السحر والتنجيم
قضى سعيد معظم الليل في أمثال هذه الهواجس، ولم ينم إلا عند الفجر بعد أن تعب وخارت قواه، وأصبح في اليوم التالي فعاد إلى عمله، وشُغل عن هواجسه بمقابلة الزائرين، وهو على أحر من الجمر في انتظار يوم الاحتفال، وقد أخذ في التفكير والتدبير لينتفع من الاجتماع في ذلك اليوم.
وأتته عابدة في أثناء الانتظار تتذرَّع إلى رؤيته بالسؤال عن وقت الاحتفال، فأجابها بأنه لا يزال يترقب معرفة الموعد، فمكثت عنده حينًا تتشاغل باطلاعها على الكتب وهو يُبدي سروره برؤيتها، وفي ذهنه ترددٌ لم يُظهره لها؛ لأنه كان قوى الإرادة، كبير المطامع، لا يبالي بما يقف في طريقه نحو هدفه، ولا بما قد يرتكبه في ذلك السبيل من الكبائر، فانتهز فرصة اجتماعه بعابدة في أثناء تلك الفترة لتهيئة المعدات التي ينوي إعدادها لتحقيق غرضه، وهي توافقه ولا ترى غير ما يراه، وفي جملة تلك المعدات كتاب قديم أخرجه من خزانة وأخذ يقلِّب صفحاته، وفيها رسوم وأشكال أشبه بالطلاسم، وهي لا تزداد بذلك إلا تعلُّقًا به وانقيادًا له، حتى صارت تعتقد أنه يستطيع كل شيء.
وبينما هما في ذلك أنبأهما جوهر الخادم بمجيء الفقيه ابن عبد البر، فخفَّ سعيد لاستقباله، فلما دخل ورأي عابدة فرح بها، ووافق وجودها غرضًا جاء من أجله، فحيَّاها وسلَّم عليها سلام من يعرفها، فردَّت عابدة التحية بأدب وحشمة زادتها رفعةً في عينيه، فوجَّه كلامه إلى سعيد قائلًا: «أظن أنني أتيت في وقت غير مناسب!»
فأظهر سعيد سروره وقال: «بالعكس يا سيدي، فقد جئت وقت الحاجة إليك.»
فنظر الفقيه إلى الكتاب الذي بين يدي سعيد وقال: «لعلك عثرت على كتاب جديد!»
قال سعيد: «كلا يا مولاي. إن هذا الكتاب قديم.» وجعل يقلِّب فيه، فوقع بصر الفقيه على رسوم وأشكال اعتاد أن يرى مثلها في كتب السحر، فقال: «وساحر أيضًا! إنك رجل نادر المثال.»
فقال سعيد: «لا تستغرب شيئًا أيها الفقيه؛ فإن الإنسان إذا جدَّ وجد، ولا أراني أعرض شيئًا لا يستطيعه سواي، وعلى كل حال فليس لي ما للفقيه من العلم الواسع في الفقه وأصوله، وهو الخطيب المفوَّه.»
فقطع الفقيه ابن عبد البر كلامه بطريقه يوهمه بها أن شيئًا خطر له في تلك اللحظة، ولم يكن في ذهنه من قبل، مع أنه جاء من أجله، فقال: «ليس لي شيء من ذلك، وقد ذكَّرتني أمر الخطاب.»
فأدرك سعيد ما في نفس الفقيه فسبقه إلى القول: «إنما قلت ما قلته تمهيدًا لسماع خطابك. هل أتممته؟»
فمد الفقيه ابن عبد البر يده إلى جيب قفطانه، وأخرج منديلًا فيه لفافة ففضَّها وهو يقول: «هذا هو الخطاب، ولم يأتِ كما كنت أحب، ولكن لا بأس به.»
فأومأ سعيد إلى عابدة، فقالت للفقيه: «لا أظن أننا نستحق أن نسمعه قبل مولانا أمير المؤمنين!»
فقال الفقيه وقد أثَّر قولها فيه: «كيف لا؟ إذا شئت تلوته عليك، ولكنني لا أراه أهلًا لإعجاب أديبة مثلك.»
فابتسمت عابدة وأشارت إلى الفقيه أن يقرأ إذا شاء، فقال: «أتلوه عليكما على سبيل التجربة، وإذا بدا لكما انتقاد فنبِّهاني إليه.»
فأشار سعيد بعينيه وشفتيه أن الفقيه أكبر من أن يكون موضع نقد ضعاف مثلهما، ثم أصلح الفقيه موقفه، وأخذ يتلو الخطاب كما يتلى في حضرة الخليفة، وسعيد وعابدة صامتان مصغيان يبديان الإعجاب عند بعض المواقف، وهو يجوِّد، وما أتى الفقيه على آخر الخطاب حتى امتلأ إعجابًا بنفسه، وسعيد وعابدة يطنبان ويعجبان حتى قال سعيد: «إن هذا الخطاب إذا قدَّره أمير المؤمنين حق قدره جعلك قاضي القضاة أو شيخ أهل الفتوى.»
فحنى الفقيه رأسه تواضعًا، وهو في الحقيقة يعتقد في نفسه أضعاف ما سمعه، ولكنه خاطب سعيدًا قائلًا: «إن ذلك يرجع إلى التوفيق، فإذا وفقت إلى ساعة سعيدة وآزرتني بدعائك نجحت إن شاء الله، ولكن هذا كتاب «الطوالع» بيدك فأخبرني عما سيكون من حظِّي بعد تلاوة الخطاب.»
فقال سعيد وهو يفتح الكتاب: «إن ذلك يتوقَّف على اليوم الذي سيقام فيه الاحتفال؛ إذ إن لكل يوم طالعًا، قد يوافق نجمك وقد لا يوافقه. هل تعرف متى يكون الاحتفال؟»
قال الفقيه: «حدَّدوا له يوم السبت القادم الموافق ١١ ربيع الأول.»
فأخذ سعيد يقلِّب صفحات الكتاب ويقرأ، ثم يعيد القراءة، ويعيد التقليب، وقد ظهرت البغتة في عينيه وهو يقول: «هل أنت متأكد من أن الاحتفال سيكون يوم السبت؟ لعلك أخطأت!» فاختلج قلب الفقيه في صدره خوفًا، وقال: «لعل ذلك اليوم لا يوافق طالعي؟»
قال سعيد: «لا أعني ذلك، ولكنني أحب أن أعرف الذين سيحضرون ذلك الحفل، فإن الطالع يتغير بتغير الجواذب والدوافع من الطوالع الأخرى.» ثم وصل إلى صحيفة وقف عندها طويلًا، وقال: «إن طالعك إذا استقلَّ لا خوف عليه في أي يوم كان، أما إذا زاحمه طالع آخر أرى صفته في هذا الكتاب، وكان ذلك في يوم السبت، فقد يصيبه ضرر، ولكن ذلك غير مؤكد، فتوكل على الله، واعلم أنك أحسنهم جميعًا، وإنما أرغب إليك متى أحرزت ذلك المنصب الرفيع أن لا تنسى صاحبك سعيدًا.»
فأقلق الفقيه ذلك الارتياب، ولكنه اطمأن للعبارة الأخيرة، فضحك وهزَّ رأسه استخفافًا، ولسان حاله يقول: «كيف أنساك؟!» وزاد ذهنه تعلقًا بالظفر بهذا المنصب.
وبينما هم في ذلك، إذ دخل ياسر كبير فتيان عبد الرحمن الناصر، وكان قد أكثر من التردد على سعيد بعد مقابلته الأخيرة، وأفضى إليه بأمور زاد فرحه بها وزادت الروابط بينهما سرًّا، ورُفعت الكلفة؛ ولكن سعيدًا تظاهر أمام الفقيه بالاحتفاء بياسر، وبالغ في احترامه وإكرامه، وأحضر له مقعدًا ليجلس عليه، والفقيه ابن عبد البر لا يزال قابضًا على اللفافة، فهمَّ بوضعها في جيبه، وأخذ في السلام على ياسر، فآنس منه حفاوة وإكرامًا فوق العادة، فاستأنس به، فقال سعيد لياسر: «هل يرغب الأستاذ في خدمة أقوم بها؟»
قال ياسر: «كلا، ولكنني تذكرت سؤالك عن موعد الاحتفال باستقبال رسل القسطنطينية لأنك ترغب في حضوره، وكنت قد جئت على بغلتي إلى هذه الجهة لغرض لي، فرأيت أن أمرَّ بك وأخبرك أن الاحتفال سيكون يوم السبت القادم، وقد سرَّني أني لقيت الفقيه ابن عبد البر هنا لأوصيه بمرافقتك إلى القصر الزاهر حيث يكون الاحتفال.»
قال سعيد: «أشكرك يا سيدي على هذه العناية.» والتفت إلى الفقيه وسأله عن موضع اللقاء، فقال: «نلتقي في المسجد بقرب باب الجنان المطل على الرصيف فوق الوادي الكبير، وهو أقرب أبواب القصر إلينا على ما أعتقد.»
قال سعيد: «حسنًا، سأوافيك إلى هناك صباح يوم السبت القادم إن شاء الله.»
وهمَّ ياسر بالانصراف، فاستوقفه الفقيه بقوله: «هل كنت تعرف قبل الآن أن سعيدًا له دراية بعلم التنجيم والطوالع؟»
قال ياسر: «وأعرف غير ذلك أنه طبيب وكيميائي.»
فبُغت الفقيه لقول ياسر وهزَّ رأسه وقال: «وكيميائي أيضًا! إنه حقًّا لعبقري.»
وكانت عابدة في أثناء ذلك الوقت مشغولة بكتاب في يدها تقلِّب صفحاته، وكلما سمعت مديحًا في سعيد اختلج قلبها فرحًا به، وتنهدت تنهدًا عميقًا.
وانتبه الفقيه لها في تلك اللحظة، فقال لياسر: «وهل عرفت هذه الفتاة الأديبة؟ لا أظن أن في قصور أمير المؤمنين فتاة في مثل أدبها وعقلها.»
فالتفت ياسر إلى الفتاة وقد خجلت من ذلك الإطراء، وعلت وجهها حمرة الخجل وأبرقت عيناها، فقال: «هل تعرف الشعر والأدب؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي. إنها تحفظ كثيرًا من أشعار العرب وأمثالهم وأخبارهم.»
قال ياسر: «ليس يوجد بين نساء قصر أمير المؤمنين من تحفظ الشعر إلا الزهراء؛ ولذلك فإنها أقرب جواريه إليه كما تعلمون؛ لأن مولانا عبد الرحمن الناصر كثير الشغف بالأدب وأهله، على أن معرفتها قليلة بجانب ما تذكره عن هذه الفتاة.»
فندم الفقيه ابن عبد البر على توجيه نظر ياسر إلى عابدة؛ مخافة أن يسعى في أخذها إلى الخليفة، وهو يحب أن تكون للأمير عبد الله فيكون له حظ من أدبها، فغيَّر الحديث واستأذن في الانصراف على موعد اللقاء يوم السبت التالي، وبعد قليل انصرف ياسر بعد أن ودع سعيدًا وقد تفاهما.