طبيبة القرية
كان يومًا دافئًا من أيام سبتمبر ١٩٥٦م، مدينة القاهرة تركتها وراء ظهري، ليست هي الأرض التي خرجت منها، هذه الشوارع الأسفلت لا تنبت فيها زهرة، إن نبتت تدوسها الأحذية، الكعوب السميكة المربعة أو العجلات الحديد، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، كخطوة جدتي الفلاحة، في أعماقي حنين لرائحة الزروع وخبيز الفرن، ابنتي أحملها فوق صدري، عمرها ستة شهور، أغطيها بشال لونه وردي، اشتغلته بيدي بخيوط من الحرير، دقات قلبها تنبض مع الدقات تحت ضلوعي، أحوطها بذراعي أخفيها عن العيون.
أجري لألحق بالقطار كما كنت وأنا طفلة، أحمل قلب الطفلة داخل جسد المرأة، أفرح بركوب القطار والجلوس إلى جوار النافذة، التلاميذ والتلميذات يجرون نحو القطار يتصايحون بالفرح، صورة جمال عبد الناصر تعلو جدار المحطة، بطل تأميم القناة وأحداث أخرى كانت تتوالى منذ خطابه الشهير في ١٧ مارس ١٩٥٣م، كنت طالبة بكلية الطب، والطلبة يتجمعون حول الراديو في الفناء ويصفقون، صوت جمال عبد الناصر يدوي: «نحن نرفض الأحلاف العسكرية الأجنبية تحت اسم الدفاع المشترك، إن الدفاع عن الشرق الأوسط يهم دول المنطقة أكثر من غيرهم، لن يستطيع شعب رازح تحت نير الاستعمار أن يدافع عن استمرار هذا الاستعمار في وطنه بحجة تخوفه من اعتداء آخر قد يتعرض له هذه الشعب وقد لا يتعرض، إننا نريد جلاءً ناجزًا غير مشروط.»
لم يتم الجلاء إلا بعد ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر من هذا الخطاب، وفي ١٧ يونيو ١٩٥٦م أقلعت الباخرة «إيڨان جيب» من قناة السويس حاملة آخر الجنود الإنجليز، انتهى الاحتلال البريطاني الذي دام اثنين وسبعين عامًا، ليعود من جديد بعد أربعة شهور فقط، حين وقع الاعتداء الثلاثي على مصر.
في المقعد أمامي جلست تلميذة في العاشرة من عمرها تقريبًا، حقيبة كتبها فوق ركبتها، مريلتها من الدمور بالمربعات الصغيرة الزرقاء، تشبه مريلتي في المدرسة الابتدائية، أول رحلة لي بالقطار من منوف إلى القاهرة منذ أربعة عشر عامًا، كنت طفلة تهرب من القرية إلى المدينة، اليوم أنا شابة تهرب من المدينة إلى القرية، في الرحلة الأولى لم أكن أملك إلا قلمي الرصاص وكشكولي الأزرق، اليوم أملك شهادة الطب ولقب دكتورة.
تخرجنا أطباء دون أن نعطي حقنة واحدة في العضل أو الوريد، دربت نفسي بنفسي في سنة الامتياز، اختلست بعض الجراحات الصغيرة، أجريتها في غيبة الأستاذ والنائب، أولها عملية إجهاض وآخرها عملية استئصال الزائدة الدودية.
كنت أسمع أبي يقول: الجامعة ليس فيها تعليم مثل وزارة المعارف (المقارف)، إذا تعلم الناس فيها فلن يبقى حاكم على عرشه، كلية الحربية لا تخرج إلا الجهلاء، إن أصبحوا هم الوزراء ماذا يكون الحال؟! تضحك أمي وتسأله: يعني لو عملوك وزير التعليم حتعمل إيه يا سيد؟ كلمة سيد لم تخرج من فم أمي حتى أنجبت منه طفلها الخامس، منذ تزوج أبي لا تتحدث عنه إلا بضمير الغائب «هو»، أنجبت منه أطفالها التسعة دون أن تخلع ملابسها أمامه، أنا أيضًا لم أخلع ملابسي أمام زوجي الأول.
ضحكت على نفسي وأنا جالسة في القطار، انتبهت التلميذة الجالسة أمامي، ضحكت هي الأخرى، عيناها السوداوان تلمعان بالبريق، يشبه البريق الذي كنت أراه في عيني وأنا طفلة، حقيبة يدي داخلها مرآة صغيرة مستطيلة، اختلست إليها نظرة سريعة، لمحت البريق فابتسمت لنفسي، كان القطار يجري بعيدًا عن القاهرة، كالسجين يهرب من وراء القضبان، البيوت تتراجع إلى الوراء سوداء بالدخان، الكون ينفتح على الأفق، زرقة السماء والحقول الخضراء تتسع مع اتساع دلتا النيل.
الحقيبة الكبيرة إلى جواري فوق المقعد، نصفها ملابس ونصفها كتب، مؤلفات جديدة في الطب والفلسفة، روايات بالعربية والإنجليزية، ومفكرتي السرية، لم أكن أفتح مفكرتي إلا بعد أن ينام الجميع، في ضوء القمر أكتب أخشى أن أضيء النور، لا أحد يراني إلا عين الله التي لا تنام.
اهتز القطار منتفضًا فوق العجلات، أطبقت ذراعي حول ابنتي، أيخرج عن القضبان وينقلب؟! الخوف من عقاب الله مدفون في أعماقي، منذ الطفولة أخاف منه!
دخل القطار محطة بنها، استيقظت ابنتي من النوم، ابتسمت امتلأت عيناها بالضوء، منذ وُلدت ابنتي تمتلئ عيناها بالفرح حين تراني، لم يفرح أحد بوجودي في الحياة مثل ابنتي، عيناها عسليتان بلون عيني أمي، ترمقني أحيانًا بنظرة تشبه أمي، يختلط عليَّ الأمر، أظنها أمي عادت طفلة، تمتد يدها لتطبق على يدي كما كانت أمي بأصابعها الخمسة تطبق على يدي.
لم يكن عقلي يلتقط هذه اللحظة من قبل، هذه اللمسة الحميمة بين الأم والابنة، كان عقلي محشورًا بأشياء ثقيلة، مشغولًا عن هذه اللمسات الرقيقة بالقضايا الكبرى.
كيف خلت مفكرتي من أحاسيس الأمومة؟! هذا الشلل الطاغي بالفرح، هذه اللمسات بين جسد الأم وجسد الابنة، التيار المتدفق باللذة يسري مع الدم في الأوردة والشرايين، ينقلب الألم سعادة وينقلب الخوف شجاعة، إذا انقلب القطار في هذه اللحظة يمكن أن أطير من النافذة وابنتي بين ذراعي، يمكن أن أفعل أشياء خارقة للعادة.
في مدينة بنها هبطت من القطار، رصيف المحطة كان مزدحمًا بالناس، موظفون بالبدل الإفرنجية، العجائز منهم بالطرابيش، فلاحون بالجلاليب والطواقي، نساء البندر بالفساتين القصيرة حتى الركبتين، الفلاحات العجائز بالجلاليب السوداء الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالطرح، الشابات بالجلاليب الملونة والضفائر الطويلة، ناظر المحطة ينفخ في صفارته، ينتفخ صدغاه بالهواء مثل ناظر محطة منوف، بائع السميط والجبنة الرومي ينادي بصوته القديم، القطار ينفث الدخان الكثيف مطلقًا صفارة طويلة حادة، صورة جمال عبد الناصر تغطي الجدران، التلاميذ والتلميذات يتسابقون في الجري فوق الرصيف، يصرخون بالفرح يتقاذفون بالحقائب بالكراريس بالقراطيس.
أتوقف دائمًا لأرقب هذا المشهد في المحطات، حركة الناس المسافرين، يجرون بالحقائب هنا وهناك، صاعدين أو هابطين، رائحة الدخان تملأ الجو، مع رائحة السميط والجبنة الرومي، مع الكازوزة والصفافير واللهجات من كل نوع، الحركة النشيطة مع الحماس، كالعدوى يدب النشاط في جسدي، أحرك قدمي فوق الأرض بخفة، أجري وسط الناس كمن تسبح في البحر، الحقيبة في يدي والطفلة فوق صدري، يهتز جسدها مع حركة جسدي، تضحك بشهقات الأطفال المتقطعة، عيناها تلمعان بالدهشة: إلى أين تجري أمها بهذا الحماس؟ عيناها تتساءلان، لم تتعلم عنها بعد، العينان تنطقان قبل اللسان، لغة العيون تعجز عنها الكلمات، همست في أذنها بالأغنية: إجري إجري إجري … وديني أوام وصلني! ضحكت ابنتي وراحت تهز رأسها مع اللحن كما كنت أهز رأسي وأنا في عمرها وأغني: دي دي تيا … دي دي تيا …
ركبنا سيارة أجرة من محطة بنها، المسافة بينها وبين قرية طحلة عشرة كيلو مترات، الشوارع في مدينة بنها ترابية مليئة بالحفر والمطبات، يصعد الطريق بنا إلى جسر النيل، السيارة قديمة مكسورة النوافذ، تصطك عجلاتها وأبوابها بعضها ببعض، تعلو وتهبط مع المطبات مثل المرجيحة، تضحك ابنتي وهي تتأرجح فوق صدري، أضحك معها والسائق يشاركنا الضحك، ويقول: العربية دي فيها البركة زي القطط بسبع أرواح، كان عندي حنطور ما شاء الله عليه، والحصان كان زي الحصان، لكن ربنا افتكره، دفنته في التربة مع المرحوم أبويا، وحزنت عليه أكثر من أبويا — الله يرحمه — كان حصان أصيل ابن ناس، ياكل قليل ويشتغل كثير، عشان كده ربنا أخده، ربنا دايمًا ياخد الحاجات الغالية الأصيلة!
– البقية في حياتك يا أسطى وحياة العربية الجديدة.
– دي عربية قديمة من أيام سيدنا نوح، لكن ربنا عوضني بيها عن الحصان، وأهي ماشية زي الحصان، مع إنها صفيح في صفيح لا تاكل ولا تشرب ولا تموت، سبحان الله ربنا حط الروح في الصفيح، مش روح واحدة لكن سبع أرواح!
ابنتي ترمق السائق بانتباه، رأسه ملفوف بكوفية بيضاء لها شراشيب حمراء تهتز مع اهتزازات رأسه، تضحك وتمد يدها لتمسك الشراشيب، يداعبها السائق، يشير إلى النيل: شوفي البحر حلو إزاي ما فيش بحر زي ده عندكم في مصر!
الهواء منعش له رائحة الطمي والزرع، دخان القاهرة يتسرب من مسام جسدي وعقلي، حياتي الماضية تتقهقر إلى الوراء ومعها المدينة، كأنما لم تكن لي حياة إلا في هذه البقعة من الأرض، فوق هذا المكان من جسر النيل، في هذه اللحظة الحاضرة الممدودة في الكون إلى ما لا نهاية.
على باب الوحدة تجمع الفلاحون والفلاحات، وانطلقت الزغاريد والأصوات: يا ألف مرحب بالضكطورة! الدنيا نورت من طحلة لكفر طحلة لدجوي والرملة لغاية بنها كمان! دي الضكطورة بتاعتنا، السعداوية بنت السيد بيه، أبوها ربنا يطول عمره أفضاله على الجميع! يا ألف مرحب المجمع نور يا ضكطورة!
كلمة المجمع تعني عندهم الوحدة المجمعة، وهي مجموعة من المباني الجديدة البيضاء، ترقد وسط الزرع مثل حمامات السلام، تشمل الوحدة ثلاثة أقسام: القسم الصحي، القسم الاجتماعي، والقسم التعليمي أو المدرسة.
كان مشروع الوحدات المجمعة الريفية في بدايته عام ١٩٥٦م، أحد مشاريع الثورة، يشرف عليه في القاهرة جهاز إداري ضخم اسمه المجلس الأعلى للخدمات، يرأسه رجل من أعوان جمال عبد الناصر اسمه محمد فؤاد جلال، يحتل القصر الفخم في شارع قصر العيني، خلف البرلمان، أصبح هذا القصر في عهد أنور السادات مقر هيئة جديدة أطلق عليها اسم مجلس الشورى وباللغة العامية الشورة، الشوربة باللغة الشعبية الساخرة، وتعني اختلاط الحابل بالنابل أو الفوضى في الدولة، تطورت إلى كلمة شعبية أخرى «كوسة» ثم بمية، وتعني الفساد وانتشار الواسطة والرشوة.
لم ألتقِ بفؤاد جلال إلا مرة واحدة، في الاحتفال الكبير بتعيين أول فوج من الأطباء، كانوا جميعًا من الذكور، رفض المجلس الأعلى للخدمات تعيين الطبيبات في الريف.
على المنصة العالية يجلس فؤاد جلال من حوله أعضاء المجلس الأعلى، فوق رأسه صورة جمال عبد الناصر، إطارها ذهبي سميك، الجدار تعلوه الزخارف منقوشة بماء الذهب، مقعد فؤاد جلال يشبه كرسي العرش، في هذا المقعد داخل هذا القصر كان يجلس قبل الثورة رجل فوق رأسه صورة الملك فاروق، بعد موت جمال عبد الناصر جلس رجل آخر فوق رأسه صورة أنور السادات، اليوم يجلس في المقعد نفسه داخل القصر نفسه رجل آخر فوق رأسه صورة حسني مبارك.
داخل الإطار الذهبي السميك تتوالى صور الحكام واحدًا وراء الآخر، تعلو الصورة فوق رءوس الرجال، رجلًا وراء رجل، تنحني ظهورهم أمام الصورة، يؤدون لها التحية كعبدة الأصنام، يتحدثون بصوت هامس يخشون أن تسمعهم، يرمقونها بطرف عين كأنما تراهم، يقلدون صاحبها في كل شيء، الصوت والحركة، وحبات المسبحة بين أصابعهم كأنما هي أصابعه، إن كانت عنده لازمة معينة أصبحت لهم، لدغة أو تأتأة أو فأفأة، إن قال والله يقولون والله، وإن قال بسم الله يقولون بسم الله، يبدءون كلامهم دائمًا بهذه الكلمات الأربع: «حسب توجيهات السيد الرئيس.»
من فوق المنصة العالية بدأ فؤاد جلال يخطب: «حسب توجيهات السيد الرئيس بدأنا مشروع الوحدات المجمعة في الريف، في العهد البائد أيها السادة عانى الفلاحون ثالوث الفقر والمرض والجهل، وجاءت الثورة المباركة المجيدة لتنصف المحرومين الكادحين في القرى والنجوع، وهذه هي مهمتنا الأولى في المجلس الأعلى للخدمات، وهي خدمة الشعب!»
وجوه الرجال الجالسين إلى المنصة العالية لا توحي أنهم في خدمة الشعب، وجوههم العسكرية مشدودة كأنما بالأسلاك، البدل من الصوف الإنجليزي مشدودة بالمكواة الحديدية، الأكتاف عريضة محشوة بالقطن، يدسه الترزي في أكتاف الرجال لتصبح أعرض من الحقيقة، وكانت أمي تدسه في أكتاف العريس، نلعب به ونحن أطفال، الدمى نتفرج عليها في مسرح العرائس، أكتافهم المحشوة وأعناقهم المشدودة إلى أعلى بالخيوط.
كانت القاعة مليئة بالأطباء، صدر القرار بتعيينهم في الوحدات المجمعة، ثلاثمائة طبيب أو أكثر، رءوسهم محلوقة، أكتافهم مدكوكة، والكتف تلاصق الكتف.
انتهى فؤاد جلال من إلقاء خطبته، دوت القاعة بالتصفيق، كان التصفيق واجبًا وطنيًّا، يؤكد به الإنسان ولاءه للحكومة، إن لم ترتفع اليدان بهذه الحركة التصفيقية، أو إن جاءت الصفقة فاترة، رمقته العيون بالشك، قد يسقط اسمه الثلاثي من أهل الثقة، ليدخل في قائمة أخرى بوزارة الداخلية.
توالت الخطب من أعضاء المجلس الأعلى، أربعة عن يمين الرئيس وأربعة عن يساره، سقطت جفوني في إغفاءة، عاد إليَّ كابوس الامتحان يكاد يشبه امتحان الهيئة في الجيش، الكلية الحربية لم تكن لها علاقة بالحرب، يتخرج الضابط أحد الوجهاء، لا تربطه بالحرب إلا البدلة العسكرية، يزهو بها أمام البنات، كتفاه المحشوتان تلمع فوقهما النجوم، جلست في الامتحان أمام رجلين من أعوان فؤاد بيه، الأول اسمه محمد بيه والثاني اسمه مصطفى بيه، متشابهان كالتوءمين، أحدهما أبيض البشرة، والثاني داكن السمرة، نسخة من الكربون.
– اليوزباشي السعداوي قريبك يا دكتورة.
– ليس في عائلتنا أحد يوزباشي.
– وكفر طحلة تبقى فين يا دكتورة؟
– في محافظة القليوبية.
– يا دكتورة نوال العمل في الريف صعب وأنت طبيبة ممتازة بلا شك، لكن مهما كنت فأنت من الجنس اللطيف، مش كده يا محمد بيه؟
– طبعًا يا مصطفى بيه الدكتورة نوال من الجنس اللطيف.
صوته وهو ينطق كلمة اللطيف رقيق، أكثر رقة من صوت النساء، يده يحركها في الهواء أصغر حجمًا من يدي، أنامله أكثر نعومة من أناملي، بشرته بيضاء متوردة بالحمرة كوجوه العذراوات، يرتدي قميصًا حريريًّا له أزرار ذهبية لامعة، كنت أرتدي قميصًا من تيل المحلة السميك، بشرتي سمراء محروقة بالشمس.
– والجنس اللطيف يا محمد بيه لا يمكن يتحمل خشونة الحياة في الريف بدون كهرباء ولا مياه نقية من الحنفية … مش كده ولا إيه؟
– أيوه كده يا مصطفى بيه، وعندي سؤال لك حالة مستعجلة في نص الليل تقدري تخرجي في الظلمة؟ ما تخافيش الديابة تأكلك في الطرق الزراعية؟ وإذا الكعب العالي انغرز في الطين أو كوم السباخ تعملي إيه يا دكتورة؟
كنت أرتدي حذائي الجلدي الأسود، كعبه مربع سميك يشبه كعوب الكادحين من الرجال، مدقوقة فيه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، يعلوه تراب الشوارع من الجيزة إلى شارع قصر العيني، سمعتهما يضحكان بخلاعة موظفي الحكومة في غيبة رئيسهم، وميوعة الأزواج في غيبة زوجاتهم، أحدهما أبيض له وجه عرائس المولد والثاني داكن السواد رغم الاختلاف في اللون ملامحهما متشابهة، كأنما الحكومة تصكهم كما تصك النقود، يصبح الواحد منهم باهت الملامح كالقرش الممسوح.
أفقت على صوت التصفيق يرج القاعة، انتهت الخطب، وارتفع صوت من فوق المنصة يقول: أهناك أسئلة يا حضرات الدكاترة؟ دب الصمت، لم يتقدم أحد، لم أسمع إلا الأنفاس المكتومة، رأيت يدي ترتفع، صوتي ينطلق وحده يطلب الكلمة، تفضلي يا دكتورة، وجدتني أسير إلى الميكروفون، لمحت العيون ترمقني، تترقب ماذا أقول، الضربات تحت ضلوعي قوية متصاعدة، الغضب المتراكم يتجمع في حلقي، أبتلعه وأتكلم بصوت أبي الهادئ، أعدت إلى ذاكرتهم مبادئ ثورة يوليو، العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، ثم تساءلت: لماذا لم تُعَيَّن الطبيبات في الوحدات المجمعة مثل الأطباء؟ قلت إنني من قرية اسمها كفر طحلة، تخرج فيها النساء كل يوم قبل الفجر، يشتغلن بالفئوس في الحقول، في صقيع البرد وتحت لهيب الشمس، عند الغروب يرجعن إلى البيوت، يطبخن ويغسلن ويخبزن، لا يأكلن إلا بعد أن يأكل الجميع، يرتدين في الصيف والشتاء جلبابًا واحدًا، يمشين في الطرق الزراعية حافيات، وتساءلت: أليست هؤلاء النساء ينتمين إلى الجنس اللطيف؟!
بعد انتهاء الحفل هب فؤاد جلال من فوق المنصة، الموظفون يحيطون به من كل جانب، رآني واقفة وسط الأطباء، أقبل نحوي وصافحني: أعجبتني كلمتك يا دكتورة نوال، سيصدر قرار تعيينك في وحدة طحلة المجمعة، يمكنك الحضور إلى مكتب الدكتور عبده سلام غدًا لاستلام القرار.
كالحمامة البيضاء وسط الحقول الخضراء، كان بيتي الجديد الصغير من دورين، يسميه الفلاحون «الفيلا» بحرف الفاء، وليس الڨاء، وليس ذات النقط الثلاث، لا توجد باللغة العربية هذه الحروف اللاتينية، يصعب على المصريين نطقها (مثل الباء الثقيلة)، كان بالوحدة المجمعة ثلاث فيلات (ڨيلات) متشابهات، الأولى قريبة من البوابة يسكنها الاختصاصي الاجتماعي، إلى جوارها الثانية مخصصة لناظر المدرسة، كانت خالية لأنه يسكن في القرية مع أسرته، الڨيلا الثالثة للطبيب، أصبحت هي بيتي، تتكون من صالة الاستقبال ومائدة الطعام والمطبخ في الدور الأول، في الدور الأعلى غرف النوم والحمام، وشرفة تطل على الحقول الممدودة إلى الأفق.
أول يوم دقت بابي امرأة فلاحة فارعة القامة مرفوعة الرأس ذكرتني بجدتي أم أبي، ربطت حمارتها البيضاء أمام البيت، دقت الباب بكفها الكبيرة المحروقة بالشمس، جلبابها الأسود الطويل والرائحة ذاتها، خليط من الزرع والجميز والذرة المشوية وخبيز الفرن، الضحكة نفسها حتى تدمع عيناها السوداوان اللامعتان، وطرف الطرحة السوداء تخفي بها فمها المملوء بالضحك والعبارة بالصوت نفسه: الله اجعله خير يا رب!
اسمها أم إبراهيم، قالت لي حين دخلت من الباب: «يا ضكطورة نوال احنا قرايب من ناحية المرحومة ستك الحاجة مبروكة وأنا وحيدة، العيال كبروا وتركوا الدار، والراجل راح مطرح ما راح، خديني عندك في البيت أخدمك إنتي والمحروسة بنتك بعيني الاتنين.»
أعطيتها لقب «دادة أم إبراهيم»، ومفاتيح البيت والدولاب وابنتي الطفلة، وماهيتي الشهرية، ومفكرتي السرية، علمتها القراءة والكتابة، أصبح عندها ساعة يد كبيرة ونوتة صغيرة تدون فيها المصاريف والمواعيد، اشتريت لها جلابيب ملونة، ومناديل بيضاء تربط بها شعرها الأسود الطويل، تضفره على شكل ضفيرة واحدة، تهتز وراء ظهرها المرفوع حين تمشي، خطوتها فوق الأرض قوية، تدب بقدمها الكبيرة وصوتها يملأ البيت بالفرح: نهارنا أبيض يا ضكطورة زي الشهد!
روائح الفل والياسمين تملأ الجو، زرعت ثلاث شجرات في الحديقة الصغيرة أمام البيت، واحدة فل، والثانية ياسمين، والثالثة شجرة اليوجانفيليا الحمراء، دم الغزال، كنت أنام في غرفة النوم الكبيرة إلى جواري تنام ابنتي في سريرها الصغير الهزاز، في الغرفة الثانية تنام أم إبراهيم، تصحو مع زقزقة العصافير عند الفجر، تسخن لي صفيحة الماء في الحمام، تهبط إلى المطبخ، تجهز الفطور والشاي، حين يلتصق العقربان داخل قرص الساعة فوق الرقم سبعة، تهتف من الدور الأول، صوتها يصلني في الدور الأعلى وأنا غارقة في النوم: «الساعة سبعة يا دكتورة، صباح الخير، النهاردة الشمس طالعة والزرع فتح، يا حلاوة النورات يا دكتورة.» تفتح نوافذ البيت، تفتح الشرفة المطلة على المزارع، تدخل الشمس حتى السرير، وأنا نائمة، تفتح النافذة في الصالة المطلة على مباني الوحدة، تهتف بصوتها المرح: «صلاة النبي أحسن الطوابير مالية المجمع، العيانين واقفين على باب الوحدة من الفجر، قومي يا ضكطورة، الشامي جاهز وسخنت لك فطيرة في الفرن!»
أخرج من البيت في الثامنة صباحًا، أخترق الحديقة والمزرعة الخاصة بالوحدة، أسير تحت التكعيبة إلى العيادة الخارجية، كل شيء في غرفة الكشف الطبي جاهز، التمورجي عبد الفتاح واقف كالألف عند الباب داخل المريلة البيضاء الطويلة، جسمه لا يكف عن الحركة، كالسهم ينطلق، كالسهم يعود، كل شيء تحت يديه يتحول من الفوضى إلى نظام، طوابير المرضى والمريضات تصبح خطوطًا مستقيمة، قد يصل عددهم إلى مائة أو أكثر، النظام يجعل كل شيء ممكنًا، أنتهي من العيادة الخارجية في ثلاث أو أربع ساعات، أصعد إلى الدور العلوي حيث القسم الداخلي وغرفة العمليات، دربت الممرضات الثلاث على العمل، أكثرهن نشاطًا كان اسمها «زينات»، تخرجت من مدرسة التمريض الملحقة بمستشفى قصر العيني، أعطيتها لقب الحكيمة، كانت تسكن مع الممرضات في القسم الخاص المواجه للقسم الداخلي، امرأة في الثلاثين من عمرها، لم تتزوج، متوسطة القامة، بيضاء البشرة، عيناها خضراوان مستديران تشبهان عيون القطط، تلمعان في الليل، تمر على المرضى، في يدها كشاف كهربي صغير، حول شعرها الملفوف «الكاب» الأبيض، فوق ثوبها القصير حتى الركبتين المريلة البيضاء المربوطة حول وسطها بحزام رفيع.
كان معي في الوحدة عدد من الموظفين الرجال، دربت أحدهم على أعمال الصيدلية وقراءة الروشتة وصرف الدواء، دربت موظفًا آخر على أعمال الثقافة الصحية، والمرور على البيوت في القرى التابعة للوحدة، يشرح لهم وسائل الوقاية من مرض البلهارسيا والإنكلتوستوما أو الملاريا، الأمراض المتوطنة والأمراض المعوية التي تصيب الأطفال، يسكن في القرية مع زوجته وطفلين، تخرج من المعهد الصحي، كان قصير القامة ممتلئ الجسم يرتدي بدلة وكرافتة مثل الموظفين في الحكومة.
يوم السبت كان يوم العمليات الجراحية وهو أول يوم في الأسبوع، يوم الخميس كان للمرور على البيوت، وبقية الأيام للعيادة الخارجية، يوم الجمعة هو إجازتي، أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، أدفع عربة الأطفال أمامي ذات الكبوت، يطل منها وجه ابنتي، عيناها العسليتان تلمعان بالضوء، بشرتها البيضاء متوردة بالصحة، تضحك بصوت يشبه الزقزقة، تقبض بأصابعها الصغيرة على يدي حين أرفعها من العربة، أحملها عاليًا فوق رأسي لترى النيل.
في منتصف الليل سمعت الدق على باب بيتي، كان هو التمورجي عبد الفتاح، واقفًا في الظلمة كالسهم الأبيض داخل مريلته الطويلة، رأسه الأصلع يلمع تحت ضوء القمر، يسكن في القرية مع زوجته وأطفاله الثلاثة، يأتي إلى الوحدة عند الفجر، لا يغادرها حتى منتصف الليل، يعرف المرضى واحدًا واحدًا باسم الأب والجد.
– محمود ابن الحاج حسنين من دار أبو هشام جابوه دلوقتي من الكفر حالته متأخرة أوي يا ضكطورة.
– عنده إيه يا عبد الفتاح، أنت دلوقتي بقيت أحسن مني في تشخيص الأمراض!
– العفو يا ضكطورة، أنا آجي إيه جنب سعادتك، جايز يكون المصران الأعور أو حصوة في الكلية اليمين، عنده مغص شديد أوي وجسمه سخن نار!
– افتح أوضة العمليات وجهز كل حاجة إنت والحكيمة زينات وأنا جاية حالًا.
بعد دقائق كنت أجتاز الحديقة الصغيرة والمزرعة، جسمي الطويل النحيف يندفع داخل المعطف الأبيض، في يدي كشاف نور على شكل مسدس، أشق به الظلمة، على باب غرفة الكشف رأيت القبيلة من آل أبو هشام، الأم داخل جلبابها الأسود الطويل، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، تمسح عينيها بطرف الطرحة: ربنا يخليكي يا ضكطورة، محمود ابني ماليش غيره هو الوحيد على ست بنات، إلهي ربنا يحط في إيدك البركة، إلى جوارها يقف الأب حسنين داخل قفطان طويل وعمامة كبيرة حول رأسه، من حولهما حشد من العائلة الكبيرة الممدودة من كفر طحلة، يتطلعون نحوي في رهبة كأنما أنا الإله الشافي.
بعد الفحص الطبي أصبحت داخل غرفة العمليات، داخل المريلة المعقمة الطويلة، وجهي اختفى وراء القناع من الشاش، شعرت بالراحة لهذا الاختفاء، في أعماقي شيء من التردد، في الطب لا يكون التشخيص أبدًا مائة في المائة، ليس عندي جهاز أشعة، وسائل التشخيص الحديثة غير موجودة، أعتمد فقط على أصابعي، وحواسي الخمس، وحاستي السادسة، مع خيالي الفني، في كلية الطب لم نتعلم الجراحة، في سنة الامتياز دربت نفسي على بعض الجراحات الصغيرة، اختلست من وراء الأستاذ أو النائب عملية فتاق أو إجهاض أو عملية لوز أو مصران أعور في أحسن الحالات، كان المشرط يثبت في يدي دون رعشة، تعودت الإمساك به في سنوات المشرحة، فتح بطن الميت ليس مثل فتح الإنسان الحي، الأحشاء الميتة خالية من الدم مملوءة بالفورمالين، فاقدة الحركة، كنت أقطع فيها بالمشرط دون وجل، وأغور في بطن الجثة الميتة دون أن يهتز لي جفن.
أول مرة فتحت بطن إنسان حي أصابتني الرجفة، لأول مرة تلمس أصابعي الأحشاء المتحركة النابضة بالحياة، الاهتزازة من طرف المشرط تجعل الدم كالنافورة الحمراء، كالموجات الكهربية الصاعقة، لا أعرف من أين تتفجر ومتى تتوقف، لها سرعة أشد من الضوء، وأشد من الأحمر القاني.
أنفاسي كانت تلهث أمام حركة الدم في الجسد الحي، كأنما للدم حياة خاصة مستقلة عن الجسد، مادة أخرى غير جسدية، أشبه بالروح السائلة المتدفقة دون توقف، أمد يدي إليها أمسكها، أوقفها، أسدها عند الفوهة، أقاومها بكل قوتي، وهي تقاومني، صراع بيني وبين هذا الخرطوم المنطلق في وجهي مثل لسان اللهب.
كان الدم هو الروح المقدس عن المصريين القدماء، الحياة سرها يكمن في الدم، هكذا قال أبو قراط، جسد الإنسان يتكون من الدم أساسًا، وعناصر أخرى ثانوية كالماء والصفراء والملح، إذا مرض الدم مرض الجسد كله، إذا مات الدم مات الإنسان.
– عرق!
إنه صوتي يرن في غرفة العمليات، يشبه صوت أستاذ الجراحة في الكلية، كان اسمه الدكتور أحمد أبو ذكري، تبرز قطرات العرق فوق جبهته العريضة، يرفع وجهه من فوق البطن المفتوح الغارق في الدم، تمتد يد الحكيمة الممسكة بقطعة من الشاش، تمسح عن جبينه العرق قبل أن يتساقط في الجرح.
– عرق!
انتفضت الحكيمة زينات الواقفة إلى جواري، أمسكت قطعة من الشاش المعقم، مسحت العرق عن جبهتي، لم تكن لحسن الحظ تسمع الدقات المتصاعدة تحت ضلوعي، كأنما البطن المفتوح أمامي هو بطني أنا، وهذا الدم المراق تحت يدي هو دمي، وهذه الأمعاء التي تنقبض وتنبسط هي أمعائي.
هل كان المصران الغليظ محشوًّا بالفطير المشلتت والبطة المحشية بالفريك؟! أطعمت الأم ابنها محمود حتى لكمته، كان في زيارة للقرية في إجازة العيد، هو طالب في الأزهر بالقاهرة، عمره عشرون عامًا، الوحيد على نصف دستة من البنات، أرقب البالونة في جهاز التخدير، تنقبض وتنبسط مع حركة الرئتين والقلب، أقلد حركة الدكتور أحمد أبو ذكري، أشمخ بأنفي العالي المطل من فوق القناع.
– عرق!
صوتي العالي يزعق مع أنفي الشامخ، لا شيء يخفي الرعب إلا الصوت الزاعق والأنف الشامخ، أيمكن أن تتوقف هذه البالونة عن الحركة؟! لماذا لم أرسله مع أمه إلى مستشفى بنها المركزي؟ لم يكن في الوحدة سيارة للإسعاف، لا شيء يمكن أن يركبه إلا الحمارة أو الدراجة بدون فرامل، قديمة صدئة يملكها طباخ الوحدة، كنت أستعيرها منه أحيانًا لإسعاف الحالات الطارئة في البيوت، أرسلت إلى المجلس الأعلى في القاهرة أطلب سيارة، لم يرد المجلس الأعلى، أرسل إليَّ بعد عام كامل سيارة قديمة على شكل «البوكس»، تمشي يومًا وتتعطل شهرًا، أصبحت الحمارة تجر السيارة، أمام القصر الفاخر في شارع قصر العيني كنت أرى السيارات الفاخرة الطويلة، يركبها كبار الموظفين في المجلس الأعلى، لكل واحد منهم سيارة أو سيارتان، واحدة للعمل العام والثانية للعمل الخاص.
– عرق!
البالونة لا تزال تتحرك والحمد لله، تذكرت الله في هذه اللحظة: يا رب أنقذ محمود من الموت، أنت يا رب الذي تحيي وتميت، كل شيء بإرادتك، لماذا أتدخل في إرادتك العليا وأنقذه من الموت؟ كان يمكن أن أرسله إلى مستشفى بنها على ظهر الحمارة؟ إذا مات في الطريق فهي مسئولية وخلعتها على الله.
أصابعي حول المشرط ثابتة تقطع المصران الملتهب، كيف ظل المشرط في يدي ثابتًا؟ في أعماقي صوت أمي ينتشلني من الغرق: نوال ترميها في النار ترجع سليمة، نوال أشطر واحدة في الدنيا! تيار من الثقة بالنفس اندفع في عروقي كالروح تدب في الجسد، أمسكت المصران الأعور بين طرفي الملقط، رفعته عاليًا لتراه عيون الحكيمة والممرضات، كان متضخمًا منتفخًا يقطر دمًا، ألقيت به في الجردل مع الفوط والشاش والدم المتجمد.
أفاق محمود من البنج بعد ساعة أو أكثر، أول كلمة نطقها كانت «آه»، رنت في أذني أعذب من لحن الحب الأول، فتح عينيه ورآني إلى جواره، عيناه واستعان «والنني» أزرق أجمل من زرقة السماء، أغمض عينيه فاتحًا شفتيه، تصورت أنه يلفظ النفس الأخير، نجحت العملية لكن المريض مات، هكذا كنت أسمع من أساتذة الجراحة.
– أمه!
خرجت هذه الكلمة من بين شفتيه المنفرجتين، كلمة «أمه» باللغة الريفية تعني أمي، لا ينادي الإنسان على أمه إلا لحظة الموت، أو لحظة البعث إلى الحياة بعد الموت، يوم القيامة لا يحمل الناس إلا اسم الأم، يندثر اسم الأب في التاريخ مع زوال الدنيا الفانية والنفاق، مهما ارتفع الأب إلى مصاف الإله تظل الأبوة غير مؤكدة وهشة تذروها الريح.
ضحكت الحكيمة زينات وهي تلمس شفتيه الجافتين بقطعة من الشاش المبللة بالماء: عاوز أمك يا محمود؟ أهي واقفة برة على الباب هي وأبوك الحاج حسنين وأخواتك وخالاتك وعماتك وأعمامك وكل أهل الكفر قاعدين في الحوش ومعاهم حميرهم كمان يا سيدي!
مرت أربعون سنة من هذه اللحظة، انفرجت الشفتان الباهتتان عن ابتسامة واهنة، هي أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي، لا أنساها هذه الابتسامة، الوجه الشاحب يسري فيه الدم بالتدريج، والشعر الأسود الناعم الغزير، خصلة ساقطة فوق الجبهة البيضاء بلون الشهد، أمه سمراء سوداء العينين، أبوه أشد سمرة، عيناه أشد سوادًا، من أين جاءته زرقة العينين والبشرة البيضاء؟!
– يمكن يا زينات كان له جد أبيض أو جدة عيونها زرقاء ورث عنها الجينات.
– جينات يعني إيه يا دكتورة؟
– حاملات الوراثة في الخلية.
– لأ يا دكتورة مش الجينات دي الجنيات، لازم أم محمود كانت جنية من جنيات البحر لافت على واد حليوة أبيض وعيونه زرق!
أطلقت أم محمود زغرودة طويلة حادة اخترقت السحب حتى السماء السابعة، مثلًا هذا الصوت لا يصدر إلا عن جنية بنت جنية، امتدت الزغاريد من طحلة إلى كفر طحلة إلى دجوي والرملة حتى مدينة بنها، كان الشفاء من المرض عند الفلاحين والفلاحات كالبعث من الموت، كان الموت كثيرًا والشفاء قليلًا ينتهز الناس فرصة نهوض أحدهم بعد الرقاد ليفرحوا وتنطلق الزغاريد، أو فرصة موت أحدهم ليحزنوا يلطمون الخدود يشقون الجيوب، الفرح والحزن كلاهما نشاط جمعي، لا يتخلف عنه أحد، يتوزع الحزن والفرح على الجميع، فيخف الحزن أو يشمل الفرح كل البيوت.
مع الزغاريد انطلقت الدعوات من أفواه الرجال والنساء: إلهي يحميكي يا ضكطورة نوال، إلهي يطول عمرك يا رب، إلهي ينصرك على أعدائك دنيا وآخرة. بعد الغروب يجلس الرجال على المصاطب، يشربون الشاي والمعسل، يكركرون بالجوزة ويتسامرون.
– الضكطورة بنت بلدنا، ربنا وضع البركة في إيدها، يا سلام يا جدعان، سبحان الله! أهي الضكطورة دي واحدة من الحريم! أي والله صحيح قلنا كده وأكثر من كده كمان، لكن دلوقتي إيه اللي حصل يا جدعان؟ طابور الرجالة على باب أوضة الكشف بقى أطول من طابور النسوان!
يضحكون في هدأة الليل، يكركرون بالضحك مع كركرة الجوزة، تتوهج الشعلة تحت النسمة، تتضاحك النسوة المتربعات في مدخل الدار أو فوق جسر النيل.
ما يدور على ألسنة الناس تنقله إليَّ دادة أم إبراهيم، لم تكن الكهرباء دخلت هذه القرى، الظلمة في الليل دامسة، في البيت توقد أم إبراهيم الفانوس، أقرأ عليه وأنا في السرير، أصبحت عندي مكتبة، رفوفها من الخشب تصعد حتى السقف، تطل منها الكتب القديمة والجديدة في الطب والفلسفة والأدب والتاريخ والفن، ألتهم الكتاب وراء الكتاب باللغة العربية والإنجليزية، لم تنقطع صداقتي بالزميلات القديمات، أولهن سامية وزوجها الدكتور مصطفى المدير أو نائب المدير، في ميدان الدقي، كانت الدكتورة بطة «كاميليا»، وزوجها الدكتور حمدي الأستاذ بقصر العيني، أصبحت بطة تقود سيارة «بويك»، تأتي بها أحيانًا إلى القرية، قد تحمل معها صفية وسامية، قد يأتي معهن أزواجهن، تمتلئ «الفيلا» بالضيوف، لا يكف الأهل والأقارب عن زيارتي من القاهرة والقرية، تتألق أم إبراهيم بالفرح، يتصاعد صوتها من الدور الأول إلى الثاني، تتصاعد معه رائحة الفطير المشلتت، والملوخية بالأرانب أو الحمام المحشي بالفريك.
حين لا يأتينا زوار يصبح البيت هادئًا، أحب الهدوء بعد الضجيج، أعشق الدخول إلى سريري، معي كتاب أو رواية جديدة أو قصة أكتبها لإحدى المجلات، أو مفكرتي السرية أدون فيها مذكراتي، قد أحمل ابنتي من سريرها لتنام في حضني، تأتي أم إبراهيم بالطشت المليء بالماء الساخن والملح تدلك قدمي وساقي، تقدم لي الينسون المغلي، المغات، أو السحلب، الأعشاب تلمها من الغيطان، تغليها في الماء على النار، تصبها في كوب الفخار على شكل السلطانية يتصاعد منها البخار.
بعد الغروب في القرية تهبط الظلمة، أخرج لأتمشى على جسر النيل، أشهد قرص الشمس ينحدر في الأفق البعيد، تنعكس صورته في الماء، تتلون السماء، تتجسد السحب بأشكال لا حدود لها، وألوان بلا نهاية، تتغير وتذوب حتى آخر قطرة، يهبط الظلام كالعباءة السوداء تخفي القرية.
أحيانًا أرتدي المعطف الأبيض وأمر على البيوت مع الممرضات والحكيمة زينات، نجلس مع الرجال على المصاطب، أو مع النسوة في مدخل الدار، إذا أردت التنكر أرتدي جلابيب الفلاحات، أربط رأسي بمنديل أسود من حوله الطرحة السوداء، أمشي في الأزقة لا يتعرف عليَّ أحد، يواصل الرجال أحاديثهم فوق المصاطب دون أن يقطعوا الحديث أو ينهضوا وقوفًا هاتفين: «يا ألف مرحب بالضكطورة، اتفضلي، الدنيا نورت، هات الشاي يا ولد، حصلت لنا البركة.» كنت أحب هذه الجولات الحرة، أملك الطريق، لا يستوقفني أحد، لا يعرفني أحد، أمشي كما يحلو لي المشي، بلا اسم، يداي فارغتان أفتحهما، ذراعان أفردهما عن آخرهما، أعانق بهما جسمي والكون، لحظات الحرية والسعادة، أنسى من أنا وماذا أكون، وأتذكر كل شيء، فأعرف من أنا وماذا اكون، كأنما الذاكرة كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
المدرسة في الوحدة كان لها ناظر اسمه الأستاذ عبد المنعم، أشيب الشعر قصير القامة، يرتدي بدلة إفرنجية وطربوشًا، في أيام الإجازات يرتدي الجلباب، فوقه العباءة في الشتاء وكوفية رمادية، يتحدث عن أبي باحترام وإجلال: السيد بيه السعداوي راجل عظيم لو كان فيه عشرة زيه في البلد كان التعليم انصلح.
الاختصاصي الاجتماعي حسب اللائحة كان المسئول الإداري عن الوحدة، اسمه الأستاذ خير الله، له صلعة كبيرة يحوطها شعر أسود خشن على شكل دائرة فوق منتصف رأسه، بشرته تميل إلى الشحوب أو الصفرة، له أنف كبير مقوس، شاربه أسود يمتد فوق شفته العليا، يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، كرجال المباحث السرية.
لم تكن الصحف والمجلات تصل إلا بالبريد، متأخرة شهرًا أو شهرين، لا أعرف ماذا يدور في العالم إلا راديو صغير بالبطاريات، تقول عنه أم إبراهيم «الراديون» تذكرني بستي الحاجة حين تقول: افتحي الراديون يا ضكطورة عاوزة أسمع أم كلثوم، كانت مثل ستي الحاجة تحب أغنية: مدام تحب بتنكر ليه ده اللي يحب يبان في عينيه.
سألتها كما سألت جدتي وأنا طفلة: هل عرفت الحب؟ رمقتني بعينيها السوداوين الغائرتين تحت جبهة عريضة سمراء حرقتها الشمس: «أيوه يا ضكطورة حبيت زي كل الناس.» كانت واقفة عند باب الشرفة تحمل طفلتي بين ذراعيها، تهدهدها، صوتها المرح يغني مع أم كلثوم، طويلة فارعة القوام مملوءة بالشباب، ذراعاها قويتان ترفعان الطفلة حتى السماء دون عناء، جلبابها الطويل من الكستور المشجر ينسدل فوق جسمها الممشوق حتى القدمين.
– حبيتي مين يا دادة أم إبراهيم؟
– حبيت ربنا سبحانه وتعالى وحبيت سيدنا محمد ألف صلاة عليه وحبيت الإمام الشافعي والسيدة زينب وستنا مريم العدرا.
– قصدي الحب التاني يا أم إبراهيم.
– الحب التاني أنهوه يا ضكطورة؟
– اللي بتغني له أم كلثوم.
توقف جسمها عن الحركة فجأة، عيناها كستهما سحابة، تجاعيد ظهرت فوق جبهتها العريضة، تقلصت الابتسامة فوق شفتيها، شدت منديلها حول رأسها، عقدته ثلاث عقدات عند منتصف الجبين، بدت في الخمسين مع أنها لا تزال في الثلاثين أو الأربعين.
– وراني المر يا ضكطورة خمسة وعشرين سنة، خلفت منه الولدين والبنتين، لولا ربنا أخده كنت ضربته بالفاس وخلصت منه.
– وراكي المر إزاي يا أم إبراهيم؟
– «كان يضربني كل ليلة، لا يمكن تفوت ليلة من غير ما يضربني بفلقة الحمارة، من غير سبب والله يا ضكطورة، أصل الضرب ده عادة في بلدنا من ليلة الدخلة لازم العريس يضرب عروسته عشان تعرف إن الله فوق وجوزها تحت، وراني المر يا ضكطورة من أول ليلة لآخر ليلة خمسة وعشرين سنة، كنت عيلة صغيرة ألعب مع العيال، بزازي ما طلعوش، والعادة ما جاتنيش، ويا لا هوب مسكوني وجوزوني أبو إبراهيم، وهربت منهم في الجرن، لكن الولية الداية الآرحة مسكتني هي وأمي وخالتي وعمتي، وكتفوني زي الفرخة، وخبوا راسي بالبشكير عشان أبو إبراهيم ياخد وشي، نزف الدم يا ضكطورة وكنت هاموت وبدل الجوازة تبقى جنازة.»
صوتها يذكرني بالمرحومة جدتي، كنت طفلة أجلس إلى جوارها في صحن الدار وهي تنقي الغلة، اليوم أنا الطبيبة في القرية، لا تزال هذه العادة موجودة، ليلة الزفاف تُفض بكارة العروس بإصبع الداية أو العريس، يشق بظفره المدبب غشاء البكارة، يتلقى الدم الأحمر فوق البشكير الأبيض، يرفعه عاليًا لتراه العيون المجتمعة في الحفل، تنطلق الزغاريد من حلوق النساء، يرفع والد العروس رأسه في زهو، لم يعد له زهو في حياته المُرة إلا دم ابنته العذراء، إن لم ينزف الغشاء ليلة الزفاف يضيع شرف الرجل، لا يسترد شرفه إلا بإراقة دم ابنته، منذ نشوء الزواج في التاريخ أصبح لدم المرأة دور ثلاثي تجاه شرف الرجل: (١) إثباته (٢) إنكاره (٣) استرداده. ليس للرجل دور فيما يخص شرفه، الرجل لا يعيبه إلا جيبه، إذا امتلأ جيبه بالفلوس أصبح شريفًا، لا يتعلق شرف الرجل بسلوكه بل بسلوك بناته ونسائه: «يا أم إبراهيم لازم العادات دي تتغير.»
– «يا ريت يا ضكطورة يا ما بنات نزفوا الدم ليلة الدخلة وبنت عمي ماتت موت، دفنوها ليلة فرحها، كله من الدايات يا ضكطورة.»
الدايات؟ رنت في أذني الكلمة، أضاءت نقطة ضوء، أيمكن الوصول إلى هؤلاء الدايات، كانت الداية هي الحكيمة في القرية، مثل حلاق الصحة، يقوم بعمل الجراحات الصغيرة، فتح الدمامل والخراريج، خلع الأسنان، طهارة الأولاد، والداية تقوم بطهارة البنات، كلمة «الطهارة» باللغة العامية تعني «الختان».
في كلية الطب لم ندرس شيئًا عن العادات الصحية الضارة المنتشرة في الريف والمدن منها عادة ختان الذكور والإناث، تخرجت طبيبة دون أن أعرف شيئًا عن «البظر» أو غشاء البكارة، بدأت أعلم نفسي بنفسي، أحضر مع أم إبراهيم الأفراح والمآتم، أشهد حفلات الزواج، فض غشاء البكارة، ختان الأولاد والبنات، لم تكن الدايات وحلاقو الصحة يرحبون بوجودي، في يوم رأيت حلاق الصحة يعطي حقنة في فخذ امرأة فلاحة دون أن يرفع جلبابها «إزاي تعمل كده يا راجل؟» «أعمل إيه يا ضكطورة أصلها مكسوفة ومش عاوزة وركها يتعرى!» في إحدى عمليات الختان لطفل عمره ثمانية أيام بتر حلاق الصحة رأس القضيب، نزف الطفل، كاد أن يموت لولا أن نقلناه بسرعة إلى الوحدة، تم إيقاف النزيف، بقي بالقسم الداخلي حتى التأم الجرح، لكن القضيب ظل بلا رأس، في إحدى حفلات الزفاف ثقب ظفر العريس مثانة العروس وهو يفض بكارتها، حملوها فوق الحمارة بعد منتصف الليل، أتوا بها إليَّ وهي بين الحياة والموت.
النزيف الناتج عن ختان البنات كان شائعًا، تلوث الجرح شيء طبيعي، لم يكن لدى الدايات من وسائل تطهير الجروح إلا تراب الفرن.
يوم الخميس كان المرور على البيوت، تخرج فرقة الممرضات مع المثقف الصحي، يتحدثون مع النساء والرجال عن وسائل الوقاية من الأمراض، البلهارسيا والإنكلستوما والملاريا والدرن الرئوي، أضف إليها الأمراض الاجتماعية: ختان الذكور والإناث، فض غشاء البكارة، بدأ حلاقو الصحة والدايات يحاربون فريق الثقافة الصحية، عقدت لهم اجتماعًا في الوحدة، بدأت برنامجًا من الندوات في القسم الصحي لرفع الوعي لدى الدايات وحلاقي الصحة، كنت كمن ينفخ في قربة مقطوعة، وقالت أم إبراهيم: «ومنين ياكلوا يا ضكطورة إذا ما كانش فيه طهارة ولا أخد وش العرايس؟»