مصدر المعرفة عند التجريبيين
ألقينا على أنفسنا في الباب الأول سُؤالًا عن طبيعة المعرفة ما هي؟ وتتبعنا الإجابة عند المذاهب المختلفة، وها نحن أُولاءِ نُلقي عن «المعرفة» سؤالًا ثانيًا، هو: ما مصدرها؟ ما وسيلتنا إليها؟ لتكن طبيعتها ما تكون، لتكن كما قال عنها الواقعيون من أنها صورة لعالم الواقع، أو كما قال عنها البراجماتيون من أنها طريقة للسلوك في دنيا الواقع، أو كما قال عنها المثاليون من أنها مدرَكات عقلية تكون هي الفكر وهي الأشياء في آنٍ معًا، لتكن ما تكون في طبيعتها، ولكن سؤالنا الآن هو: مِن أيِّ السبل جاءتنا؟ ومِن أيِّ مصدر استقيناها؟
يجيب التجريبيون بقولهم: إن مصدر معارفنا جميعًا هو الخبرة الحسيَّة، ووسيلتها هي الحواس. عرفتُ البرتقالة — مثلًا — لأنِّي رأيت لونها بالعين، وذقت طعمها باللِّسان، وشممت رائحتها بالأنف، ولمست سطحها بالأصابع فعرفت استدارتها ومدى صلابتها وهكذا، وما البرتقالة عندي إلا هذه الإدراكات الحسيَّة جميعًا، ولو أقفلت أبواب الحواس واحدًا بعد واحد؛ لامتنعتْ عليَّ المعرفة جانبًا بعد جانب حتى تمتنع المعرفة كلها إذا أقفلت الأبواب كلها.
تتألَّف معرفة الإنسان من الإحساسات التي يتلقاها عن طريق حواسه المختلفة، فها أنا ذا أشْخَصُ ببصري إلى المكتب الذي أمامي فأتلقى صورة لونيَّة، لكنني إذا ما أقفلت عيني فإنِّي سأظلُّ محتفظًا بهذه الصورة اللونيَّة التي كنت تلقيتها وأنا شاخص ببصري. غير أن الصورة في الحالة الثانية وإن احتفظت بما كانت عليه في الحالة الأولى من تفصيلات إلا أنها أقل منها وضوحًا. ويطلق (هيوم) على الصورة التي تلقيتها في الحالة الأولى اسم «الأثر الحسي»، ويُطلَق على الصورة التي احتفظت بها في الحالة الثانية اسم «الفكرة». وهكذا يقسم مدركاتنا قسمين أساسيين، هما: «الآثار الحسية» و«الأفكار»، وما «الأفكار» إلا «الآثار الحسية» نفسها ولكن بعد غياب المؤثرات التي أحدثتها؛ ومن هنا كان الفرق بينهما في القوة والوضوح، فكأنما الأفكار آثار حسية تقادم عهدها فوهنت قوتها وقلَّ وضوحها، وما دام الأمر كذلك فلا تنشأ في العقل «أفكار» إلا إذا سبقتها «آثار حسية»؛ وإذن فالأثر الحسي — أو الانطباع الحسي — هو المرجع الذي نقيس به صحة الفكرة التي نريد اختبار صوابها، فإذا استطعنا أن نتعقب الفكرة إلى أصولها الأولى التي جاءت مباشرة عن طريق الحواس، كان للفكرة سند من الواقع تستند إليه؛ وبالتالي كانت فكرة صوابًا، أما إذا حلَّلنا الفكرة إلى عناصرها فوجدنا أن هذه العناصر — كلها أو بعضها — لم يكن مما انطبعت به الحواس بادئ ذي بدء، فليست هي بالفكرة الصحيحة التي يصح الرُّكون إليها، وإنما نقول ذلك؛ لأن العقل بعد أن يتلقى ما يتلقاه من انطباعات حسيَّة لا يبقيها على حالها أفكارًا بينها وبين تلك الانطباعات تطابق، بل يتناولها بالتركيب حتى لتتكوَّن فيه صور مركبة لا تشبه في تركيبها هذا شيئًا مما تلقيناه من الحواس، فعلينا عندئذ أن نعيد تحليل هذه الأفكار المركَّبة إلى أجزائها وعناصرها؛ لنرى إن كانت تلك الأجزاء والعناصر قد جاءت أول ما جاءت عن طريق الحواس.
والآن فلنطبق هذا المبدأ على ثلاثة أفكار هامة؛ ليتضح المبدأ بتطبيقه أولًا، ولنتبين حقيقة هذه الأفكار الهامة ثانيًا، وأعني بها فكرة السببية التي نفسر بها ارتباط الحوادث، وفكرة العنصر أو الجوهر التي بواسطتها نتصور أن الشيء يدوم على الرغم من تغير حالاته، وفكرة الذات التي نفترضها في الإنسان لنفسر بها وحدته واستمراره فردًا بذاته مهما طرأ عليه من أحداث:
-
(١)
إننا نقول أحيانًا عن الحوادث في تتابعها إن حادثة منها سبب لأخرى؛ فمثلًا إذا رأينا كرة متحركة تصدم أخرى ساكنة فتحركها قلنا إن الكرة الأولى بحركتها قد سببت حركة الكرة الثانية، ونريد الآن أن نحلل هذه العلاقة السببية التي نجعلها رباطًا يربط حادثة بحادثة أخرى؛ فبناءً على المبدأ الذي أسلفناه والذي قلنا إنه الأساس الذي نحكم به على فكرة بالقبول أو بالرفض؛ نسأل أنفسنا: ما هي الانطباعات الحسية الأولى التي تلقتها حواسي بحيث كونت منها فيما بعدُ فكرة السببية هذه؟ انظر إلى المثال السابق: كرة متحركة صدمت كرة ساكنة فتحركت هذه الكرة على أثر الصدمة، ماذا رأت عينك مما حدث؟ كل ما رأته هو الفكرة الأولى متحركة وبعد لحظة معينة بدأت الكرة الثانية في الحركة، فعينك لم ترَ فيما رأت «سببية» تربط الكرة الأولى بالكرة الثانية، وإذن فلم يكن لهذه الفكرة أصل بين الإحساسات التي تلقيتها؛ وبالتالي لم يكن تكوينها مشروعًا.
هكذا ترى الإنسان كلما لاحظ أن حادثتين قد اطَّرد وقوعهما معًا، أو اطَّرد وقوعُهما متتابعتين؛ ظن أن بينهما علاقة ضرورية بحيث إذا وقعت الأولى فلا بدَّ كذلك أن تقع الثانية، وأطلق على هذه العلاقة الضروريَّة بين الحوادث اسم «السَّببيَّة»، ثم عمَّم القول عن السَّببيَّة بحيث يتعذر عليه التسليم بوقوع حادثة إلا إذا كان لها سببٌ أحدثَ وقوعها، بل إن القوانين العلمية نفسها كانت تتضمن التسليم بضرورة قيام علاقة السببية هذه بين ظواهر الطبيعة، بحيث إذا تكرر وقوع السبب فلا بد أن يتكرر كذلك وقوع المسبب، والقانون العلمي نفسه كان مأخوذًا على أنه ربط سببي بين ظاهرتين، كأن نربط العلاقة — مثلًا — بين اتجاه الرياح وسقوط المطر، فلو اتجهت الرياح في هبوبها اتجاهًا معينًا سببت نزول المطر، ولا يمكن أن تحدث الظاهرة الأولى دون أن تتبعها الظاهرة الثانية.
لكننا نعود فنكرر أنني مهما أنعمْتُ النظر فيما يجري في الطبيعة من حولي فلن أشاهد إلا ظواهر تقع معًا أو تقع متتابعة، ولن أشاهد بينها «ضرورة» تحتِّم أن يكون وقوعها على هذا النحو الذي وقعت عليه، فقد ألاحظ اتجاه الرياح وألاحظ سقوط المطر، لكني لا ألاحظ بينهما «ضرورة» تجعل سقوط المطر محتومًا لو هبَّت الرياح في اتجاهها ذاك؛ إذن فلنا أن نسأل: ما الذي أغرى الإنسان بالتبرع من عنده بهذه العلاقة السببية يربط بها الحوادث إذا كانت لم تكن بين انطباعاته الحسية؟
إن حقيقة الأمر لا تزيد على أن الإنسان «يتعود» رؤية الحادثة «أ» مرتبطة بالحادثة «ب»؛ لأنه يراهما متجاورتين دائمًا تجاورًا زمنيًّا، فكلما حدثت «أ» توقع أن تحدث «ب» كذلك كما فعلت في المرات السابقة، وقد يكون مصيبًا في توقعه لحدوث «ب»؛ لأن الحوادث إذا اطَّرد تلازمها فيما مضى فالأرجح أن تظل على اطرادها في المستقبل كذلك، لكن وجه الخطأ هو أن يظن أن حدوث «ب» أمر ضروري محتوم لا مفر منه ما دامت «أ» قد حدثت، وما دام الاثنتان قد شوهدتا متلازمتين دائمًا فيما مضى، وكثيرًا ما يخطئ المرء في توقعه هذا؛ فقد يزورني صديق يوم الجمعة كل أسبوع، وقد يكرر ذلك ألف مرة، حتى إذا ما جاء يوم الجمعة توقعت على ترجيح شديد أن يزورني هذا الصديق على عادته، لكن لا «ضرورة» هناك تحتِّم هذه الزيارة. وهكذا قُل في أيِّ حادثتين في الطبيعة تلاحِظ بينهما التلازم دائمًا؛ فهذا التلازم الذي لاحظته بينهما لا يبرر لك أن تفترض بينهما علاقة «ضرورية» تحتِّم وقوع إحداهما إذا وقعت الأخرى؛ إذ لا يزيد الأمر على ترجيح شديد أن يتكرر هذا التلازم في المستقبل، لكن الترجيح مهما اشتدت درجته فهو ليس الضرورة اليقينية التي يفترضها الناس في العلاقة بين السبب ومسبِّبه.
إن من طبيعة الإنسان — بل والحيوان أيضًا — أن يربط بين أجزاء الخبرة على هذا النحو، بحيث يستدعي جزءًا جزءًا ما دام الجزءان قد تكرر وقوعهما متلازمين أو متلاحقين، وهذا هو أساس العادات. إنك إذا تعودت الكتابة أو السباحة أو ركوب الدراجة أو ربط رباط الرقبة، كان معنى ذلك أنك كررتَ حركاتِ واحدةٍ بعد أخرى بحيث ارتبطت الحركة بالتي تليها ارتباطًا يجعل حدوث الأولى داعيًا لحدوث التي تليها. وقد يكون هذا النوع من الارتباط نفسه في التفكير، فإذا تلازمت فكرتان أو تلاحَقَتا في عقلك عدة مرات، ثم حدث أنْ وردت أولاهما كان ورودها داعيًا لورود الأخرى، وإنك لتشاهد الظاهرة نفسها في الحيوان، فلو أخذْتَ الطعام إلى كلبٍ عندك أو قطة عدة مرات، حدث ارتباط عند الحيوان بين شكلك وبين الطعام، بحيث لو رآك بعد ذلك في الموعد نفسه سال لعابه كما لو كان قد شاهَدَ طعامًا. وهذا الارتباط بعينه بين ظواهر الطبيعة هو الذي يؤدي بالإنسان إلى توقُّع حدوث إحدى الظاهرتين المتلازمتين لو وقعت الأخرى، وهو هو الارتباط الذي أطلق عليه الإنسان اسم «السببية» بين الحوادث.
إننا لا نقول إنه ليس بين حوادث الطبيعة ارتباط وصلات، بل كل ما نقوله هو أن هذا الارتباط ليس «ضروريًّا» حتى لو شوهد مطردًا بين الحوادث آلاف المرات؛ ذلك لأنه ليس في مشاهداتنا الحسية مشاهدة انطبعت على شبكية العين أو قرعت طبلة الأذن اسمها «ضرورة» في التلازم، كما تنطبع على حواسنا الألوان والأصوات والروائح والطعوم.
-
(٢)
وننتقل الآن إلى تحليل فكرة هامة أخرى من أفكارنا وهي: فكرة «العنصر» أو «الجوهر»؛ لنرى إنْ كانت هي الأخرى فكرة مشروعة فنقبلها أم غير مشروعة فنرفضها، وذلك على أساس المبدأ الذي أسلفناه، وهو أن الفكرة تُقْبَل إذا أمكن ردُّها إلى الانطباعات الحسية التي منها تكوَّنت الفكرة فيما بعد.
لكن ماذا نعني بالعنصر أو بالجوهر في لغة الفلسفة؟ خذ البرتقالة مثلًا؛ فكل ما تدركه منها ظاهرات حسية، كل حاسة من حواسك تدرِك من البرتقالة جانبًا من جوانبها؛ فالعين تدرِك اللون واللسان يدرِك الطعم والأنف يدرِك الرائحة، وهكذا، فهل إذا أنت أحصيت كل ظاهرات البرتقالة كما تتلقاها الحواس تكون بذلك قد استنفدت حقيقة البرتقالة بأسرها؟ أم أن هذه الظاهرات إنْ هي إلا ظواهر البرتقالة؟ إنك تقول إن «البرتقالة» صفراء، و«البرتقالة» مستديرة و«البرتقالة» حلوة، وهكذا. وواضح من قولك هذا أن اللون الأصفر والشكل المستدير والطعم الحلو كلها صفات تصف «البرتقالة»؛ وإذن فالبرتقالة شيء غير الصفات التي تصفه، البرتقالة «جوهر» تطرأ عليه هذه الصفات التي هي أعراض قد تتغيَّر دون أن تصبح البرتقالة شيئًا آخر. قد يتغير اللون فيكون أخضر بدل الأصفر، وقد يتغير الطعم فيكون مُرًّا بدل الحلو، لكن «البرتقالة» هي هي برتقالة كما كانت. هذا الشيء الثابت فيها، والذي تتعلق به تلك الصفات جميعًا هو ما تسميه الفلسفة بالعنصر أو بالجوهر.
وليست الفلسفة وحدها هي التي تفترض وجود جوهر لكل شيء تتعلق به صفاته، بل الإنسان العادي في حياته اليومية يعامل الأشياء على هذا الافتراض نفسه، فلو أطلعْتَ إنسانًا عاديًّا على مكتبي هذا الذي أكتب عليه، وجعلتَه يلاحظ كيف أن اختلاف الضوء يغيِّر من لونه، وكيف أن اختلاف البعد يغيِّر من حجمه، وكيف أن اختلاف زاوية النظر يغيِّر من درجة استطالة سطحه وزوايا أركانه. ثم لو طلبت إليه أن يستنتج من هذه الاختلافات كلها بين الحالات المتتابعة التي نشاهد فيها المكتب. أقول: إني لو طلبت منه أن يستنتج من ذلك أنْ ليس هناك مكتب واحد دائم على حالٍ واحدة، بل هناك عدة حالات متتابعة لا يربط بينها رابط دائم؛ لرفض ذلك على أساس الافتراض الذي أشرنا إليه، وهو أن هناك «داخل» هذه الحالات المتغيرة المتتابعة «حقيقة» ثابتة أو «عنصرًا» ثابتًا هو الذي نعنيه حين نتحدث عن هذا المكتب، بغض النظر عما يطرأ عليه من حالات مختلفات، وهذا «العنصر» الثابت هو الذي يخلع على المكتب ذاتيته ودوامه.
لكن أرجع إلى مبدئنا الذي أسلفناه، وهو المبدأ الذي يرفض الفكرة التي لم تنطبع بها حواسنا، ثم اسأل نفسك: ما الحاسة التي انطبعتْ عليها صورة هذا «العنصر» الخفي المزعوم؟ إنها لم تكن العين، ولا الأذن، ولا الأصابع، ولا أية حاسة أخرى. وإذن فالفكرة اختلاق من أوهامنا، وليس هناك من المكتب — أو من أيِّ شيء في العالم — إلا حالاته المتتابعات التي يمكن أن تنطبع الحواس بآثارها.
-
(٣)
والقول نفسه ينطبق على «الذات» الإنسانية؛ فانظر إلى باطن نفسك تجد ما تلاحظه هناك حالات نفسية متلاحقة واحدة بعد أخرى، ولن تلاحظ بينها حالة يمكن أن تطلق عليها اسم «ذات» أو «عقل» أو «وعي» أو «روح» أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي نطلقها لنعني بها «جوهرًا» أو «عنصرًا» خفيًّا نفرض وجوده ليمسك هذه الحالات النفسية في «شخص» واحد أو «ذات» واحدة لها استمرار ودوام، فحالاتنا النفسية متتابعة لكنها منفرطة منفصلة كحبات العِقد التي لا يمسكها خيط واحد، لكن الإنسان يميل إلى أن يجعل من نفسه «شخصًا» واحدًا امتد خلال الطفولة والشباب والكهولة، نعم إن مختلف الحالات تتعاوره وتطرأ عليه من صحة ومرض ووقوف ومشي وقعود وأكل وهضم وصحو ونعاس … إلخ إلخ، لكنه يريد لنفسه أن يكون «ذاتًا» واحدة مستمرة هي التي تطرأ عليها هذه الأحوال، أما هي فثابتة، وثباتها هذا هو الذي يخلع على الفرد ذاتيته، لكننا لو أخذنا بمبدأ هيوم في اكتساب المعرفة؛ ألفينا هذه «الذات» الثابتة وهمًا لا ضرورة لافتراضه؛ لأنه ليس مما تأثرت به الحواس.