الجسارة
فاستغرب الخليفة تعبيره وتشوَّق لتتمة حديثه فقال: «أنا أعلم أنك لا تخاف الموت لأن أعمالك الماضية تدلُّ على ذلك، ولكني سألتك عن سبب إقدامك على الخيانة، وأنت أعقل من أن تأتيها عن جهل، ونحو أمير المؤمنين أيضًا! ألم تخشَ بأسه؟»
فأجابه سعيد: «إن الرذيلة التي لا يجوز ارتكابها مع أمير المؤمنين لا يجوز ارتكابها مع سائر الناس، وأستأذن الإمام الناصر بكلمة أقولها وأنا في آخر يوم من حياتي: إن المنصب الذي يشغله أمير المؤمنين إنما ساقته إليه المقادير وهو غير مخيَّر، ولو وُجد فيه سواه لبلغ إلى مثله. لا تغضب يا سيدي، لو لم تُولد من بيت الخلافة وينصرك الناس على قتل الناس لم تبلغ هذا المقام، فأنت وصلت إليه على جسر من الجماجم فوق بحر من الدم، وأيُّ فخر في ذلك؟! فلما رفعوا مقامك وبايعوك وجعلوك خليفة بنيت القصور وأكثرت من الجواري والخصيان، وأمرت الناس أن يعظموك، وقد فعلوا وهم يحسبون أن لك فضلًا عليهم، والفضل لهم في صيانة دولتك والدفاع عن حياتك. ثم أنت تنكر على أحدهم جزءًا صغيرًا مما تحوزه لنفسك، ولا ذنب لك في ذلك؛ فإنها القاعدة التي جرى عليها الناس من قبل، ولكنها ليست هي أسباب السعادة.»
فامتعض الناصر من تلك الجسارة، لكنه تجلَّد وصبر عليه حلمًا وسعةً وقال: «ربما كنت مصيبًا، لكنك لم تجبنا عما حملك على تعريض نفسك، فضلًا عن ارتكاب الخيانة وغيرها من الرذائل، وأنت الحكيم العاقل؟»
قال سعيد: «لست أول حكيم عاقل ارتكب الرذائل في سبيل مطلبه.»
قال الناصر: «نعم، ولكننا لم نفهم الغرض الذي حملك على ذلك.»
قال سعيد: «إن الغرض الذي حملني على هذه الرذائل من أشرف الأغراض، بل هو أشرفها جميعًا لأن عليه يتوقف عمران هذا الوجود، بل هو سنة من سنن الله في خلقه، وفضيلة من أكبر الفضائل. وأما سواي فإنه يرتكب الرذائل في سبيل أغراض تخالف سنة الوجود، وقد نهى عنها الشرع والعرف. كم من رجل ارتكب الغدر والفتك والقتل التماسًا لمنصب الملك أو الخلافة، وهذا المنصب نفسه مشوب بأمثال هذه الرذائل؛ لأن طالب الملك متى ناله حلل لنفسه كل محرَّم، وساعده الناس على التمادي في الأثرة، وصار يحسب أموال الرعايا وأنفسهم حقًّا له، فيبني القصور ويزخرفها بالذهب والفضة مما يجمعونه له من تعب الفقراء، ويقتني الجواري على اختلاف أنواعهن، ويتحكم في رقاب الناس وأموالهم كما يشاء، ولا يرى لسواه حقًّا في عشر معشار ذلك. بل ويل لمن يجرؤ على الاعتراض، ولو لم أكن على باب الآخرة لم أقل ذلك.»
فدهش الجميع لهذه الجسارة مع ما فيها من الحكمة البالغة، ولم يجسر أحد قبله على مثل هذا التصريح في حضرة خليفة شديد البأس، ولكنهم غضُّوا من أبصارهم تهيبًا من الخليفة.
أما الناصر فظل يُظهر الاستخفاف بما يسمعه، ولم يشأ أن يجعل نفسه المقصود من ذلك التعريض فقال: «صدقت، إن كثيرين من طلاب الملك لم ينالوه إلا بعد سفك الدماء، وهؤلاء إخواننا العباسيون أكبر شاهد على ذلك، وقدوتهم أبو مسلم الخراساني الذي كان يقتل على التهمة. لكنني لا أزال أنتظر أن أسمع منك السبب الذي حملك أنت على ما فعلت، ولم ألحَّ عليك بالاستفهام إلا لأستفيد من حكمتك، فقد كنت — كما تعلم — كثير الثقة بعلمك والإعجاب بعقلك.»