مصدر المعرفة عند النقديين
والمقصود بكلمة «النقد» حين تُسْتَعمل في وصف فلسفة بأنها «نقدية» هو تحليل الأحكام التي نطلقها على الأشياء — أو إن شئتَ فقُل هو تحليل المعرفة — تحليلًا ينتهي بنا إلى استخراج الأصول الصورية التي لا بد من افتراضها لكي نطلق ما أطلقنا من أحكام أعني لا بد من افتراضها لكي نعرف ما نعرف؛ فافرض مثلًا أني قلت هذه العبارة الآتية: ركبت القطار «قبلَ» قيامه بدقيقتين، فهل كان يمكن أن أقول قولًا كهذا وأن يكون له معنًى مفهوم ما لم يكن قد سبق ذلك في ذهني افتراض؛ هو أن الحوادث تتتابع في الحدوث؛ أي أن هنالك تسلسلًا في اللحظات الزمنية؟ إنه بغير هذا الافتراض يكون مُحالًا أن أنسب حادثة إلى حادثة أخرى فأجعلها «قبلها» أو «بعدها»، ثم هل يمكن أن أفترض وجود اللحظات الزمنية متتابعة دون أن يسبق ذلك في الذهن افتراض بأن العالم ليس حقيقة واحدة بل يتألف من كثرة من حقائق تأتي متتابعة؟ إذن فعبارتي الأولى التي قلتُها لأصف بها ما حدث — وهو أني ركبت القطار قبل قيامه — كانت تنطوي على أصل عقلي — أي أصل منطقي — وهو «الكثرة» أو «التعدد»، ولولا تصوري للكثرة لما تصورت تسلسل الزمن، ثم لولا تصوري لتسلسل الزمن لما استطعت أن أقول عن ركوبي القطار إنه جاء «قبل» قيامه. هذه المحاولة وأمثالها التي نحاول بها أن نستخرج ما وراء أحكامنا من أصول عقلية هي التي تُسمَّى في الفلسفة «بالنقد» أو «التحليل». والفلسفة تكون «نقدية» إذا جعلت هدفها الأساسي تحليل أفكارنا لاستخراج الأصول المنطقية الكامنة وراءها، والتي لولاها لما استطعنا أن نكوِّن تلك الأفكار.
والفيلسوف النقدي — إذ يستعرض أحكامنا ويحللها على هذا النحو الذي يستخرج به تلك الأصول المنطقية — يحاول أن يردَّ هذه الأصول إلى أقل عدد ممكن؛ هي التي تكوِّن — في رأيه — الصور الأولى التي تُمْلَأ بالمعارف المختلفة، وهذه الصور أو هذه الإطارات التي تُصب فيها خبراتنا تُسمَّى في الفلسفة ﺑ «المقولات»؛ فقولي — مثلًا: «إن المنزل قد أحرقتْه النار.» وقولي: «إن الرجل قد قتله الرصاص.» هما قولان من «مقولة» واحدة على الرغم من اختلاف العبارتين اختلافًا بعيدًا في مادة معناهما؛ لأن الصورة في كل منهما هي نفسها الصورة في الأخرى، وهذه الصورة أو هذا الإطار أو هذا القالب المشترك بينهما هو أن «أ» سبب «ب». وإذن فهذان القولان وكل قول آخر يشبههما إنما ترتد كلها إلى «مقولة» واحدة هي مقولة السببية؛ فالسؤال الذي يلقيه الفيلسوف النقدي على نفسه ويحاول الإجابة عنه هو: ما هي «المقولات» التي ترتد إليها أحكام الناس البادية في كلامهم مهما اختلفت هذه الأحكام في مضمونها؟
فالفرق الجوهري بين المقولة وما يملؤها من معرفة هو أن الأولى عقلية تكون في طبيعة الإنسان قبل الخبرة، وأما الثانية فتأتي بعد الخبرة؛ أي أن القالب نظري والحشو مكتسب. وإذن فعمل الفيلسوف النقدي وهو يحلل حكمًا من أحكامنا على الأشياء؛ أي وهو يحلل جملة من الجمل التي نقولها لنعبر بها عن أفكارنا. أقول: إن عمل الفيلسوف النقدي — وهو يحلل حكمًا من أحكامنا ليستخرج الإطار الذي صب فيه ذلك الحكم — هو أن يحلل الحكم ليفرز فيه أحد عنصريه عن الآخر، فيفصل القالب الصوري عن المضمون التجريبي الذي يملؤه. وقد كانت هذه هي المحاولة التي قام بها «كانْت» في كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»؛ إذ أراد به أن يقيم البرهان على أنه على الرغم من أن معرفة الإنسان يستحيل أن تجاوز حدود خبرته الحسية إلا أن هذه الخبرة الحسية نفسها لا بد لها من إطارات أو قوالب أو مقولات تكون فطرية في طبيعة العقل لتتشكل الخبرة الحسية على غرارها.
أما التقسيم الأول الذي يقسم الأحكام إلى ما هو تكراري وما هو إخباري فشرحه كما يأتي:
الجملة تكون تكرارية إذا كان الخبر الذي جاءت لتخبر به هو نفسه جزء من الموضوع الذي تتحدث عنه الجملة وتخبر عنه. ونضع هذا المعنى بلغة المنطق فنقول: إن القضية التكرارية هي التي يكون فيها المحمول جزءًا من الموضوع، فمثلًا إذا قلت لك: «إن المصباح المضي مصباح» أو «إن المثلث المتساوي الأضلاع مثلث» كان قولي تكراريًّا، الخبر فيه جزء من المُخْبَر عنه؛ وإذن فهو قول لا يأتي بجديد سوى أن يبرز بعض عناصر الموضوع الذي هو مدار الحديث، وبالطبع لا يكون التكرار دائمًا في الجملة التكرارية بهذا الوضوح الذي تراه في المثلين السابقين، بل كثيرًا ما يَخفَى على التفكير العابر السريع.؛ فمثلًا إذا قلت «إن الكوكب هو ما يدور حول الشمس» فقد يخيل إليك للوهلة الأولى أنني هنا أجيئك بخبر جديد عن «الكوكب»، وأنني بهذه الجملة لا أكرر لفظ المخبَر عنه في الخبر، لكنك إذا أمعنت النظر وجدتني في هذه الجملة أيضًا أكرر الشيء الواحد مرتين دون أن أضيف خبرًا جديدًا؛ لأنك لو اعترضت عليَّ بقولك: عرِّف لي الكوكب قبل أن تخبرني عنه بأنه يدور حول الشمس أو لا يدور؛ لَما وجدت تعريفًا للفظة «كوكب» أقوله لك سوى أنه «ما يدور حول الشمس»؛ وإذن فأنا في الحقيقة لم أَزِدْ في عبارتي التي قلتُها أولًا على أن وضعتُ الشيء وتعريفه، ولمَّا كان الشيء مساويًا لتعريفه، فقد وضعت في عبارتي الأولى لفظًا وما يساويه؛ أي كررته مرتين، وإن يكن تكراره قد جاء في صورتين مختلفتين ظاهرًا.
وأما الجملة الإخبارية فهي التي تضيف خبرًا جديدًا يُقال عن موضوع الحديث، بحيث إذا عرفت هذا الموضوع جاء التعريف خاليًا من ذلك الخبر الجديد، وكل معرفة تجيء عن طريق الخبرة الحسية هي من هذا القبيل، فلو قلتُ مثلًا «كان السبت الماضي يومًا ممطرًا» كنتُ بهذا القول أخبر عن يوم السبت الماضي بخبر ليس بالضرورة جزءًا من معناه، فمهما حلَّلتَ معنى «السبت الماضي» فلن تجد جزءًا من هذا المعنى أنه يوم ممطر؛ فوصفي له بهذه الصفة هو نتيجة الخبرة الفعلية التي خبرتها بحواسي.
فبينما الجملة التكرارية لا تحتاج إلى خبرة حسية تؤيدها أو تفنِّدها؛ لأنها تكرر القول ولا تضيف جديدًا، فالجملة الإخبارية مدار تأييدها أو تفنيدها على الخبرة الحسية. فإن قلتُ لك «إن المصباح المضيء مصباح» فليس هناك ما يدعو إلى مراجعة شيء في عالم الواقع لتعرف إن كان قولي هذا صحيحًا أو خاطئًا. أما إذا قلت لك «إن المصباح المضي مصنوع من الفِضة» فها هنا إذا أردت التحقق من صدق قولي كان لا بد لك من الرجوع إلى الواقع لترى إن كان المصباح — الذي هو موضوع الحديث — مصنوعًا من الفضة أو لم يكن، فإن كان صدق الجملة التكرارية متوقفًا على اتساق أجزائها — أي على عدد التناقض بين أجزائها — فصدق الجملة الإخبارية متوقف على مطابقة الخبر للواقعة التي جاءت الجملة لتصورها وتخبر عنها.
وننتقل الآن إلى التقسيم الثاني لأحكامنا إلى ما هو قبل الخبرة وما هو بعدها، أو بالعبارة الاصطلاحية في الفلسفة: إلى ما هو «قَبلي» وما هو «بَعدي».
فالقضية البَعدية — أو إن شئت فقل عنها القضية الخبرية أو التجريبية — لا نصل إليها إلا بعد إدراك حسي نقوم به نحن بأنفسنا أو يقوم به مَنْ نثق بشهادته، وكل حقائق التاريخ والجغرافيا هي من هذا القبيل؛ فكيف تعرف أن جبال الهملايا ارتفاعها كذا إلا إذا أدركتها بحواسك أو أدركها مَنْ تثق بشهادته؟ وكيف تعرف أن نابليون جاء إلى مصر سنة ١٧٩٨ إلا إذا كان شاهدٌ قد شهد ذلك بحواسه وأثبت شهادته هذه؛ فصدَّقت أنت شهادة الشاهد. وكذلك قُل في كل قوانين العلوم الطبيعية، فهذه القوانين لا يمكن الوصول إليها إلا بعد ملاحظة وتجرِبة للأشياء التي صيغت القوانين الطبيعية عنها، فكون الماء يتركب من أوكسوجين وأيدروجين بالنسبة الفلانية يحتاج إلى تجربة في المخابير ألاحظها بعيني، وهكذا.
وأما القضية «القَبلية» فشأنها مختلف؛ لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية؛ مثل قولي: ٢ + ٢ = ٤، فحتى لو وصلت إلى هذه الحقيقة بادئ الأمر بالنظر إلى برتقالتين وبرتقالتين، أو قلمين وقلمين كما يفعل المدرس في تعليم الأطفال، فإنني بعد أن أجرِّد المعنى من البرتقال والأقلام وغيرها، فإني أدرك أن صدقه لا يتوقف على خبرة حسية، ولا أتطلب بعد ذلك أمثلة من دنيا الواقع لتأييده؛ لأنني أدرك فيه يقينًا لا يتطرق إليه الشك، وكل قضايا الرياضة من هذا القبيل.
الآن وقد عرفت ما القضية التكرارية وما القضية الإخبارية، كما عرفت الفرق بين القضية القَبلية والقضية البَعدية؛ فقد بات الطريق ممهدًا لوضع المشكلة كما رآها «كانْت» وكيف كان حلها على يديه.
لو قلنا لك إن القضية التكرارية تكون قَبلية؛ أي يكون صدقها غير معتمدٍ على الخبرة الحسية؛ لما في هذا القول ما يثير دهشة؛ لأنك لست بحاجة إلى خبرة لتثبت أن «المصباح المضيء مصباح». وكذلك لو قلنا لك إن القضية الإخبارية تكون بَعدية لما أثار القول دهشتك؛ لأنه ما دام في القول خبر جديد فهو إذن مستقًى من الخبرة ولا يجيء إلَّا بعدها، كأن أقول لك عن حائط غرفتي إنه أزرق، لكن كيف يكون موقفك حين أزعم لك أن هنالك ضربًا من العبارات تكون الواحدة منها إخبارية وقَبلية في آنٍ واحدة؟ أي أنها تُرْوَى خبرًا لكنها في الوقت نفسه لا تحتاج إلى خبرة تؤيد صدقها؟
هذه هي مشكلة المعرفة كما صاغها «كانْت» ثم حاول حلها؛ فالمشكلة عنده هي أننا في كل القوانين العلمية — في الرياضة وفي العلوم الطبيعية على السواء — إنما نعمم القول على نحو يجعله إخباريًّا وقَبليًّا في آنٍ واحد. والسؤال هو: كيف أمكن هذا الجمع بين الجانب الخبري وبين الجانب الذي يسبق الخبرة بحيث يتكون من الجانبين حكم واحد؟
الجواب عند «كانْت» هو أن جانبًا يأتي من الخارج، وهو جانب الخبرة الحسية تأتينا منبعثة من الأشياء، لكنها إذ تأتي لا تجد نفسها بغير ضابط يضبطها، بل يتلقاها في العقل إطار ينظمها في حدوده؛ ومن ثَمَّ يكون كل جزء من معرفتنا معتمدًا في مضمونه على خبرة الحواس وفي قالبه على نظرة العقل في طريقة الإدراك، وهكذا يكون كل جزء من معرفتنا حسيًّا وعقليًّا، إخباريًّا وماديًّا، في آنٍ واحد. وفيما يلي شيء من التفصيل في توضيح ذلك.
هذه برتقالة معي، فكيف أُدركها؟ أولًا تأتيني منها إحساسات مختلفة؛ إذ يأتيني منها لون عن طريق العين، ورائحة عن طريق الأنف، وطعم عن طريق اللسان، وملمس عن طريق الأصابع، وهكذا. وهذه الإحساسات تأتي من أبواب مختلفة، وتسلك إلى المخ طرقًا مختلفة كما رأيت، فليس الطريق الذي يسلكه اللون هو نفسه الطريق الذي يسلكه الطعم أو الرائحة أو الملمس؛ وإذن فالنتيجة الطبيعية لهذا هي أن الإحساسات تظل في الذهن أشتاتًا إذا كان اعتمادنا على الحواس وحدها، لكنها لو ظلت هكذا أشتاتًا متفرقة لما أمكنني إدراك البرتقالة؛ لأن مجرد الإحساس ليس هو الإدراك؛ وبالتالي ليس هو المعرفة، فليست البرتقالة هي لونها وحده أو طعمها وحده أو رائحتها وحدها، إنما هي هذه جميعًا متجمعة في «شيء» معين؟ ما الذي يضم الإحساسات المتفرقة التي جاءت من قنوات مختلفة بعضها إلى بعض في الداخل؟ أم هل تسارع هذه الإحساسات إلى اجتذاب بعضها إلى بعض بطريقة آلية دون أن تحتاج في ذلك إلى عامل خارج عنها؟ نعم، هذا هو ما يقوله «هيوم»؛ إذ يقول إن الانطباعات الحسية الواردة إليَّ من الخارج تترابط من تلقاء نفسها بما يسميه قوانين الترابط أو قوانين التداعي، وأما «كانْت» فرأيه غير ذلك.
رأيه هو أن في فطرة الإنسان وسيلتين للإدراك الحسي؛ أعني أن في فطرته وسيلتين لجمع الإحساسات المتفرقة جمعًا تصبح معه صورًا ذهنية متصلة مترابطة للأشياء التي انبعثت منها تلك الإحساسات، وهاتان الوسيلتان هما: «المكان» و«الزمان»، تأتي إلينا الإحساسات المتفرقة في خليط مهوش؛ فنرتبها في داخل أنفسنا ترتيبًا يجعل هذا الإحساس على صلة مكانية بذلك الإحساس، كأن يكون مثلًا على يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، وبربط هذه الإحساسات المتفرقة ربطًا مكانيًّا تتكون منها صورة للشيء؛ وبالتالي يتكون له عندنا إدراك حسي. على ألا تنسى أن هذا الترتيب الذي وضعنا فيه الإحساسات الواردة إلينا هو من عندنا، وليس في الإحساسات نفسها، فنحن الذين نخلعه على الإحساسات فتكتسب به معنى. وكذلك قل في تتابع الأشياء تتابعًا زمنيًّا بحيث نقول عن شيء إنه قبل شيء آخر أو بعده، فهذا التتابع هو من عندنا أيضًا؛ لأن ما يأتينا من الخارج — كما قلنا — إحساسات بغير ترتيب؛ فالحواس أبواب مفتوحة ينفذ منها ألوف الإحساسات في كل لحظة، فنتناولها نحن في الداخل بالترتيب المكاني وبالتتابع الزماني؛ فتصبح مدرَكات منظمة بعد أن كانت خليطًا مهوشًا.
إذا تكونت في ذهني صورة للبرتقالة التي معي الآن، فأنا الذي صنعت هذه الصورة صنعًا، لكنني صنعتها من المادة الخامة التي أتتني من الخارج، وهي الانطباعات الحسية المختلفة، كما يصنع النجار منضدة من خشب يعطَى له، والأداتان اللتان أصنع بهما مدرَكاتي هما «المكان» و«الزمان»؛ أي هما ترتيب العناصر الخامة على نحو يربط أجزاء المدرَك الواحد بعضها ببعض، ثم على نحو يتابع بين المدركات في سلسلة زمنية فيها ما هو سابق وما هو لاحق، وليس في الأشياء نفسها مثل هذا الترتيب المكاني أو التتابع الزماني، إنما هما صفتان ذاتيتان من عندي خلعتهما على الأشياء لتصبح ذات معنًى، فما أشبه الأمر هنا بمن يلبس منظارًا أزرق فيرى كل شيء أزرق اللون، لكن الزُّرْقة تكون في منظاره ولا تكون في الأشياء المرئية.
وواضح أنه ما دام المكان والزمان أداتين يستخدمهما الإنسان بواسطة الحواس، فهما يبطلان إذا ما استُخْدِما في غير الظواهر المحسوسة؛ فالحقائق الخارجية إن كانت من غير المحسوسات استحال أن يكون لها مكان أو زمان.
وما دمان قد سلَّمنا بأن الزمان والمكان أداتان ذاتيتان تُسْتَخْدَمان في الإدراك الحسي، وأنهما لم يُسْتَمَدَّا من التجربة الحسية مع أنهما الوسيلتان اللتان تجعل المدرَكات الحسية ذات معنًى، فإنه ينتج من ذلك أن كل ما نطلقه على الأشياء من أحكام تتعلق بمكانها أو بزمانها فهو معتمِد في أحد وجهيه على ذواتنا نحن لا على خبراتنا الآتية عن طريق الحواس؛ ومن ثَمَّ كانت كل القضايا الرياضية مرتكزة على الطبيعة الإنسانية نفسها في إدراك الأشياء؛ لأن هذه القضايا تتعلق إما بالمكان في علم الهندسة أو بالزمان — أي بتتابع الوحدات — في علم الحساب؛ فالقضايا الرياضة صادقة صدقًا يقينيًّا، غير معتمدة في صدقها هذا على التجربة الحسية، بل هي صادقة من «قبل» التجربة؛ أي هي قضايا «قبلية»، ولولا فطرة الإنسان في طريقة إدراكه للعالم بوسيلتَي المكان والزمان لَما أمكانه تكوين الأحكام الرياضية.
ومن هذا يتضح أن «كانْت» قد وقف بمذهبه هذا بين الواقعية والمثالية؛ لأنه من ناحية اعترف بالإحساسات التي تأتي إلينا من الخارج كمادة أولية للمعرفة، ولكنه من ناحية أخرى قرر فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في مدرَكات حسية.
ليس المكان والزمان بالفكرتين؛ أعني أنهما في ذاتيهما ليستا بالمدرَكين العقليين اللذين نستخلصهما من تجارِبنا؛ لأنهما ليستا جزءًا من التجربة، بل هما «المِنظار» الذي نرى به تلك التجرِبة؛ «فالمكان» — مثلًا — لم تتكون فكرته في عقولنا بعد أن رأينا عدة «أمكنة» بحيث استطعنا أن نقارنها ونجردها من أوجه الاختلاف لنستخلص أوجه الشبه فتكون هذه هي قوام المدرَك العقلي عن «المكان». كما نفعل حين نستخلص معنى «المقعد» من مجموعة المقاعد التي تمر بنا في تجاربنا، ومعنى «الشجرة» من مجموعة الأشجار، ومعنى «الكتاب» من مجموعة الكتب، وهكذا. لا، ليس «المكان» ولا «الزمان» بمدرَك عقلي يتكون على هذا النحو في عقولنا، بل هما الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء بحيث نحول أشتات الإحساسات المنبعثة منها إلينا إلى إدراكات حسية؛ لأن مجرد الإحساس ليس إدراكًا.
لكن هنالك في العقل — فيما عدا وسيلتَي الإدراك الحسي اللتين هما المكان والزمان كما أسلفنا — مدرَكات عقلية موجودة فيه «قبل» أية خبرة حسية، هي مدرَكات «قَبلية» نستعين بها في تكوين المعاني الكلية من المدركات الحسية، ثم في ربط هذه المعاني الكلية بعضها ببعض بحيث نكوِّن الأحكام التي نطلقها على الأشياء إيجابًا أو سلبًا؛ فأنت حين تدرك البرتقالة الواحدة التي أمامك مستعينًا في إدراكها «بمنظار» المكان الذي يضم اللون إلى الشكل والطعم والرائحة والملمس في مجموعة واحدة متلاصقة تكون هي إدراكك الحسي للبرتقالة. أقول إنك حين تفعل هذا لا تكون قد كوَّنت لنفسك بعدُ «مدرَكًا عقليًّا» أو «معنًى كليًّا» عن البرتقالة بصفة عامة، بل لا بد لك من خطوة أخرى تقارن فيها عدة البرتقالات الجزئية التي تمر بك في خبرتك لتجردها من صفاتها العَرَضية ولتُبقي لها صفاتها التي يجب أن تكون في الشيء لكي يكون برتقالة، هذه الصفات الجوهرية إذا ما تكونت لديك كان عندك بذلك «معنًى كلي» عن البرتقالة بصفة عامة، لا هذه البرتقالة الواحدة أو تلك البرتقالة الواحدة. وعلى هذا النحو تمضي في تكوين «مدركات عقلية» عن الأشياء، ثم ماذا؟ إنك لو وقفت عند هذه المرحلة لَما كان لديك «معرفة» بمعناها الصحيح؛ لأن «المعرفة» إنما تكون في الأحكام التي تطلقها على الأشياء إيجابًا أو سلبًا؛ أي أنها تكون بربط مدرَكاتك العقلية وإيجاد الصلات بينها مما يدخل بعضها في بعض أو يبعد بعضها عن بعض؛ فنقول مثلًا: «النار تحرق الورق» و«النُّحاس يوصل الكهرباء» و«الخشب لا يغوص في الماء»، وهكذا وهكذا.
لكي تستطيع أن تخطوَ هاتين الخطوتين بعد مرحلة إدراكاتك الحسية للأشياء الجزئية التي تقع في خبرتك، وهما الخطوتان اللتان تكوِّن بهما «مدرَكات عقلية»، وتربط هذه المدرَكات العقلية في أحكام، زُوِّدت فطرتك بنوع من المدرَكات العقلية لا يحتاج — كغيره من المدرَكات العقلية — إلى خبرة حسية لتكوينه؛ فالمدرك العقلي «شجرة» لا يتكون إلا بعد أن تدرك بالحس أشجارًا، أما المدرك العقلي «سببية» فمفطور في عقلك قبل أن تحصل بحواسك أية خبرة حسية، بحيث إذا جاء ضمن خبرتك الحسية شيئان «أ» و«ب» مرتبطان برابطة السببية كالنار والورق المحترق، لم يكن هنالك داعٍ أن تبحث عن الرابطة السببية بين العناصر الحسية ذاتها؛ لأنها من عندك وفي فطرتك، تجعلها على أمثال هذه الحوادث التي ترتبط بها، فتقول: إن «أ» سبب في حدوث «ب» على الرغم من أن الخبرة الحسية ليس فيها إلا «أ» تتبعها «ب»، وليس في مجرد التتابع المحسوس معنى الضرورة؛ أي ليس فيه ضرورة أن تكون «أ» دائمًا متبوعة ﺑ «ب»، إنما الذي فرض هذا الدوام أو هذه «الضرورة» هو المدرك العقلي الذي زُوِّدَت به فطرة الإنسان.
هذه المدركات العقلية الفطرية القَبلية (أي التي توجد قبل الخبرة الحسية) هي التي تسمَّى بالاصطلاح الفلسفي «مقولات»، ووجودها شرط لا مَحيص عنه ليتمكن الإنسان من «معرفة» العالم الخارجي، ولولاها لبقيت مدرَكاتنا عن العالم الخارجي خليطًا مهوشًا لا اتساق فيه ولا معنى.
خذ مقولة «الجوهر» مثلًا، فما الذي يجعله متعذَّرًا عليك أن تتصور أن البرتقالة إنْ هي إلا مجموعة صفات تحسها الحواس المختلفة دون أن يكون هنالك من الصفات ما يمسكها في وحدة واحدة؟ ما الذي يجعله متعذَّرًا عليك أن تتصور أن الفرد الواحد من أفراد الناس إنْ هو إلا سلسلة من حادثات متتابعة عابرة دون أن يكون في داخله محور ثابت هو الذي يوحِّد بين هذه الحادثات في شخص واحد؟ أو بعبارة أخرى ربما كانت أوضح: ما الذي يضطرك اضطرارًا أن تفرض وجود نفسٍ أو روحٍ في الإنسان؟ الذي يضطرك إلى هذا هو فطرتك التي تفرض «جوهرًا» تتعلق به الظاهرات العَرَضية ليتكون الشيء في تصورك، وإلا لانحلَّ الشيء إلى حالات مفككة لا وحدة بينها ولا دوام لوجودها؛ فقد كان «هيوم» على حق حين قال إن الشيء ليس إلا سلسلة ظواهره؛ لأن هذه نتيجة تلزم حتمًا عن المقدمة التي بدأ بها، وهي أن المعرفة مصدرها الحواس وحدها؛ إذ لو كان الأمر كذلك؛ لَما كانت البرتقالة إلا محسوساتها، ولما كان الإنسان أيضًا إلا ما يظهر منه للحواس؛ وبالتالي لَما جاز لنا أن نفترض في داخله وجود نفس أو روح؛ لأنها ليست مما يأتي عن طريق الحواس. أقول: إن «هيوم» كان على حق على شرط أن نسلِّم معه بالمقدمة. لكن لماذا لا نبدأ بمقدمة أخرى كما فعل «كانْت»، ونقول إن في العقل مقولات فطرية ذاتية قَبلية هي التي نصبُّ فيها خبراتنا الحسية؟ ومن تلك المقولات مقولة «الجوهر»؛ فجوهر الإنسان — أي نفسه أو روحه — فرض لا بد منه لتتكون للفرد وحدته واستمراره، وجوهر البرتقالة فرض لا بد منه كذلك لتمسك الظاهرات الحسية في وحدة شيئية. نعم ليس «الجوهر» نفسه من بين المحسوسات لكنه شرط لازم لاجتماعها وتماسكها، وإلا لكان تصورنا لصفات البرتقالة المتفرقة أو لصفات الإنسان وهي معلقة وحدَها بغير محور تتعلق به كتصورنا لمجموعة ثياب معلقة في الهواء بغير مِشْجب تستند إليه.
هذه المقولات شأنها شأن وسيلتَيِ الإدراك الحسي — المكان والزمان — ذاتية نخلعها من عندنا على مدرَكاتنا ليتكون لنا علمنا بالعالم الموضوعي؛ أي أنها جزء من بنية عقولنا، وهي بمثابة القوالب الفارغة أُعِدَّت لتنصبَّ فيها خبراتنا الحسية كائنة ما كانت، ولكن حدود تطبيقها تقف عند حدود الخبرة الحسية، فلا يجوز أن تطبقها على ما ليس يأتي عن طريق الحس.
ولئن كانت وسيلتنا الإدراك الحسي من مكان وزمان قد مكَّنَتانا من ترتيب أشتات الإحساس المتفرقة ترتيبًا يجعل بينها اتصالًا مكانيًّا وتتابعًا زمنيًّا؛ وبالتالي استطعنا أن نطلق الأحكام الرياضية في علمَي الهندسة والحساب، بحيث تكون أحكامًا إخبارية عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه تكون أحكامًا قَبلية يقينية، فإن هذه المقولات تمكننا من إطلاق الأحكام في العلوم الطبيعية بحيث تأتي هي الأخرى إخبارية وقبلية في آنٍ واحد؛ أي تأتي مخبرة عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه يكون فيها اليقين الذي يأتي من العقل ولا ينتظر التجربة الحسية.
ليس ما في العالم من اطراد الحوادث في نظام واتساق يبدوان في قوانينه، ليس هذا الاطراد موجودًا في الطبيعة نفسها، بل خلعه الفكر الذي عرفه وأدركه حسب قوانينه المتأصلة في فطرته؛ أي أنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة به يسير بمقتضاها غير القوانين التي يعمل بها العقل؛ فقوانين الأشياء هي نفسها قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط أفكارنا بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء في الواقع الخارجي بعضها ببعض، فإذا كنت ترى الأشياء مرتبطة برابطة السببية؛ فذلك لأن السببية مقولة عقلية مفطورة فينا. ولا غرابة؛ فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بمعونة الفكر وقوانينه، فبديهي أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها القوانين التي ندركها في الطبيعة.