طبيعة المعرفة عند البراجماتيين
عندما أراد أنصار المذهب الواقعي بقسمَيْه أن يجيبوا عن السؤال الذي طرحناه عن المعرفة وهو: «ما طبيعة المعرفة؟» كان مدار البحث عندهم — كما رأيت — هو النظر فيما إذا كانت الفكرة من أفكارنا صورة مطابِقة للشيء الخارجي الذي تشير إليه تلك الفكرة، أو غير مطابِقة، ومتى يكون بين الفكرة والشيء الخارجي تطابق ومتى لا يكون، فكأنهم بذلك يريدون أن يقولوا إن طبيعة المعرفة هي تصوير للواقع، بحيث تكون الصورة تامة الشبه بمصوِّرها أحيانًا، ولا تكون كذلك أحيانًا أخرى، فأنت «تعرف» — بناءً على مذهب الواقعيين في المعرفة — بمقدار ما في رأسك من صور عن أشياء العالم ووقائعه.
لكنك قد تحمل في رأسك صورًا لكائنات العالم بأسره دون أن يؤديَ بك هذا إلى عملٍ تعمله، أي أن المعرفة على مذهب الواقعيين لا تتضمن سلوكًا معينًا يقوم به الشخص العارف، فما دام العقل عندهم مرآة تنطبع عليها آثار الأشياء الخارجية، وبمقدار ما يتزاحم في المرآة من صور تزداد خبرات الشخص ومعارفه؛ إذن فأمر الشخص العارف كأمر المرآة التي تتلقى صور الأشياء فلا تحركها تلك الصور خطوة إلى يمين أو يسار. ومن هنا كان الفلاسفة يفرقون بين الفكر والعمل، فيقولون إن رَجل الفكر قد لا يكون رَجلًا عمليًّا، ورَجل العمل قد لا يكون صاحب فكر، إيمانًا منهم بأن المعرفة شيء لا يَستدعي بالضرورة سلوكًا معينًا في الحياة العملية.
وجاء المذهب البراجماتي — أو المذهب العملي — في عصرنا الحديث، فغيَّر النظرة إلى طبيعة المعرفة بحيث لم يجعلها مجرد تصوير لعالم الواقع كما ظن الواقعيون، بل جعلها أداة للسلوك العملي؛ أي أن الفكرة من أفكارنا هي بمثابة خُطة يمكن الاهتداء بها في القيام بعملٍ معين، والفكرة التي لا تهدي إلى عمل يمكن أداؤه ليست فكرة، بل ليست شيئًا على الإطلاق، إلا أن تكون وهمًا في رأس صاحبها.
لو وقفتَ عند مفترق الطرق ورأيت النور الأحمر في مصباح المرور، ثم قلت: إني «أعرف» أن هذا اللون أحمر، فما معنى «معرفتي» هذه؟ أجابك الواقعيون بأن معناها هو أن في رأسك صورة للواقع — سواء كانت صورة مطابِقة للواقع أو غير مطابِقة — أما البراجماتي فيقول إنها لا تكون «معرفة» إلا إذا هَدَتْك إلى السلوك الذي تسلكه عند رؤيتك للنور الأحمر، فتعرف إلى أي اتجاه يجوز السير وفي أي اتجاه لا يجوز، أما مجرد ارتسام صورة لون أحمر على صفحة ذهنك فليس «معرفة» في قليل أو كثير. وهكذا تكون الفكرة فكرة إذا كان فيها ما يدل على نوع السلوك الناجح.
ولماذا تشذ «المعرفة» عن سائر وظائف الإنسان العضوية؟ إن كل هذه الوظائف إنما أريد لها حفظ البقاء، فالهضم والتنفس ودورة الدم وما إلى ذلك كلها وسائل لبقاء الكائن الحي حيًّا، فردًا كان أو نوعًا، فكيف لا تكون هذه الوظيفة البشرية الهامة، وظيفة «معرفة» الإنسان لما يحيط به هي الأخرى أداة تطورية بيولوجية يُراد بها أن يحتفظ الإنسان ببقائه، وهو إنما يحتفظ ببقائه بنوع السلوك الذي يسلكه فينجح به في بيئته، وقد كانت «المعرفة» تفقد كل قيمتها لو كانت مجرد تصوير العالم على صفحة الذهن دون أن تكون إجراءات سلوكية تؤدي إلى حفظ البقاء في هذا المعترك الذي تُنازِل فيه الكائنات بعضها بعضًا؛ ليبقى منها الصالح للبقاء ويفنى منها غير الصالح.
الفكرة التي تحيا في الذهن ولا تخرج إلى عمل ليست من «المعرفة» بمعناها الصحيح، ومقياس صواب الفكرة هو رسمها لطريقة إنجاز عمل معين؛ ولذلك كانت الفكرة الصائبة هي الفكرة النافعة، وإذا لم يكن للفكرة المعينة أثر عملي أو نفع في حياة الإنسان، لم تكن جديرة أن تسمى ﺑ «معرفة»، ففكرة الجاذبية مثلًا صادقة بمقدار ما هي نافعة نفعًا عمليًّا، فتراني أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيمًا يصون لي حياتي وحاجاتي، فأحمل كوب الماء مثلًا وفوهته إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية، وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد سكني مستقيم الجدار؛ لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهَلُمَّ جَرًّا. أما إذا فرضنا أن فكرة الجاذبية لا أثر لها في حياتنا العملية قط، فإنها عندئذ لا تكون من «المعرفة» في شيء؛ إذ ماذا عساني أن «أعرف» إذا لم أعرف كيف أسلك إزاءَ العالم الذي أعيش فيه؟
هل تقول عن الطبيب إنه «يعرف» شيئًا من علم الطب إذا لم يكن قادرًا على ترجمة معرفته إلى عمل ناجح إزاء مريضه؟ وهل تقول عن المهندس الميكانيكي إنه «يعرف» شيئًا عن عُدة السيارة إذا كان عاجزًا عن عملٍ إزاءَها حين يصيبها العطب حتى تعود إلى الحركة والسير؟ هل تقول عن نفسك إنك «تعرف» الطريق إلى المحطة إذا لم تكن قادرًا على رسم خطة للسير بحيث تنتهي بك إلى هناك إذا أردت ذلك؟ وهكذا قُلْ في كل ضروب المعرفة، إنها لا تكون معرفة إلا إذا كانت في حقيقتها خطة مرسومة لعمل ناجح يؤدَّى في عالم الأشياء فيغيره على النحو الذي يجعله أكثر ملاءمة لحياة الإنسان. الفكرة التي لا تساعد صاحبها على تغيير أوضاع الأشياء من حوله تغييرًا يؤدي إلى ارتياحه ليست من الفكر في شيء، إنه لا فرق بين الفكر والعمل؛ لأن الفكر في حقيقته وفي طبيعته هو برنامج للعمل.
وتستطيع بصفة عامة أن تقول إن طريقة فهمنا لفكرةٍ من الأفكار هي أن نتصور ما قد ينتج عن هذه الفكرة من آثار في خبراتك العملية، فتكون مجموعة هذه النتائج هي بذاتها معنى الفكرة التي أردنا فهمها. وأحب لك أن تلاحظ جيدًا مقدار النقلة التي انتقلها البراجماتيون بالنسبة إلى الواقعيين الذين أسلفنا لك شرح رأيهم؛ فقد كان معنى الفكرة من أفكارنا عند هؤلاء الواقعيين هو الشيء الذي في العالم الخارجي والذي كان أصلًا للصورة التي ارتسمتْ في الذهن، أما معنى الفكرة عند البراجماتيين فليس هو «أصلها» بل «نتائجها»، ليس هو في البداية التي ابتدأت منها بل في النهاية التي ستنتهي إليها.
خذْ لذلك مثلًا قولي «قد نَفِد المِداد مِن قلمي» فما المعنى الذي تفهمه من هذه العبارة؟ ما المعرفة التي تحصل منها؟ يجيب الفيلسوف البراجماتي عن ذلك بقوله إنني لو أحصيت ما أتوقعه من نتائج في خبرتي العملية لهذه العبارة فقد فهمتها وعرفتها، فمثلًا أتوقع ألا يكتب القلم شيئًا لو خططت به على الورق، وأتوقع أن يجتذب إلى داخله قطرات من المِداد لو أردت أن أملأه وهكذا. خذ مَثلًا آخر قولي «قد انطفأتِ النارُ في غليوني»، فماذا تفهم من هذه العبارة؟ أفهم العبارة لو عرفتُ نتائجها، كأنْ أعرف أني لو استنشقت خلال الغليون لما أحسست تبغًا، ولو وضعت إصبعي في إنائها لما احترق، وهكذا، ولتلاحظ أن هذه النتائج التي أتوقعها في الخبرة العملية من فكرة بعينها هي بذاتها معنى الفكرة. وإذن فالفكرة التي لا أستطيع أن أهتديَ منها إلى ما عساه أن يقع في الخبرة من نتائج لا تكون فكرةً على الإطلاق؛ لأنها عندئذ تكون بغير معنى.
هذه هي النظرية البراجماتية في معاني أفكاره، ومما يترتب على هذه النظرية العملية أننا لو كنا إزاء فكرتين يبدو عليهما التناقض أو الاختلاف، ثم وجدنا أن كلًّا منهما من حيث نتائجها العملية كزميلتها سواءً بسواء؛ حكمنا عليهما بأنهما فكرتان متطابقتان متساويتان. مثال ذلك: افرض أني قلت لك عن هذه المنضدة إن طولها متر، ثم قال عنها قائل آخر إن طولها ليس مترًا بل هو أكثر من متر بمقدارٍ يتعذر قياسه بآلات القياسة المعروفة لنا، فإن هذين القولين يبدوان مختلفين، لكن حاوِلْ أن تفهم معنى كل منهما بتتبع النتائج المرتقَبة؛ تجد أنك في الحالة الأولى وفي الحالة الثانية على حد سواء لن يسعك إلا أن تقوم بعملية واحدة، وهو أن تقيس المنضدة بأدوات القياس المعروفة لتجد طولها مترًا، وإذن فالقولان متساويان مهما ظهر في لفظهما من اختلاف.
وكذلك مما يترتب على هذه النظرية أن أية عبارة تحدثك حديثًا لا تكون له نتائج فعلية أو ممكنة في خبرتك العملية؛ كانت عبارة بغير معنى. مثال ذلك: أن أقول لك إن في المكان الفلاني كائنًا روحانيًّا لا يمكن أن تراه الأبصار وليس هو بذي صوت تسمعه الآذان ولا رائحة له تشمها الأنوف، ولا تستطيع أن تصدمه بجسم صلب أو تمسه بيديك. فهذا كلام فارغ أجوف ليس له معنى؛ لأنه لا يتضمن نتائج عملية يمكنك أداؤها إزاءَ هذا الكائن المزعوم.
لكن وليم جيمس يُبْدي رأيه في العبارة التي تُحدثنا عن وجود الله فيقول إنها ذات معنى، على أساس نظريته، على الرغم من أنني لن أحس لوجوده إحساسًا بواحدة من حواسي كالعين أو الأذن أو الأصابع؛ ذلك لأن هذا الاعتقاد عند الناس له آثاره الكثيرة في وجهة نظرهم إلى الحياة؛ فهو قد يسبب لهم التفاؤل والأمل وغير ذلك مما يؤثر تأثيرًا مباشرًا في طريقة العيش التي يَحيَوْنها.
وكذلك من النتائج التي تترتب على النظرية البراجماتية فتجعلها بعيدة الاختلاف عن النظرية الواقعية أن صدق المعرفة درجات؛ أي أنك قد تجد فكرتين كلتاهما صادق، لكن واحدة أصدق من الأخرى؛ لأنها أنجح منها في مجال السلوك العملي، مع أنه لو كان رأي الواقعيين في المعرفة صوابًا — أي أنه لو كانت المعرفة هي صورة للواقع تُرْسَم على الذهن — لكانت المعرفة إما صوابًا كل الصواب أو خطأً كل الخطأ؛ لأنه لا وسط بين الطرفين؛ إذ الفكرة عندئذٍ إما أن تكون صادقة التصوير لما تُصوِّره أو غير صادقة. أما وقد جعلنا معنى الفكرة نتائجها لا أصلها؛ أعني أننا قد جعلنا معنى الفكرة نفعها العملي لا مجرد تصويرها للحقيقة تصويرًا محايدًا قد ينفع وقد لا ينفع، فمن الممكن أن تتفاوت الأفكار في النفع؛ وبالتالي تتفاوت في درجة الصدق.
والخلاصة هي أن المعرفة عند البراجماتيين ليست نسخة من أصلٍ هو الحقيقة الخارجية، بل المعرفة بيان لما يمكن أن يكون عليه سلوكنا في حياتنا العملية، بحيث نحقق رضى النفس لأكثر عدد ممكن من الناس.
وبالطبع لا تخلو هذه النظرية البراجماتية من أوجه النقص، فليس من العسير أن تجد أمثلة من معارفنا لا تفسرها هذه النظرية تفسيرًا مقبولًا. خذ لذلك هذا المَثَل: إذا قلتَ لي إن كولمبس قد عبر المحيط الأطلسي سنة ١٤٩٢م، وأردتُ أن أعرف إن كان قولك هو الصواب، فبناءً على النظرية البراجماتية ينبغي أن أنظر في نتائج هذا القول لا في أسبابه، فإنْ وجدتها نتائج أدعى إلى السلوك الناجح كان القول صحيحًا. لكن ما الفرق من حيث النتائج العملية بين من يقول ذلك، ومن يقول عن رحلة كولمبس إنها وقعت سنة ١٤٩١ أو سنة ١٤٩٣م؟ إنه من العسير أن نتبين فرقًا في النتائج، اللهم إلا أن القائل بالعبارة الأولى لو كان طالبًا في امتحانٍ فإنه يجتاز امتحانه بنجاح، على خلاف القائل بالعبارة الثانية أو الثالثة.
إننا لو جعلنا حسن النتائج المترتبة على الفكرة هو مقياس صدقها؛ لوجدنا عبارات مقطوعًا ببطلانها صحيحة على هذا المقياس، فمثلًا قولنا عن سانتا كلوز: إنه موجود (سانتا كلوز شخص خيالي يقال للأطفال في عيد الميلاد المسيحي: إنه يزورهم وهم نيام فيترك لهم هدايا العيد) يكون قولًا صحيحًا إذا قيس بنتائجه الطيبة على أنفس الأطفال وآبائهم جميعًا.
وخذ أيضًا هذا المَثَل: إذا رأيت البرق يلمع في السماء وتوقعت أن تسمع الرعد بعد ذلك ثم سمعته فعلًا، فإنك تقول إن توقعك كان صوابًا لا لأن اعتقادك بأنك ستسمع صوت الرعد سينفع أو لا ينفع في حياتك اليومية، بل هو صواب لأنه اعتقاد مطابق لما وقع في العالم الخارجي لا أكثر ولا أقل. والظاهر أن كثيرًا جدًّا من معلوماتنا في الحياة اليومية الجارية يكون صوابًا أو خطأً على الرغم من نفع الصواب في حياتنا أو عدم نفعه؛ فمعرفتي مثلًا بأن فلانًا يسكن في المنزل الفلاني، وأن قطار الإسكندرية يقوم من القاهرة في الساعة الفلانية وهكذا، تكون معرفة صحيحة أو غير صحيحة لمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع. وبعد ذلك فقد تكون معرفة نافعة في حياتي أو غير نافعة، أي أن الصواب والخطأ في كثير من الأحيان يتقرران قبل تتبع نتائج الفكرة لمعرفة نفعها أو ضررها، ولو كان عامل النفع العملي وحده هو مقياس صواب الفكرة، بل مقياس معناها وقابليتها للفهم كما يقول البراجماتيون؛ لكان صواب الفكرة من أفكارنا متوقفًا إلى حدٍّ كبير على قانون العقوبات ونوع الحكومة القائمة وأمزجة أصحاب السلطة، فاعتقاد ساكن الروسيا بالشيوعية يكون صوابًا حتمًا واعتقاده بالديمقراطية يكون خطأً حتمًا، على حين يكون اعتقاد ساكن الولايات المتحدة بالديمقراطية صوابًا واعتقاده بالشيوعية يكون خطأً؛ لأنه إن كان مدار الصواب على النتائج فساكن الروسيا إذا اعتقد في الديمقراطية وُضِعَ في السجن، وكذلك يُضطهد في أمريكا مَنْ يعتقد في النظام الشيوعي. وهكذا يتغير الصواب بتغير الظروف السياسية إن أخذنا بوجهة نظر البراجماتيين على إطلاقها.