول؟»
قال سعيد: «نعم إن الزهراء أختك، وهي تتفانى في حبك.»
قال وقد جحظت عيناه: «هل تعلم هي بوجودي؟»
قال سعيد: «كانت تحسبك ميتًا حتى أمس، فأخبرتها بوجودك حيًّا، فهربت من بيت الخليفة وأتت معي ليلًا لتراك وتنصح لك بالرجوع إلى طاعة الناصر.»
فصاح وقد أخذته الدهشة: «أين هي؟»
قال سعيد: «هي قريبة منك» وأشار بعينه إلى ذلك المكان.
قال سالم: «هي هنا الآن؟» وتلفت حوله.
وكانت الزهراء — ساعة رجوع عابدة — مستلقية في إحدى غرف البيت للراحة من عناء ذلك الليل، فدخلت عليها عابدة وحدها، فنهضت وسألتها عن سالم فقالت: «إنه سيأتي بعد قليل، فقد تركته في بيته يتأهب للمجيء.»
فقالت الزهراء: «اصدقيني، أظنك لم تجديه، أو لعله قد فر أو مات؟ قولي؟»
فقالت عابدة: «وحياتك هو حي، وسيأتي بعد قليل.»
فصدقتها وصبَّرت نفسها، وهي كلما سمعت حركة أو صوتًا تحسب أخاها قادمًا، وعابدة تشاغلها ريثما يفرغ سعيد من التعريف، وإذا بالزهراء نهضت فجأة وقالت أسمع صوت أخي، هذا صوته يرن في أذني.» وهرولت نحو الباب فمشت عابدة معها، ولما دنت من الغرفة التي كان سعيد فيها سمعت كلاما فقالت: «أسمع سعيدًا يتكلم، مع من؟»
قالت عابدة: «ستعلمين بعد قليل.»
قالت الزهراء: «أظنه يكلم أخي.» واقتربت من الباب، وكان مغلقًا فسمعت أخاها يقول: «هي هنا الآن؟»
فعرفت صوته ففتحت الباب، وكان هو يقول ذلك ويتلفت حوله، فوقع بصره عليها وهي لا تزال بملابس صاحب البريد، فلم يعرفها. أما هي فوقفت لحظة تتعرف ملامحه وتتفرس فيه، وما عتَّمت أن ألقت بنفسها عليه وهي تصرخ: «أخي! أخي سالم!»
فلما سمع صوتها عرفها فضمها إليه وتعانقا، وعابدة وسعيد ينظران إليهما نظر الإشفاق، وسعيد كأنك أبدلته بسواه؛ فقد تغير قلبه وتبدلت عواطفه، وأحس بالجريمة التي كان قد أوشك أن يرتكبها، لو لم تتداركه عابدة بالجند ويقبضوا عليه، فإنه كان عازمًا على الفتك بها وبأخيها إذا هي لم تبادله الحب والغرام، فلما رأى تعانقهما والدموع تتساقط من عينيهما فرحًا بذلك اللقاء، شعر بعظم الذنب الذي كان عازما على ارتكابه، وأحس بلذة الاحسان في هذا اللقاء؛ لأنه كان وسيلة التعارف بين الأخوين، فجعل يتأمل حركاتهما، فكانا يفترقان لحظة ريثما يتأمل أحدهما في وجه صاحبه ثم يعودان إلى العناق.
أما عابدة ففرحت لأنها كانت الوسيلة في إنقاذ الزهراء وأخيها، وسرَّها على الخصوص أنها لم تقتل الخليفة، ولا هو علم أنها كانت عازمة على قتله، وإن لم يكن ذلك العزم من ذنبها.
أما سالم فإنه بعد أن قبَّل أخته مرارًا تباعد ونظر إلى ما حوله، ثم نظر إلى أخته وقال: «لا أزال أحسب أني في حلم؛ لأني كثيرًا ما ضممتك في منامي وقبلتك مثل هذه القبلات، ثم أستيقظ فلا أجد أحدًا.»
قالت الزهراء: «أنت في يقظة يا حبيبي، وقد تمت سعادتي الآن بلقياك.»
فقال سالم: «أليس الفضل في هذا الاجتماع لصديقنا سعيد؟»
قالت الزهراء: «نعم له فضل.» وتنهدت، فصاح سعيد فيها: «أنا أولى بهذا التنهد يا حسناء» قال ذلك وهو مغلول اليدين، فلم يستطع سالم مشاهدته على تلك الحالة فقال لأخته: «حلُّوا وثاق سعيد، وإذا كان له ذنب فهو لا يفر.»
فاعترضه سعيد قائلًا: «لا، لا أريد أن يحلَّ وثاقي.»
فحولت الزهراء انتباهه إلى عابدة وقالت: «إن الفضل الأكبر في هذا اللقاء حقيقة هو لهذه الأديبة اللطيفة. هل تعرفها؟»
فهز رأسه مجيبًا وقال: «نعم، نعم أعرفها.»
قالت الزهراء: «وهل عرفتها قبل الآن؟»
قال سالم: «عرفتها مع سعيد الوراق. يا للعجب ماذا أرى؟ أهذا سعيد صاحب الرأي الصائب والقول الفصل؟!»
أما عابدة فقد توسمت في ملامح سالم وحركاته توددًا إليها وإعجابًا بها فتحرك قلبها. وكانت أول مرة تحرك قلبها لغير سعيد، فغضبت من نفسها خوفًا من أن يسوقها ذلك إلى بلاء جديد، فأحبت أن تلهو عن ذلك بشيء آخر فقالت للزهراء: «هل نسيتي يا سيدتي ساهرًا؟»
قالت الزهراء: «لا أنسى فضله من وجوه كثيرة. أما لقاء أخي فأنا مدينة به لك بنوع خاص.»
ثم نادت ساهرًا وكان في طرف البستان مع سائر الخصيان، فأتى ووقف متأدبًا فقالت له: «هذا أخي صاحب النقمة.»
فأجفل وصاح: «أخوك؟ وتقولين صاحب النقمة! أليس هو مطلب أمير المؤمنين؟ أعوذ بالله! كيف يكون أخًا لأعز الناس عنده؟»
فقالت الزهراء: «وسيكون من أعز الناس عنده لأنه أخي.»
فحنى رأسه موافقًا وقال: «نعم سيكون، والآن يا سيدتي ألا نعود إلى القصر؛ فإن أهله في قلق شديد لغيابك؟» قالت: «نمضي حالًا.»
فخرج وأمر الصقالبة أن يتأهبوا للركوب، وأن يأخذوا سعيدًا معهم تحت حراسة شديدة، وسار الجميع قاصدين القصر.