التهديد
فيضان من الخضرة يزحف مع الرَّبيع على غابة ديوك، الزُّرقة الفيروزية تُذكِّرني بسماء قريتي في طفولتي، هنا «كارولينا بلو»، الولاية اسمها نورث كارولينا، إحدى ولايات الجنوب على الشَّاطئ الشَّرقي لأمريكا الشَّمالية، المدينة صغيرة تُشبه القرية، اسمها ديرهام.
نحن في بداية الرَّبيع عام ١٩٩٣م، النَّوافذ تطل على الحديقة «الروز جاردن»، بدأت ورودها تتفتح بجميع الألوان، القاني الأحمر بلون الدم، الأبيض الفضي، الأصفر الكهرماني، الأرجواني والزنبقي، عبيرها يسري داخل مسام جسدي، نسمة الدفء الأول بعد برد الشتاء، أفرد أصابعي، أنشد اليقين، جسدي هو اليقين الوحيد، يبدو جسد امرأة، يسمونها هنا «بروفيسير دكتر ساداوي»، ثلاث كلمات غريبة أسمعها كل يوم، تتردد على ألسنة الطلبة والطالبات، يجلسون في الفصل منتبهين كما كنت أفعل وأنا في العشرين من العمر، حين كنت طالبة بكلية الطب بجامعة القاهرة منذ أربعين عامًا.
أنهض من السرير بحركة حذرة، أخشى من أن أصحو من النوم ويتبدد الحلم، في المرآة رأيتها واقفة، قامتها الطويلة كما كانت، انحناءة خفيفة تحوم حول الكتفين، بشرتها سمراء بلون طمي النيل، شعرها الأبيض غزير منكوش، جلبابها مكرمش من القطن المصري، فيه زهور صغيرة وردية، قدماها كبيرتان مثل قدمَي جدتها الفلاحة، الشبشب من نوع «زنوبة»، اشترته من دكانة صغيرة في قريتها كفر طحلة.
هذه اللحظة دخل زوجها غرفة النوم، رآها واقفة أمام المرأة: «صباح الخير يا نوال.» انتبهت إليه، عادت ذاكرتها فجأة: «صباح الخير يا شريف.» جاءا معًا إلى جامعة ديوك منذ يناير الماضي، في وطنها كانت حياتها مهددة، اسمها وضعوه في قائمة الموت، حراسة مسلحة حول بيتها ليل نهار، البودي جارد يلازمها حيثما ذهبت، كان السفر هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ حياتها.
تتلفَّت حولها في دهشة، البيت جميل، الحديقة جميلة، الشمس ساطعة، تحمل لقب بروفيسير دكتر، لكن المنفى يظل هو المنفى.
أمامي النافذة مفتوحة على الشمس والخضرة الغزيرة، أشجار البلوط اكتست بالأوراق بعد عُري الشتاء، أشجار الصنوبر بسيقانها الطويلة الرشيقة تهتزُّ مع الهواء كراقصات الباليه، أشجار الأرز المثلثة الشكل تومض بدوائر الضوء كأشجار الكريسماس، وأشجار أخرى لا أعرفها تنبت في الغابات الأمريكية كالنباتات الشيطانية، تتوارى وراء السحب برءوسها السوداء وشعورها الطويلة، تذكِّرني بالغولة في حكايات جدتي والعفاريت، كنت أبحث عن العفاريت في قريتي وفي مدينتي القاهرة، كانت العفاريت تبحث عني، تحمل اسمًا آخر هو «زوار الفجر»، لا يظهرون إلا بعد منتصف الليل قبل طلوع الشفق الأحمر، يكون الناس غارقين في النوم العميق، أعمق مرحلة في النوم يسمونها «الموتة الصغرى»، تخلو تمامًا من الأحلام، إن كان هناك حلم فلا يمكن تذكره، في هذه الساعة يتحرك زوَّار الفجر، يدخلون البيوت على نحو عجيب، يدقون جرس الباب، إن لم يفتح أحد يفتحون القفل، يكسرونه بأداة مكتومة الصوت.
فوق مكتبي تتراكم أوراقي حياتي، بدأت أكتب سيرتي الذاتية منذ غادرت الوطن، التهديد بالموت جعل حياتي هامة تستحق الكتابة، حياتي تزداد قيمة بالاقتراب من الموت، لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة، لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية، لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية، لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام.
ألهذا السبب كانت الكتابة مُحرَّمة على النساء والعبيد؟!
أمضيت السنين الخمس الأخيرة بعيدًا عن مصر، أربع سنوات منها عشتها في مدينة ديرهام، أستاذة زائرة في جامعة ديوك، أسير على القدمين من بيتي في سيلفان رود إلى الكامباس، أخترق الغابة الصغيرة بين سيقان الأشجار الباسقة، لا أسمع إلا صوت حذائي الكاوتش يلامس الأرض، تطقطق أوراق الشجر تحت قدمي، طائر أخضر يشبه عصفور الجنة يغرد فوق شجرة، حنين إلى صوت ابنتي تناديني في الصباح، الشمس ساطعة تذكِّرني بشمس القاهرة في الشتاء، زرقة السماء لم أرَ مثلها في العالم، الصفاء السماوي بلا دخان، لا ذرة تراب، زرقة مقطرة بلا شوائب لسماء ممدودة حتى شاطئ الأطلنطي، بلا جبال، بلا ثلوج ولا صقيع، فقط الشمس والسماء، وأشجار الأرز والصنوبر والبلوط، تتغير ألوانها في الخريف، تتفجر ألوان الطيف، مهرجانًا من الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والرمادي، يحلق طائر غريب لم أره في أي بلد، ريشه أخضر وأزرق، قدماه حمراوان، الغابة ساكنة كالسماء، رهبة السكون المطلق، لا تتبدى أمامي إلا الطبيعة الأم، أكاد أرى وجه الإله رع، وأنا أحملق في قرص الشمس، كأنما رأسه سيطل من وراء هذه السحابة الشفافة، شعره طويل يشبه «نوت» إلهة السماء.
الصور تتزاحم في خيالي، لعبت دور الإلهة إيزيس ابنة نوت على خشبة المسرح، في المدرسة الابتدائية منذ خمسين عامًا، بلمسة واحدة من يدي أعدت الحياة إلى زوجي الميت أوزوريس.
في ذاكرتي الطفولية صورتي وأنا أمشي على جسر النيل، أحملق في المياه تتحرك في موجات صغيرة، تلمع في ظلمة الليل كالأسماك الفضية، تنشق عن امرأة شعرها طويل، تخرج من الماء نصف عارية، تجلس فوق الجسر تمشط شعرها، تبتسم لي في حنان الأم، أجري مبتعدة عنها، أخاف أن تخطفني وتأكلني في قاع البحر.
كيف تحولت الإلهة الأنثى القادرة على منح الحياة بعد الموت إلى غولة تأكل الأطفال؟! سؤال لم يخطر لي على بال حتى بلغت الخامسة والعشرين من عمري، كنت طبيبة ناشئة في قريتي وسط دلتا النيل، أمسك كشَّافًا صغيرًا وأمشي في الليل، أبحث عن الغولة أو العفاريت بلغة جدتي.
•••
رياح المحيط الأطلنطي تضرب هذه المدينة الصغيرة في جنوب أمريكا الشمالية، أمواج كالجبال تمسح الشواطئ المهجورة، صرخات الطيور البحرية، أكبر من النورس ترفرف، تحفظ توازنها فوق حافة الجرف الصخري، عواء الهيروكين القادمة من قلب الأطلنطي كعواء الذئاب أو نداء جنِّيَّات البحر.
ذكريات تروح وتجيء مع خطواتي داخل الغابة، تعود بي إلى الوطن ومدينة القاهرة، أرى أصدقائي وصديقاتي أحياءً أمامي، يتحركون، لم يعودوا صورًا في ذاكرتي أو أسماءً في مفكرتي، أعدت إليهم الحياة كما فعلت إيزيس بزوجها، صديقي رجاء أسير معه على شاطئ النيل، أدرك وأنا أمشي أنه مات، مع ذلك أتأبط ذراعه قليلًا في مشيته، كأنما له ساق أقصر من ساق، يضغط بقدمه اليمنى على الأرض في كل خطوة، هذه المشية كنت أراها عيبًا، أصبحت الآن هي الشيء المميز له، حركة جذابة تميزه عن الرجال الآخرين، أتعرَّف عليه من بعيد بهذه المشية الخاصة والبدلة الرمادية المكوية، حذاؤه اللامع رغم الشوارع المتربة، في أيام العطلات يكون في كامل هندامه، لا يجلس على الدكك الحجرية بشط النيل، لا يقزقز الترمس ولا الفول الحراتي، هذه العيوب الصغيرة كانت تفسد صداقتنا؛ فأنا أحب الجلوس على النتوءات الصخرية داخل البحر، المطر فوق وجهي وشعري، وهو يُفضِّل الجلوس على مقعد نظيف في الكازينو الأنيق الذي يطل من بعيد على البحر.
انتبهت إلى أنني أمشي في الغابة وحدي، صديقي رجاء لم يعد موجودًا، مات منذ اثني عشر عامًا في نهاية أكتوبر عام ١٩٨١م. قبل أن يموت بأربعة أيام أرسل إليَّ رسالة من باريس، تراكمت مع البريد فوق مكتبي في بيتي بشارع مراد بالجيزة، كنت غائبة عن البيت، أعيش داخل زنزانة في سجن النساء بالقناطر شمال مدينة القاهرة.
خرجت من الغابة إلى طريق الجامعة، سأدخل بعد دقائق إلى الفصل لألقي على الطلبة والطالبات محاضرة جديدة عن الإبداع والتمرد، أطرد بيدي ذكريات السنين الماضية، أشد ذراعي من ذراع رجاء، لا أودعه، أدخره في ذاكرتي لأعود إليه، مهرجان الألوان يشتعل فوق رءوس الأشجار داخل الكامباس، شريف يسبقني إلى الفصل، أراه من الخلف وهو يمشي، يرتدي بلوفر بنيًّا فيه مثلثات رمادية، حذاء كاوتش لونه بني، في يده حقيبة جلدية مطوية، انحناءة قليلة مع الخطوة النشيطة السريعة، شعره تساقط قليلًا في منتصف الرأس، جسمه نحيف مشدود يندفع إلى الأمام، نوع من الاقتحام العنيد، إرادته حديدية لا تلين، قضى أربعة عشر عامًا داخل سجون مصر، لم تتغير إرادته، كأنما الزمن داخل السجن معدوم، لم تتغير ملامحه، شمس المحاريق في الصحراء جعلت بشرته سمراء تشوبها حمرة، الصمت في السجن زاده صمتًا، الأكل القليل زاده نحافة، القضبان الحديدية أضافت إليه العود المستقيم، التقينا في ربيع عام ١٩٦٤م، ربيع معلق فوق سحب الشتاء والنفحات الأولى لزهر البرتقال، لم نكن نؤمن بالمؤسسة الزوجية، نسخر معًا من قانون الزواج، العقد المكتوب يشبه عقود تأجير الدكاكين، كُنَّا نعيش في مدينة القاهرة، بدون ختم الدولة «النسر» لا يلتقي الرجل والمرأة إلا وثالثهما الشيطان.
القاهرة مدينتي المقهورة، أصبحت داخل قلبي منذ الطفولة، أحببتها وكرهتها، ما إن أعود إليها حتى أفكر في الرحيل، ما إن أرحل عنها حتى أفكر في العودة، تلازمني في الليل والنهار كأضغاث الأحلام، كواليس الحصار والمطاردة والسجن، خفقات النشوة والحب، آلام الهزيمة ولذة المقاومة، والسقوط والنهوض، والنهوض والسقوط، مدينة القاهرة تقدم لي الحياة والموت في كأس واحدة، أعود إليها كل مرة لأغادرها إلى الأبد.
إن كان هناك زمن فهو ما أخلقه بالكتابة، أسترجع تجارب الحياة في تلك القاهرة، المدينة الغارقة في اللامكان واللازمان، مدينة تبدو من البعد غير موجودة إلا في خيالي، إن الحياة تبدأ هنا والآن، مع حركة الهواء داخل صدري، حركة القلم بين أصابعي، عقارب الساعة تتحرك أمام عيني، اللحظة الحاضرة هي التاريخ الحقيقي لحياتي، لحظة طويلة ممتدة ما بين الولادة والموت، هي الماضي بعد أن مات، وهي المستقبل غير الموجود.
توقفت لحظة عن الكتابة، من خلال النافذة فوق غصن الشجرة رأيت السنجاب الصغير، يسمونه «إسكويريل»، يتمرَّغ تحت الشمس بعد أن ولدته أمه، انقض عليه طائر ضخم يشبه النسر يسمُّونه «الهوك»، أكله أمامي من الرأس إلى القدم، عيناي منجذبتان إلى عملية القتل، لا أستطيع تحريك رأسي بعيدًا عن المشهد، السنجاب الوليد يقاوم دون جدوى، القوة الهائلة المفترسة لا تترك له مساحة التنفس، يداي إلى جواري مشلولتان، لا أستطيع إنقاذ الطفل المأكول، الشجرة بعيدة عني وعالية وأنا جالسة في مقعدي، جسمي محبوس بين المكتب والجدار، قشعريرة تسري من رأسي إلى قدمي عبر العمود الفقري، أسمع قرقشة العظام الصغيرة بين الفكين الكبيرين كأنهما عظامي، كأنما أنا هذا السنجاب الصغير المأكول، كأنما النسر اختطف حياتي كلها وهي ساخنة متأججة بالحياة، اختطفتها منِّي مدينة القاهرة كالوجبة الشهية قبل أن ألمسها، قبل أن أتذوق طعمها.
أنشد الحياة بعد الموت عن طريق الكتابة، مثل الأنبياء والآلهة، لست في شجاعة صديقي رجاء، مات دون أن يكتب شيئًا: «ما جدوى الكتابة يا نوال إذا كانت الرقابة تحذف أهم ما نكتب؟» كان رجاء شاعرًا، التقيت به لأول مرة في عيادتي بميدان الجيزة عام ١٩٥٩م، كتب قصيدة شعرية عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا، حذفت الرقابة أهم أجزائها، لم يبقَ منها إلا أبيات مفككة بلا معنى، قبل أن يموت بأربعة أيام بعث إليَّ برسالة قصيرة لا تزيد على سطرين: «أكتب إليك بعد أن استقر بي الحال أخيرًا، أنت الوحيدة التي أذكرها في غربتي الطويلة ولا أكاد أعرف إن كان حبي لك هو الحقيقة.»
•••
الذكريات تمر بخاطري وأنا واقفة في الفصل، بدأ شريف يتحدث عن الإبداع والتمرد مع الطلبة والطالبات، تجربة جديدة نعيشها في جامعة ديوك، زوجان يتقاسمان الفصل كما يتقاسمان الفراش، أحيانًا يحدث الصراع، لم يكن شريف من الرجال الذين تؤرقهم ذكورتهم، معركته في الحياة لم تكن لإثبات تفوقه الجنسي، كان يعيش حلمًا كبيرًا منذ الطفولة، تغيير العالم، إسقاط الرأسمالية الكونية، إحلال الاشتراكية، العدل المثالي والحب، التقينا حول هذه المبادئ الثلاثة منذ ثلاثين عامًا، الحلم المثالي اللازوردي، مدينة القاهرة تتمطى تحت الشمس كالراقصة، تسهر تحت الفجر عارية، في ضوء الشمس المشرقة تصحو طاهرة مثل زوجة الإله آمون، تتخفى وراء الحجاب كالعذراء مريم، تطل على نهر النيل بلونه البرونزي، وأهرامات الفراعنة فوق هضبة الجيزة، الآلهة الذين حكموا مصر منذ نشوء العبودية، لم يتنازلوا عن العرش حتى بعد الموت، اكتشفوا العالم الآخر لمجرد الاستمرار في الحكم، أخذوا معهم إلى قبورهم أملاكهم: الذهب والفضة والتاج والصولجان، حتى الوجبات الشهية الساخنة وضعوها إلى جوار رءوسهم الميتة، ومعها الفاكهة والحلوى، وقطع الحشيش والأفيون لزوم الوهم، لا تخلو رءوسهم من الوهم بعد الموت، لا يخلو موتهم من القبلات الحارة، الأكلات اللذيذة والشهوة المتأججة لحين البعث في دار النعيم.
الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية، سادة الشهوة والمادية الحسية، باعوا الوهم للمعدمين داخل أناشيد الإله إخناتون ومزامير النبي موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف حتى آخر القائمة، هم سادة الحب والحرب والطب والتحنيط والفلك والفلسفة والفن والمعمار، من هرم خوفو إلى جسد أبي الهول، رأس نفرتيتي، لوحات كليوباترا، والآلهة من النساء والفيلسوفات، من نوت وإيزيس ومعابد إلهة العدل وسخمت إلهة الطب إلى هيباثيا في الإسكندرية، قتلها الغزاة الرومان وحرقوا كتبها، مصر مقبرة الغزاة، يدخلونها ويخرجون، لا بدَّ من طردهم وإن مرت القرون، لكنهم يعودون، لا بدَّ من عودتهم، تحت أي حجة، تتغير الحجة من زمن إلى زمن، والسلاح في أيديهم يتغير، أيام نابليون تمنطقوا بالبنادق، وقت الاحتلال البريطاني أمسكوا المدافع الرشاشة، في الاعتداء الثلاثي (الإسرائيلي الفرنسي الإنجليزي) ركبوا الدبابات والطائرات المقاتلة تسقط القنابل، في أوقات اللاحرب يتمنطقون بحزام السلام والعملات الصعبة، يدخلون إلى مصر، هؤلاء الرجال الطوال القامة البيض البشرة المشربة بالحمرة، القادمون من وراء البحر والمحيط، مفسرو النظريات الكونية، يحملون لقب «الخبراء»، يشبهون سربًا من الطيور الجارحة منفوشة الريش، يطوفون شوارع القاهرة بأحاسيس الغزاة يقتلون المعارضين، يشفقون على الشحاذين، يناولونهم البقشيش، يزورون بيوتهم داخل المقابر، في مدينة الموتى أسفل جبل المقطم، وراء الشارع الأسفلت الممدود بين مصر القديمة ومطار القاهرة الدولي، يحمل اسم أحد رجال الثورة «صلاح سالم»، كان يرتدي نظارة سوداء تشبه طاقية الإخفاء، لا تظهر صورته إلا في صحيفة المساء مثل خفافيش الليل.
في المنفى رأيت مدينتي القاهرة، تمتد في خيالي بين أحاسيس الكُره والحب، الرغبة والنفور، تمتد أمامي في الغربة الطويلة، تسكنها وجوه صديقاتي وأصدقائي، يشتعل قلبي بالحنين لأسكن معهم هذه المدينة، أجوب معهم شوارعها، أتمشى على شاطئ النيل تحت ضوء القمر مع رجاء وصفية وسامية ورفاعة وبطة.
منذ خمس سنوات كان الرحيل عن القاهرة إجباريًّا، الرغبة في الإفلات من الموت، الدفاع المشروع عن الحياة، جاءوا إليَّ قبل الفجر بقليل، ليلة التاسع من يونيو عام ١٩٩٢م.
•••
لم تكن عندي معرفة بزوار الفجر، سمعت عنهم من شريف حين تزوجنا في ديسمبر ١٩٦٤م، كان يحكي لي عنهم، كيف يدخلون من الأبواب، كيف يسيرون على الأرض، عيونهم الضبابية وراء النظارات، في أيديهم المختفية تحت القفازات، وجوههم المحلوقة تفوح برائحة الكولونيا، بدلهم المكوية والحذاء اللامع بالبوز المدبب، خطوتهم فوق الأرض مكتومة، في ظلمة الليل جاءوا وأخذوا شريف معهم، أول مرة عاملوه برقة، كان شابًّا في الخامسة والعشرين عام ١٩٤٨م، طبيب تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، ينتمي لطبقة تشارك الملك في سرقة الشعب، أخرجوه من السجن للتحقيق وقالوا له: «إنت ابن عيلة يا شريف، ابن ناس، سيبك من زمايلك دول شوية شحاتين عملاء موسكو.» أعادوه إلى السجن ثُمَّ أخرجوه للتحقيق: «اسمع يا ولد، إنت باين عليك راسك ناشفة نقدر نكسرها بسهولة، وأمامك فرصة واحدة.» قبل أن يكسروا رأسه هرب من السجن، لم يكن يهرب إلا القتلة الخطرون، تحدثت عنه الصحف كأسطورة خرافية، رسموه على شكل شيطان أحمر ينزلق هابطًا من النافذة العلوية على جبل طويل ممدود في الفضاء، نشروا له صورة تشبه السفاحين، أصبح الأطفال يرونه في الكوابيس، يهب الطفل منهم في الليل، يصرخ: حوشوا عني العفريت!
خيالي كان يسرح مع حكايات شريف، كالطفلة تستمع إلى قصص العفاريت، أتصورهم كائنات من صنع الخيال، أرواح بلا أجساد كالآلهة، حتى رأيتهم وجهًا لوجه، كنت وحدي بالبيت يوم ٦ سبتمبر ١٩٨١م، جالسة إلى مكتبي مستغرقة في الكتابة، رواية جديدة عنوانها: «سقوط الإمام»، دق جرس الباب، لم أسمع الدقة الأولى ولا الثانية، توالت الدقات وأنا غائبة في عالم الإمام يسقط عن العرش ويصحو بعد الموت ليطلب من حارس الجنة مقابلة الله، أفقت على الدقة السادسة أو السابعة، رأيتهم من وراء الشراعة كالأشباح في كوابيس الطفولة، لم أفتح الباب، كسروا ودخلوا، ملئوا حقائبهم بكتبي وأوراقي، أخذوني إلى السجن وهم يقولون بأدب شديد: «مجرد سؤالين يا دكتورة نوال وترجعي البيت.»
•••
كنت غارقة في النوم حين دقوا الجرس، الدقة الأولى سمعها شريف وهو نائم، كان يعرف طريقتهم في دق الأبواب، والساعة التي يأتون فيها بعد منتصف الليل، قبل طلوع الفجر بساعة، ينقضُّون على البيوت يسوقون الرجال والنساء إلى أماكن مجهولة لا يعلمها إلا الله ووزير الداخلية.
كانت ليلة حالكة الظلمة بلا قمر ولا نجوم، الضباب عباءة سواء تغلف الأرض والسماء، لا هواء إلا صهد الحرارة، صيف القاهرة في شهر يونيو، كنت أحلم أنني أسبح في بحر الإسكندرية، تسبح أمي أمامي، مياه البحر سوداء كالسماء، أعلم في الحلم أنه الليل، وأن أمي ميتة، أراها تسبح رغم الموت، تصعد فوق الأمواج العالية، تضربها بذراعيها وساقيها، أسبح خلفها بقوة، رأسي يشق الماء كأنه الهواء، وأطير فجأة في الجو، أحلق فوق مدينة تشبه القاهرة، البيوت والعمارات شكلها غريب مدببة الأسطح تشبه الأبراج، الأهرامات الثلاثة وأبو الهول فوق الهضبة، نهر النيل تتسع مساحته يشبه بحر الإسكندرية، المياه الزرقاء أراها من الارتفاع الشاهق، أقول لنفسي في الحلم: كيف أسير بلا جناحين، أيمكن أن يسقط جسمي بسبب الجاذبية الأرضية؟ السؤال يدور في رأسي وأنا أرفرف بذراعي، يذكِّرني أن البشر لا يطيرون، فجأة أفقد القدرة على الطيران، يتهاوى جسدي بطيئًا حتى يلامس السطح، أحرك ذراعي في البحر وأسبح، المسافة بيني وبين الشاطئ بعيدة، أمي لا أراها أمامي، والأمواج تعلو كالجبال السوداء، جسدي مربوط بحجر، مشدود إلى قاع البحر، أصارع لأطلق سراح جسدي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الشاطئ طويل يتدلى ويهتز، يصلصل الجرس بصوت هدير الأمواج، علم أسود علامة الخطر يرفرف في الهواء، ممنوع النزول إلى البحر، أمي جالسة فوق الرمال داخل فستان أسود، علامة الحداد، أراها في الحلم وأعلم أنها ميتة، أسمعها تقول: إن أبي مات، وأعلم أنه ميت منذ ثلاثة وثلاثين عامًا.
الدقة الثانية لجرس الباب، سمعتها وأنا غارفة في النوم، جرس المدرسة يصلصل، وأنا جالسة في الامتحان أمامي ورقة الأسئلة، لا أعرف الإجابة عن أي سؤال، أنفاسي تختنق تحت الماء، باقٍ من الزمن خمس دقائق، العرق يتصبب من جسدي، أعيد قراءة الأسئلة، اللغة تبدو غير مفهومة كالهيروغليفية، سوف أسقط في الامتحان، الموت أهون من السقوط، ألهث وأنا أكتب، ليست هي الإجابة المطلوبة، مجرد خطوط وخربشات لا معنى لها، باقٍ من الزمن دقيقة واحدة، القلم يرتعش في يدي، يضع فوق الورقة ذبذبات، قطرات العرق تبلل الأسئلة، لا أرى الكلمات الجرس يدق. انتهى الزمن المحدد، الأصابع الحديدية تشد الورقة من يدي، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتحسس الفراش من تحتي ليس مبللًا، لست طفلة تبول في النوم، ليس هناك مدرسة ولا امتحانات، أنا في سريري نائمة وجرس الباب يدق.
رأيت شريف ينهض من سريره، تذكرت فجأة أنه زوجي، تزوجنا منذ ثمانية وعشرين عامًا، منذ الزواج في غرفة واحدة فوق سريرين منفصلين، نؤمن بحرية الحركة من النوم كاليقظة، الظلمة حالكة، يبحث عن نظارته فوق المنضدة بجوار السرير، حركته هادئة، لا يتعجل شيئًا، يسيطر على الزمن، يوقفه حتى يعثر على النظارة، حتى يخرج من السجن بعد أربعة عشر عامًا، أراه من الخلف وهو يمشي، انحناءة خفيفة يحملها فوق ظهره ويمشي، رأس مرفوع فوق عنق قوي لم ينثن أمام حبل المشنقة، خرج من غرفة النوم إلى الصالة، فاردًا ذراعيه أمامه كمن يمشي في النوم، خطوته فوق الأرض شبه حالمة، لا يسرع الخطو ولا يبطئ، حركته لا تتغير، وإن دقت أجراس الكون فهو يعرفها، لا شيء جديدًا تحت الشمس، سمعته يفتح الباب الخارجي، يتحدث إلى رجال غرباء، الأصوات تسري من تحت جفوني المغلقة كالحلم داخل الحلم.
دخلوا إلى الصالة الصغيرة في شقتنا بالجيزة، جلسوا حول المائدة المستديرة تعلوها صينية نحاسية، أحدهم أحدب يرتدي بدلة غير رسمية، يضع منديلًا حريريًّا في الجيب العلوي فوق صدره ناحية اليسار، تفوح منها رائحة الكولونيا «لافندر»، وجهه محلوق، شعره محلوق، ملامحه محلوقة، لا يكشف عن شيء من نفسه، لا تفلت منه كلمة واحدة تضيء الموقف، صوته مثل آلة تسجيل.
سمعت شريف يسألهم عن هويتهم، هو يعرفهم عن يقين، في كل يقيم ذرة شك، لا شيء مطلق أو كامل، كل شيء نسبي أو ناقص، الحذر أيضًا مطلوب، شريف كان أكثر حذرًا منِّي، يعرف بحور السياسة الغويطة، ينقلب الأصدقاء أعداء بين يوم وليلة، وينقلب الأعداء أصدقاء، تتخفى المصالح تحت طبقة سميكة من الشعارات.
– حضراتكم مين؟
– البوليس.
كلمة البوليس رنَّت في أذني وأنا غارقة في النوم، لا أريد أن أصحو، أمسك بذيل أمي وهي واقفة إلى جواري، أول مرة سمعت كلمة البوليس كنت في السادسة من العمر، في مدينة الإسكندرية، سمعت أبي يقول البوليس أمسك سعدية، تصورت أن عمل البوليس هو القبض على الخادمات الهاربات أو اللصوص الحرامية، لم أعرف أن البوليس يقبض أيضًا على الثوار وذوي الأفكار الجديدة.
– خير إن شاء الله!
– الدكتورة نوال السعداوي موجودة؟
– أيوة، هي نايمة.
– أهلًا يا دكتور شريف.
– أهلًا بكم.
– عندنا أمر بوضع الحراسة على الدكتورة.
كلمة الحراسة تخترق الوسادة فوق أذني، سمعتها لأول مرة منذ ثلاثة وثلاثين عامًا، في عهد عبد الناصر كانت الحراسة توضع على أملاك الأثرياء الإقطاعيين والرأسماليين، وأنا لا أملك شيئًا، حتى الشقة التي نسكن فيها ليست ملكنا، ندفع إيجارها كل شهر لصاحب العمارة، وهي شقة صغيرة من ثلاث غرف وصالة، ابنتنا منى لها غرفة واحدة، الصالة الصغيرة تشمل الاستقبال ومائدة الأكل.
– الحراسة على حياتك يا دكتورة.
– حياتي؟!
– نعم حياتك.
– وماذا يهدد حياتي؟!
– ليس عندنا معلومات.
المعرفة سلاح، كيف أحمي حياتي دون أن أعرف ماذا يهددها؟ إذا كانت الحكومات تريد حقًّا حمايتي، فلماذا تخفي عني أهم المعلومات؟ هذه الحكومة لم تكف عن البطش بي، لم تكف عن توجيه الضربات إليَّ حتى الضربة الأخيرة منذ عشر سنوات والمجلة التي كنت أصدرها، كيف تحاربني الحكومة كل هذه الحرب وفي الوقت نفسه تحرسني؟!
– أشكركم كثيرًا لست في حاجة إلى هذه الحراسة.
– لا يا دكتورة، عندنا أمر ولا بدَّ من تنفيذه.
– أتحرسون حياتي ضد إرادتي؟
– أيوه.
– إزاي ده؟
– لأن حياتك يا دكتورة ليس ملكك، إنها ملك الدولة!
أصبحت أعيش تحت الحراسة المسلحة وحياتي ليست ملكي، رجال مسلحون أمام باب البيت ليل نهار، حارس يرافقني في كل خطوة، اسمه «البودي جارد»، شاب طويل عريض يحمل مسدسًا، يرتدي قميصًا بلون الصاعقة، أتوقع الضربة على ظهري وأنا أمشي أمامه، لو انطلقت الرصاصة فهي منه أو أحد الحراس، ما دامت هذه الحراسة موجودة أشعر بالخطر.
في الليل أسمع الدبات الخانقة تقترب من السرير، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتوقع رؤية الشيطان سافرًا أو الإله مُلثَّمًا، يصوب إلى رأسي المسدس، أرى الظلال تتحرك فوق الجدار، أعود طفلة تخاف في الليل من العفاريت، في الصباح أستعيد شجاعتي أرتدي الحذاء الكاوتش، أخرج مع شريف إلى شاطئ النيل، نمشي بخطوة سريعة في الرياضة اليومية، لم نَكُفَّ عن هذه الرياضة يومًا واحدًا، أدوس على الخوف وأخرج من باب البيت، قد تنطلق الرصاصة أو لا تنطلق، لم أعد أشعر بالخطر، أصبحت جزءًا منه، لم أعد أشعر بالموت، أصبحت أنا الموت.
أكان هو الوهم الذي وصفه صديقي رجاء في قصائده، أو ربما هو الحقيقة، فأنا أمشي على شاطئ النيل، أدوس بقدمي على الأرض، جسدي يندفع إلى الأمام بحركة قوية، هذه اللحظة الحاضرة متصلة تمتد إلى الأبد، هي الحقيقة الوحيدة أمام عقلي، اللحظة الماضية بكل مخاوفها ماتت، اللحظة القادمة غير موجودة، سواء انطلقت فيها الرصاصة أو لم تنطلق، المستقبل ميت والماضي معدوم، والموت غير موجود، الحاضر فقط هو الذي يعيش.
•••
قدمتُ طلبًا لوزارة الداخلية أطلب الترخيص لي بحمل مسدس، إذا كانت حياتي مهددة فمن حقي الدفاع عنها، رفضت الحكومة طلبي، أصبحت على يقين أن هذه الحكومة لا تريد حمايتي، ماذا تريد إذن؟
كانت الحراسة شكلية بلا فائدة، الحارس يجلس في مدخل العمارة على مقعد أخذه من بيتنا، رجل متوسط العمر يشبه الفراشين في الحكومة، يرتدي بدلة صفراء باهتة أكمامها مهترئة، يمد يده ويأخذ البقشيش من سكان العمارة، يحمل عنهم الحقائب أو أكياس الفاكهة والخضار، إن نفحه أحدهم مبلغًا كبيرًا يصعد معه في الأسانسير حتى باب شقته، في الليل حين أدخل إلى العمارة أراه نائمًا فوق المقعد، أوقظه وأنا أقول: اصحى يا عم محمد عشان تحرسني، يضحك الرجل، يكشف عن أسنانه البيضاء تحت الشارب الأسود الكثيف: «معليش يا دكتورة أصل النوم سلطان.»
– يا ريت تنام في بيتك بدل نومة الكرسي دي؟
– ما أقدرش يا دكتورة.
– ليه؟
– إذا جه المفتش أعمل إيه.
– المفتش مش جاي روح نام في بيتك.
منذ جاءت الحراسة في ٩ يونيو ١٩٩٢م حتى غادرت الوطن في يناير ١٩٩٣م، لم يأتِ المفتش مرة واحدة، كانت الحراسة تتغير، يأتي شباب أكثر قدرة على اليقظة، أراهم واقفين في الليل، أرسل إليهم المقاعد والبطاطين ووجبات الطعام، أعطيتهم بعض كتبي، لا يعرفون شيئًا عن المرأة التي يحرسونها، كنت أسألهم: أتعرفون من أنا؟ أتعرفون لماذا تحرسون حياتي؟! لا يعرفون شيئًا، عندهم أوامر واجبة التنفيذ، جنود في الحكومة واجبهم الطاعة دون مناقشة كالنساء في بيوت الزوجية.
•••
في الصباح الباكر كان البودي جارد يدق الجرس، يفتح شريف الباب: «صباح الخير يا رفيق، النهاردة ده عندك إجازة، ما فيش مواعيد عند الدكتورة، مش هتخرج من البيت، تعالى بكرة.»
في اليوم التالي يأتي، يكرر شريف له العبارة، أصبح مهمتنا كيف نهرب من البودي جارد، في غيابه يزول الخطر، أشعر بالحرية، أخرج وأمشي في الشوارع دون خوف، لا أستدير لأرقب يده قبل أن تطلق الرصاصة في ظهري.
•••
الكتابة في حياتي هي الملاذ، لا شيء يعوضني عن حروفي فوق الورق، الكتابة أنقذتني من الموت، عن طريقها أتنفس، أعبر عن نفسي، أكسر العزلة بين جسدي والعالم، أخلق كلماتي وكلماتي تخلقني، لا أملك في حياتي إلا حروفي وحروفي تملكني، علاقة حب متساوية متكافئة لا يسيطر فيها طرف على الآخر، لولا الكتاب لأصبحت من الموتى، وبسبب الكتابة دخل اسمي قائمة الموت.
«قائمة الموت»: عبارة جديدة دخلت حياتنا الأدبية في السنين الأخيرة، بدأنا نسمع عن أسماء أدباء في قائمة الموت، ألتقي صدفة في الطريق بصديق فيسألني في قلق: «تعرفي مين في الآيمة يا نوال؟» الإشاعات تنتشر في القاهرة كالدخان، لا أحد يعرف الحقيقة، نمشي في الضباب، إنه سمة العصر، في الماضي كان العدو مرئيًّا، نراه أمامنا حاملًا سلاحه العسكري، له اسم معروف، هذه القوى المجهولة بلا اسم، كيف نحاربها؟
في الليل أسمع صوتًا ينطلق من الميكروفون، لا أعرف من أين تأتي؟ من مئذنة الجامع؟ قبة الكنيسة؟ الديسكو كلوب، ماكدونالد؟! صوت غريب يسري في ظلمة الليل، اقتلوهم حيث وجدتموهم، الكفرة أعداء الله فلان وفلان، أسماء أدباء وشعراء، ثلاثين أو أربعين اسمًا، ويرن اسمي و«نوال السعداوي»، يخترق رأسي مثل طلقة الرصاص، تدوي حروف اسمي في الليل: اقتلوها الكافرة عدوة الله. للصوت فحيح كأنفاس ثعبان، تفوح منه رائحة غريبة تشبه النفط.
كنت مستغرقة في كتابة روايتي الأخيرة: «الحب في زمن النفط»، في أعماقي أدرك أن النفط هو القوة الخفية تحرك الأشياء من وراء الستار، أضع خطًّا تحت كلمة النفط، أشعر بشيء من الراحة، خطوة أولى لإعطاء اسم للقوة المجهولة بلا اسم، هناك علاقة بين النفط وقائمة الموت، أمسك بأصابعي طرف الخيط، لولا النفط ما قامت حرب الخليج في يناير ١٩٩١م، ما تحركت جيوش ثلاثين دولة على رأسها الجيش الأمريكي، لولا النفط ما تحرك الجيش البريطاني وأقام في فلسطين دولة إسرائيل، لولا النفط ما انقلب العالم ضد إيران في عهد مصدق، لولا النفط ما احتكم علينا ملوك لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
في الرواية كان النفط هو البطل، الجزيرة غارقة في بركة من النفط، يحكمها صاحب الشركة «الخواجة»، ولا يتحدث اللغة العربية، وصاحب الجلالة الملك مندوب الله على الأرض رأس العائلة المقدسة، تبدأ الرواية بامرأة عادية من الشعب تخرج من بيتها في إجازة يومين، كان هناك أمر من صاحب الجلالة: «ممنوع على النساء القيام بإجازة، إن خرجت المرأة يتم القبض عليها وإعادتها حية أو ميتة.»
أغرقت نفسي في الكتابة، أسابق الزمن أخشى أن يسبقني، فكرة الموت تراودني دائمًا مع عملية الخلق، ينتابني القلق كلما بدأت عملًا إبداعيًّا، أحوطه بذراعي كالطفل أخشى عليه الضياع، أمشي فوق الرصيف أخشى أن تصدمني سيارة، لا أبغي من الدنيا سوى أن أعيش لأكمل العمل، لينمو المخلوق الصغير ويستقل.
فكرة الموت لا تفارقني منذ جاءت الحراسة، لا يمر يوم دون أن أسمع هذه الكلمة «القايمة»، القايمة مين فيها النهاردة، مين انضرب بالرصاص، في مصر وفي الجزائر، يستخدمون في القتل مدافع رشاشة ودراجات بخارية، يهربون وتفشل الحكومة في القبض على القاتل، البودي جارد يدق الجرس كل يوم، الحراس أمام البيت أمسكوا شخصًا مجهولًا حاول الصعود إلى شقتي، كلما دق جرس الباب أتوقع القاتل، لم أعد قادرة على الكتابة، فكرة موتي بالرصاص تحلِّق فوق رأسي، أطردها فتعود مثل ذبابة عنيدة، يكبر حجمها أحيانًا فتصبح كالطائر الأسود الضخم، لا يشبه النسر ولا يشبه الصقر ولا الحدأة ولا أي كائن آخر، يفرد جناحيه فوق رأسي وأنا أكتب، أتوقف في منتصف السطر، قبل أن أكمل حروف الكلمة يتجمد القلم في يدي.
– مالك يا نوال؟ فيه حاجة؟
– مش قادرة أكتب يا شريف، عقلي واقف مشلول.
يناولني شريف كوبًا من عصير البرتقال، أو فنجان شاي، ينظر في ساعته، يرى أنني لم أنهض من مقعدي وراء المكتب سبع ساعات أو ثماني أو أكثر، أحيانًا كنت أجلس إحدى عشرة ساعة دون أن أنهض.
– «ريحي نفسك شوية، إدي نفسك أجازة يا نوال.»
– الإجازات ممنوعة يا شريف بأمر من صاحب الجلالة الملك.
– الملك مين يا نوال؟
كنت أعيش داخل الرواية، يشدني شريف إلى الواقع، أعيش على الحافة أتأرجح بين الخيال والحقيقة، أشد عضلات ظهري وأنهض بصعوبة، قدماي وارمتان، فقرات العمود الفقري أسمعها تئن، كصرير الساقية في طفولتي، أصابتني الكتابة بمرض مجهول يشبه الانزلاق الغضروفي.
كل صباح كانت الصحف تدخل إلى شقتنا، قوة مجهولة تدفع بها تحت عقب الباب، الرجل صاحب الكشك على ناصية شارع مراد مع شارع الجيزة، اسمه «محمد» يركب دراجة يوزع الصحف على البيوت، يفرشها فوق الرصيف، يعلقها على جدران الكشك، أمرُّ بها في طريقي إلى كورنيش النيل، أحرك عيني بعيدًا عنها، في البيت أتركها فوق الأرض، أركلها بقدمي لأفتح الباب، لا أقربها في الصباح، إن قرأتها أفسدت عليَّ اليوم، كالسم تقتل بوادر التفكير في خلايا المخ.
أصحو من النوم أشكو من الصداع، أجلس إلى مكتبي مربوطة الرأس، عقلي مثل الأرض البور، الصحراء القحط، لا تنبت فيها زهرة، لا أضع كلمة واحدة فوق السطر، أعيد ما كتبته بالأمس، يبدو فارغًا من المعنى، كلمات ميتة كالزهور فوق القبور، أمزق أوراقي أقذفها بطول ذراعي، أضع رأسي تحت ماء الدش، أبلع أقراص الأسبرين، أضرب الجدار بقبضة يدي، لا شيء يعالج الألم، كالسكين يشق رأسي نصفين، يدخل شريف إلى غرفتي يراني منكفئة فوق مكتبي، القلم في يدي مكسور، أوراقي من حولي ممزقة: «نوال فيه إيه؟»
– «مش قادرة أكتب يا شريف!»
كنت أتلقى تهديدات بالقتل، أصوات مجهولة تأتيني عبر أسلاك التلفون، شتائم باللغة العربية الفصحى، والعامية المصرية، تشوبها أحيانًا لكنه … خليجية، سعودية وكويتية وجزائرية، عبر البريد تأتي الشتائم على شكل رسائل بدون توقيع: «يا كافرة يا عدوة الإسلام، يا حليفة الشيطان التي أخرجت آدم من الجنة وسبب الموت والخراب، كنت تنشرين سمومك عبر جمعيتك المشبوهة التي أغلقتها الحكومة وحوَّلت أموالها إلى جمعية نساء الإسلام، نعم إن النساء المسلمات المؤمنات أحق منك بهذه الأموال، فهي أموال حرام ما لم تُوَجَّه لخدمة الدين الحنيف، وما هذا الشعار الكافر الذي رفعته في جمعيتكم المنحلة، (رفع الحجاب عن العقل)، ألا تعرفين أن الله أمر النساء المسلمات بارتداء الحجاب، كلمة الحجاب مقدسة، كيف تحرضين النساء ضد طاعة الله، مثلك لا يستحق إلا الموت!»
في إحدى الليالي كنت وحدي بالبيت، سافر شريف إلى قرية القضابة بجوار طنطا في مهمة ضرورية، جلست إلى المكتب أحاول كتابة الفصل الأخير من الرواية، الليل ساكن، لا أسمع إلا صوت أنفاسي، دقات الساعة الخافتة، الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، ابنتنا منى انتقلت إلى بيتها، ابننا عاطف استقل بحياته، أصبحت لي غرفة مستقلة، أكتب فيها وأنام فيها بجوار أوراقي، أحب هذا الانعزال الكامل وحدي مع أفكاري.
فجأة دق جرس الباب، تجمدت في مقعدي، من يأتي في هذه الساعة من الليل؟ الضربات تحت ضلوعي تتصاعد، العرق يتصبب وأنا جالسة لا أريد النهوض، ربما أخطأ أحد الجيران وضغط بيده على الجرس، جاءت الدقة الثانية فانتفضت واقفة، أنوار الشقة كلها مطفأة، سِرت على أطراف أصابعي، تحركت في الظلمة بلا صوت، من وراء شراعة الباب، لمحت خيالًا أسود: استجمعت شجاعتي.
– مين بره الباب؟!
لم يرد أحد، الصمت يدوي في أذني كصفير الطاحونة في منوف، عقلي يفكر وحده، هل أجري إلى المطبخ وأمسك السكين؟ لكن ماذا يفعل السكين في مواجهة مدفع رشاش؟ لو كان معي مسدس؟ ألهذا رفضوا التصريح لي بمسدس؟ لماذا لا يرد ويقف صامتًا هكذا؟ إذا كان هو القاتل فكيف تركه الحارس يصعد؟ هل القتلة يدقون الأجراس؟ واقفة وسط الصالة داخل الظلمة مكتومة الأنفاس، مرت لحظة ممدودة بلا نهاية، رأيت الخيال يتحرك وراء الشراعة ويختفي، شيء غريب أغرب من الخيال، لماذا جاء ولماذا راح؟
عُدت إلى غرفة النوم كي لا أنام، أطرافي باردة، الدقات تحت ضلوعي بطيئة شبه متوقفة، فتحت النافذة لأطل على الشارع، سأراه يخرج من باب العمارة، إن لم يخرج فلا بدَّ أنه الحارس، مضت الدقائق، لم يخرج أحد، عشر دقائق، عشرون دقيقة، واقفة في النافذة كالتمثال، شارع مراد مظلم منطفئ الأنوار، لا أحد يتحرك، سيارات قليلة تمرق بسرعة الضوء، زئير الأسد يصلني من حديقة الحيوان مع رائحة المجاري، سيارة بوليس تنطلق بصفارة حادة، ساعة الجامعة تدق مرتين ثُمَّ تسكت، من بعيد يأتيني الصوت كالنشيج، امرأة تئن وحدها في الليل، لا أعرف من أين يأتي الأنين، أهي الجارة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي أم في الشقة المجاورة التي تسكن فوقي، أم في الشقة تحت شقتي ناحية اليمين، أو المرأة الوحيدة في الشقة ناحية اليسار، الأنين يحمله هواء الصيف في المدينة الكبيرة، يسري في أذني كالطنين، يذكرني بأنين أمي في الليل ممدود يشبه النداء، يا … نو … ا … ا … ل … ل، تناديني في الليل يا نوال، أدفن وجهي في وسادتي، يتحول بكائي إلى أنين يعلو على أنينها أو أنين المرأة الأخرى.
– نوال، لازم تسافري!
– أسافر فين يا شريف؟
– عندك صديقات في كل بلاد العالم، إنت معروفة يا نوال؟ وأنا مستعد أسافر معاك.
بدأت أفكر في السفر، كيف أسافر؟ رحلاتي السابقة كان لها هدف، حضور مؤتمر، إلقاء محاضرة، لم أجرب من قبل السفر بلا هدف، أو للهروب من الموت، أيمكن أن يكون مصيري هو النفي خارج البلاد؟
ألا تحتمل أرض الوطن أن تمشي فوقها كاتبة مثلي؟! عشت تجربة السجن والطرد من العمل والمصادرة والمطاردة وتشويه السمعة، كل ذلك داخل الوطن، لم أعرف ماذا يكون المنفى.
ذات يوم دق الجرس، فتح شريف الباب، دخلت فتاة اسمها إليزابيث، جاءت إلى مصر في زيارة قصيرة، طالبة بجامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا، درست بعض رواياتي المترجمة إلى الإنجليزية، أرادت أن تزورني قبل أن تغادر مصر، على باب العمارة رأت الحراسة المسلحة، صعد معها الحارس حتى باب الشقة، سألتني: ما الذي حدث؟ قلت بهدوء وأنا أبتسم: لا شيء حدث، فقط يحرسون حياتي. اندهشت الفتاة كيف أبتسم بهذا الهدوء.
– لماذا لا تسافرين يا دكتور ساداوي؟
– وإلى أين أذهب؟
– إلى جامعة ديوك، هناك أستاذتي الدكتور ميريام كوك وهي تدرس رواياتك في حصة الأدب العربي، يمكن أن أطلبها بالتلفون غدًا وأعطيها تليفونك، ما رأيك؟
•••
يوم ٨ يناير ١٩٩٣م، أودع بيتي في الجيزة، الشقة الصغيرة في شارع مراد، استأجرتها من صاحب العمارة في يناير ١٩٦٠م، عشت فيها ثلاثة وثلاثين عامًا، شريف يحزم الحقائب في الصالة، منذ تزوجنا لم تكف الحكومة عن مطاردتنا ثلاثين عامًا، لم نبدأ عملًا إلا هدموه، لم نضئ مصباحًا إلا أطفئوه، لم ننشئ جمعية إلا أغلقوها، لم نصدر مجلة إلا صادروها، ها هي المطاردة تصل إلى النفي خارج البلاد.
أدور على غرف الشقة أودعها، ابنتي منى واقفة في الصالة تحوطني بذراعيها: «مع السلامة يا ماما … كلميني في التليفون أول ما توصلوا ديرهام.» ابني عاطف واقف إلى جوارها، يحوطني بذراعيه: «مع السلامة يا ماما، خلي بالك من نفسك.» منى وعاطف يعانقان شريف، العيون تلمع بالابتسام لتخفي الدموع الحبيسة.
شريف يحمل الحقائب خارج الباب، حركته هادئة تشبه حركة أبي، كنت في السابعة من العمر حين رأيته يحزم الحقائب بهذه الحركة الهادئة، أصدرت الحكومة قرارًا بنفيه بعيدًا عن المدينة، اشترك في مظاهرة وطنية ضد الملك والإنجليز، عاش المنفى عشر سنوات، من ١٩٣٨م حتى عام ١٩٤٨م.
خرجنا من بيتنا نحمل حقائبنا، نودع الأهل والوطن، شريف يحوطني بذراعيه داخل الطائرة: «أمامنا يا نوال رحلة بديعة، تجربة جديدة تُضاف إلى تجاربنا السابقة.» تعانقنا في الجو بين السماء والأرض، والبوينج تشق السحب نحو الشمال.