الاعتداء الثلاثي
صوت جمال عبد الناصر يدوي في الراديو: سنقاتل، سنقاتل! كان الاعتداء الثلاثي قد وقع في ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م، الجيوش الثلاثة ضربتنا من البر والبحر والسماء، إسرائيل وإنجلترا وفرنسا، بدأت المقاومة الشعبية في القاهرة، تطوعت سامية ورفاعة وأسعد شقيق صفية، صوت جمال عبد الناصر في الإذاعة يحث الشعب على القتال، منذ الطفولة أحلم بجبهة الحرب، تلوح لي في النوم كأنما هي الحب، أرتدي بدلة الصاعقة أضرب العدو أحرر الوطن، أهتف بصوت أبي: تحيا مصر حرة!
خلعت معطف الأطباء وارتديت بدلة حرب العصابات، نسيت ما حدث للفدائيين قبل حريق القاهرة، كان ذلك أيام الملك والحكومة الخائنة، اليوم أصبحت الحكومة وطنية، جاءنا من مدينة بنها بعض رجال الجيش، تحولت الوحدة إلى معسكر للتدريب على السلاح، تطوع الممرضون والممرضات، تكونت فرقة الإسعافات الأولية، ارتفع علم مصر فوق مباني الوحدة البيضاء، في الليل أجلس في الشرفة أتطلع إلى النجوم، أطرز في ضوء القمر الحروف فوق بدلة الصاعقة: «سنقاتل حتى النصر»، منذ عشر سنوات في حلوان وقفت في نافذة المدرسة الثانوية، إلى جواري زميلاتي فكرية وفاطمة وصفية، نطرز فوق البادج الكلمتين: «الجلاء بالدماء»، فوق أصابعي أستعيد خدوش السلسلة الحديدية، وضربات المسطرة الحادة، وصوت الناظرة يهددني بالطرد، في قلبي جرح لم يلتئم، وجه الشهيد أحمد المنيسي، وصوت أحمد حلمي يأتيني كأنما من قاع البئر: «تركونا وحدنا نواجه مصيرنا تحت الرصاص وأصبحوا هم الأبطال، أما نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا فقد أصبحنا مطاردين مثل المجرمين.»
تراني أم إبراهيم داخل المعسكر فوق كتفي البندقية، تمسح دموعها بطرف طرحتها السوداء: «مالك وماللحرب يا ضكطورة، قطيعة تقطع الحرب واللي جابوها، قلبي انكوى من الحرب تمان سنين، ابني البكر إبراهيم راح فلسطين، كان مع جمال في الفلوجا، كل ليلة أشوفه في المنام، يقولي أنا راجع يامه، تمان سنين يا ضكطورة ما اعرفش إن كان ميت ولا حي!»
في الخامسة والعشرين من عمري لم أفكر في الموت، كان بعيدًا عني أبعد من نجوم السماء، لم تكن الحرب في خيالي تعني الموت، حلم الطفولة هو الباقي في ذاكرتي، ورثته عن أبي، ضاعت من مخيلتي الأحداث الأليمة، فجيعة القلب في الحب، يذوب الحزن في جسدي كما تذوب السموم، في أعماقي الطفلة لا تموت، الفتاة الصغيرة العذراء لم يمسها بشر، أصحو في الصباح مشرقة متجددة كالشمس، أغني لطفلتي في سريرها:
تضحك ابنتي تكركر بالضحك، أحوطها بذراعي، بدأت أعطيها لبن الجاموسة الطازج المخفف بالماء، تحلبه عمتي فاطمة في كفر طحلة، ترسله إليَّ فوق الحمارة مع الزبدة والقشدة والجبنة القريش، لم تكن طفلتي تأكل إلا عصيدة القمح، الأرز المسحوق المطبوخ على النار مع اللبن المخفف بالماء، نصف صفار البيضة المدهوك بقطعة جبن، مع قليل من عصير العنب أو البرتقال، تجلس في كرسيها العالي إلى المائدة أمامها حاجز يمنعها من السقوط، كرات حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء، تحركها بأصابعها الطفولية، تتصادم الكرات بصوت الموسيقى، تهز رأسها مع اللحن وتغني: دي دي تيا … دي دي تيا …
في الدور الأرضي أسمع صوت أم إبراهيم تدندن لنفسها بالموال القديم:
يتصاعد صوتها العذب مع نكهة الشاي والفطيرة الساخنة في الفرن، تعود إليَّ رائحة أمي وصوتها يغني وأنا طفلة.
– صباح الخير يا ضكطورة، الفطور جاهز ع السفرة.
أصبحت دادة أم إبراهيم جزءًا من أسرتي الصغيرة، تهدهدني في السرير، تدللني، تغمرني بالحب، تعوضني عن الأم الغائبة والحب المفقود، تتربع فوق الشلتة بجوار السرير، تحكي لي قصتها من يوم ولدتها أمها، وقصة أمها وجدتها ونساء طحلة وكفر طحلة، قبل أن تنام تطل على ابنتي في سريرها، تُحْكِم إغلاق النوافذ والأبواب، تأتيني إلى سريري لتُحكم من حولي الغطاء، تمسك قدمي اليمنى تدلكها بين يديها الكبيرتين القويتين، ثم القدم اليسرى، وتعود إلى القدم اليمنى، حتى يذوب التعب المتراكم طوال السنين.
– يا ضكطورة طول النهار واقفة على رجليكي في أوضة الكشف، واللي زاد علينا كمان المعسكر، إلهي يعينك وينصرك على أعدائك وأولهم الراجل اللي اسمه «خير الله»، الرجل ده كله شر، ولازم يكون اسمه شر الله! وهو اللي كان لازم يشيل السلاح ويروح الحرب مش يقعد هنا زي المره!
كلمة «المره» خرقت أذني بصوتها الحاد، تعني باللغة الدارجة «المرأة»، أكبر إهانة للرجل المحترم أو غير المحترم أن يقال له «أنت مره»، كيف نطقت أم إبراهيم بهذه الكلمة؟ ألا ترى أني امرأة وهي أيضًا امرأة وهذه الإهانة تشملني وتشملها؟
– سامحيني يا ضكطورة إلهي يشل لساني إن نطقت الكلمة دي تاني! أصل لساني واخد على كلام الفلاحين الزفر، لكن المره ما لها يا ضكطورة، فيه مره بعشرين راجل من زي اللي ما يتسماش خير الله!
أصبح المعسكر في الوحدة خلية من النحل، الشباب من القرى الأربع تسابقوا للتدريب على السلاح، الفتيات دخلن فريق الإسعافات الأولية، لم تقبل على حمل السلاح إلا الحكيمة زينات، كانت تتدرب معي على الرماية، أحد المدربين ضابط في الجيش ينادونه «اليوزباشي علاء»، أبيض البشرة طويل يميل إلى البدانة عريض الكتفين، تلمع فوقهما النجوم العسكرية، يأتي كل يوم داخل عربة جيب، شاربه أسود كثيف، عيناه زرقاوان ضيقتان تنغلقان حين يضحك، يقفز لحم وجهه ليصبح مستديرًا كوجوه الأطفال، تتلاشى العينان إلا من خطين رفيعين تحت الحاجبين الكثيفين، صوته يخرج من الأنف، تشوبه رنة استعلاء، كبرياء الطبقة الجديدة مع التهاب الجيوب الأنفية.
– يا دكتورة الشعب فقير وجاهل لو مسك السلاح في إيده أول ما يضرب الحكومة، وعندي أوامر من القيادة العليا بعدم توزيع السلاح على الشباب في المعسكرات.
كان متحمسًا لتدريبي على الرماية وإطلاق النار، لم يكن متحمسًا لسفري إلى بورسعيد ضمن المقاومة الشعبية.
– «هي بلدنا ما فيهاشي رجالة يحاربوا؟ المرأة رقيقة زي ورق السوليفان، معقول تروحي الحرب يا دكتورة نوال وتقتلي زي الرجالة؟»
انتهيت من فحص المرضى في العيادة الخارجية، جاء اليوزباشي علاء، «تسمحي يا دكتورة نوال أتكلم معاكي؟» طلبت له فنجان قهوة، يحلو له الحديث عن نفسه، بطولاته في القوات المسلحة، الميدالية التي أخذها من يد عبد الحكيم عامر، شهادة التقدير حصل عليها من الكلية الحربية، جائزة التفوق في الإبراهيمية الثانوية، الفائز الأول في مسابقة الجري بالمدرسة الابتدائية، يضع يده البيضاء السمينة داخل صدره، يخرج محفظة جلدية منتفخة يشد منها جراب من البلاستيك الشفاف «دي صورتي في المير دي دييه يا دكتورة نوال.»
تخرج كلمة «المير دي دييه» من تحت شاربه الأسود الضخم رقيقة منفردة، صديقتي بطة تخرَّجت من هذه المدرسة الفرنسية، كانت تتفاخر بها، تمد عنقها كالديك الرومي وتقلب الراء إلى غين «الميغ دي دييه» الكلمة تعني بالعربية «أم الله»، عبارة كافرة في الإسلام، الله ليس له أم، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، كان اليوزباشي علاء في الإخوان المسلمين من أعوان كمال الدين حسين، «إزاي يا أستاذ علاء تبقى مسلم وموحد الله وتدخل مدرسة أم الله؟»
السؤال كان مفاجئًا، ربما لم يكن يعرف أن المير دي دييه تعني أم الله، تصاعد الدم إلى وجهه، أخرج من الجراب صورة والده: «أنا كنت طفل يا دكتورة وطبعًا والدي هو اللي دخلنا المدرسة، مستوى التعليم فيها كان مرتفع عن مدارس الحكومة، كل العائلات المحترمة في مصر كانت تعلم أولادها في المدارس دي، والدي كان أميرالاي في الجيش أيام الملك فاروق، بعد الثورة أصبح في البيت، مالوش شغلة غير أنه يشتم جمال عبد الناصر، وكل ليلة يحلم إنه ضربه بالرصاص، يصحى من النوم يسمع صوته في الراديو يعرف إنه لسه صاحي، يتنكد طول النهار، رفع إيده عليها وضربها، صممت على الطلاق بعد ثلاثين سنة زواج.»
كان يرشف القهوة ويحكي، ملامح أبيه في الصورة تشبه السفاحين، «وكان والدك بيضربك وأنت طفل؟» أعاد الصورة إلى الجراب وابتسم: «والدي كان راجل عسكري يؤمن بمبدأ الطاعة أو الضرب.»
في المعسكر يدربنا اليوزباشي علاء على الرماية، رئيس الوحدة العسكرية في بنها كان يزور المعسكر أحيانًا، يقف أمامه اليوزباشي علاء كالتلميذ المؤدب «حاضر يا افندم» يؤدي التحية الموروثة منذ الاحتلال التركي، يخبط كعبيه، يرفع ذراعه اليمنى حتى يلامس إبهامه جبهته، مع الشباب من الفلاحين ينقلب الحمل الوديع إلى أسد، يخاطبهم بلهجة آمرة، إن أخطأ أحدهم يشتم أمه وأباه «يا ابن اﻟ …» وفي يده عصا من الخيزران يلسع بها أجسامهم، في يوم رأيته يضرب أحد الشباب في المعسكر، تذكرت طنط نعمات حين كانت تضرب الخادمة شلبية، وأمي حين كانت تضرب السجادة العجمية، كان الشاب غلامًا تطوع في فريق المقاومة الشعبية، نحيف الجسم يرتدي جلبابًا قديمًا، بشرته سمراء تعلوها بقع بيضاء علامة المرض بالأنيميا أو فقر الدم، مرض معروف في الطب باسم البلاجرا، نقص في الغذاء يصيب نهايات الأعصاب بالتبلد، منتشر بين أبناء الفلاحين الفقراء، يؤدي إلى الخمول والفهم البطيء، لم يكن الغلام يلبي الأوامر بالسرعة الواجبة، ينهال عليه اليوزباشي علاء بالعصا الخيزران، يهبط بها على الجسم الهزيل، لا يلين للتوسلات، يزداد قسوة كلما ازداد الغلام ضعفًا، العصا الخيزران في يده كالكرباج، يمسكها بأصابعه الغليظة، ينتقض جسده الضخم كالدب الأبيض، ينفض عن فروته الغضب كرذاذ الماء، كالمياه الراكدة تحت الجلد، مكبوتة في ثنايا اللحم منذ الطفولة، ينتفض مع انتفاضة الغلام المضروب، الضارب نفسه بنفسه، ويغمض عينيه، يجز على أسنانه، يرفع العصا عاليًا في السماء، كأنما يضرب السماء، بالضبط كان يضربها، كأنما هي الهدف، أو الوجه المتخفي وراء السحابة، له ملامح أبيه، مرسوم عليه كلمة الله.
وقع الاعتداء الثلاثي، دخل جيش إسرائيل سيناء، تبعته جيوش إنجلترا وفرنسا في دخول بورسعيد، منذ أنشأها الإنجليز في عام ١٩٤٨م أصبحت دولة إسرائيل هي أداة الاستعمار في العالم العربي، كلمة الاستعمار غير صحيحة مشتقة من الفعل «يعمر»، ما يفعله الاستعمار هو «الخراب» وليس العمران، الكلمة الصحيحة هي «استخراب».
منذ تأميم قناة السويس يتأهب الجيش البريطاني لاستردادها، منذ مساندة مصر للثورة الجزائرية يتأهب الجيش الفرنسي للانتقام، كانت الخطة هي أنه تضرب إسرائيل الضربة الأولى وتحتل سيناء، هكذا تفسح المجال لبريطانيا وفرنسا للدخول تحت الحجة المعروفة: الحماية أو فك الاشتباك!
كان يوم جمعة، وكنت أتمشى فوق جسر النيل تحت أشعة الشمس، نسمة الهواء خريفية ناعمة، لم تفقد بعدُ حرارةَ الصيف، لم تكتسب بعدُ برودةَ الشتاء، أحيط كتفي بشال من الصوف الخفيف، لونه أزرق، اشتغلته بيدي، أدفع أمامي العربة ذات الكبوت داخلها ابنتي، بلغت مشارف الحدود بين طحلة وكفر طحلة، رأيت المظاهرة مقبلة نحوي، عددهم يقارب المائة أو أكثر، تلاميذ وطلاب الأزهر والجامعة جاءوا في الإجازة، يحملون لافتة طويلة من الدمور كتبوا عليها بالخط النسخ «يسقط الاعتداء الثلاثي الغاشم»، بعضهم يحمل صورة جمال عبد الناصر، يتقدم المظاهرة تلميذان يحملان صورة كبيرة لبريطانيا على شكل دب أبيض تربعت فوق رأسه امرأة في قدميها حذاء له كعب عالٍ مدبب كالمسمار يعلو رأس بريطانيا العظمى، يدوي الهتاف.
– يسقط الإنجليز اللي بتحكمهم مره!
– يسقط الجيش البريطاني جيش النتاية!
كلمة «النتاية» اخترقت رأسي مثل طلقة الرصاص، باللغة الدارجة تعني الأنثى، ترن في أذني أكثر إهانة من كلمة مره، تنطوي على معنى الجنس المدنس، تشملني من رأسي إلى قدمي كأنما أنا هذه النتاية التي يهتفون بسقوطها، كنت أعرف أنهم يشتمون ملكة بريطانيا، فلماذا يشملون معها كل امرأة وكل أنثى؟ كان يرأس فرنسا رجل، فلماذا لا يهتفون «يسقط جيش الذكر!» لماذا لا يشتمون معه كل رجل وكل ذكر؟ إذا أخطأت امرأة واحدة أصبحت كل النساء آثمات كأمهن حواء، وإذا أخطأ رجل واحد فإن رجلًا واحدًا أخطأ وآدم بريء وكلهم أبرياء.
كنت واقفة جامدة كالتمثال، سارت المظاهرة في طريقها فوق الجسر، تصاعد الغبار تحت أقدامهم يضربون الأرض بقوة، ملأ أنفي التراب مع المهانة، لم أعد الطبيبة التي تعالجهم من الأمراض، الفدائية المتأهبة للسفر إلى جبهة القتال، تحولت إلى كلمة نابية، نتاية، يلفظونها من أفواههم كأنها «نتانة».
كان الشال الأزرق فوق كتفي، هبت عاصفة باردة من ناحية البحر، طيرته في الهواء، جريت وراءه لم ألحقه، رأيته يحلق في الفضاء ثم يهبط إلى بطن الجسر، يرتجف كالحمامة المذبوحة تنزف بدم أزرق.
عدت إلى البيت أرتجف من البرد، ابنتي تسعل وتعطس، عيناها حمراوان، استقبلتنا أم إبراهيم عند الباب: حصل إيه يا ضكطورة كفى الله الشر؟! إيه الهيصة اللي ع الجسر دي؟! ادخلي يا دكتورة من العفرة، مالك صافرة كده زي الليمونة؟ والمحروسة بنتك لازم أخدت برد، قلت لك بلاش خروج النهاردة والدنيا كلها غيام.
– سعادة الباشا يا ضكطورة!
– سعادة الباشا مين عبد الفتاح؟
– الباشا الكبير من دار عبد العليم!
دخل إلى مكتبي رجل طويل نحيف يرتدي بدلة أنيقة، من خلفه رجل يرتدي قفطانًا من الصوف الإنجليزي فوق جبة حريرية وعمامة بيضاء كبيرة، ومن خلفهما دخل الأستاذ خير الله الاختصاصي الاجتماعي، ومن خلفه ناظر المدرسة الأستاذ عبد المنعم، يلهثان.
كنت أرتدي بدلة المقاتلين، أنتظر من القاهرة إشارة للسفر إلى جبهة القتال في بورسعيد، رمقني الباشا أو البك بعينين متسعتين، تطوع الأستاذ خير الله بالحديث قبل أن أتكلم، صوته تشوبه سخرية خفيفة: الدكتورة نوال يا سعادة البيه من المتحمسين للثورة وجمال عبد الناصر.
امتقع وجه عبد العليم بيه لسماع الاسم «جمال عبد الناصر»، تسرب منه الدم، أصبح شاحبًا أكثر طولًا ونحافة، شفتاه الرفيعتان تقلصتا بحركة عصبية، أسنانه صغيرة مدببة بلون الدخان، أخرج سيجارًا غليظًا داكن اللون، ثبته بين شفتيه بأصابع مرتعشة، أشعله بعود كبريت، عود ثان حين انطفأ، عود ثالث، نفخ من فمه وأنفه دخانًا كثيفًا أسود، تمتم بصوت لا يكاد يسمع: الراجل ده مش هايجيبها البر!
انكمش الناظر داخل بدلته الرصاصية وأخفى نصف وجهه بالكوفية حول عنقه، أسدل جفونه كأنما لم يسمع شيئًا، كان يكفي أن يسمع المرء كلمة ضد جمال عبد الناصر حتى يصبح من أعداء الثورة.
كان الأستاذ خير الله مثل الناظر موظفًا بالحكومة، أعلى درجة أو درجتين، ينتمي إلى طبقة خريجي الجامعة المثقفين، له قطعة أرض يملكها، وصلات بأصحاب الأراضي، عائلة عبد العليم ذات سطوة وأرض ومال، وأعضاء في مجلس النواب والشيوخ في عهد الملك، وصداقات ومصاهرات بالطبقة العسكرية الجديدة بعد الثورة، لهم أمام الوحدة قصر كبير يخلو من السكان معظم شهور السنة، يمتلئ بالرجال في موسم الانتخابات أو جمع المحاصيل.
كانت الزيارة قصيرة، أبلغني عبد العليم بيه بصوت رقيق من خلال دخان السيجار أنه سمع عن كفاءتي الطبية، جاء في إجازة أسبوع مع زوجته للاستجمام في العزبة، أصابها نزيف من الرحم فجأة.
– يا ريت يا دكتورة نوال تفتحي عيادة خاصة في طحلة.
– ليه يا أستاذ عبد العليم؟!
– فيه ناس لا يمكن يدخلوا الوحدة أو أي مستشفى حكومي.
– ليه يا أستاذ؟
– مستوى الخدمة دائمًا أقل من العيادات الخاصة.
– الوحدة دي فيها كل الأدوية والأجهزة وفيها خدمة أعلى من العيادات الخاصة، ثم إن قانون الوحدات المجمعة يمنع الدكاترة من فتح العيادات الخاصة.
لم يكن الأستاذ خير الله مسرورًا من هذا الحوار، لم تعجبه طريقتي في الرد على سعادة الباشا أو البيه: «وتقوليله «أستاذ» كده حاف، مش عارفة إنه ممكن يوديني في داهية.»
– «وإنت مالك يا أستاذ خير الله.»
– «أيوه مالي يا دكتورة، لأني أنا رئيس الوحدة وأنا المسئول.»
– «يا أستاذ أنا المسئولة عن كلامي مش إنت!»
تحت اسم رئيس الوحدة لم يكن خير الله يكف عن التدخل في شئوني، كان عاطلًا طول النهار، بلا وظيفة إلا الجلوس تحت التكعيبة والدردشة مع ضيوفه، يشربون الشاي ويدخنون، يكركرون بالضحك والجوزة، يتمشى معهم في مزرعة الوحدة، كأنها جزء من أملاكه، يرمق المزارعين من طرف أنفه كأنهم عبيد الأرض، يستعرض سلطته بالشخط في الموظفين، يقتحم مع ضيوفه القسم الصحي، يتباهى أمامهم بغرفة العمليات، والمرضى الراقدين في القسم الداخلي، والممرضين والممرضات بملابسهم البيضاء النظيفة، يفتح غرفة الكشف دون استئذان، قد أكون منهمكة في فحص مريض أو مريضة.
– يا أستاذ خير الله دي أوضة الكشف مش المزرعة.
– أنا رئيس الوحدة يا دكتورة نوال، من حقي المرور في أي وقت.
– لأ يا أستاذ، مش من حقك دخول أوضة الكشف، ومش من حقك التفتيش على القسم الصحي، دي مسئوليتي أنا!
هكذا كان يدب الصراع بيني وبينه، كانت اللائحة تقول إن رئيس الوحدة مسئول عن الأعمال الإدارية فقط، لم يكن يأبه بالقانون، له معارف من ذوي النفوذ، يتفاخر بأنه قادر على الإطاحة بأي أحد لا يخضع للأوامر.
يوم ٦ نوفمبر ١٩٥٦م تحولت مدينة بورسعيد إلى قطعة من النار، صوت عبد الناصر يدوي في الراديو، «سنقاتل حتى النصر»، القنابل والصواريخ تتساقط من الطائرات، والأسطول يضرب من البحر، الدبابات نزلت في الشوارع، القناصة هبطوا بالطائرات الهليوكبتر على سطح البيوت، أطلقوا النيران على الناس في النوافذ والمارة في الشوارع، دافعت النساء والأطفال عن حياتهم من حارة إلى حارة، ومن بيت إلى بيت بالحجارة والشوم والسكاكين، تكونت فرق من الفدائيين، فتيان وفتيات وأطفال من أهل بورسعيد، أمسك الإنجليز غلامًا صغيرًا كان يقاتل، ضربوه، عذبوه ليعترف على زملائه الفدائيين، لم ينطق بكلمة واحدة، قلعوا عينيه ثم قتلوه دون أن يفتح فمه، غلام آخر في حي المناخ قتلوه أمام أمه، عذبوها لتدلي بشيء عن الفدائيين ماتت دون أن تنطق.
– ماتت يا ضكطورة؟
– أيوه ماتت يا أم إبراهيم.
– يا كبدي عليها لازم قلبها انحرق على ابنها، لكن الموت أهون من اللي أنا فيه، لا أنا عارفة ابني حي ولا ميت، لو عرفت إنه مات يمكن قلبي يبرد شوية، خايفة يكونوا بيعذبوه في السجن جوه إسرائيل!
قلب الأم المكلومة منذ حرب ١٩٤٨م، قلوب الأمهات المكلومات في حرب ١٩٥١م، في حرب ١٩٥٦م، في حرب ١٩٧٣م، الحروب الخمس شهدتها في حياتي، أُريقت فيها الدماء، أغلب الضحايا بنات وأبناء الفلاحين الفقراء الجنود المجهولين والمجهولات، لا يملكون من أرض الوطن شبرًا، لا تمنحهم الحكومة إلا الفقر أو الطعن في الظهر، الصوت الحزين يأتيني من قاع البئر: «نحن الذين حملنا السلاح وحاربنا أصبحنا مطاردين مثل المجرمين …» في فناء كلية الطب قطعة من الحجر عليها أسماء الشهداء، سقطت تحت المبنى الجديد واندثرت في التاريخ.
– بلدنا زي الغولة يا ضكطورة تأكل ولادها، ياما بهدلوني في الحكومة، وأنا رايحة جاية من طحلة لمصر، زي الفرخة الدايخة، أسألهم ابني فين يا ناس، ما شفتش منهم إلا البهدلة، ما شفتش قرش واحد من معاش ابني اللي راح الحرب ولا رجعشي، تمان سنين يا ضكطورة سنة ورا سنة لغاية ما روحي طلعت وخلاص بطلت أسافر مصر!
عاشت مدينة بورسعيد ثمانية وأربعين يومًا تحت الحصار، في منتصف ليلة ٧ نوفمبر أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارها بوقف القتال، هدد الاتحاد السوفييتي بضرب لندن وباريس بالصواريخ، أعلنت الولايات المتحدة موافقتها على القرار بإيقاف النار، لم يعد أمام الجيوش الثلاثة إلا الانسحاب، وخرج آخر جندي بريطاني من بورسعيد يوم ٢٣ ديسمبر ١٩٥٦م.
كنت أحرك مفاتيح الراديو لأسمع الأخبار، إذاعة صوت العرب في القاهرة ضُربت بالقنابل، أعلنت سوريا أنها ستنطلق من إذاعة دمشق، أناشيد النصر من محطة القاهرة لم تتوقف، في أعماقي إحساس غامض بالهزيمة تدربت على السلاح مع مجموعة من شباب القرية، تأهبًا للسفر إلى بورسعيد، كل يوم نسأل اليوزباشي علاء: لماذا لا نسافر؟ ماذا ننتظر؟ لم يكن عنده إلا رد واحد: ننتظر الإشارة من القاهرة.
انتهت الحرب دون أن تأتي الإشارة، هل كانت المقاومة الشعبية مجرد تهديد سياسي للأعداء، أيمكن لهذه الحكومة أن تسلح الشعب؟! أيمكن أن يتحول الشعب المصري إلى جيش التحرير كما كان الراديو يقول؟
لم تغير الثورة من جوهر الحكومة المصرية، أقدم حكومة مركزية في التاريخ البشري، تمرست منذ عهود العبودية على قهر الشعب، الثقة مفقودة بين الشعب والحكومة منذ آلاف السنين، تناقض معروف في التاريخ بين الحكام والمحكومين، لا يمكن لحكومة أن تستمر على عرشها! دون أن تسلب الشعب حقوقه الأساسية، أولها المعرفة وثانيها السلاح.
إذاعة القاهرة تحجب عنا الحقيقة؟! لم نعرف ماذا يحدث بالضبط، كنا نتجمع حول الراديو، فريق الإسعافات الأولية، والفريق الذي تدرب على السلاح، نحرك مفاتيح الراديو بحثًا عن الإذاعات الخارجية، كان معنا شاب فدائي من قرية طحلة، اشتبك مع اليوزباشي علاء في حوار ساخن، قرر السفر إلى بورسعيد دون انتظار الإشارة، تعقبه اليوزباشي علاء وأمسكه في محطة بنها، سلمه لرجال البوليس في مركز الشرطة، ضربوه ثلاثة أيام، عاد إلى القرية ذراعه مكسورة، تجمع الشباب في المعسكر غاضبين، هتفوا ضد اليوزباشي علاء، تصدى لهم الأستاذ خير الله، هتفوا ضده هو الآخر، كنت في بيتي حين سمعت الهتاف: يسقط الخونة!
في اليوم التالي جاءت إلى القرية فرقة من رجال الشرطة، يتقدمهم رجل من المباحث، قصير مربع يخفي عينيه وراء نظارة سوداء، تم القبض على بعض الشباب، فتشوا البيوت بحثًا عن السلاح، ضربوا الآباء والأمهات، أشاعوا جوًّا من الإرهاب، ضابط المباحث رأيته يدخل مكتبي في القسم الصحي: «تسمحي يا دكتورة آخذ من وقتك دقيقتين؟ مجرد سؤال أو سؤالين.»
هذه هي لغة البوليس، لم أكن أعرفها بعد، لم أعرف أن الدقيقتين قد تصلان إلى ساعتين أو ثلاث ساعات، وقد تعني ما هو أكثر، حين أخذوني من بيتي في ٦ سبتمبر ١٩٨١م لم أسمع منهم إلا هذه العبارة: «مجرد سؤال أو سؤالين يا دكتورة» ثم وجدت نفسي داخل السجن.
•••
شتاء عام ١٩٥٧م في قرية طحلة كان باردًا مغبرًّا، الأغاني لا تكف في الراديو، انتصرنا انتصرنا! في أعماقي أدرك الهزيمة، الجرح الغائر في القلب لم يلتئم، أصابع ضبابية تلتف في النوم حول عنقي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يطلع، أتكور تحت الغطاء أخفي وجهي، كالطفلة تخاف العفاريت، أهل القرية يؤمنون بوجودها كإيمانهم بوجود الله، كانت أم إبراهيم مثل أهل القرية، تقرأ قبل أن تنام سورة يس، تطرد بها العفاريت وأرواح الجان «ربنا ذكرهم في القرآن يا ضكطورة»، العرافة تقرأ الغيب في الودع والفنجان، العاقرات من النساء يذهبن إلى الشيخ حمدان، يحبلن في الأوضة الضلمة، يزوره الله في المنام، رُفع عنه الحجاب رغم أنه أعمى اصطفاه الله وأفقده البصر، أعطاه القدرة على تحبيل النساء وطرد العفاريت من أجسادهن.
– «البت مسعودة بنت الحاج زيدان ركبها العفريت يا ضكطورة.»
– «عفريت إيه وكلام فارغ إيه يا أم إبراهيم؟!»
تبصق أم إبراهيم في فتحة جلبابها عند العنق: «أستغفر الله العظيم، ربنا يجعل كلامك خفيف على قلوبهم يا ضكطورة، ضصطور يا سيادنا ضصطور.» تنهض واقفة، تهش بذراعيها العفاريت من حولها كما تهش الذباب: «الحاج زيدان أخد بنته مسعودة للشيخ حمدان لكن العفريت فضل راكبها يا ضكطورة.»
– «الشيخ حمدان ده راجل نصاب يا أم إبراهيم.»
– «أستغفر الله العظيم، ده ولي من أولياء الله يا ضكطورة.»
لا يمر يوم دون أن تحكي أم إبراهيم شيئًا عن العفريت الذي ركب مسعودة بنت الحاج زيدان، كان أبوها يدور بها على المشايخ العميان في القرى المجاورة: «ربنا كشف الحجاب عنهم يا ضكطورة، ما حدش يعرف ربنا إلا العميان.»