مصدر المعرفة عند المتصوفة
وسيلة المعرفة عند التجريبيين هي الحواس، ووسيلتها عند العقليين هي العقل، وعند النقديين وسيلتها هي الحواس والعقل معًا، أما المتصوفة فمن رأيهم أن الحق المطلَق — وهو الله — لا تكون الوسيلة إلى معرفته هي الحواس أو العقل أو الحواس والعقل معًا، بل تكون الوسيلة إلى معرفته هي «الحدس» أو العيان المباشر أو البصيرة، فكل هذه ألفاظ تسمَّى بها وسيلة المعرفة حين يمتزج الشخص العارف بالشيء المعروف، بحيث لا تكون هنالك تفرقة بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى. وإن شئت مثالًا قريبًا فانظر إلى نفسك كيف تعرف أنك موجود؟ إنك لا تعرف ذلك بعين أو أذن أو أنف؛ لأنك لو أغلقت هذه الأبواب كلها فستعرف أنك موجود. وأنت كذلك لا تعرف وجود نفسك بالبرهان تقيمه فتكون هناك مقدمات تستنتج منها النتائج؛ أي أنك لا تعرف وجود نفسك بالعقل بل تعرف بأن تدركه إدراكًا مباشرًا، وهذا الضرب من الإدراك هو الذي يُقال له في الفلسفة اصطلاحًا: إدراك بالحدس، وهو هو بعينه طريقة الإدراك التي ندرك بها الله.
والمتصوفة على اختلافهم يتفقون على نقط هامة حتى تعد هذه النقط من أخص خصائص التصوف باعتباره طريقة للمعرفة؛ فهم فوق اتفاقهم جميعًا على أن الحدس هو وسيلة الإدراك التي يركن إليها، تراهم كذلك يتفقون على أن الحقيقة التي يدركها الإنسان بحدسه ليست مما يمكن التعبير عنه بكلمات؛ لأنه في هذه الحالة يندمج في موضوع إدراكه اندماجًا يجعلهما شيئًا واحدًا، وأما الكلمات فهي وصف يحوم حول الموضوع ولا يصل أبدًا إلى قلبه ولبابه. وإن شئت فقارن بين حالتين: حالة قراءتك لكلمات تصف الحب بين عاشقين، وحالة شعورك أنت بالحب؛ فالمكابدة والمعاناة تجربة ذاتية تصل الإنسان بموضوعه وصلًا مباشرًا، أما الألفاظ فمهما بلغت من دقة الوصف فهي شيء آخر غير الوجدان الذي يكابده صاحب التجربة النفسية ويعانيه.
وكذلك هم يتفقون على أن ظواهر الكون ليست هي بحقيقته، بل حقيقته كامنة وراء تلك الظواهر وتختلف عنها، فإن كانت الظواهر تُدْرَك بالحواس، ويقارن العقل بينها ليصنفها في أنواع وأجناس ويستخرج قوانين اطرادها، وهكذا، فإن الحقيقة التي وراءها يستحيل إدراكها إلا بالحدس، وذلك بأن يروض الإنسان نفسه على الاتصال بها والاندماج فيها.
وعندهم أن هذه الحقيقة المطلقة الكامنة وراء الظواهر هي واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد. نعم، إنها تعبر عن نفسها في هذه الظواهر الكثيرة المتعددة المتنوعة، لكنها هي واحدة، وما دام الأمر كذلك فكل ما يدل على كثرة فهو باطل؛ ولهذا كان الزمن وهمًا لا حقيقة؛ لأنه سلسلة من لحظات، لكل لحظة منها لحظة قبلها ولحظة بعدها، وأما الحقيقة المطلقة (أي الله) فلا زمان لها، وليس في وجودها «قبل» و«بعد»، فانقسام الزمن إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل إنْ هو إلا تقسيم يتفق مع الظواهر العابرة، وليس هو بذي معنًى بالنسبة إلى الله.
تشكك الغزالي في شهادة الحواس، فهي — في رأيه — لا تصلح أداةً يركن إليها في تحصيل المعرفة الصحيحة، فهل تستطيع العين أن تدرك حركة الظل؟ إذن فهنالك من الحقائق ما لا يمكن إدراكه بحواسنا، ثم انظر كيف إذا وضعت أمام عينك قطعة من النقود بحيث تقع بين العين وبين نجم في السماء، رأيت قطعة من النقود تغطي النجم كله كأنما هي أكبر منه. وإذن فلا يقتصر الأمر على عجز الحواس عن إدراك بعض الحقائق، بل إنها لتوهمنا بالخطأ على أنه الصواب.
وكذلك تشكك الغزالي في أحكام العقل نفسه، وحسبك أن تأخذ مبدأً واحدًا من مبادئه الأولية التي يقال إنها قوانين الفكر العقلي، والتي نقبلها بالتسليم الذي لا يحيط به شيء من الشك، وهو مبدأ عدم التناقض، فعند العقل أنه يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في وقت واحد، ولكن أيستحيل حقًّا على الشيء أن يكون وألا يكون؟ إنه لا استحالة في ذلك، ومن الجائز أن تتصور في كائن ينمو بحيث تتغير حاله تغيرًا متصلًا أنه في كل لحظة من حياته كائن وغير كائن في آنٍ معًا؛ لأنه لو كان كائنًا على حاله لَما تغيرت تلك الحال.
وبعد تشككه في الحواس وفي العقل يسأل قائلًا: ألا تكون هنالك وسيلة فوق العقل تبين مواضع خطئه وتدل على بطلانه، كما أن العقل نفسه فوق الحواس يبين خطأها ويدل على بطلانها؟ ويجيب بأنْ نعم، وأن تلك الوسيلة التي هي فوق العقل والحواس معًا هي الحدس.
وهو لا يرسل القول إرسالًا بغير بحث، بل يتناول الجماعات الفكرية في عصره ممن كانوا يستندون في تفكيرهم إلى البراهين العقلية كالمتكلمين والفلاسفة؛ ليحلل ما كانوا يفعلونه ويبين أنه طريق لا يؤدي إلى شيء.
فأما المتكلمون فجماعة تسلِّم بما جاء به الدين من نصوص، وكل ما عليها هو أن تستخلص من هذه الأصول المسلَّم بها ما يمكن استخلاصه من نتائج منطقية؛ وإذن فأقصى ما يمكن أن يَبْلغوه هو أن يبيِّنوا للمخطئ في فهم تلك الأصول الدينية خطأه؛ بأن يدلُّوه على مواضع انحرافه في استدلال النتائج من المقدمات المسلَّم بها، لكن لنفرض أن شاكًّا قد تشكك في صدق المقدمات نفسها، فعندئذ لا تكون أمام المتكلمين حيلة فيه؛ لأنه خرج على النطاق الذي ألزموا أنفسهم بالتحرك في حدوده؛ وبذلك يصبح منطقهم العقلي كله لا غناء فيه لرجل — كالإمام الغزالي نفسه — أخذه القلق حينًا: كيف يستطيع أن يقيم إيمانه بالله على أساسٍ يطمئن إليه.
وأما الفلاسفة فهم كذلك فريق من المفكرين أراد أن يستخدم منطق العقل في البرهنة على وجود الله، فما معنى «برهان»؟ معناه أن تجد للقضية التي تريد إقامة البرهان على صدقها قضية أخرى أعم منها، وتكون لها بمثابة المقدمة التي يلزم عنها بالضرورة تلك القضية المراد إقامة البرهان عليها؛ فمثلًا إذا أردت البرهان على أن فردًا من الناس سيلحق به الموت، كان البرهان هو القضية الأعم الأشمل، وهي أن كل إنسان سيلحق به الموت، وما دام الأمر كذلك فكيف يمكن أن تقيم البرهان العقلي على وجود الله إذا لم يكن هنالك ما هو أعم منه ولا أشمل؟ إقامة البرهان تكون بإيجاد المقدمات التي تنتِج النتيجة المطلوب إقامة البرهان عليها، والله ليس نتيجة لمقدمات سبقته؛ وإذن فالبرهان العقلي على وجوده مُحال.
هذا إلى أن الفلاسفة في محاولة البرهنة على وجود الله يلجئون إلى ما يسمونه علة أولى، وشرح ذلك أنهم يسلِّمون أولًا بمبدأ السببية بين الأشياء والحوادث، أي أنهم يسلِّمون أولًا بأن لكل شيء سببًا، فإذا أخذْتَ شيئًا ما كوجود فرد معين من الناس، وسألت نفسك: ماذا سبب وجوده؟ ثم ماذا كان سببًا في السبب؟ وهكذا، فإنك تعود بسلسلة الأسباب حلقة وراء حلقة حتى تنتهي حتمًا إلى سببٍ أولَ هو الله. وعندهم أن ذلك برهان كافٍ على وجود الله؛ لأنك لا تستطيع بعد ذلك أن تسأل قائلًا: وما السبب في وجود الله؟ ذلك لأنك لو فعلت ذلك فستمضي في سلسلة لا تنتهي أبدًا، وهذا — في رأيهم — موقف لا يقره العقل، فلا بد من الوقوف عند حلقة أولى تكون هي العلة الأولى لكل شيء بعدها، ولا تكون هي نفسها معلولة لشيء قبلها، وهذه العلة هي الله.
لكن ماذا لو شكَّكنا في مبدأ السببية ذاته؟ وانظر إلى هذا الإمام الغزالي العظيم يسبق في هذه النقطة «ديفد هيوم» (وقد أسلفنا لك شرح وجهة نظره في مبدأ السببية في الفصل الرابع) يسبقه بما يقرب من سبعة قرون. يوجِّه الغزالي سؤاله إلى الفلاسفة الذين يبرهنون على وجود الله بمبدأ السببية فيقول: ماذا يبرر أن نسلِّم بهذا المبدأ كأنه بديهية واضحة بذاتها لا تحتاج إلى جدل؟ إننا لا نلحظ في مجرى الأشياء إلا حالةً تتبعها حالةٌ أخرى، وشيئًا يتبعه شيء آخر، أما أن يكون في هذا التتابع الملحوظ «سببية» تجعل المسبَّب محتومًا عليه أن يتبع سببه فذلك افتراض لا يلزم بالضرورة، ليس العقل وبراهينه إذن بكافٍ لبعث الطمأنينة فيمن أراد أن يطمئن إلى إيمانه بوجود الله، فكيف تكون السبيل إلى ذلك؟ يكون «بالحدس» أي بالعيان المباشر لذاتك، فإذا عرفتَ نفسك عرفتَ الله، فانظر إلى نفسك من الداخل، انظر إليها إذ أنت تهم بفعل كأن ترفع ذراعك مثلًا أو أن تخطو بقدمك، انظر إليها وأنت بصدد «إرادة» تهم بتنفيذها وتحويلها إلى فعل. لا تنظر إلى نفسك وهي تفكر؛ لأن تفكير العقل — كما رأينا — لا ينتهي بنا إلى النتيجة المطلوبة، بل انظر إليها كائنًا مريدًا تجدها وجودًا لا شك فيه. لا حاجة بك إلى حواس ولا حاجة بك إلى عقل لتعلم أنك موجود، كل ما أنت بحاجة إليه لتعلم بوجودك هو أن تريد شيئًا وتفعله. ولو جاز لنا أن نقارن الغزالي بديكارت من حيث نقطة الابتداء؛ لقلنا: إن ديكارت قد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يفكر: «أنا أفكر، إذن فأنا موجود»، وأما الغزالي فقد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يريد، فكأنما يقول: «أنا أريد، إذن فأنا موجود». وكيف أعرف أني أريد؟ لست أعرف ذلك عن طريق الحواس؛ لأني لا أرى شيئًا ولا أسمع شيئًا. ولست أعرف ذلك عن طريق العقل؛ لأني لم أستنتج نتيجة من مقدماتها، بل إني أعرف ذلك؛ لأني أدركه في نفسي إدراكًا مباشرًا.
والله مريد لأنه خالق والخلق فعل، ولما كان الإنسان كائنًا مريدًا فهو في ممارسته لإرادته فيما يقوم به من أفعال إرادية يكون من الله بمثابة الصورة الصغرى، فروح الإنسان في سيطرتها على الجسد بالإرادة شبيهة بالله في سلطانه على الكون الذي خلقه، فإذا أردت أن تعرف الله خالقًا فانظر إلى نفسك مريدًا.
وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان — كما يقول المتصوفة — أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودًا مباشرًا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده. إن الصوفي ليشهد الله أوضح شهود في نفسه؛ لأن نفسه وإن لم تكن نظيرة الله فهي شبيهة به وصورة له. وأسعد ما يسعد النفس الإنسانية هو أن تبلغ من الله منزلة الشهود المباشر الذي يُفنيها فيه، بحيث يصبح العارف والمعروف حقيقة واحدة.
ويجعل المتصوفة الحواس والعقل والحدس ثلاث درجات تتفاوت صعودًا من حيث درجة يقين المعرفة التي تأتي عن طريقها؛ فالمعرفة عن طريق الحواس أدناها مرتبة، والمعرفة عن طريق العقل وُسطاها، والمعرفة عن طريق الحدس أعلاها، وفيها يكون اليقين الكامل؛ المعرفة عن طريق الحواس هي معرفة العامة التي تستند إلى المشاهدة الحسية الجزئية يقومون بها هم بأنفسهم أو ينبئهم بها مَنْ يثقون في صدقه. والمعرفة عن طريق العقل مرحلة أعلى؛ لأنها تقوم على الاستدلال الذي تلزم فيه النتيجة عن مقدماتها لزومًا ضروريًّا؛ فعندئذٍ لا تتعرض النتيجة لكل ما تتعرض له المشاهدة الحسية من خطأ، وأما المعرفة عن طريق الحدس فهي الحق يشهده العارفون مباشرةً بغير حجاب.