الأدب في الشرق القديم
عرفْتَ من حديثنا إليك في نشأة الأدب، أنَّ تاريخه يبدأ قبلَ الكتابة بزمنٍ طويل. وكان الرقص أول ما ظهر من الفنون، فإذا ما أرخى الليل سُدولَه على إنسان العصر الأول، رقص الراقِصون حول نارٍ يُشعلونها ليمرحوا ويفرَحوا بعد ما أصابوه من ظفَرٍ ونصر على أعدائهم في ساعات النهار؛ وإنهم في رقصِهم ذاك ليَصيحون ويصرُخون من نشوة الطرب، فلا تلبَث تلك الصيحات والصرخات أن تتماسَك أجزاؤها، وتنسجِم نغماتُها، بحيث تُناسِب توقيع الرقص. وهكذا كانت أولُّ أغنيةٍ بدأت في تاريخ الأدب أغنيةً حربية يتغنَّى بها الظافرون.
وفي الوقت نفسه كانت فكرة الله عند الناس تستوي وتستقيم في أذهانهم؛ فما إنْ صارت كذلك حتى أنشئوا الصلوات والدَّعوات يضرَعون بها إلى الله، وكلَّما تقادَم الزمن أخذَتْ تلك الأناشيد الحربية، وهذه الصلوات الدينية، تزداد رسوخًا بتكرارِها جيلًا بعد جيل؛ كل جيلٍ يُضيف إلى تُراث السالفين.
كان الكاتب في كلديا مأجورًا للملك يَصحبه إلى حَومات الوَغى وساحات الحروب، ليُثبِتَ لمليكِه ما يغزو من المُدن، وما يفتِكُ به من الأعداء، وما يظفر به من الغنائم والأسلاب، ثم ليُشِيد قبل كلِّ شيءٍ بإقدام سيِّدِه وبسالته في القتال. وكانت الدولة تَستخدِم إلى جانب هؤلاء الكتَّاب طائفةً من الكهَّان تنقش على قوالب الطَّفل الصلواتِ والدعوات، وطائفة ثالثة تكتُب قواعد الزراعة وحوادث السياسة ومبادئ التنجيم.
(١) الأدب المصري
السلام عليك أيها الإله الأعظم؛ إله الحق. لقد جئتُك يا إلهي خاضعًا لأشهد جلالك … جئتُك يا إلهي مُتحلِّيًا بالحق مُتخلِّيًا عن الباطل، فلم أظلِم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالِّين، لم أحنث في يمين، ولم تُضلَّني الشهوة فتمتدَّ عيني لزوجة أحدٍ من رحِمي، ولم تمتدَّ يدي لمال غيري، لم أقُل كذبًا، ولم أكن لله عاصيًا، ولم أسعَ في الإيقاع بعبدٍ عند سيدِه. إني — يا إلهي — لم أُجِع أحدًا ولم أُبْكِ أحدًا، وما قتلتُ وما غدرت، بل وما كنتُ مُحرِّضًا على قتل؛ إني لم أسرِق من المعابد خُبزَها، ولم أغتصِب مالًا حرامًا، ولم أنتهك حرمة الأموات، ولم أرتكب الفحشاء، ولم أُدنِّس شيئًا مُقدسًا؛ إني لم أبعْ قمحًا بثمنٍ فاحش، ولم أُطفِّف الكيل … أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر … وما دُمتُ بريئًا من الإثم … فاجعلني اللهمَّ من الفائزين.
ذاع النبأ بين الناس وشاع؛ فحزنت إيزيس على زوجها حُزنًا شديدًا، وشرعت تبحث عن جثَّةِ القتيل في طول البلاد وعرضها، حتى وجدتْها وعادت بها، فوارَتْها قبرًا يليق بجثمانه الطاهر. لكنَّ «سيتْ» لم يُرْضِهِ أن ينال أخوه هذا الإكرام، فاستخرج الجثَّة من قبرها وقطَّعَها إربًا إربًا، ونثَرَ أجزاءها نثرًا، فطافت إيزيس مرةً ثانية تجمَع أشلاء زوجها، وكانت كلَّما صادفت جزءًا أقامت له قبرًا حيث كان.
انظُر إليَّ يا أوزيريس، أنا زوجتك الحبيبة الوفية، هذا قلبي قد فطَرَه الحزن عليك، وهاتان عيناي شاخصتان إليك. ليتني أراك! إنَّ جنَّتي — أيها الإله الصالح — في لُقْياك. تعالَ إلى حبيبتِك، ادْنُ من زوجتك، ولا تعزُب عنها! إنَّ الآلهة ترنو إليك، والناس تبكي عليك، ويزيد بكاؤهم أن يرَوني باكيةً جاثية أبثُّ إلى السماء شكواي! لِمَ لا تستجيب لدُعائي وأنا زوجتك وحبيبتك؟
وقد لجأت «إيزيس» هي وابنها «حوريس» إلى محكمة الآلهة فقضَتْ لهما، وحكمت على «سيتْ» وأجلستْ «حوريس» على عرش أبيه «أوزيريس».
هذا مُلخَّص القصة، وتتخلَّلها أساطير كثيرة، مِثل أن أوزيريس لمَّا حانت ولادته ارتفع صوتٌ من معبد أمون يُبشِّر العالَم بأن «قد وُلِد الملك العظيم المُنعِم على الكون.»
وأن إيزيس توسَّلت إلى الآلهة فأعادته إلى الحياة، ولكنه عاد إلى نوعٍ من الحياة الخالِدة لا الحياة المألوفة … إلخ.
وانتقلت قصة أوزيريس وإيزيس وعبادتهما من المصريين إلى اليونان، فأُنشئ في ثغر «بيريه» اليوناني معبد لإيزيس في القرن الرابع قبل الميلاد.
وقد أشار «بلوتارك» الكاتب اليوناني المشهور، الذي اعتنق عبادة إيزيس، والذي ألَّف كتابًا عن «إيزيس وأوزيريس»، إلى أنَّ هذه القصة قصَّةٌ رمزية، وأن الشعب المصري «كان يُقيم عاداته على قواعد أدبية … وعلى الافتنان في تسجيل ذكرياتٍ تاريخية قديمة، وعلى إيضاح نواميس طبيعية.»
وقال بعض الباحثين: إنَّ أوزيريس رمز إلى النيل واهِب الخصب، وإلى الرطوبة التي هي أصل الإنتاج، وإلى القمر يُنتِج النَّدى في الليل فينشُر الرطوبة؛ وعلى الجملة إلى قوَّة الخير والإنتاج والخصوبة في العالَم، و«سيتْ» رمز إلى البحر الأبيض يصبُّ فيه النيل ماءه فيُبدِّده ويُفنيه، ولكنه يحيا في العالَم التالي، والمؤامرات التي دبَّرها «سيتْ» رمز إلى انخفاض مياه النيل بعد الفيضان، و«سيتْ» أيضًا رمز إلى الجفاف أو النار التي تُحارب الخصب؛ وعلى الجملة هو رمز لقوَّة الشرِّ في العالَم؛ وانتصار حوريس هو الفيضان الذي يعود، وإلى انتصار قوة الخير والحق آخِر الأمر؛ وإيزيس رمز العطف والحنان والوفاء، ورمز الأرض الخصبة، ورمز العنصر النسائي المُنتِج، ورمز البحث عن الحقيقة؛ والحياة التي حيِيَها أوزيريس بعدُ هي الحياة الأخرى التي ينعم فيها الإنسان بما يأتي من أعمالٍ صالحات … إلخ.
وكانت الطقوس الدينية وكهنة المعابد تبعث هذه المعاني عند الخاصة والفلاسفة والمُثقفين، وإن لم يفهمها العامة؛ ولذلك أقبل على هذه الديانة الطبقة الراقية المُثقفة من اليونانيين والرومانيين، فكانوا يشعرون بالطمأنينة لعقيدة الحياة الأخرى والعمل الصالح، وكانت تمدُّهم عقيدة الخير والشر والثواب والعقاب بغذائهم الروحي.
وأخيرًا أحيا الشاعر الألماني «جوته» في القرن التاسع عشر الميلادي قصة «أوزيريس وإيزيس» باللغة الألمانية، فكان لقِصَّتهما «الناي المسحور» بشِعرها وموسيقاها أثرٌ في النفوس بليغ.
ومن قصص المصريين المشهورة قصة «رمسينيت واللص» وخُلاصتها — كما رواها «هيرودوت»: أن رمسينيت كان يملك من المال كنوزًا تنُوء بالعصبة أولي القوة، فحار في طريقة حفظها، ثُم أدَّاه التفكير أن يبنيَ لها حجرةً في قصره، يُعِدُّ لها من الحجارة الكبيرة ما لا يُستطاع حمله، وجعل أحد حوائط الحجرة جزءًا من السور المضروب على القصر.
وجمع الملك فيها كنوزَه وأَمِن أن تنالها يد، ولكنَّ المهندس لمَّا شعر بدنُوِّ أجلِه دعا إليه ابنَيه وأخبرَهما بخبيئة الأمر.
ومات المُهندس ولم يلبَث ابناه أن ذهبا ليلًا وبحَثا عن الحجَر فعرَفاه، وحرَّكاه في سهولةٍ ويُسر، فدخلا إلى الحجرة فأصابا من مالها ما شاءا.
وتفقَّد الملك حُجرته فرأى نقصًا في كنوزها، وحيَّره أنْ رأى الباب سليمًا وأختامه لم تُمَس. وتكرَّر ذلك مرَّاتٍ والملك حائر في أمره، ولم يجد حيلةً إلَّا أن ينصبَ فخاخًا في جوانب الخزائن، وعاد اللِّصَّان، فما إن قرُب أحدهما حتى وقَعَ في الفخ وأطبق عليه.
فأشار مَن وقع في الفخ على أخيه أن يقطَعَ رأسَه ويرجع به إلى بيته حتى تختفي الجريمة، وألحَّ عليه في ذلك ففعل، ورَدَّ الحجَر إلى مكانه ورجع برأس أخيه.
ولمَّا دخل الملك رأى الأمر ازداد تعقيدًا، والجريمة لم تُكتشَف؛ فأمر بصَلْب الجثة وإقامة الرُّقباء حولَها، لعلَّ أحدًا يبكي لرؤيتها فيتكشَّف الأمر.
ولكنَّ الأم بكتْ في بيتها، وعزَّ عليها صلْب ابنها، فهدَّدت أخاه إنْ هو لم يأتِها بالجثة أن تفضح السِّرَّ للملك؛ فأعمل الحِيلة وأعدَّ حُمُرًا حمَل عليها زقاق الخمر، فلمَّا قرُب من الحُرَّاس فكَّ بعض الزقاق وتظاهر بأنها سالتْ على الرغم منه، وأخذ يبكي ويندب. وجاء الحُرَّاس فوجدوا خمرًا تَسيل فشرِبوا، فأخذ يتصنَّع تأنيبَهم، ثُم مال إلى الطريق مَيلة، وهدَّأ من سَورته، وأخذ يُحدِّث الحرَّاس ويَسقيهم حتى أسكرَهُم، فناموا، وقام ليلًا إلى جثَّةِ أخيه فحلَّها وعاد بها إلى أُمِّه.
وجُنَّ جنون الملك لمَّا عَلِم بسرقة الجثة.
ففكَّر في وسيلةٍ أخرى يكشف بها هذه الجريمة بل الجرائم، فأمر ابنتَه فأحلَّ لها أن تستقبل الناس، وتُمكِّن نفسها مِمَّن يُحدِّثها عن أعجب جرائمه ودهائه، فإذا جاءها مَن حدَّثها بسرقة الجثة حجزتْهُ وغلَّقَت عليه الأبواب.
فعرَف اللصُّ الخبر، فأراد أن يُظهِر للملك عجزَه، فاستحضر ذراع رَجُلٍ مات حديثًا وخبَّأها في ثيابه، وقابل بنت الملك وقصَّ عليها قصته، وكان الظلام قد ساد الحجرة، فهمَّتْ بالقبض عليه فقبَضَتْ على شيءٍ ظنَّتْهُ يدَه، ولكنها كانت الذراع المخبوءة، أما هو فقد كان قفَزَ وهرب.
فعجب الملك من كل هذا، وأعلن في جميع أنحاء المملكة أنه قد عفا عنه، وأنه سيُجزِل له الخير إذا أظهر نفسه؛ فتقدَّم اللصُّ إلى الملك فوفَّى بوعده وأنعم عليه وزوَّجَه بنته، لأنه أمهرُ المصريين الذين هُم أمهرُ الأُمَم.
•••
ولكن إلامَ ترمُز هذه القصة؟ لعلَّها — فيما نرى — ترمُز إلى السلطان والقدَر، فالملك بعزِّه وسُلطانه، وحيلته وحَيطته، لم يستطع أن يُغالِب القدَر، وكلَّما أبرَمَ أمرًا نقضَه القدَر، وهو يحتال الحيلةَ بعدَ الحيلة، والقدَر يُفسِدها عليه، وأخيرًا تجلَّى له الحق فأقرَّ بالسُّلطان الأعلى وصالَحَ القدَر.
لعلَّ هذا أو نحوًا من هذا هو ما ترمُز إليه القصة.
ولهم قصص أخرى كثيرة من هذا القبيل، كقصة خوفو والسَّحَرة، والبحَّار الغريق والأمير الهالك … إلخ. نكتفي منها بهذا القدْر.
•••
إذا أردتَ حُسن الثناء فتجنَّب الطمَع، فإنه داء لا يُشفى، ومُحال أن تكون معه صداقة، وهو مُركَّب من جُملة شرور، ووعاءٌ لكلِّ مَرذول.
إذا أصبحتَ عزيزًا بعدَ هوان، وغنيًّا بعد فقر، فلا تنسَ أيام هَوانك وفقرك إنِ استطعت؛ فَوجِّه عنايتك للعِلم وبلاغة القول، وفكِّر قبل أن تأمُر، فما أقبح التصرُّف من غير تفكير، ثم إذا أمرتَ فلا تتعاظَم في أمرك، ولا تحتدَّ في قولك، وتحرَّ أن تكون مُطاعًا في أمرك، مُسددًا في إجابتك، فالحِلْم يُذلِّل الصعاب، والغضب يُنغِّص العيش.
تحرَّ بفضلك مَن صادقك في شدَّتِك، فإنهم أحقُّ بفضلك ممَّن لا يعرفونك إلَّا في رخائك.
الرجل الغِرُّ يُنصح فلا يسمع، ويرى العِلم في الجهل، والربح في الخسارة، ويأتي ما يأتي على غير هُدًى، ويجِد في كلام السُّوء غذاءً لنفسه.
تلطَّف مع زوجك، واقصِد أن تجعلها أسعدَ امرأةٍ في بلدِها، وأسلِسْ قِيادَها يستقِم سيرُها، وبَشِّرها ولا تُنفِّرها، وتَحبَّب إليها بمُوافاتها بما تطلُب.
لا يغُرَّنَّك عِلمك ولا تثِق به، وشاور الجاهل والعاقل، فالعِلم لا حدَّ له، والوصول إلى نهايته لا يستطيعه أحدٌ وليس هناك عالِم بفنٍّ يستطيع أن يقول فيه الكلمة الأخيرة، والكلام القيِّم أخفى من الحجَر الكريم الأخضر، ومع هذا فقد تجده في يدِ أمَةٍ تُدير الرَّحا.
أطِعْ تستفِد، فإني لم أبلُغ ما بلغتُ إلَّا بالطاعة، وإنَّ الطاعة تستجلِب المحبَّة وتُدِرُّ الخير، والله يُحبُّ من أطاع ويكرَهُ من عصى.
إذا دُعيتَ إلى مائدة من هو أكبر منك مقامًا فخُذ ممَّا يُقدَّم لك، ولا تمُدنَّ عينيك إلى ما وُضِع أمامه، ولا تُوجِّه نظراتك إليه.
•••
ومِن المواعظ السياسية موعظة «خِيتي الثالث» لابنه «خيتي الرابع»، وكانت نصائحه إبَّان ثورة شعبية على نظام الحُكم، فمن قوله:
كن بليغًا تكُن قويًّا؛ فاللسان للملك أصدَقُ سيفٍ في القتال.
والملِك مدرسة لِمن حولَه من العظماء، وهو إذا اتَّسع اطلاعه أمِنَ من أن يُخدَع بالكذب؛ لأن الحقيقة تأتيه خاليةً من الشوائب.
اجعل أساس اختيارك للرجال الكفاية، سواءً في ذلك ابن العظيم وابن الحقير.
من الخير لك أن تكون رحيمًا، واجعل وَكدَك أن يُقيم لك الناس تمثال الحبِّ في قلوبهم، فإن فعلتَ فسيذكرون لك جميلك، ويدعون لك بالصحة وطُول العمر.
تمسَّك بالعدل ما حييتَ، وإيَّاك والإساءة إلى الأيَامَى، والتعرُّض لمال أحدٍ فيما يَرِثه من أبيه، والعقوبة في غير جريرة.
ليس لأحدٍ أن يظلم، فسوف يُحاسَب كل إنسان على عمله. ولا تغترَّ بطول العُمر، فما حياة الإنسان في هذه الدنيا إلا لمحة، وسيُبعَث الإنسان حين وصوله إلى الشاطئ الثاني (في الحياة الأخرى)، وكل نفس بما كسبت رهينة، وهناك الأبدية لا شكَّ فيها، وويل لمن يحتقِرُها، وطُوبى لمن أتى إليها وليس له ذنب، إنه يحيا كما تحيا الآلهة.
إنَّ الناس عبيد الله، وهو يهديهم سواء السبيل، خلقهم منه، وعلى صُورته؛ وخلق لهم ما في الأرض جميعًا، وهو يسمع بكاءهم وشكواهم، وقد جعل لهم رؤساء أوصياء عليهم يأخذون بيدِ الضُّعفاء منهم.
•••
وخُلاصته أنَّ فلَّاحًا من إقليم وادي النطرون نفدَتْ غِلالُه، فحمَّل حُمُرَهُ بعضَ نِتاج قريته، وذهب إلى أهناس ليُبادِل بها غلالًا، فمرَّ في طريقه على حاكم بلدةٍ فراقَت الحُمُر بما عليها في عينِه، فتعلَّل الحاكم بأنَّ الحُمُر أكلتْ في طريقها بعضَ زراعة القمح، فضرَبَه ضربًا مُبرِّحًا، واغتصب حُمُره وما حملت؛ فالتجأ الفلاح إلى رئيس الحاكِم فلم يُنصِفه، واستعظم هو وأعوانه أن ينتصِفوا لفلاحٍ من حاكِم، ولكنهم عجِبوا من فصاحته وقوَّة حُجَّته.
وقد قصَّ الرئيس قصته على الملك مُبيِّنًا له ما مُنِح الفلَّاح من قوَّة في الأدب وبلاغة في القول، فشاركه الملك في إعجابه، وأمرَه أن يُبطِّئ في حلِّ قضيته حتى يستخرِجَ كلَّ ما عنده من قولٍ بليغ، ولكن يُجري عليه ما يُقيم أوَدَه سرًّا.
فصاغ الفلَّاح في شكواه تِسعَ خُطَبٍ تتدفَّق معانيَ جليلةً في مدح العدل وذمِّ العُمَّال بِرُوح عصرِه، وأسلوب قومِه، فمنها يُخاطب الرئيس:
يا سيدي يا عظيم العظماء، يا أغنى الأغنياء، ومن ليس فوقَه إلا عظيمٌ أعظم، وغَنيٌّ أغنى …
أليس عجيبًا أن ينحرِف الميزان، ويعوَجَّ المُستقيم، ويختلَّ الوزن؟
تأمَّل؛ إنَّ العدل يتزلزل من تحتِك، والقُضاة يظلِمون، ومَن يشعُر بالراحة يترُك الناس في عَناء، ومُقسِّم الأرزاق مُتلِف، والمُكلَّف بالعدل يأمُر بالسَّرِقة، ومَن عمَلُه أن يقضيَ على الفقر يُحيي الفقر!
ثم يؤنِّب الرئيس ويتمنَّى له الشر، فيقول:
ليتَ بيتَك يخرَب، وكَرْمَك يذبُل، وطيورَك وماشيتَك تفنى، فقد عَمِيَ البصيرُ وصُمَّ السميع، وضلَّ المُرشد.
لقد تخطَّتكَ الرحمة، وأصبح مَثَلُك كرسول التمساح أو «ربَّة الوباء».
إنَّ الملك في قصرِه وسكان السفينة في يدِك، وقد كثُر الشغَب بجوارك، والشكاية تطُول والفصْل فيها يبطؤ، والناس يتساءلون ماذا تعمل. أعِنِ المظلومَ حتى تتبيَّن للناس قيمتُك، والتزمِ الحق في القول فالمرءُ قد يكون مصرَعُه في لسانِهِ.
يا مَن يملك مرافق الماء! قد أصبحتُ أملك مجرى الماء ولا أملكُ سفينة، ويا من يُنجي الغارق! نَجِّ من غرقَتْ سفينتُه.
كُن كإله النيل يجعَل الأرضَ الجَدْباء أرضًا خضراء، ولا تكن كالسَّيل يُدمِّر ما يأتي عليه، واحذَر الآخرة.
إنَّ لسانك لسان الميزان، وقلبك وشفتَيك ذِراعَاه، فإذا لم تعدِلْ فمَنِ الذي يكبَحُ الشر؟
إنَّ مَثلك كمَثل بلدةٍ لا حاكِم لها، وطائفة لا رئيس لها، وسفينة لا ربَّان لها، وعصابة لصوص لا كابِحَ لها.
إنك حاكِم يَسرِق، ورئيس يرتشي، ومُوكَل بالقضاء على المُجرِمين يُصبح نموذجَ المُجرمين.
يا أيها المدير العظيم، لا تحرِمَنَّ فقيرًا مِثلي من ملكه، فمالُ الفقير نفَسه، ومن اغتصبَه كتَمَ نفَسَه. ماذا تصنع؟
إنك لتسمَعُ الشكوى فتنحاز إلى اللص، ويضع المُتقاضي أملُه فيك فتعتدي، ويأمُل الفقير أن يجدَ منك سدًّا يَقِيه الغرَق فيجدك تيَّارًا يجرِفُه.
أقِمِ العدل لربِّ العدل الذي يصدُر عنه العدل؛ إنَّ العدل لا يفنى، سيذهَبُ مع صاحبه إلى القبر ويُدفَن معه، ولكن لا يُمحَى اسمُه … إلخ.
•••
ثم كانت لهم الأناشيد الدينية والأغاني الشعبية والغزل الرقيق، وهاك نموذجًا لقطعةٍ غزلية:
ومن غزَل الفتاة:
وقد جاء في غزَلهم تَشبيهُ سواد شعرِها بالظلام، وبريق ثناياها بالشرَر من حجَر الصوان؛ كما تغزَّلوا بقدِّها المَمشوق، وصدرِها الرَّيَّان، ونهدِها الناهد.
•••
ومن أناشيدهم:
وكان لهم شعر، يدل عليه كتابة الفقرات مُنفصلة؛ كل فقرة في سطر، وقد يرتبط السطر الثاني بالأول، وهذه الفقرات مُتقاربة الطُّول، ولولا الشعر ما كان هناك داعٍ لقطع الكتابة، ولكن لم يهتدِ الباحثون بعدُ لأوزانهم الشعرية. وكان هذا الشعر مرتبطًا بالغناء الذي بلَغ عندهم مبلغًا عظيمًا.
وقد لاحظ الباحثون أن مقطوعات الشعر المصري يكثُر فيها جملة تتكرَّر وتدور عليها القصيدة، مثل: «مَن أُكلم اليوم» ونحوها. وقد يبتدئ الشاعر باسم زهرة، ثم يُردِّده في كثيرٍ من أبياته، كأنه يُريد أن يستوحِيَها المعاني التي يصوغها.
- الأولى: أنَّ مُترجمي النصوص الأدبية من الآثار وأوراق البردي يختلفون فيما بينهم في ترجمتها، وسبب ذلك أنَّ نظام الكتابة كان ناقصًا عندهم، فالكتابة لم تُوضَع فوقَها حركات تُبين بالضبط موقع الكلمة من الجملة؛ ونتيجة ذلك أنه يُمكن نُطق الكلمة بأشكال مختلفة، والكلمة الواحدة تصِحُّ أن تصدُق على الكلمة ومُشتقَّاتها من اسم فاعل، ومفعول، ومصدر، وفعل مضارع وهكذا؛ فمن هنا يأتي الخلاف، فضلًا عن خطأ النُّسَّاخ عند الكتابة.
- والثانية: أنَّ كل لغة — وخاصة في الآثار الأدبية — تؤثِّر في القارئ والسامع بمعانيها ونغمات موسيقاها، وما يُحيط بالكلمات من هالة، وبالبيئات والمُلابسات التي تُحيط بها، فإذا أمكن نقْل المعاني في أمانةٍ صعُب أو تعذَّر نقل ما عداها من جوِّها وملابساتها نقلًا صادقًا صحيحًا، وهذا ما سيُواجهنا في كلِّ أدبٍ غير الأدب العربي العصري.
وعلى الجملة فقد ظلَّت الآداب المصرية تنمو وتنضج وترتقي وتعمل عملها في النفوس نحو أربعين قرنًا، وكانت علاقة المصريين بغيرهم علاقة قوية، إما بالحروب والفتوح للأمم المُجاورة، وإما بوساطة التجارة الواردة والصادرة، وإمَّا البعوث ترِدُ إلى مصر لدراسة حضارتها وعلومها وفنونها ودِينها. ومن بُعِثوا كانوا ينقلون ذلك كله إلى بلادهم.
كل هذا جعل آدابهم تؤثِّر — كعلومهم وفنونهم — في الأمم حولَهم إما من طريقٍ مباشر كتأثُّر العبرانيين واليونانيين بالمصريين، أو غير مباشر كتأثُّر الآداب الأخرى بالعبرية المُتأثِّرة بالمصرية، أو تأثُّر الرومانيين باليونانيين المُتأثِّرين بالمصريين.
(٢) أدب الصين
ولندَع الآن مصر وغيرها من أقطار الشرق القريب، ولْنَسِرْ إلى الشرقِ القَصيِّ البعيد، إلى حيث الصين، إلى حيث كُتِبت الكتُب قبل أن تنبُت دَوحة الأدب في أوروبا بمئاتٍ من السنين. وآثار الصين القديمة مكتوبة على ألواحٍ من ألياف الخيزران، يُخَطُّ عليها بالمِسمار آنًا، ويُكتَب عليها بالمِداد آنًا آخَر. وكذلك كتَب الصينيون على نسيج الحرير، وصنَعوا الورق في القرن الأول قبل الميلاد، وعرفوا الطباعة بالحروف المُتحركة قبل أن تعرفها أوروبا بثلاثة قرون.
كان الأدب الصيني القديم يدور حول مبادئ الأخلاق، فجمَعوا حِكمة السلَف فيما يجِب أن يكون عليه سلوك الخلف، ودوَّنوها لتكون أمام الناس مثلًا يُحتذى، فيُهيِّئ لهم سعادة الدنيا والآخرة؛ وكان الكاتب الصيني يحتلُّ في نفوس الناس وفي نظر الدولة مكانةً ممتازة، حتى كانت تُجرَى عليه الرواتب العالية. وبلغ الأدب الصيني القديم من التنوُّع والجودة حدًّا بعيدًا حتى لا يكاد يُضيف إليه أدبهم الحديث شيئًا جديدًا، فالأدب الحديث لا يعدو أن يكون تعليقًا على الأدب القديم؛ وإنَّ لهذا التراث الأدبي القديم من الأثَر في نفوس أهل الصين ما جعلهم يُحيطونه بشيءٍ من التقديس، ولا يُجيزون لأحدٍ أن يخرُج على قواعده؛ ولهذا كان الصينيون من أكثر سكَّان الأرض جمُودًا وتشبُّثًا بالقديم، فهم يَعدُّونها زندقةً أن ينافس كاتب حديث كاتبًا قديمًا؛ ولذلك بقِيَت اللغة الصينية كما هي، لم ينلْها شيءٌ من التغيير والتجديد.
هذه الحكومة التي يُمسِك زمامها فرد واحد ممتاز كانت مَعقِد الأمل عند كونفوشيوس؛ وقد كان وزيرًا لأحد أمراء الصين، فأحبَّ أن يُعَلِّمه الحِكمة الخُلقية العملية ليعتدِل سلوكه، واستمع له الأمير حينًا، ثُم ضاق به ونفاه، لأنه آثَر على وعْظِه صُحبة الغواني الراقِصات؛ فأنفق كونفوشيوس خير سِنيهِ مُرتحلًا من دولةٍ إلى دولة، يُعَلِّم الأخلاق حيثما حَلَّ، ثم عاد إلى وطنه في سنِّ الشيخوخة ليجمَع في الكتب أشتاتَ حِكمته.
قال الشيخ: إنَّ الرجل الكامل هو الذي يُقيم أخلاقه على الشعور بالواجب، ثُم يُضيف إلى شعوره ذاك اتِّزانًا وتناسُقًا في سلوكه؛ وهو يدلُّ على ذلك بما يُبديه من رُوح التضحية، وعليه أن يُكمِل أخلاقه، فيُضيف إلى ذلك كلِّه الصِّدق والإخلاص، فإنْ فعل، فهو حقًّا ذو خلق نَبيل.
الإنسان الكامل يبحث عن حاجته في نفسه، والإنسان الأدنى يلتمِس حاجته عند الآخرين.
الإنسان الكامل حازِم في غير صخَب، يُحِب الإنسانية في غير تعصُّب لقومه.
الحكيم لا يرفع من قولٍ لقائله، ولا يُنزل من قدْر قول لقائله.
وفي الصين اليوم مئات الألوف ممن يحفظون كتب كونفوشيوس عن ظهر قلب، بل إنَّ أقواله لتجري على ألسنة العامَّة مجرى الأمثال.
(٣) الأدب الهندي
كانت السهول الفسيحة القريبة من بحر قزوين في الماضي السحيق موطنًا لطائفةٍ من قبائل الرُّعاة تربطها وشائج القُربى واتحاد اللغة، وكان يُسمِّي بعضهم بعضًا «آرياس» أي الأصدقاء، ولكن سرعان ما دبَّ بينهم التنافُس ونشب القتال، وانتهى الأمر ببعضهم إلى الهِجرة جماعاتٍ جماعات، وأخذوا يضربون في مسالك الأرض شرقًا حتى ألقَوا عصا التسيار في غابٍ كثيف، فاتَّخذوا الفئوس من الصخر القاسي الغليظ، يُحطمون بها الشجر، ثُم يحركون بأغصانها التُّربة ويفلحونها، وبهذا تحوَّل هؤلاء الرُّعاة الرُّحَّل إلى فلاحة الأرض. لكن فلاحة الأرض لبِثَت زمانًا طويلًا مُزدراةً لا تليق بغير العبيد؛ ولهذا أخذ سادة هؤلاء الرُّعاة يملكون الأرض ويَستخدمون الطبقات الوضيعة في حرثِها وفلاحتها.
هكذا عاد نَجم «أمراء بندافا» إلى السعود حين تزوَّج أحدُهم من ابنة الملك دروبادا، فكان لهم من هذا الملك حليف قوي، أيَّدَهم في المطالبة بحقِّهم في أرض بهاراتا التي كان لا يزال على عَرشها «ذريتارشترا» — الملك الضرير — فأجابهم هذا الملك إلى طلبِهم، ونزل لهم عن النصف الغربي من مَملكته، وكانت يبابًا بلقعًا، وترك لأبنائه «أمراء كورافا» النِّصف الشرقي الخصيب. لكنَّ «أمراء بندافا» أخذوا يُوسِّعون مِن مُلكهم ويُشيِّدون فيه المدن — ومنها مدينة دلهي — حتى أثاروا بنجاحهم كامِن الحقد والغيرة في نفس «در يوزان» الذي سيئول إليه مُلْك أبيه الضرير؛ فأدار في ذِهنه مَكيدةً نكراء، ودعا أبناء عمِّه الخمسة إلى حفلٍ بهيجٍ يُقيمه في قصره، وهنالك أخذ يُلاعِبُ أكبر الإخوة فيُقامِر هذا في اللعب على ما يملك من ذهبٍ وفضة وعَجَلات وفِيَلة، فلا يخرُج من أشواط اللعِب إلَّا خاسرًا، ولا تزيده الخسارة إلا حماسةً في مواصلة اللعِب حتى يخرُج صِفر اليدين، وانتقل كل مُلكه إلى مُلاعِبه ومُنافسه الذي قمَرَه بخُدعته لا بمهارته.
بهذا تشرَّد الإخوة من جديد، واشتُرط عليهم أن يَهيموا على وجوههم اثنَي عشَر عامًا، ثُم يَستقرُّوا في إحدى المدن عامًا آخر، فإنْ عجز أمراء كورافا أن يجدوهم طوال هذه السنين، أُعيد لهم مُلكُهم الضائع. وقصد الإخوة إلى حيث الغابات البعيدة، وكان معهم الأميرة درو بادي؛ زوجة أرجون — أحد الإخوة الخمسة — لكنها لم تعُد في مفاخر ثيابها كعهدِنا بها، بل كانت مُهلهلة الثياب حافية القدَمَين.
ولقد رُوِيَت القصص عمَّا لقِيَه الإخوة الخمسة من ضروب العناء والضِّيق في حياة الغابة، وجُمِعت في كتابٍ اسمه «كتاب الغابة»، وفيه من القصص أروعها ومن الأمثال أحكمها؛ ولذا فهو من أجمل أجزاء قصيدة «ماها بهاراتا» التي نروي لك خُلاصتها.
ولمَّا انقضى على الإخوة في نفيهم الأمدُ المضروب، جاءوا إلى إحدى المدن في هيئةٍ زريَّة، فارتدي أحدهم ثَوبَ الرُّعاة، واستُخْدِم ثانٍ في مطبخ القصر الملكي، وعمِل ثالث في اسطبلات الملك، والتحقَت درو بادي بحاشية الملكة وصيفةً لها. ومضى من العام الثالث عشر عشرةُ أشهر، وابتهج الإخوة أنْ قد دنا موعِد الفكاك من هذا النفي والتشريد. ولكن حدَث أن رأى قائد الجيش درو بادي فأحبَّها، فلمَّا صدَّت عنه وأعيَتْهُ الحِيَل في اجتذابها، أساء إليها القائد، فثارت من أحد الإخوة ثورةُ الغضَب وقتَل ذلك القائد الصَّفيق.
وكانت عيون «در يوزان» عندئذٍ تتطلَّع في كل أرجاء الهند بحثًا عن هؤلاء الإخوة، ولكنها عادت لا لتُنبئ مولاها بموضِع الإخوة، بل بنبأ اضطرابٍ وقَع في «ماتسيا» — وهو البلد الذي كان يُقيم فيه الإخوة — فانتهز أُمراء كورافا هذه الفُرصة السانحة ليضمُّوا ماتسيا إلى مُلكِهم؛ فخرج جيش ماتسيا ليُلاقي العدو المُغير، وكان على رأسه أمير صغير لم يُمارس الحروب، وكان يقود عربتَه «أرجون» — أحد الإخوة، وهو مَن ذكرْنا قصَّة زواجه بالأميرة درو بادي — فلم يكَدِ الأمير الصغير يرى العدو مُقبلًا حتى سقَط مغشيًّا عليه، فوثَب «أرجون» صائحًا: «أنا أرجون.» وهجَمَ في وجه العدو هجمةً ارتعدَتْ لها فرائصهم، ودبَّ الاضطراب في صفوفهم، ففرُّوا في هرَجٍ كأنما هم قطيع من الغنَم يعدو من الفزَع إذ سمع زئير اللَّيث.
وانقضى العام الثالث عشر، وطالَب الإخوة بمُلكهم، ولكن «در يوزان» أخذ يُراوِغُهم مُتعللًا بأنَّ «أرجون» قد كشف عن نفسه قبل أن ينقضيَ العام، ودارت بين الفريقَين حرب كان النَّصْر فيها حليف الإخوة الخمسة — أمراء باندافا — وسقط فيها در يوزان صريعًا.
•••
في هذا المكان جلس أصحاب القافلة يستريحون، وإذا بقطيعٍ من الفِيَلة يفجؤهم من حيث لا يعلمون، فتسقُط «دامايانتي» مَغشيًّا عليها، ثُم تُفيق وقد زال الخطر، ولكن وا أسفاه، قد ارتحلت القافلة وخلَّفتْها وحيدةً كما كانت، فأخذت المرأة المِسكينة تمشي بقدمَين داميتَين وشَعْرٍ أشعث، تضلُّ في متاهة الغابة حينًا، وتهتدي إلى الطريق السوي حينًا آخر؛ حتى ذهل عقلُها، وأُنهِك جسدها، وأصبح الموت لها أمنيةً تُرْتَجى، وأخذتها سِنةٌ من النوم، فلمَّا استيقظت واصلتْ سيرَها، فرنَّ في مَسمعِها خرير ماءٍ دافق، فأسرعت نحوَه، وإذا بها، وا فرحتاه! تجد عند جدول الماء مَخرجًا من الغابة، وامتدَّت أمام بصرِها الحقول اليانِعة، وشهدت هنالك في الأفق — حيث الشمس الغاربة تُرسِل ضوءها الخافت — عمودًا من الدُّخان يتلوَّى صاعدًا، فأخذت سَمْتَها نحو المدينة. وبينا هي في طريقها إليها إذا بالملكة في عَربتِها ماضية إلى نُزهتها، فاستوقف نظرَها هذه المرأة التي ينمُّ وجهها عن جلالِها على الرغم من أسمال ثيابها، فأمرت بركوبها، وأُعجِبت بحديثها، فاحتفظت بها وصيفةً في قصرها. وليس هذا القصر الذي انتهى إليه مطافُها سوى قصر ابن خالتها. ولمَّا علِمت الملكة أنَّ وصيفتَها هي الأميرة «دامايانتي» أقبلت عليها تضمُّها في لهفة، وتُقبِّلها وعيناها تدمعان إشفاقًا وسرورًا. ثُم أرسلتها إلى أبيها — وهو أحد الملوك — في حاشيةٍ تَليق بمكانتها، وحَمَّلتها من ثَمين الهدايا ما هو خليق بها.
أما «نالا» فكان قد انتهى به الأمر أن يعمل في حاشية أحد الأُمراء سائقًا لعربته الحربية، ولم يكن يُحزنه سوى فِراق زوجته، وكلَّما تخيَّلها شريدةً في الغابة أو مُلقاةً بين أشجارها جثَّة هامدة ضاق صدره ودمعت عيناه. ولم تكن «دامايانتي» بأقلَّ منه حُزنًا على فراق زوجها، فأعلنت على الملأ أنها ستُقيم حفلَ المُباراة بين الفرسان لتختار لنفسها زوجًا — لعلَّ الدعوة تبلُغ زوجها فيأتي للقائها — وكان بين الأمراء الخاطبين مَنْ كان «نالا» يعمل في خدمته، وجاء الأمير يقود له العربة «نالا»، فما كان أشدَّ دهشته حين وجد المدينة خاوية لا حفل فيها ولا زينة؛ وإنما جلست «دامايانتي» هنالك ترقُب الزائرين حتى أبصرتْ زوجَها قادمًا في عربة الأمير، فاندفعت إليه وارتمت بين ذراعيه، وكان اللقاء حارًّا جميلًا.
•••
(٣-١) قصيدة رامايانا٣٧
كان «راما» وليًّا للعهد في مملكة أبيه، لكنَّ أباه وعد إحدى ملِكاته — وكنَّ كثيرات — أن ينفي ابنه «راما» عن أرض الوطن أربعة عشر عامًا، وأن يُوصي بالعرش من بعده لابنها «بهاراتا».
ولم يمضِ طويلُ زمنٍ على نفي «راما» حتى أحسَّ الملك فداحة فَعْلته، فهدَّه الحزن وأسلم الرُّوح في حسرةٍ ولوعة، وتولَّى المُلْكَ بعدَه ابنه «بهاراتا»، لكن هذا الأمير الصغير كان من شرَف النفس ونزاهة الضمير بحيث أسرع من فورِه إلى أخيه «راما» ليُعيده إلى العرش، فكان جواب «راما» أنَّ موت أبيه لا يُبرئه من عهدٍ قطعَه على نفسه أن يظلَّ بعيدًا عن أرض الوطن أربعة عشر عامًا. وعاد «بهاراتا» كارهًا ناقمًا على أُمِّه التي وضعتْهُ — بحُمقها — في هذا الوضع البغيض، لكنَّ «راما» أوصاه بأُمِّهِ خيرًا.
كان «راما» وزوجته «سيتا» وأخوه يستمتعون ذات مساءٍ بهواء الغابة المُنعِش العليل، وإذا بهم يشاهدون غزالًا رشيقًا يعدو إلى جانبهم مُسرعًا، وكان الغزال يلمع كأنما يَسيل من جسدِه ذَوب النَّضار، فودَّتْ «سيتا» حين رأتْهُ أن تظفر به. فما هو إلا أنْ ذهب «راما» يُطارده ليُمسكه؛ وما كان الغزال إلا «ماريكا» بدَّل بقوة السحر هيئته، فلبِث «ماريكا» يعدو قريبًا مِن مُطاردِه حتى يُغريه، لكنه يُفلت يمينًا أو يسارًا فلا يُمكِّنه من نفسه، ولم يزل به يُخادعه على هذا النحو ليُبعده عن موضع حبيبته «سيتا» حتى ضاق صدر «راما» وقذَفَ بسهمٍ يريد أن يفتك به؛ فصاح «ماريكا» صيحةً عالية يُقلِّد بها صوت «راما»، فارتاعت «سيتا» لاستغاثة زَوجها، واستحثَّت أخاه «لاكشمان» أن يُنقذ زوجها وحبيبها، وبقِيَت في مكانها وحيدةً تنتظِر «راما» بصبرٍ نافدٍ وصدر مُضطرب، وشاركتها الطبيعة في حُزنها، فغامت السماء، وأمسك الطير عن تغريده، وارتعشت الأزهار وأحْنَتْ رءوسها العطِرة، ورفعت «سيتا» بصرَها فإذا بكاهنٍ يقِف إلى جانبها؛ إنه «رافانا» اللَّعين، وأسرع هذا الشيطان البغيض قبل أن يعود «راما»، وانقضَّ على «سيتا» كما ينقضُّ النمِر على فريسته، وعاد بها مُسرعًا إلى قصره في مدينة «لانكا» بجزيرة سيلان.
وعاد «راما» فلم يجِد زوجتَه، فهامَ على وجهه في أرجاء الغابة باحثًا نادبًا. فلمَّا علِم بحقيقة الأمر قصد مُسرعًا إلى مكان «رافانا»، وفي طريقه إلى الساحل الجنوبي مرَّ بإقليمٍ تسكُنه قبيلة مُتوحِّشة، صوَّرها الشاعر في هيئة القِرَدة، فحاولتْ تلك الأمساخ أن تَعُوقه عن السير، ولكنه شقَّ طريقه بينها في غير خوف، فأُعجِبَت القِرَدة ببسالته وحالفَتْه، وتطوَّع جيش جرَّار منها أن يصحَب «راما» ليُعاونه على عدوِّه.
أُطلق سراح «سيتا» من سجنها، ولكنَّ مِحنتها لم تبلُغ النهاية بعدُ، فقد ارتاب «راما» وشكَّ أن يكون «رافانا» دنَّس طُهرها، وكان لا بدَّ من إقامة البُرهان على طهارتها. وهل لِمِثل هذا البُرهان من سبيلٍ في تلك العهود الأولى غير نارٍ تُشْعَل ثم يُلَقى بالمُتَّهمة في سعيرها، لتحترِق بلظاها إن كانت آثِمة، أو تكون عليها النار بردًا وسلامًا إن كانت بريئة؟! وأُعِدَّت النار — وكانت «سيتا» قد حزَّ في نفسها شكُّ زوجها — فوثَبَتْ إلى جَوف اللهيب المُستعِر، لكنَّ «آجني» — إله النار — أعاد الزوجة الطاهرة إلى زوجها الذي ضمَّها إلى صدرِه وعيناه تدمعان من الفرح.
وعاد الزوجان إلى عاصمة مُلكهما في «كوشالا»، وكان قد انقضى عليهما في النفي أربعة عشر عامًا. وجلس «راما» على عرشِه.
•••
وفي القصيدة صِبغةٌ من نغمةِ الفيدا، إذ تمتزِج فيها اللمحات الفلسفية بأشعار الوصف في كثيرٍ من مواضعها.
ولهذا الشاعر أيضًا قصيدتان غنائيَّتان: قصيدة عنوانها «رسول السحاب» وأخرى عنوانها «الفصول»، هاك بعض أجزائها:
ولنعُد بعدُ إلى الأدب الديني فنرى أنَّ تقادُم العهد على حياة الآريين الأوائل في سهول البنجاب، جعل الجِيل الجديد ينسى ما لازَمَ تلك الحياة من دقائق وتقاليد. ولمَّا كان كتاب «الفيدا» — كما قدَّمنا — يدور حول حياة الهندوس الأوَّلين، فقد أخذت مَعانيه وإشاراته تغمُض، ولغتُه تصعُب على الأجيال الناشئة؛ لذلك لحِقَت بالمَتْن شروح تناولتها الأجيال جيلًا بعد جيل. وكان من الطبيعي أن تتَّسع دائرة الشرح حتى تتعدَّد ألوانها، فكان واجب البراهمة عندئذٍ — وهم طبقة الكهَّان — أن يجمعوا هذه المجموعة المُتبايِنة من الشروح ليُوفِّقوا بينها؛ فنشأ من هذا التوفيق أثر أدبي جديد هو الذي يُطلَق عليه اسم «براهمانا»، ثُم تَبِعه اﻟ «يو بانشاد» وهو ذَيل للبراهمانا (وُضِع نحو سنة ٥٠٠ق.م.) يحتوي على التأمُّل اللاهوتي الذي ساد في ذلك العصر، وفيه نزعاتٌ صُوفية ودعوة إلى طهارة القلب وصفاء النفس، وأنَّ المعرفة أساس التحرُّر. والعجيب أن «يو بانشاد» فيه نَسْخ لِما في البراهمانا من شعائر، ومع ذلك يُلْحَق به كأنه مُتمِّم له، وهو في ذلك شَبيه ﺑ «العهد الجديد» لا يقوم على الشعائر اليهودية التي في «العهد القديم»، ومع ذلك فهو يُعدُّ مُتمِّمًا له، بحيث يُكوِّن كلاهما الكتاب المُقدَّس. و«يو بانشاد» فيه ذخيرة ثمينة من الشعر والقصص إلى جانب لمحاته الفلسفية التي تسطع آنًا بعدَ آن.
و«الفيدا» و«براهمانا» و«يو بانشاد» هي كتُب الوحي عند الهندوكيين، وهي تشتمل على نزعاتٍ مُختلفة مُتباينة، فنرى فيها تعدُّد الآلهة والآلهات ونزعة التوحيد، ونزعة الحلول ووحدة الوجود؛ فهي نظام اجتماعي يسمح بالعقائد المُختلفة أكثرَ منها دعوة إلى عقيدة مُعيَّنة. تعدَّدت الآلهة في «الفيدا» وتنوَّع اختصاصها، وأُسند إلى كلٍّ عمل، واختلطَتْ أعمالها لأنها كانت آلهة قبائل مُتعدِّدة، وترقَّت هذه الآلهة المُتعدِّدة إلى وحدةٍ منها انبثق الخلق وإليها يعود، وظهرت هذه النزعة الراقية — على الأخص — في اﻟ «يو بانشاد». ويصِل هذا الرُّقِي إلى «الفيدانتا»، ومعناها الحرفي خاتمة «الفيدا».
(٣-٢) البوذية
لبِثت طبقة الكهَّان مسيطرة على العقول حتى قامت في الهند «حركة عقلية جديدة» تدعو إلى الإصلاح الديني، وقد تمخَّضت هذه الحركة عن «الفدانتا» من جهة و«البوذية» من جهةٍ أخرى. أما «الفدانتا» فتُقيم تعاليمَها على أساس «الفيدا» غير أنها تهتمُّ بروحِه لا بألفاظه. وأما «البوذية» فترفُض الفيدا من أساسه. ونشب صراع بين البوذية الجديدة والفيدا وما إليها، وظلَّ قائمًا مدى قرنَين كاملين، حتى أقبلت جحافل الإسكندر الأكبر تغزو سهول البنجاب (عام ٣٢٧ق.م.) فوجدت البرهمية القديمة تغرُب شمسُها، ونجم البوذية الجديدة يسطع في سماء الشرق، لكن البوذية لم يَدُم سُلطانها في الهند إلا إلى القرن الخامس بعد الميلاد، ثم أفسحت الطريق للبرهمية مرةً أخرى.
ولد «بوذا» واسمه «جوتاما» في بلدٍ قريب من «بنارس» بين القرنَين الخامس والسادس قبل الميلاد، وكان من الأسرة الحاكمة، غنيًّا، جميلًا، وقد بدَت عليه علائم التفكير والتأمُّل العميق، وهو ما يزال في مُقتبل حياته، فكان يتخيَّر مكانًا مُنعزلًا يأوي إليه ساعاتٍ ينفقها في التفكير، ولِداتُه من الفتيان يلهون ويلعبون. وأول ما هزَّ قلب الفتى اليافع أن رأى الطبيعة من حوله تتفتَّح عن ألوانٍ من الجمال الرائع الخلَّاب، لكن تلك الروائع الفاتنة ما أخرجتها الطبيعة من جوفِها إلَّا لتُعيدها إلى قبورها؛ فكل ما تلِدُه الحياة مَقضي عليه بالتغيُّر والفناء، فهذا الشباب المُلتهب النضير ستلفَحُه ثلوج الشيخوخة فيجمُد؛ فالحياة أمدها قصير، وهو على قِصَره مليء بأسباب الهمِّ والعناء. ومَهْد الوليد وسرير الميت كلاهما تحُوطُه ألوان العذاب والأسى، ولا يُحقِّق الإنسان لنفسه مطمعًا حتى يُعاني في سبيله الشقاء والألم، وكل محاولةٍ يبذلها الفرد ليُثبت ذاته بمثابة كأسٍ من العلقم المرِّ يجرَعُها، وأشدُّ مسرَّات الحياة بهجةً تشوبها شوائب الحزن. آهٍ لو استطاع الإنسان أن يتخلَّص من الحياة التي تُسبب له هذا الهمَّ والشقاء! لكن الانتحار عبَثٌ لا يُجدي، لأنه لا يقتلِع الشر من جذوره؛ فقطفُك الورود الناضجة لا يقتُل شجرةَ الورد، فسرعان ما تُزهر وردًا يانعًا جديدًا. إن جذور الحياة، هي الرغبة في الحياة، فإنْ محوتَ من نفسك هذه الرغبة فقد طمستَ مصدر الألَم، وأعددتَ لنفسك الطمأنينة والرِّضا.
تلك كانت بواكير الفكر التي دارتْ في رأس بوذا وهو في صدر شبابه، فلمَّا أقبلت رجولته كان عزمُه المُصمِّم قد اتَّجه إلى العزلة، فما كاد يبلُغ التاسعة والعشرين حتى غادر قصر أبيه، تاركًا وراءه زوجةً جميلة وطفلًا رضيعًا، وكان في صحبته خادم واحد، ولم يمضِ في رحلته طويلًا حتى أعاد هذا الخادم وأعطاه سيفَه وجوادَه، ثُم لم يلبَث أن صادف في بعض الطريق سائلًا فقيرًا، فبادَلَه ثيابًا جميلةً برداءٍ مُمزَّق بالٍ؛ لقد هاجر بوذا وخَلَّف وراءه أُبَّهة القصور وجلال المُلك، فلم يطمع أن يكون بين الناس حاكمًا، إنما أراد أن يكون لهم مُعلمًا وصديقًا.
«إن الحياة في الأُسرة مليئة بالعوائق، إنها طريق أفسدَتْه العاطفة. أما ذلك الذي نفَض عن نفسه كلَّ رغبةٍ دُنيوية فحياته حرَّة طليقة كهذا الهواء، إنه ليتعذَّر على رجلٍ يعيش مع أُسرته أن يحيا حياةً رفيعة بكلِّ ما في الحياة الصحيحة من خصوبة ونقاء وكمال! دعْني إذن أُزِلْ شَعري ولِحيتي، دعْني أرتدي ثوبًا أصفر (ثوب الزاهدين)، وأُغادر حياة الأُسرة والدار إلى حياةٍ بغير مأوًى.»
وقصد الأمير أول أمرِه إلى البراهمة يتلقَّى عنهم الدين، ولكنه وجد في تعاليمهم نظرًا ضيِّقًا جامدًا كان لرُوحه الوثَّابة كالشبكة تُمسِك بالطائر المُحلِّق فلا يطير؛ فازدرى تعاليم الفيدا، بل استخفَّ بكل هيئةٍ تزعُم لنفسها سُلطانًا دينيًّا، وأيقن أن تجربته الشخصية وتفكيره خير مُرشد يَهديه في أمور الدين، فها هو ذا الدِّين القائم إذ ذاك يدعو إلى ذبْح الأضاحي قُربانًا، لكنَّ قلبَه يرتعِد هلعًا إذ يرى الذبائح تُنحَر إرضاءً لله، وتساءل كيف يمكن لهذا الشرِّ أن يُنتِج خيرًا؟!
فشل رجال الدين من البراهمة في بعْث الطمأنينة إلى نفسِه القلِقة، فالتمَس الهداية عند مَوردٍ آخر، وشاءت له المُصادفة أن يُلاقي جماعةً مُترهِّبة يُروِّضون عقولَهم وحواسَّهم رياضةً مُنظَّمة تتَّبِع منهاجًا مُعينًا؛ فانخرط بوذا في جماعتهم وأخذ يُلْجم حدَّة العقل وشدَّة الحواس كما كانوا يفعلون، لكنه عاد إلى قلقِهِ بعد ستة أعوام؛ إذ لم يُفلِح ذلك المنهج في إرضاء نفسه، فلا تعذيب الجسد ولا رياضة العقل أتاحت لنفسه السَّجينة ما يَنشُد لها من حُريةٍ وفكاك.
فبَينا هو جالس ذات يومٍ في ظلِّ شجرةٍ يتأمَّل، إذا به يحسُّ فيضًا من النور يُشرِق على نفسه، فقد تكشَّفَ الحقُّ عندئذٍ لبوذا، وذابت شكوكه أمام ذلك الإشراق الساطع، كما تنقشِع سُحب الصيف أمام شمسِه الحرور؛ إذ تبيَّن لبوذا ساعتئذٍ أنَّ خلاص النفس من خطيئتها وشقائها هو في شيءٍ واحد؛ أن يُحِبَّ الإنسان كل كائنٍ حيٍّ حُبًّا لا يرجو من ورائه غايةً غير الحُب.
والنرفانا حالة روحانية يُمحى فيها كل تفكيرٍ في الذاتية الشخصية؛ فكلَّما سِرْتَ خطوةً في إنكار نفسك دنوتَ من النرفانا، وكلَّما حصرتَ تفكيرك في نفسك بعُدتَ عنها. إنَّ كل ما في الحياة من ألوان الهمِّ والشقاء مصدَرُه الأنانية التي لا تشبَع؛ فهذا العذاب الأليم الذي يَشقى به الناس مَردُّه إلى الأثَرَة الطامحة، والشهوات الجامحة، ولا تزال حياة الإنسان شقاءً موصولًا حتى يقمَع في نفسه كلَّ شهوةٍ شخصية. وتقع هذه الشهوات في ثلاثة أنواع رئيسية؛ فالأولى شهوة الإنسان أن يُمتِّع الحِسَّ، والثانية رغبته في تخليد شخصِه، والثالثة حُب الإنسان أنْ يكونَ في الحياة ذا مالٍ وجاه، فهذه الشهوات الثلاث لا مندوحة عن قمعِها إذا أراد الإنسان لنفسه عيشًا سعيدًا. فإذا ما اجتُثَّت هذه الشرور من جذورها، وزالت كلمة «أنا» من حياة الإنسان، فقد بلغ الحِكمة العُليا، أو «النرفانا» كما تُسمَّى عندهم، وهي صفاء الروح واطمئنانها؛ فليس معنى «النرفانا» طمْس الحياة ومَحوَها كما يفهمها كثيرون، إنما هي طمسٌ ومحوٌ لهذه الغايات الشخصية التافهة التي تهبِط بالحياة، وتملؤها بالهمِّ والشقاء.
وهذا الفناء الذاتي لبُّ البوذية وصميمها، وفيه عرْض لحلِّ مُشكلة الحياة المُعذَّبة، ووضع خطة لهدوء الروح وسكونها. والبوذية في ذلك ليست بمنأًى عن سائر الأديان والفلسفات الكُبرى، فكلها تُريدنا أن نُفْنِي أشخاصَنا في شيءٍ أعظمَ من أشخاصنا. لكن البوذية تعود فتختلف عن كثيرٍ غيرها من الدِّيانات في أنها ديانة ترسُم خطةً للسلوك في الحياة اليومية، ولا تفرِض شيئًا من الشعائر وأنواع الضحايا والقرابين. وإذا لم يكن ثمَّة شعائر فلا معابد، بل ليس للبوذية لاهوت، هي تُثبِت ولا تنفي مئات الآلهة التي كان يعبُدُها الهنود إذ ذاك، وما حاجتها إلى نفي الآلهة أو إثباتها ما دامت لا تنشُد إلا سلوكًا عمليًّا فاضلًا في هذه الحياة الدنيا؟ وكانت آخر كلمة فاهَ بها «بوذا» «إنَّ الفناء لاحِق بالأجسام جميعًا فجاهدوا لتحرير أنفسكم ما استطعتُم.»
ولمَّا مات أخذ أتباعُه ينشُرون أقواله عن طريق الرواية، ولم تُدوَّن إلَّا بعد ذلك بأعوامٍ طوال.
وإليك مِثالًا من كتُب البوذيِّين، وهو مأخوذ من مجموعة الأشعار التي تُسمَّى «طريق الحق».
(٣-٣) كتاب «بيورانا»٥١
بيورانا هو الكتاب الذي يُقدِّسه الهندوس المُحدَثون، وقد كُتِب لأول مرة في القرن السادس الميلادي؛ فالهندوس بطبعِهم مُحبُّون للقصص التي تُروى عن الآلهة، ونشأت حول ذلك مجموعةٌ كبيرة من الأساطير يتلقَّاها الأبناء عن آبائهم، ثُم يُضيف إليها الشعراء حينًا بعد حينٍ ما يَخلُقه خيالُهم؛ فكم من عجوزٍ تجلس إلى مِغزلها وحولها الأبناء والأحفاد يُنصِتون إليها وهي تروي قصص الجنِّ التي سَمِعَتْها في طفولتها.
من هذه المجموعة الزاخرة بالأساطير والقصص يتألَّف «بيورانا»، حتى لكأنَّه موسوعة تحوي بين دفَّتَيها كل شيء، ففيه بسْط مُستفيض لحياة الآلهة والقدِّيسين، وفيه قصص عن الخلْق كيف كان، وترى فيه التراتيل الدِّينية، إلى جانب حقائق عن تكوين طبقات الأرض وصخورها؛ وشيئًا عن التشريح إلى جانبه بعض قواعد الموسيقى؛ وترى فيه معلومات فلكية عن مسالك النجوم إلى جانب دروسٍ في قواعد اللغة، فكأنما هذا الكتاب الضخم شَيخ أثقلَتْه تجارب الأيام، تَطيب لك صُحبته، ويحلو لك حديثُه، حين يستطرِد من موضوعٍ إلى موضوع ممَّا لقَّنَتْهُ حوادث السنين.
•••
ويَشيع بين الهندوس عقيدة تناسُخ الأرواح، ولا يُعرَف على التحديد مبدأ ظهورها في الهند، فلا أثرَ لها في الفيدا، ولها أثَرٌ قليل في البراهمانا، وهي ظاهرة مَقبولة في اليو بانشاد وفي البوذية، وعن البوذية انتشرَت في آسيا. وخُلاصة هذه العقيدة أنَّ الأرواح لا تمُوت ولا تفنى، وأنها تنتقِل من بدَنٍ إلى بدنٍ كما يَستبدِل البدَن اللباس إذا خَلق، وتترقَّى النفس في الأبدان المُختلفة كما يترقَّى الإنسان من طفولةٍ إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، لأنَّ النفس تتطلَّب الكمال، وتشتاق إلى العِلم بكلِّ شيء، وعُمر الإنسان قصير فلا بدَّ من تنقُّل النفس من بدنٍ إلى بدنٍ لتستفيد تجاربَ جديدة، فالأرواح الباقية تتردَّد في الأبدان البالية وهي تتردَّد من الأرذل إلى الأفضل حتى تبلُغ كمالَها وتتَّحِد بالله.
(٣-٤) القصص والأمثال
وحسبُك أن تعلَم أنَّ كتاب «كليلة ودمنة» المنقول من الفارسية إلى العربية فيه أبواب من «بانكاتانترا» وهي؛ باب الأسد والثور، والحمامة المُطوَّقة، والبُوم والغِربان، والقِرد والغَيلم، والناسك وابن عرس. كما أنَّ في هذا الكتاب قصصًا من «الماهابهاراتا» التي تَقدَّم ذكرُها، وهي باب الجرذ والسنُّور، والملك والطائر فنزة، والأسد وابن آوى. فالظاهر أنَّ الفُرس جمعوا كتاب كليلة ودِمنة من أصولٍ هندية، ثُم نقلَه ابن المقفَّع إلى العربية بعد أن حوَّر فيه بما يتَّفِق مع الذَّوق العربي الإسلامي.
وكتاب «بانكاتانترا» مكتوب باللغة السنسكريتية — وهي من اللغة المُستعملة حديثًا بمثابة اللاتينية من الإيطالية الحديثة — أمَّا حكايات «جاتا كا» فمكتوبة بإحدى لهجات الهندوس، لهذا كان من حظِّ «بانكاتانترا» أن يتَّسِع انتشارها، على حين ظلَّت «جاتاكا» محصورةً مجهولة لم تجد من يُترجِمها إلى اللغات الأوروبية الحديثة إلا في هذا العصر الحديث، بينما تُرجِمت حكايات «بانكاتانترا» منذ زمنٍ بعيد إلى كثيرٍ من لغات آسيا وأوروبا على السواء. وهاك مثالًا لها:
يُحكى أنَّ حمارًا أنفق اليوم كلَّه يجرُّ عربة غسَّال، فما أقبل المساء حتى هدَّه النصَب، فأراد أن يُمتِّع نفسه بأكلةٍ شهية تُعوِّضه تعَب النهار، فقصد إلى حقلٍ مجاور زُرِع قثَّاء، وصحِبَه إلى الحقل ابن آوى، وأكل الزميلان من القثَّاء الرطبة الشهيَّة حتى شبِعا، فقال الحمار لابن آوى: «ألا تراه مساءً جميلًا يا صديقي؟ إني لأحسُّ بنشوةِ تدفعُني إلى الغناء.» فأشار إليه ابن آوى بحكمتِه أنه خيرٌ للُّصوص أن يلزَموا الصمت، لكنَّ الحِمار الأحمق نهَقَ في مرحٍ حتى أيقظ صاحِب الحقل، فجاءه وأشبَعَهُ ضربًا بالعصا.
- (١)
مَحكُّ الصداقة الحقَّة الشدائد.
- (٢)
إنَّ المرض والغمَّ والمصائب والأغلال، إنما تَنتُج من أخطاءٍ ارتُكبت في الماضي.
- (٣)
عدَم العُجْب عند النعمة، وعدَم اليأس عند البؤس، والرأي السديد والقول الفصيح عند المشورة، والشجاعة في ميادين الحروب، والمنافسة في الشرَف، والتزام العمل بالحِكمة؛ ستُّ فضائل تتحلَّى بها النفس النبيلة.
- (٤)
ارحَم من استرحمك، وعمِّم نعمتك، فالقمر يُسوِّي في ضوئه بين المُعافى والمُبتلى، والسيد والمَسُود.
- (٥)
اتَّبِع العدوَّ إذا أخلص أكثرَ ممَّا تتَّبِع الصديق إذا لم يُخلِص، فالعداوة والصداقة لا تتميَّز بالألفاظ والأسماء، بل بالعقل والأعمال.
- (٦)
لا تشمَخْ بأنفك عند غِناك، فالقدَر يلعَبُ بأعراض الدُّنيا كما تلعَب البنتُ بالكُرَة.
- (٧)
ليس الدِّين الحق ما يُثرثر به الوعَّاظ، إنما هو أن تُحِب ما يُحِب الله؛ يُحبُّ كل شيءٍ صغُر أو كبُر، عظُم أو حقُر، والنعمة الحقَّة عقل صحيح في جسم صحيح، والمعرفة الحقَّة معرفتك الخير من الشر.
- (٨)
قد تلمَع الزجاجة — كما تلمَع الدرَّة — إذا رُكِّبت على قطعةٍ من ذهب، كذلك الغِرُّ الجاهل إذا صاحب الحكيم العاقل.
وهكذا.
(٤) الأدب الفارسي القديم
وانقسم الفُرس فريقَين: فريق مُوحِّد تؤيده الدولة، وفريق احتفظ بديانته القديمة؛ وكان لا بدَّ من صراعٍ طويل بين الفريقَين، انتهى بهجرة الفريق الأضعف — فريق الوثنيِّين — إلى سهول الهند الخصيبة، حيث استقرَّ وتطوَّرت عقيدته حتى أصبحت «البرهمية» كما يعتنِقها الهندوس المُحدَثون. وبقِيَ الفريق الآخر في أرض الوطن، وازدهر قرونًا طوالًا، وشيَّدَ إمبراطورية عظيمة، وشاعت الديانة الزرادشتية في أرجاء فارس بفضل تأييد الدولة لها، ثم اتَّسعت رُقعتُها حين اتَّسعت أملاك الفرس على أيدي ملوكها من أمثال «كورش» و«دارا»، ولبِثَت مُسيطرة على النفوس حتى فتح المُسلمون فارس.
آمن زرادشت في كتابه «الأفسْتا» بإلهٍ واحد عظيم، ثُم أخذ يُفصِّل لقومه كيف ينبغي أن يعيشوا وفقَ قانون الطبيعة، فلِكي يكون الإنسان جُزءًا سليمًا في هيكل الكون يجِب أن يعيش صحيحًا مُعافًى، وألا يكون ضعيفًا خائر القوى، ومن هنا أخذ يدعو إلى أن يحيا الإنسان حياةً نقية نظيفة ليُجنِّب نفسه العِلَل والأمراض. ولقد طبع الله في الإنسان بصيرةً يُميز بها بين الطاهر والدنس، أو بعبارةٍ أخرى بين الحق والباطل، ذلك هو الضمير الذي يَهدي صاحبه سواء السبيل؛ فمن يَعِش وفقَ ضميره تكُن حياته مُتَّسِقة مع إرادة الله.
ومن أهمِّ اللفتات الفلسفية في تعاليم زرادشت وجود مبدأين في الطبيعة يعملان مُتضادَّين، وهما «الروح الخالقة» و«الروح المُبيدة»، أو الكون والفساد. ومُنذ تمَّ الخلق وبين هذَين الروحين كفاح وصراع وتنافُس، ولكن، هل هذان المبدآن إلَهان؟ في الحق أن بعض النصوص في الأفستا تدلُّ على التوحيد مثل:
«إنَّ «أهورا مزدا» عليم بكلِّ شيء، ولذا فهو يعلم بوجود أهريمان … أما أهريمان — وهو روح الشر — فلم يكن لدَيه عِلم بوجود «أهورا مزدا» …»
أخذ «يما» يُقيم في الأرض دولةَ الخير، غير عالِمٍ أن «روح الشر» كامنة في حنايا الطبيعة تتربَّص له، فأنذره الله بما قد يغشاه من سَيلٍ وصقيع ليكون على حذَر، فهبَّ «يما» من فورِهِ يُعدُّ الحظائر المَنيعة لماشيته وخيوله، ورجاله ونسائه، ومُختلف أنواع الطير، كما أعدَّ أمكنةً آمنة يُخزِّن فيها الحب، ويحفظ شُعلة النار. أعدَّ من كل شيءٍ زوجَين، كأنه نوح يُنقِذ في سفينته صنوف الكائنات. إنَّ «روح الخير» قد بذرت بذور الشجرة المُثمِرة وتعهَّدتْها بماء الطهر والنقاء، وراقبَتْ نموَّها لكي تُثمر أطيبَ الثمرات «وإذا بروح الشرِّ يندفع من جهة الشمال، فينفُخ نفخةً واحدة من الثلج والصقيع — هي الخيانة والسوء — فتأتي على الشجرة النَّضِرة وتُحوِّلها حطبًا يابسًا. هكذا بدأت المعركة بين الخير والشر؛ بين التقوى والضلال؛ بين النور والظلام؛ الأول يصُون صُنع الله والثاني يهُلِكه ويُفنيه. وتتَّجِه الديانة الزرادشتية بكلِّ همِّها نحو حماية الإنسان من روح الشر وصُحبته.»
أراد زرادشت أن يجتثَّ روح الشر من جذورها، ويُفني رُوح التدمير ولا يُبقي على وجهِ الأرض إلَّا البناء والتعمير، ففصَّل القواعد الصحِّيَّة ونُظُم الحياة التي من شأنها أن تصُون الفرد والمُجتمَع. وأول ما ذكرَه «الأفستا» من هذه القواعد هو: كيف ينبغي أن يتصرَّف الأحياء في جثَّةِ الميت حتى يتخلصوا ممَّا يترتَّب على وجودها من وباءٍ خبيث. ويُعبِّر كتاب الأفستا عن هذه الحقيقة الصحيَّة بعبارةٍ مَجازية فيقول: إنَّ روح الشر إذا ما وجدت جُثمان میتٍ تحوَّلت من فورها إلى ذبابةٍ خبيثة تملأ جسدَها بالمرَض وتروح بين الناس وتغدو لتنشُر بينهم حِمْلها الخبيث. ثم يستطرِد الكتاب في ذِكر الدقائق التي يجِب على الإنسان أن يؤدِّيها تأیيدًا لرُوح الخير: أين يضع الجثَّة؟ كيفَ يُطهِّر مكانها من الدار؟ ماذا يصنع بملابس الميت؟ … إلخ.
ويتلو ذلك في أوامر الكتاب وجُوب فلاحة الأرض لتُنتج الحَبَّ والشجر؛ فالله يأمُر الإنسان أن يروي اليابس الجاف، وأن يُجفِّف المُستنقعات، وأن يُسْكن الأرض ناسًا وماشيةً وكلَّ ذي نفع وخير. وإن «زرادشت» لَتأخُذُه رعدة الفزَع حين يتصوَّر أن الإنسان قد تُحدِّثه نفسه أن يُدنِّس الأرض بدفن المَوتى في جَوفِها، وما خُلِقت إلَّا للزرع الذي يُقيم الحياة في الأحياء. إنَّ الموتى مَوضعهم قِمم الجبال، تلتهِمُهم سِباع الطير، أو تأكلهم عوامل الطبيعة.
ثُم يأمُر الكتاب بما ينبغي أن يُراعى في الحَبالى إبَّان الحَمْل وعند الولادة، حتى تَسْلَم الوالدةُ والولَد، ثُم يُفصِّل قواعد النظافة والطهارة والوقاية من الأمراض المُعدية.
أما وقد سلم الجسد بهذا التدبير، فإنَّ «زرادشت» يستطرِد في بسْط قواعد الأخلاق، فيقول: إنَّ الإنسان قد وُلِد وفي فِطرته عقلان: عقل خيِّر وعقل شریر، وكلٌّ من العقلَين يحاول أن تكون له السيطرة على توجيه الإنسان في أفكاره وألفاظه وأعماله. وقد لخَّص زرادشت الحياة الخُلقية في ثلاثة أركانٍ أساسية؛ أفكار خَيِّرة، وألفاظ خيِّرة، وأعمال خَيِّرة؛ فهذه الجوانب الثلاثة طرُق ثلاثة تؤدي إلى الجنة، ومَن يسعى لتحقيقها، إنما يسعى لتأييد الخير وإعلاء كلمة الله: «فلا تنحرِف عن أفضل الأشياء وهي ثلاثة: تفكير خَيِّر وقول خَيِّر وفعل خيِّر.»
والمقصود ﺑ «التفكير الخَيِّر» أن يحصُر الإنسان عقله في الله الخالق، وأن يعيش مع الناس في سلامٍ وانسجام؛ فإنْ أحبَّ الإنسان الإنسان عمِل على وقايته من الخطر، وعاوَنَه وقتَ الضيق. وعَلَّمَه إنْ كان جاهلًا، وهداه إلى خير طريق يزيد بها غَلَّته وثماره.
والمقصود ﺑ «الأقوال الخيِّرة» أن يكون الإنسان حافظًا للعهود، مُنجزًا للوعود، موفِّيًا للدَّين، لا ينطق بما يؤذي، ويقول ما مِن شأنه أن يُوثِّق عُرى الحبِّ بين عباد الله.
و«الأفعال الخيرة» تقتضي الإنسان أن يُخفِّف عن الفقير، وأن يزرع الأرض، وأن يستنبِط الماء العذْب، وأن يشجع على إقامة الحياة الزوجية، وأن يُنفِق ما زاد على حاجته في وجوب الإنسان.
ودعا زرادشت الإنسان أن يتزوَّج ليُنشئ الأُسرة، فكما تصلُح الأرض بالإخصاب تصلُح الإنسانية باتِّخاذ الأزواج. ويُشير كتاب الأفستا إلى أنَّ أول ما يُرضي الله من عبدِه أن يُنشئ لنفسه دارًا ويختار لنفسه زوجة، وينسل الأطفال، وأن يحتفِظ في بيته بشُعلة النار مُوقَدة، وأن يكون له قطيع من ماشية.
ثم يُعرِّج زرادشت بتعاليمه على الحيوان ووجوب الرحمة به؛ فلنذبح منه ما نحن بحاجةٍ إليه، أما أن نلهوَ بقتلِه في الصيد وسائر ضروب العبَث فجنايةٌ كُبرى عند الله خالق الإنسان والحيوان على السَّواء.
إلى هنا ينتهي تفصيل زرادشت في الأفستا من شروط الحياة الخَيِّرة الصالحة، ثم ينتقل بعدئذٍ إلى ما يكون في الحياة الآخرة، فيبدأ بتقرير خلود الروح، وبأنَّ الروح الصالحة تصعد إلى الجنة في انتظار جسدِها يومَ البعث، وأما الرُّوح الشريرة فتلقى العذاب ألوانًا حتى يوم الدِّين.
إنَّ زرادشت يؤمِن بحياة الجسد والرُّوح معًا، فلا هو ينصرِف إلى الحياة المادية وحدَها حتى ينسى حياة الروح في اليوم الآخر، ولا هو يحصُر تفكيره في الرُّوح بحيث يُهمِل الجسد. الحياة بجانبَيها هي مِحور الديانة الزرادشتية، فللجسد ما أسلفْنا من عنايةٍ بالصحة والطعام وما إلى ذلك، وللرُّوح ما طبَعَه الله في الإنسان من ضميرٍ يهديه سواء السبيل. وقد رمز زرادشت للحياة بجانبيها المادي والروحي بالنار، فلا حياة بغَير سعي ونشاط، وفي النار هذا النشاط الدائب، ولا حياة بغَير طُهر ونقاء، والنار أول عوامل التنقية والتطهير؛ فلا عجَب أن يُبقي سدَنَة الفُرس على شُعلة النار مُشتعلة مُلتهبة، على سبيل الرَّمز لا على أن تكون هي مَوضِع التقديس والعبادة، ثم خلَفَ خلْفٌ من بعدِه لم يفهموا رمزَه في النار فعبدوها.
مُقتطَفات من كتاب «الأفستا»:
و«الأفستا» واحد وعشرون نُسُكًا في موضوعاتٍ ثلاثة:
(١) العقائد والعبادات. (٢) المعاملات. (٣) الفلسفة والعِلم.
ولكن لم يصِل «الأفستا» إلينا كاملًا، فما بَقِيَ منه عبارة عن قطع من القسم الأول والثاني، وأما القِسم الثالث فلم يبقَ منه شيء، وهاك نموذجًا منه:
وقد وُضِع على الأفستا شروح وتعليقات تُسمَّى «زَنْد أفستا»، كما وُضِعت كتُب تشرَح تعاليمها، بقِيَ إلى الآن بعضها، ومن أمثلةِ ما فيها.
- الطُّهر: الطُّهر للإنسان يأتي — في القيمة — بعد الحياة نفسها، هو أعظم خير بعد الحياة، وإنَّ الله ليُسبِغ ثوب الطُّهر على من يُطهِّر نفسه بالأفكار الخيرة، والأعمال الخيرة؛ طهِّروا أنفسكم يا أيُّها المُتَّقون.
- وصايا في الجسد والروح: سأل الشيخ «روح الحِكمة» قائلًا: كيف يُمكن الإنسان أن يتعهَّد جسدَه بالنَّماء دون أن يؤذي الرُّوح، أو أن يصُون الروح دون أن يؤذي الجسَد؟
فأجابت «روح الحكمة»: انظُر إلى من هو أدنى منك كأنه قَرِين، وإلى القرِين كأنه أرفع منك، وإلى من هو أرفع منك كأنه سيِّدُك، وإلى سيِّدِك كأنه حاكِمُك، وكن لأُولِي الأمر خاضعًا، مُطيعًا، صادقًا … لا تكُن واشيًا حتى لا يلحقك العار والسُّوء، لأنه يُقال إنَّ الوشاية شرٌّ من صناعة السحر.
لا تبلُغ برغبتك حدَّ الجشَع، فيخدعك شيطان الشَّرَه، وتفقَّد التلذُّذ من خيرات الدنيا.
لا تسترسل في الغضب، لأن المُسترسِل في غضبه ينسى ما عليه من واجبٍ يؤديه وخير يُنجزه … وتطوف بعقلِه الجريمة والخطيئة بكلِّ صنوفِها، وإلى أن يكظم الغاضِب غضبتَه سيكون شبيهًا بأهريمان «رُوح الشر».
لا تُعذِّب نفسك بالهموم، لأنَّ المهموم لا يشعُر بلذَّة الدُّنيا ومُتعة الروح، فيذبُل جسدُه وتذوِي روحه …
إنْ قاتلتَ الأعداء فقاتِلْهم بالعدل، وإن سايرتَ صديقًا فَسِرْ معه بما يُرضي الأصدقاء، وإن كنتَ في صُحبةِ حقودٍ فلا تُنازِعه، ولا تُثِرْ كامِن ضغنه، ولا تشارك نَهِمًا في نهَمِه، ولا تُلقِ إليه بزمام أمرِك. إيَّاك أن تصِل الوشائج بينك وبين من ساءت سُمعته. لا تُحالِف جاهلًا ولا تُصاحِبه. إن كنتَ مع أحمق فلا تُجادِله، ولا تمشِ مع السكران في طريقٍ واحد …
إيَّاك والصَّلَف من أجل كنوزك ومالِك، لأنك تارِكها — ولا شكَّ — في نهاية أمرك.
إيَّاك والفخر بحسَبِك ونسَبِك، فإنما تركَنُ آخِر أمرِك إلى ما قدَّمَتْه يداك، وإيَّاك والعُجْب بحياتك نفسها، فإنَّ الفناء لاحِقُك في النهاية، وسيعود إلى الأرض جُزؤك الفاني.
•••
عظيم أهورا مزدا الذي خلق هذه الأرض، والذي خلق تلك السماء، والذي خلق الإنسان، والذي خلق سعادة الإنسان. الذي جعل دارا مَلِكًا؛ مَلِكًا واحدًا على كثيرٍ من الناس، وشارعًا واحدًا لكثيرٍ من الناس.
أنا دارا الملك العظيم، ملك المُلوك، ملك الأرض التي تغمُرُها الشعوب كلها، مَلِك هذه الأرض العظيمة منذ زمنٍ بعيد، ابن وشتاسب الكياني، فارسي ابن فارسي، آري من نسْل آري.
يقول دارا الملك: بفضْل أهورا مزدا، هذه هي الأقطار التي أملِكها وراء فارس، والتي أُسيطِر عليها، والتي أدَّت الجزية إليَّ، والتي امتثَلَتْ أمري، وأطاعت شريعتي:
مديا، سوسيانا، بَرِتيا، هريفا «هراة» بكتريا «بلخ» سغُد، خوارزم … الهند، بابل، آشور، بلاد العرب، مصر، أرمينية، كبَذُقيا، إسبرتا.
يقول دارا الملك: حينما رأى أهورا مزدا الأرض ائتمنَني عليها؛ جعلني ملكًا، بحمد أهورا مزدا قد أحكمتُ تدبيرها، نفذ فيها أمري. إذا حدَّثَتْك نفسك كم الأرضون التي سيطَرَ عليها الملك دارا فانظُر إلى هذه الصورة. إنهم يحمِلون عرشي فعسى أن تعرفهم، فتعلم أن رماح الفُرس قد بلغتْ مدًى بعيدًا، وتعلم أن الفُرس أضرَموا الحرب نائين عن فارس.
يقول دارا الملك: كل ما عمِلتُ فإنما عملتُ بفضل أهورا مزدا، أهورا مزدا أيَّدني حتى أكملتُ العمل. لعلَّ أهورا مزدا يَحفظني وبيتي وهذه الأرض، لذلك أدعو أهورا مزدا، لعلَّ أهورا مزدا يمنحني ذلك.
أيُّها الإنسان هذا أمر أهورا مزدا لك:
لا تظنَّ سوءًا، لا تحُدْ عن الطريق السَّوي، لا تقترِف إثمًا.
وكان للفارسيِّين في موطنهم المُمتدِّ بين دجلة في الغرب ووادي السند في الشرق لهجات كثيرة — منها ما كُتِب واتُّخِذ لغةَ عِلمٍ وأدب — وهي أربع لغات؛ ثلاثٌ قديمة، ورابعة حديثة وهي لغة الفُرس اليوم. فأما القديمة فهي: (١) الفارسية القديمة التي هي لغة كثيرٍ من الآثار على الأحجار. (٢) ولغة الأفستا. (٣) واللغة الفهلوية وكانت لغة الدولة والعِلم والأدب بعد اللغة الفارسية القديمة، وهي وسَط في تطوُّر اللغات الفارسية بين الفارسية القديمة والفارسية الحديثة.
والآداب الفهلوية الباقية أوسَعُ موضوعًا، وأكثر أنواعًا، وأقرب إلى التاريخ من الآداب القديمة. وقد أُلِّفت بها كتُب كثيرة أدبية وتاريخية كانت في مُتناول المُسلمين في القرون الأولى للهجرة؛ نقلوا منها كثيرًا من تاريخها كما فعل الطبري في تاريخه للفُرس في كتابه الكبير تاريخ الأُمَم، وكما فعل المسعودي في كتابه مُروج الذهب، كما نقلوا كثيرًا من حِكَمِها وأدبها في كتُب الأدب العربية مِثل: عيون الأخبار لابن قُتيبة، وكتاب التاج المنسوب للجاحظ، وكتُب الثعالبي.
مِثال ذلك ما رَوَوا مِن أنَّ بزرجمهر قال: «إذا اشتَبَه عليك أمران فلم تدْرِ في أيهما الصواب فانظُر أقربهما إلى هواك فاجتنِبْهُ.»
وكتب إبرويز إلى ابنه شيرويه: «اجعل عقوبتك على القليل من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يُطمَع منك في الصغير لم يُجْترأ عليك في الكبير.»
ويقول ابن قتيبة: قرأتُ في كتُب العجم «حُسن الخلق خير قرين، والأدب خير مِيراث، والتوفيق خير قائد.»
وقال أردشير: «إن للآذان مجَّةً وللقلوب مَللًا، ففرِّقوا بين الحِكمتَين.»
وقال كِسرى: «احذروا صولَة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبِع.» … إلخ … إلخ.
وقد ضاعت أكثرُ الكتُب الفهلوية التي نقَل عنها العرب وبقيَ إلى وقتِنا بعضُ الكتُب، منها «ياتكار زربران» ويُسمَّى الشاهنامة الفهلوية أو شاهنامة «كشتاسب»، وهو قصَّة الحرب التي كانت بين كشتاسب ملك إيران وأرجاسب ملك توران. وكان كشتاسب من أنصار زرادشت والمؤيدين لدِينه، فدعا الملوك للدخول في هذا الدِّين، فثارت الحرب بين إيران وتوران، وهي صفحة من الحروب الكثيرة بين الأُمَّتين التي تُصوِّرها شاهنامة الفردوسي في كثيرٍ من فصولها.
ومن الكتُب الباقية أيضًا بالفهلوية «كارنامك أردشير بابكان» أي أعمال أردشير بن بابك.