موقف هائل
فعرف الخليفة صوت سعيد، فأمر بإدخاله وهو موثق اليدين، وليس على وجهه شيء من مظاهر الخوف، وإنما كانت عيناه حمراوين يكاد الشرر يتطاير منهما، فلما وقع نظر الخليفة عليه هاب منظره وأمر أن يحلَّ وثاقه، فتقدم بعض الحراس إلى حلِّه، ووقف بضعة منهم إلى جانبيه بالسيوف المسلولة، وأشار بدخول سائر القادمين، فدخلت عابدة، فوقفت بجانب الزهراء، ودخل ساهر ووقف متأدبًا بجانب سالم، فأمر الخليفة سعيدًا أن يتقدم حتى وقف في وسط القاعة، فتقدم بقدم ثابتة وجأش رابط، فقال له الناصر: «أنت سعيد الوراق صديقنا وموضع ثقتنا؟» فلم يُجب.
فقال الناصر: «أهذا جزاؤنا لأننا قربناك وأكرمناك وجعلناك مستشارنا؟! تحرضنا على قتل ولدنا لأنه خرج علينا وأنت السبب في خروجه، ثم تتجاسر على الفرار بجاريتنا الزهراء من قصرنا؟ هل بعد ذلك من مسوغ للرفق بك؟ يسوءني والله أن أخسر مشيرًا عاقلًا حكيمًا مثلك، ولكن يا للعجب! كيف ارتكبت هذه الفظائع؟ كيف جعلت لهذه الدنايا سبيلًا إليك فاقترفت أمورًا يتنزَّه عنها الجهلاء وأهل الطيش، وأمورًا يستحي أهل الفجور من إتيان مثلها؟ أين كانت حكمتك؟ أين كان عقلك وسداد رأيك؟ بل أين كان تدبيرك، وأنت تعلم أن فرارك بالزهراء لم يكن ليتم لك وعبد الرحمن حي؛ فإنه يملأ الأرض عليك خيلًا ورجالًا ويأتي بك صاغرًا ذليلًا، وإذا لم يكن لك شرف يعصمك عن ارتكاب الرذائل ويردعك عن خيانة من أكرمك وقدَّمك، ألم يكن لك عقل يدلك على الخطر الذي يهددك من هذه الجرأة؟»
•••
وكان سعيد واقفًا يسمع كلام الناصر، وقد وقف مستريحًا ينظر إلى بيت من الشعر مطرز على ستارة من ستائر تلك القاعة، وسائر الحضور ينظرون إليه، ينتظرون ما يعتذر به عن نفسه، وكلهم يعرفون قوة حجته ورجاحة عقله، ورغم ما أساء به إليهم كانت لا تزال منزلته رفيعة في أعينهم.
أما سعيد فلما سمع سؤال الناصر عن سبب جسارته، وكيف يفر بجاريته ولا يخشى بأسه، نظر إليه وقال: «أما سوء التدبير فلا أقبل أن أوصف به، فإن تدبيري لو عرفه المولى لما وجد به عيبًا. ولكن القضاء قضى بفساد ذلك التدبير لأقف هذا الموقف.»
فقال الناصر: «كأنك دبرت الوسيلة لقتلي أيضًا ولم تنجح، فكيف خطر لك أن تفعل ذلك ونحن لم نقصر في إكرامك؟ وما الذي كنت تتوقعه من اقتراف تلك الجريمة؟ إنها لم تكن لتغنيك بالمال ولا لترفع منزلتك، بل قد تكون سببًا في الحط من شأنك حتى عند نفسك يوم يثوب إليك رشدك، وترى أنك قتلت الأبرياء وأسأت إلى من أحسن إليك.»
•••
فاعتدل سعيد في موقفه ووجه خطابه إلى الناصر باهتمام وجرأة وقال: «يعلم أمير المؤمنين أنه لم يقل لي شيئًا لا أعلمه، وقد اعترف لي بسداد الرأي والحكمة والتعقُّل، ولكنه يسألني عمَّا حملني على مخالفة الصواب وتعريض نفسي لذلك الخطر. لم يحملني على ذلك يا أمير المؤمنين طمع في مال؛ فإن الأموال كثيرة عندي، ولا الحياة فإني لا أرى السعادة بها. لقد ارتكبت كثيرًا من الرذائل، ارتكبت الخيانة والغدر والكذب وأنا أعلم جيدًا أنها رذائل، وأن مثلي يجب أن ينزِّه نفسه عنها. لم أرتكبها طمعًا في المال أو الجاه كما قلت ولكن …» ولما وصل إلى هنا، تغيرت سحنته وتشاغل ببلع ريقه والجميع سكوت، وقد أمسكوا أنفاسهم تشوقًا لسماع ما يعتذر به سعيد عن نفسه، فلما سكت جعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض.
أما سعيد فرفع كمه ومسح به دمعة انحدرت على خده، واستدرك فقال: «لا يظن أمير المؤمنين أني أبكي جزعًا من الموت؛ إني لا أرى السعادة في الحياة، كما أني لا أراها في الجاه ولا المال.»