طبيعة المعرفة عند الواقعيين
(١) الواقعيةُ الساذجة
السؤال المطروح أمامَنا الآن هو هذا: ما هي المعرفة؟ ما تحليل الموقف الذي أقول فيه إنني «أعرف» كذا وكذا؟ وعن هذا السؤال يجيب الإنسان المثقف العادي — مسوقًا إلى جوابه بإدراكه الفطري — قائلًا: «المعرفة» هي «صورة» لِما يَجري في العالم من وقائع وأحداث؛ فالحقائق الخارجية هي بمثابة الأصل، ومعرفتي إياها بمثابة الصورة، فإذا نظرت إلى مكتبي هذا وقلت عنه إنه مستطيل السَّطح أو إنه بني اللون؛ فذلك لأن هناك خارج نفسي شكلًا مستطيلًا ولونًا بنيًّا لا دَخْلَ لي في حدوثهما، وكل ما فعلته إزاءهما هو أنني نظرت إليهما «فعرفتُهما» بمعنى أنهما قد «ارتسما» في ذهني كما هما في عالم الواقع.
على هذا الأساس في فهم الأشياء وما يحدث لها يقوم التفاهم في الحياة العملية؛ ممَّا أدى ببعض الفلاسفة أنفسهم أن يفهموا «المعرفة» على الأساس نفسه، فيجعلوها «تصويرًا» لما يقع بغير حذف أو إضافة، فلا فرق بيني حين أنظر إلى مكتبي البني المستطيل وبين آلة التصوير، كلانا يقوم بعمليةٍ واحدة، وهي أن يلتقط صورة يكون بينها وبين أصلها شَبَه تام، وكلما ازددتُ دقة في الملاحظة كنت كآلة التصوير حين تزداد دقة؛ إذ في كلتا الحالتين تكون الصورة المأخوذة عن الشيء المرسوم دقيقة الشبه بأصلها. ومعنى التشابه هنا هو أن يكون لكل جزء من تفصيلات الشيء المرسوم جزء يقابله في الصورة.
ولو عبَّر الإنسان عن معرفته بشيء ما في عبارة كلامية، كانت هذه العبارة وصفًا كاملًا للشيء إذا ما اشتملت على ألفاظ بعدد ما في الشيء من عناصر وأجزاء، مضافًا إليها ألفاظ أخرى تصوِّر العلاقات الكائنة بين تلك العناصر والأجزاء. خذ مثلًا لذلك هذا المصباح المضيء على مكتبي، فإنني إذ أقول — بعد أن أنظر إليه — إنني «أعرف» أن على مكتبي مصباحًا مضيئًا، فإنما أعني بذلك أنْ قد ارتسمتْ في ذهني صورةٌ تُطابق الشيء الواقع. وأستطيع التعبير عن هذه الصورة بعبارة كلامية تجيء وصفًا لما أعرفه فأقول: «مصباح مضيء على مكتبي.» فتكون كلمة «مصباح» مُشيرة إلى المصباح، وكلمة «مضيء» مُشيرة إلى الضوء المنبعث منه، وكلمة «مكتبي» مشيرة إلى المكتب الذي أمامي، وأما كلمة «على» فتشير إلى العلاقة الكائنة بين المصباح المضيء والمكتب. هذه العبارة الوصفية إنْ هي إلا وضع لفظي للصورة الذهنية التي التقطتها بعيني، وهي في الوقت نفسه عبارة صادقة لِما بين أجزائها وأجزاء الشيء الخارجي من تقابل. ومعنى ذلك أن هذه العبارة تصف ما في ذهني، وما في الخارج على حدٍّ سواء، فهي تصدق على فكرتي وعلى الشيء الواقع في آنٍ واحد. وإذن ففكرتي لا بد أن تكون صورةً للشيء الواقع فيها ما في الشيء من أجزاء وعلاقات.
ويترتب على هذا الرأي في «المعرفة» نتيجة هي أيضًا مما يسلِّم به الإنسان العادي تسليمًا لا يجد فيه مشقة ولا عُسرًا؛ لأنها كذلك ممَّا يهدي إليه الإدراك الفطري، وهي أن العالم الخارجي موجود بغض النظر عن وجودي؛ إذ هو موجود مستقلًّا عن معرفتي إياه؛ فالمصباح المضيء على مكتبي قائم هناك، سواء اتجهتُ إليه ببصري لأراه أو أقفلتُ عيني بحيث لا تراه، فالأمر ها هنا هو بذاته الأمر في آلة التصوير وما تصوِّره؛ فالشيء المصوَّر موجود سواء اعترضتْه آلة التصوير لتلتقط صورته أو لم تعترضه. بعبارة أخرى: لا يتوقف وجود الشيء على كوني أعرفه، وإن أحدثتْ هذه المعرفة تغيرًا ما؛ فالتغير إنما يطرأ على الشخص العارف لا على الشيء المعروف؛ إذ يصبح ذلك الشخص بعد معرفته تلك عالمًا بما كان يجهله قبلها، فإذا لم أكن قد رأيتُ معابد الأقصر قبل الآن، ثم ذهبت إليها ورأيتها، فليست معابد الأقصر هي التي حدث لها التغير، إنما هو أنا الذي عَلِمَ بعد جهل فتغيَّر بهذا العلم الجديد كثيرًا أو قليلًا.
ومما يؤيد هذه النتيجة — إن كانت بحاجة إلى تأييد — أن إدراكي للشيء الخارجي لا يتوقف على إرادتي، فليس في وسعي — مثلًا — أن أنظر إلى المصباح المضيء الذي أمامي الآن وأقول إنني مصمِّم على ألَّا أراه؛ لأن رؤيتي له ستتم رغم أنفي، رضيت بذلك أو لم أرضَ، ما دمت قد اتجهت بنظري إليه، فذلك دليل على أن وجود المصباح مُستقل عن وجودي، ومستقل عن إدراكي له أو عدم إدراكي، يفرض نفسه عليَّ فرضًا ما دمت قد هيأت لنفسي وسائل إدراكه، لكن قارِن ذلك بالحالة التي أخلق لنفسي فيها صورة خيالية؛ كأنْ أتصور جبلًا من ذهب، فها هنا يتم تكوين الصورة بإرادتي، إن شئتُ كونتُها وإن شئت انصرفت عن تكوينها؛ ذلك لأن جبل الذهب ليس موجودًا حقيقيًّا من موجودات الواقع. وإذن فعالم الواقع — على خلاف الصور المتخيَّلة — ذو وجود مستقل عني، ومعرفتي إياه هي تصوير له لا أكثر ولا أقل.
والنتيجة الثانية التي تترتب على هذا الرأي في «المعرفة» هي أن العالم قوامه كثرة من أشياء، وليس هو بالحقيقة الواحدة التي تخلو من التعدد، فما دام العالم — كما أعرفه — مؤلَّفًا من كائنات شتى: أشجار وأنهار وأحجار وأجرام في السماء وأفراد من إنسان وحيوان على الأرض، ثم ما دام هذا الذي أعرفه عن العالم هو صورة له، إذن فالعالم في حقيقته هو هذه الكثرة في الأشياء والوقائع والحوادث التي قد تتصل حينًا وتنفصل حينًا، وإذا كانت هذه هي حقيقة الأمر فيه كان خير سبيل إلى معرفته أدق معرفة هو تحليله إلى مقوماته ومكوناته، فحلِّل الطبيعة إلى عناصرها، وانظر إلى هذه العناصر كيف تختلف وكيف تأتلف؛ ينكشف لك الستر عن سرها الدفين، حلِّلْها تظهر لك الأشياء ذرات هي لب الحقيقة وصميمها، فكأنما نحن بهذا نقول: إن حقيقة العالم هي ما يظهر لنا منها، على شرط أن يكون الناظرون هم أولئك الذين زوَّدوا أنفسهم بأدق آلات النظر؛ أي هم العلماء.
وعند هذه النقطة الأخيرة بعينها يبدأ الاعتراض على مذهب الواقعية الساذجة التي تجعل «المعرفة» تصويرًا ذهنيًّا للشيء المعروف، فالاعتراض الأول على ذلك هو هذا، مَنْ مِنَ النَّاس تكون الصورة الذهنية التي عنده عن الشيء هي الفكرة الصحيحة عن ذلك الشيء؟ أهو الإنسان العادي بحواسه المجردة أم العالم بمجاهيره؟ إنني أنظر إلى سطح هذه المنضدة التي أمامي بعينٍ مجردة فأراه أملس، حتى إذا ما نظرت إليه بمِجهر العالم رأيت فيه ما هو أشبه بالوديان والجبال؛ لأن أليافه الخشبية ليست في حقيقتها التي تظهر تحت المجهر مستوية ملساء كما بَدَتْ للعين العارية، وأنظر إلى القمر بالعين المجردة، فإذا هو قرص مستوٍ، ثم أنظر إليه بالمنظار المقرِّب فإذا سطحه كسطح الأرض من وعورة، فأي المعرفتين هي الصواب؟ ستقول إن الصواب هو — بالبداهة — ما يبدو تحت المجهر أو ما يبدو بالمنظار المقرِّب. لكن ذلك المجهر وهذا المنظار قد يجيء ما هو أدق منهما، وعندئذ تزداد وعورة القمر، وعندئذ أيضًا نعلم أن ما كنَّا ظنناه حقيقة المنضدة والقمر قد تبين أنه لم يكن الحقيقة كلها، وهكذا، ثم تزداد الحال سوءًا حين يجيئنا عالم الطبيعة الحديث فينبئنا بأن هذه المنضدة التي أراها خشبًا صلبًا هي في الواقع مجموعة كبيرة من كهارب موجبة وكهارب سالبة، وأن هذه الكهارب في حركة وتغير، وإذن فليست المنضدة على الصلابة التي أحسها بأصابعي ولا هي على السكون الذي يظنه فكري. فالخلاصة التي أنتهي إليها من ذلك هي أن الصورة الذهنية التي أكوِّنها لنفسي عند رؤيتي لشيء ما ليست هي بالمعرفة الصواب عن حقيقة ذلك الشيء؛ وبالتالي لا تكون الواقعية الساذجة قد أصابت الرأي حين قالت إن الفكرة التي أكوِّنها بحواسي عن الشيء الذي أدركه هي صورة مُطابقة للشيء نفسه، وأن المعرفة بوجه عام هي صورة العالم الخارجي في رأس الإنسان العارف.
ويتصل بالاعتراض الذي أسلفناه اعتراض آخر: وهو أنه لو كانت معرفتي بشيءٍ ما صورة لذلك الشيء؛ لَلَزِمَ أن تدوم تلك المعرفة على حالةٍ واحدة ما دام الشيء المعروف هو هو محتفظًا بذاتيته. مثال ذلك: أنه لو كانت معرفتي لهذه المنضدة التي أمامي صورة تطابق المنضدة؛ لَتَحتَّم أن تظل الصورة على حالة واحدة مهما تغيَّرت وجهة نظري إلى المنضدة، ما دامت المنضدة — وهي الشيء المصوَّر — محتفظة بذاتيتها، لكني ألاحظ أن إدراكي للمنضدة يتغير كلمَّا غيَّرت موضعي منها، فاستطالة سطحها لا تظل على صورة واحدة بل تختلف باختلاف الزاوية التي أنظر منها، وإن شئت فانظر إلى الرسوم المختلفة التي يرسمها عشرة أشخاص جلسوا حول المنضدة ليرسمها كل منهم كما يراها، فعندئذ تجد شكل السطح قد تغيَّر من رسم إلى رسم، فلو نظرت إلى السَّطح من أعلى بزاوية قائمة رأيته مُستطيلًا، وإن نظرت إليه وأنت جالس إلى جانبه هنا أو هناك قريبًا أو بعيدًا؛ وجدته متوازي أضلاع تختلف درجات زواياه باختلاف وضعك وهكذا. وقل هذا في لون المنضدة؛ إذ قد يخيَّل إليك للوهلة الأولى أن لونها بُنيٌّ في جميع أجزائها على السَّواء، لكن أَمْعِن النظر — كما يمعنه رسَّام يريد أن يرسم المنضدة رسمًا ملونًا كما يراها — تجد لمعات الضوء في أجزائها مختلفة، وباختلافها تختلف درجات اللون اختلافًا بعيدًا، حتى إذا ما حبست عنها الضوء جملة واحدة امتنع لونها، وإذن فللمنضدة من حيث شكلها ولونها صور مختلفات، فأي هذه الصور هو المعرفة الصحيحة التي تُطابق الشيء المعروف؟ أم أن المنضدة في حقيقتها هي جملة هذه الحالات المختلفة، وعندئذٍ لا تكون المعرفة بها مُتشابهة عند مجموعة المشاهدين لها، بل لا تكون المعرفة بها مُتشابهة عند الفرد الواحد في لحظاته الزَّمنيَّة المُختلفة وفي مواضعها المختلفة بالنسبة إليها؟
وإذا سلَّمنا بأن صفات الشيء تتغيَّر بالنِّسبة لتغير موضعي منه ووجهة نظري إليه، فهل ينطبق هذا القول على كل صفاته بغير استثناء، أم ينطبق على بعضها دون بعضها الآخر؟ هاتان برتقالتان لهما صفاتٌ مِن لون واستدارة وغير ذلك، فلو كان لونهما يتغير بتغير الضوء الساقط عليهما، فهل تتغير درجة الاستدارة كذلك بتغير موقفي منهما أم أنهما تبدُوَان مستديرتين على صورةٍ معينة دائمة مهما تغيَّر وضعي؟ ثم هل هناك من الظروف ما يُغيِّر من حقيقة كونهما اثنتين من حيث العدد؟ الظاهر أن الصفات ليس كلها سواء من حيث تغيرها تبعًا لطريقة إدراكي لها، وإن منها ما يتغير ومنها ما يدوم على حاله، وإذا كان ذلك كذلك فلا أستطيع القول بأن معرفتي للشيء عبارة عن صورة مُطابِقة لحقيقته في الواقع، بل ينبغي أن أفرِّق بين صفات ذلك الشيء، فأقول إن معرفتي لهذه الصفة المُعيَّنة منه (كمعرفتي باللون مثلًا) لا تُطابق الواقع كما هو، إنما تتغيَّر بطريقة إدراكي لها، وأما معرفتي لتلك الصفة المعينة منه فتطابق الواقع كما هو ولا تتغير بتغير الشخص المدرِك.
وهذه التفرقة إنْ هي إلا تمحيص ونقد لنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة، وإذن فهذه النظرية بحاجة إلى تعديل يَزِيد من دقتها.
(٢) الواقعية النَّقديَّة
إن أول ما يَلفِت النظر في رأي الواقعية الساذجة من أن المعرفة صورة للواقع هو أن العقل يصبح بهذا الرأي لوحة قابلة لا فاعلية فيه، كأنه اللوحة في آلة التصوير تأتيها أشعة الضوء من الخارج فترتسم عليها كما أتتها بغير تحوير، لكن تعالَ معي نحلل أمثلة من معارفنا، وسيتبين لنا في جلاءٍ أن الأمر ليس كذلك، وأننا وإن نكن قد تلقينا من الخارج مادة خامة فإننا نتناولها في الداخل بالتأليف والتركيب، بحيث ينتج لنا من ذلك تكوينات عقلية هي أساسية في معرفتنا، ومع ذلك فلا تُطابق بينها وبين عالم الأشياء.
إذا ألقيت على «لوك» السؤال المطروح أمامنا الآن، وهو: ما المعرفة في طبيعتها؟ ماذا أعني على وجه الدقة حين أنظر إلى برتقالة — مثلًا — وأقول: إنني «أعرف» أن هذه برتقالة؟ إذا كانت معرفتي هذه بالبرتقالة هي علاقة قائمة بيني وبين شيء أُدركه، فما نوع هذه العلاقة؟ أهي علاقة التطابق التي تقوم بين الصورة والشيء المُصوَّر كما يقول أنصار الواقعية الساذجة؟
لا، ليست هي علاقة التطابق التام الشامل، هكذا يجيبك «لوك» عن سؤالك؛ ذلك أن صفات البرتقالة ليست كلها على درجة سواء، بحيث تكون معرفتك إياها من نوعٍ واحد وطبيعة واحدة، فلو أحصيت صفات البرتقالة: شكلها الكُرِّي ولونها الأصفر وطعمها … إلخ؛ وجدت أن هذه الصفات تقع في قسمين مُختلفين، فبعضها مُتَّصل بالبرتقالة اتصالًا يستحيل انفصاله، وأما بعضها الآخر فليس في الحقيقة قائمًا في البرتقالة ذاتها، بل نشأ حين اتصلت البرتقالة بحاسة من حواسك. ويطلق «لوك» على النوع الأول اسم «الصفات الأوليَّة» وعلى النَّوع الثاني اسم «الصفات الثَّانوية».
فشكل البرتقالة الكُرِّي جزء لا يتجزأ من البرتقالة كما هي في الواقع، فهي كُرِّيَّة سواء رأيتَها بعينيك أو لم ترَها، لمستها بأصابعك أو لم تلمسها. وإذن فإذا عرفت عنها أنها كُرِّيَّة الشكل، فهذا الجانب من معرفتي مُطابق لحقيقة الشيء كما هي خارج نفسي، ولا دخل لي في تكوين هذا الشكل أو إحداثه، إنما أتلقاه كما هو، وهكذا قُلْ في درجة صلابتها وفي امتدادها وفي حركتها أو سكونها وفي عددها. كل هذه صفات للبرتقالة، إذا عرفتُها كانت «معرفتي» مطابِقة للأصل الذي في الخارج.
لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبعض صفات أخرى كاللون والصوت والطعم، وهي التي أسماها «لوك» بالصفات الثانوية، خُذ اللون مثلًا: فأنت إذ تصف البرتقالة بأنها صفراء، فإن لونها هذا ليس فيها على نفس الصورة التي تراه فيها، فالذي ينبعث من البرتقالة ليلتقي بعينيك هو موجات ضوئية ذات طول معين، ولا تتحول هذه الموجات الضوئية إلى اللون الأصفر كما تعرفه إلا بعد أن تلتقي بعينيك وتنتقل عن طريق أعصابك إلى المخ، أمَّا الموجات الضوئية نفسها التي انتقلت من البرتقالة إليك فليست صفراء، ولو كانت صفراء في ذاتها لرأيتَ خطوطًا صفراء ممتدة من البرتقالة إلى عينيك، لكن المسافة التي بينكما لا تكون ذات لون على الرغم من أن موجات الضوء المُنبعثة من البرتقالة تنتقل من خلالها. ومعنى ذلك كله هو أن اللون الأصفر قد تم تكوينه داخل جسمك على أساس الأشعة الضوئية التي جاءتك من الخارج، وإذن فليس اللون الذي «تعرفه» عن البرتقالة مُطابِقًا لما هو موجود فيها.
وقُلْ هذا بعينه في الصوت، فهذه الدقَّات التي أسمعها الآن آتية إليَّ من الساعة، إنما كانت موجات هوائية قبل أن تطرق أذني. ولم تتحول تلك الموجات إلى صوت مسموع إلا داخل جسمي. أو بعبارة أخرى: لولا أن في العالم آذانًا تسمع لكان العالم صامتًا لا صوت فيه، كما أنه لولا أن في العالم عيونًا ترى لكان العالم بغير لون. وكذلك قُلْ في الطعم؛ فحلاوة الشيء أو مَرارته لا تتكوَّن إلا حين يلتقي بلسان الطاعم، أما قبل ذلك فلا حلاوة ولا مَرارة، وحَسْبك أن تذكر أن الشيء الواحد قد يتغيَّر طعمه بالنسبة إليك حسب حالاتك المختلفة من صحةٍ أو مرض، وبالطبع ليس الشيء هو الذي تغيَّر بل هو أنت، فتغيُّر الطعم نتيجة للتغير الذي طرأ عليك.
ففي اللون والصوت والطعم لا تكون معرفتنا صورة للواقع، إنما هي صورة مُحوَّرة، فكل ما يجيء إلينا من الشيء الخارجي مؤثرات خاصة، ثم تُحْدِث هذه المؤثرات فينا آثارًا لا شَبَه بينها وبين المؤثِّر. مثل ذلك مثل الشمس تبعث حرارتها إلى قطعة الشمع فتذيبها، فلا يكون الأثر الذي هو السُّيولة الحادثة في الشمع شبيهًا بالمؤثِّر الذي هو قرص الشمس، ولو كانت قطعة الشمع لتتكلَّم لقالت عن السُّيولة التي تَحدُث فيها إنها الشمس، ولظنت أن الصورة التي حدثت — وهي السُّيولة — شبيهة بالشيء المحدِث وهو الشمس.
الصفات الأولية والصفات الثانوية كلتاهما تجيء إلينا من الشيء الخارجي عن طريق حواسنا، لكن الأولى صورة مُطابِقة للواقع، وأمَّا الثانية فيتم تكوينها داخلنا بحيث لا تكون صورة مُطابِقة للواقع، وإن تكن دالة عليه. ومن مجموعة المحصول الذي أحصله من هذه الصفات وتلك يأخذ عقلي في تركيب الأفكار، كأن يَجمع اللون الذي يأتيه من البرتقالة إلى طعمها وشكلها وملمسها وصوتها، إذ تتدحرج على الأرض، يجمع هذه الأشتات التي ذهبت إليه من طرق مُختلفة، فهذه الصفة جاءت من العين وتلك من الأذن وثالثة من الأنف ورابعة من الأصابع وهكذا، يجمع العقلُ هذه الأشتات في صورةٍ واحدة على لوحته، فتكون هي فكرة البرتقالة عنده، حتى إذا ما اجتمعت لديه صور عدة لعدد من برتقالاتٍ قارن بينها واستخرج منها «صورة عامة» تنطبق على أية برتقالة، وإن تكن مُختلفة بعض الشيء عن كلِّ برتقالة على حِدَة. وإذن فالصورة العامة التي أعبر عنها بكلمة كلية هي فكرة مركبة من مجموعة إحساسات، غير أن التركيبة في النِّهاية لا تُطابق الواقع وإن تكن دالة عليه. ومثل هذه المدركات الكلية التي يكوِّنها الإنسان — مثل شجرة ومنزل وكتاب وإنسان ونهر … إلخ — هي — في رأي «لوك» — أفكار مُركَّبة قوامها صفات عَرَضية تأتي عن طريق الحواس أشتاتًا، ثم يركبها العقل بفاعليته.
لكن علامَ يركِّب العقل هذه الصفات العَرَضية للشيء؟ كيف — مثلًا — يضم لون البرتقالة إلى شكلها وطعمها ورائحتها وصلابتها لتتكون له بذلك صورةٌ مؤتلِفة لشيء واحد؟ هل يلف العقل هذه الصفات بعضها على بعض بغير محور يديرها حوله؟ كلا، بل لا بد من افتراض وجود عنصر تتعلق به هذه الصفات، وإلا كانت صفات بغير شيء تصفه، وهذا العنصر الذي تنتمي إليه الصفات العَرَضية من لون وطعم ورائحة وشكل … إلخ هو «جوهر» الشيء أو كُنْهه ولُبابه، ألا ترانا نقول: «البرتقالة» صفراء، و«البرتقالة» كُرِّيَّة، و«البرتقالة» طعمها كذا ورائحتها كَيْت؟ ثم ألا يدل هذا على أننا ننسب هذه الصفات كلها إلى شيء محوري جوهري هو الذي يكوِّن «البرتقالة» في ذاتها وحقيقتها، وهو الذي يتصف بهذا اللون أو ذاك وبهذا الشكل أو ذاك؟ إذن فهذا نوع آخر من معارفنا عن الأشياء، فإلى جانب «أعراض الشيء» المتغيرة من لون وطعم ورائحة وشكل نعرف «جوهره» الثَّابت الذي يجعله هو ما هو.
وبعد أن تتركب في أذهاننا صور للأشياء، لكل شيء جوهره وأعراضه، فهذه منضدة، وهذا مصباح، وهذه ورقة، وذلك قلم … إلخ، لا تظل هذه الصور في الذهن فُرادَى متفرقات لا شأن للواحدة بالأخرى، بل ترتبط الصور الذهنية، أو قل: ترتبط معارفنا عن الأشياء بروابط وعلاقات، فشيئان يرتبطان بعلاقة السببية، وشيئان يرتبطان بعلاقة التجاور، وشيئان يرتبطان يكون الواحد منهما حدث قبلَ الآخر في الزمن أو بعدَه وهكذا؛ وبهذا تنشأ مجموعة ثالثة من معارفنا، وهي العلاقات التي تربط أفكارنا عن الأشياء بعضها ببعض.
هكذا يُحلِّل «جون لوك» معرفة الإنسان إلى أفكار بسيطة هي أحاسيسنا التي تأتي عن طريقِ حاسةٍ واحدةٍ كاللون حين يأتي عن طريق البصر، أو تأتي عن طريق حاستين كالشكل حين يأتي عن طريق البصر واللمس معًا؛ ثم إلى أفكار مركبة يُركِّبها العقل بفاعليته من تلك الأفكار البسيطة، وهذه الأفكار المركبة إما أن تكون فكرة عن الشيء في صفاته العارضة أو فكرة عن الشيء في جوهره الثابت أو فكرة عن العلاقات التي تربط شيئًا بشيء، وهذه المعرفة — على اختلاف أنواعها من بسيطة ومركبة — منها ما يكون صورة مطابِقة للواقع، ومنها ما لا يكون بينه وبين الواقع شَبَه وإن يكن دالًّا عليه، وتلك هي الواقعية النقدية التي تجعل الواقع مصدر معلوماتنا، لكنها لا تتسرَّع بوصف معرفتنا كلها بوصف واحد، كأنها كلها من طبيعة واحدة، بل تُحلل أنواع المعرفة لترى ماذا يتشابه في أجزائها، وماذا يختلف، وماذا يصور الأشياء الخارجية تصوير الشبيه لشبيهه، وماذا لا يصورها؟