الأدب العبري
وأول ما ينبغي أن نُشير إليه هو أن الكتاب المقدس — وهو يشمل العهد القديم والعهد الجديد، أو التوراة والإنجيل — يمكن اعتباره آيةً من آيات الأدب قد نقرؤها لنستمتِع بها كما نستمتِع بأي كتابٍ أدبيٍّ آخر من كتُب الشِّعر والنثر. وعلى هذا الاعتبار وحدَه وضعْنا حلقةً في هذه السلسلة التي تُصوِّر الأدب العالمي؛ فنحن قد ندرس الكتاب المقدَّس على أنه كتاب دينٍ كما ندرُس الكتُب الدينية، وقد ندرُس ما فيه من تاريخ كما ندرُس آثار هيرودوت أو غيره من المؤرِّخين، وقد ندرُسه على أنه أدب، ونستمتِع بما فيه كما نستمتِع بخير الآثار الأدبية من شعر ونثر. وهذا موقف إزاء الكتاب المقدَّس ينفع التاريخ والأدب، ولا يضرُّ الدين.
فأما «التَّلمود» فطائفة من القوانين تناولها بالشرْح والتعليق قادةُ الديانة اليهودية على مرِّ القرون، وهي مؤسَّسة على التقاليد التي تناقَلَها اليهود من خلَفٍ إلى سلَفٍ إلى موسى عليه السلام، ولها من نفوسهم منزلة التقديس إلى يومنا هذا. وزاد في تعلُّقهم بهذه التقاليد هذا الصراع الدائم الذي كان بينهم وبين الأُمَم، والذي ما انفكَّ قائمًا بينهم وبين المسيحيين في أوروبا إلى اليوم، والذي حفَّز اليهود أن يصُونوا تقاليدهم من الفناء، ويحفظوا نقاء جِنسِهم أن تَشُوبه شوائب الاختلاط. فلا رَيب أنَّ التَّلمود في طليعة الكتُب العالمية ما دامت له هذه القوَّة في جماعةٍ لها بين الناس خطرها وأثرها، ولأنه يحتوي ما حباه الله قادة الفِكر منهم من حِكمة، وإن يكُن طفيف الأثر في الآداب الأخرى بسبب هذه العُزلة العقلية التي اختارها اليهود لأنفسهم؛ فلن تجِدَ من غير اليهود كثيرين طالَعُوا التَّلمود، ولكنه مع ذلك قد تُرجِم إلى اللغات الأوروبية، وتسرَّبت بعض آياته إلى الأدب الأوروبي، فكثيرًا ما تُصادفك مُقتطفات منه في القصص التي تُصوِّر أشخاصًا من اليهود.
على أنَّ أهمية التَّلمود تكاد تنحصِر في أنه كتاب الهداية عند الكثرة الغالبة من اليهود، فإذا قال التَّلمود فقولُه الفصْل الذي يوضِّح للمُرتاب سواء السبيل.
حدث ذات مرةٍ أن أرسل حاكِم مدينةٍ خادِمَه إلى السُّوق ليشتري له سمكًا، فلمَّا بلغ الخادم حلقة البيع وجد السمك قد بِيع كلُّه إلَّا واحدة كان يُساوم في شرائها خائط يهودي؛ فقال خادم الحاكم: «سأدفع قطعةً ذهبيةً ثمنًا لها.» فقال الخائط: «سأدفع اثنتَين»؛ فلم يلبَث الخادم أن عرَضَ ثلاثًا، لكنَّ الخائط لم يدَعْها تُفلِت من يدِه، حتى إنِ اقتضاه شراؤها عشر قطعٍ ذهبية؛ فعاد الخادم إلى سيِّده وقصَّ عليه ما حدَثَ وهو مُغضَب، وأرسل الحاكِم في طلَب الرجل، فلمَّا مثل بين يديه سأله:
«ما مِهنتك؟»
فأجاب الرجل: «خائط يا سيدي.»
«إذن فكيف تستطيع أن تُغالي في الثمن لتشتريَ سمكة، وكيف تجرؤ أن تضع من كرامتي بأن تعرِض ثمنًا أعلى ممَّا يعرِض خادمي؟»
فأجاب الخائط: «لقد نَويتُ الصيام غدًا، وأردتُ أن أقتات بالسمكة اليومَ لتكون لي القُدرة على صيام الغد، لهذا ما كنتُ لأدع السمكة تُفلِت من يدي ولو اشتريتُها بعشر قِطَع من الذهب.»
فسأله الحاكم: «وبماذا يفضُل غد أيَّ يومٍ سواه؟»
فأجاب الرجل: «ولماذا تفضُل أنت أيَّ رجلٍ سواك؟»
فقال الحاكم: «لأنَّ المَلِك أراد لي أن أكون في هذا المنصب.»
فأجاب الخائط: «وعلى هذا النحو أراد مَلِك الملوك لهذا اليوم أنْ يفضُل سائر الأيام، ونحن في هذا اليوم نرجو أن يغفر لنا الله ما اقترفْنا من إثم.»
فقال الحاكم: «إنْ كان هذا فإنك على حق.»
ومضى الإسرائيلي سالمًا.
وهكذا إنْ عقد إنسانٌ عزمه على طاعة الله فلن يَثنِيَه عن عزمِه حائل كائنًا ما كان؛ فقد أمر الله عباده أن يصوموا هذا اليوم، فلا بدَّ لهم أن يَقتاتوا في اليوم السابق له؛ ليزيدوا من قوَّة أجسادهم حتى يقوَوا على طاعة الله؛ وواجب الإنسان أن يُطهِّر نفسَه جسدًا وروحًا ليستقبِل هذا اليوم العظيم.
وأما «العهد القديم» — التوراة — فقوامه تسعة وثلاثون سفرًا، تقع في مجموعاتٍ ثلاث: أسفار القانون (الشريعة)، وأسفار الأنبياء، ومجموعة من مُتنوِّعات. وليستْ كل هذه عند الأديب من حيث القيمة الفنية سواء؛ فالجمال الأدبي رائع فيما تحتوي من قِصَصٍ وروايات وسِيَر.
أما الفصول التي تمسُّ تاريخ الإنسان وما يقتضيه الشرْع من واجبات، فهي إنْ أثارت اهتمام رجل الدين، لا تُغري الأديب بالوقوف والإمعان لِما يكتنِف عبارتها من عُسر وغموض. وغموض هذه الأجزاء راجِع إلى اقتضابها، فمادة غزيرة في حيِّز صغير. ولسْنا ندري لماذا لم يتناولها الشُّرَّاح بالتفسير الذي يُزيل غموضها. لعلَّهم تركوها على إيجازها لتُوحي ما تُوحيه إلى قُرَّائها، أو لعلَّ تنافُس الشرَّاح قد انتهى إلى رفض الشروح جميعًا، فلم يبقَ إلَّا أصل قصير مُوجَز.
والسِّفر الثاني من التوراة — بعد سِفر التكوين — هو سِفر الخروج، وسُمِّي بذلك لتناوُلِه الحديث عن خروج بني إسرائيل من مصر، وتجلِّي الله لموسى في سينا؛ ويشمل الجزء الأول منه سِيرة موسى عليه السلام، ثُم تتَّصِل رواية هذه السيرة التي تُمثِّل تاريخ بني إسرائيل خلال أسفار موسى الخمسة.
والسفر الثالث هو سِفر اللاويِّين نِسبة إلى أُسرة تنتمي إلى لاوي أو «ليفي» ويتناول الحديث عن الشعائر الدينية الخاصَّة بالقرابين وعن هارون وابنيه. والرابع سِفر العدد، وسُمِّي كذلك لأنه يُعدِّد القبائل ويُبين أنصباءهم في الغنائم ونحوِها، وفيه حديث عن خروج بني إسرائيل من سينا إلى شرق الأردن، وعن انتشار الاضطراب بين الشَّعب. والخامِس سِفر تثْنيَة الاشتراع، أي إعادة التشريع مرَّةً ثانية بتطهيرِه من بعض الشعائر، مع تعيين مكانٍ خاصٍّ بالعبادة.
وهذه السِّيَر كلها تكوِّن ملحمةً أدبية عُظمى تُصوِّر شعبًا بأسرِه، كيف هاجر، وكيف عاد إلى وطنِهِ فاستقرَّ تحت لواء زعيمٍ عظيم.
وليس يتَّسِع المقام لنا فنتناول أجزاء التوراة بالبسْط سفرًا فسفرًا، ولكن إن تعذَّر ذلك فسنمرُّ مرًّا سريعًا على أروع ما في التوراة من أسفار.
وقد كان يوشَع قائدًا حربيًّا يشتعِل بالحماسة الدينية ولا يرحَم الأعداء، فكأنما رسم بذلك خطةً لكلِّ من جاء بعدَه من قادة الحرب المُتحمِّسين للدِّين.
وفي سِفر القضاة كذلك قصَّة «شَمشُون» التي تُعَدُّ في طليعة قصص الأبطال، وشَمشُون هذا رجل أعدَّته العناية الإلهية منذ كان في بطن أمِّه للفتْك بأعداء الإسرائيليين، فأرسل لأُمِّه ملَكًا يُبشِّرها بغلام، ويُحذِّرها من شُرب الخمر وأن تقرَبَ مُحرَّمًا أثناء الحمل. لأنَّ الله يُعدُّه لتخليص الإسرائيليين من سطوة الفلسطينيين. وَوُلد شمشُون وشبَّ قويًّا متينًا، ورأى فتاةً فلسطينية فأحبَّها وهام بها، وعرَض على أبويه أن يتزوَّجها فأبَيا أولًا، وقالا له إنَّ في بنات جِنسك غِنًى عنها، فأصرَّ شمشُون، وكان لله في ذلك حِكمة، للصِّلة بالفلسطينيين أعداء الإسرائيليين.
وأخيرًا رضِيَ أبواه وسافروا جميعًا ليتزوَّج شمشون بالفتاة، وفي الطريق ينتحي شمشون ناحيةً فيعترِضه أسدٌ يهجِم عليه ليُمزِّقه ويلتهِمَه، فيقِف له شمشون وليس معه سلاح فيفتِكُ بالأسد كأنه حَمَل وديع، ويعود شمشُون إلى أبوَيه وهُما في الطريق فلا يُخبرهما بشيء. وبعد أيامٍ يعود شمشون إلى مكان الأسَدِ فيجد النَّحل قد بنى خلاياه في جوف الأسد، فاشتار منه وأكل.
وتزوَّج شمشون الفتاة، وأعدَّ وليمةً لثلاثين من الشبَّان، وأراد أن يَسُرَّهم بلغزٍ يُلقيه عليهم، فإذا حلُّوه أعطاهم ثلاثين ثوبًا وثلاثين قميصًا، وإذا لم يَحلُّوه في سبعة أيامٍ أعطَوه هُم مثل ما كان يُعطيه لهم؛ واللغز يدور حول الأسد والعسل، وصِيغتُه هكذا: «ما شيء كان آكِلًا فنتج منه الأكل، وكان جافًّا خرجت منه حلاوة.»
فلمَّا لم يعرِفوا حلَّ اللغز ألحَّ الشبَّان على امرأة شمشُون لتحتال عليه فتعرِف منه حَلَّه، ففعلت وأخبرتْهم، فقال لهم: لولا ما احتلتُم على نعجي ما عرفتُم أُحجيتي، ونزل إلى قريةٍ وقتل منها ثلاثين رجلًا وأخذَ سلَبَهُم فأعطاه لمن راهَنَهم.
ثُم نجد شمشون قد هام بامرأةٍ أخرى بَغِيٍّ في غزة، فعرَف أهل غزَّة به فأغلقوا أبواب المدينة عليه وحبَسُوه ليقتلوه إذا أصبح الصباح، فقام شمشون في نِصف الليل وخلَع مصراعَي باب المدينة ووضعهما على كتِفِه وصعَدَ بهما إلى الجبل.
وأخيرًا أحبَّ امرأة اسمها «دليلة»، فاتَّصل بها قادة الفلسطينيين وتآمَروا معها أن تعرِف منه سرَّ قوَّته، فخدَعَها مرارًا، فمرَّة يقول لها إنه إذا أُوثِق بحبالٍ من حديد ضعُفَت قوَّته، فكان يوثَق بها فيتمطَّى فيها فيقطعها كأنها خَيط. وأخيرًا ضاق شمشُون بالمرأة ذرعًا فأخبرَها بالسِّرِّ الحقيقي في قوَّته، وأنها في شَعرِه، فجاء الفلسطينيُّون وغافَلُوه وهو نائم في حُجرة المرأة وحلَقُوا رأسه، فذهبت قوَّته؛ فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينَيه وأوثقوه بسلاسل من نحاس، وذهبوا به إلى غزَّة وسجنوه هناك حتى يقتُلوه.
ولكنَّ شعرَه كان قد نبَتَ، وعادت إليه قوَّتُه وما درى بذلك خصومه.
ففي ليلةٍ اجتمع فيها جميع أقطاب الفلسطينيين، ودَعَوا شمشُون ليلعَبَ لهم ويسخروا منه، فحضر شمشُون، ودعا ربَّهُ أن يُلبِّي دعاءه، ويُعيد إليه قوَّتَه ولو مرة واحدة، فاستجاب دعاءه، وقال للغلام الذي يُمسك بيده: دعْني ألمس الأعمدة التي يقوم عليها البيت، ففعل الغلام، وأمسك شمشُون العمودَين أحدهما بيمينه والآخر بيساره، وجذبهما فسقَط البيت على من فيه، وخرَّ جميع من في البيت ومعهم شمشُون صرعى، فكان من قتلَهُم في مَوتِه أكثرَ مِمَّن قتلَهم في حياته.
•••
فتروي القصة أنَّ إسرائيليًّا ضاقت به الحال في بلاده، فدخل هو وامرأته «نُعْمَى» إلى بلاد مؤاب، ورُزق فيها بابنين تزوَّجا مؤابيتين، إحداهما راعوث هذه، ومات الرجل ومات ابناه.
وأرادت «نُعمى» أن تعود إلى وطنها، فتعلقت بها راعوث وأرادت السفر معها وألحَّت، على الرغم من إلحاح «نُعمى» عليها بالبقاء.
فقالت راعوث قولتَها المشهورة: «حتمًا أنْ أموت حيث تموتين، وأُدفن حيث تُدفَنين، شعبك شعبي، وإلهك إلهي؛ مُحال أن يُفرِّق بيني وبينك إلا الموت».
ففي القصة قلبان لامرأتين يفيضان بعاطفتَين قويَّتين تَعزَّان على التحليل — وهذا هو ما جعل القصة معروفة للعالَم — عاطفة الحنين للوطن، وعاطفة الوفاء، وهما عاطفتان ينبض بهما قلب كل إنسان.
وهناك أسفار أربعة تُسمَّى أسفار «الملوك»، تروي قصة الدولة اليهودية إبَّان مجدها، لكن بني إسرائيل في مجدِهم ضلُّوا سواء السبيل، فتغافلوا عن ذِكر الله، فكان جزاؤهم بعد ذلك المجد عذابًا وهزيمة وأسرًا. وإنَّ هذه الكتب الأربعة لتؤلِّف ملحمة من الطراز الأول، متينة البناء، قوية التركيب، ولا بدَّ أن تكون قد صادفها شاعر عظيم مَسَّها بخياله ونبوغه، بل ربما تناولها على مرِّ الأيام أكثرُ من شاعر واحد بالصياغة والتجويد؛ إذ الملاحم الكبرى تنمو مع الزمن على أيدي الشعراء، وقلَّما تكون الملحمة الكبرى وليدة عقلٍ واحد.
وتكاد تدنو من قصة داود في وضوحها وقوَّتها قصة ابنه سليمان الحكيم العظيم، وإنَّ سليمان في جلاله ليُصوِّر بني إسرائيل جميعًا حين بلغوا أقصى مراتب المجد والثراء. لقد أفاض الكُتَّاب ما أفاضوا في وصف عظمة سليمان وجلال مُلكِه، ولعلَّ ما يُحرِّك العاطفة في هذا الوصف هو أنه كُتِب بعد أن دالت دولة بني إسرائيل، فأخذ الكُتَّاب ينظرون إلى الوراء فيما يكتُبون، فيرنُّ حديثهم في الآذان رنين الأسى والأسف، حسرةً على ماضي اليهود الذاهب. وسليمان — كما يبدو في التوراة — شخصية متناقضة، فبينما هو مثال الحكمة بحيث لو اقتصرْنا على عُشر ما نُسِب إليه من أمثالٍ وأقوالٍ لظلَّ رغم ذلك أحكم الحكماء؛ تراه — في التوراة — ينحرِف في مسلكه، وخاصَّة في شيخوخته، فيرتد إلى الوثنية متأثرًا بإغراء النساء، وبهذا ترك سليمان مُلكه مُصَدَّعَ البنيان مُزعزع الأركان. وجاء خلفاؤه من بعدِه على حالٍ من الضعف لا تجدُر بأبناء سليمان وحفَدَة داود.
•••
فقد كانت «إستير» امرأةً فارسية يهودية حظِيَت عند ملك الفرس، وكان في مملكة الفرس يهود كثيرون، يعمل الوزير «هامان» على اضطهادهم وسفْك دمائهم، فاحتالت «إستير» مع مُربيها اليهودي الآخر «مردوخاي» على الإيقاع بهامان، والإيقاع بالفُرس، وإنجاء اليهود، وتحريرهم من الاضطهاد، واستطاعت إستير بنفوذها عند الملك أن يقتُل اليهود في يومٍ واحد ٧٥٨٠٠ فارسي، وجعل اليهود من هذا اليوم عيدًا لهم يُسمُّونه «بوريم».
وقد قال لوثر: «ليتَ هذا السِّفر لم يُوجَد.» ولعلَّه نظر في ذلك إلى ناحيته الخُلقية لا الأدبية.
وسواء كانت تلك القصة تاريخًا صحيحًا أو من نسج الخيال، فهي تُحرك العاطفة في نفس قارئها، وما ظنُّك بقصةٍ تروي لك كيف دبَّر فريق أن يفتك بفريق، فيصطنع هذا حيلةً يخرج بها من أحبولة المتآمرين، ثم يكون محور الحوادث كلها امرأة بارعة الجمال؟
•••
وأقوى مثَل يُساق للقصة في التوراة هو سفر أيوب الذي يجد فيه القارئ صراعًا بين الشخصية وما يُحيط بها من ظروف، صراعًا بين الرجل وما يُرصَد له من عوامل الشر، فينجو الرجل المجاهد آخِر الأمر بما أوتي من صبرٍ وإيمان. وكأن هذا السفر الجليل رواية تمثيلية قوية تدور حول الله والإنسان والشيطان. ويُرجِع بعض الباحثين في قصص التوراة المُتعقِّبين لأصولها، أنَّ لِقصة أيوب — كما وردت — بدايةً لم تُذكَر، وهي أنَّ أيوب عصى ربَّه أول أمره، ولكنه عاد آخر الأمر فآمن وأطاع، فعوَّضه الله شيخوخةً مطمئنة سعيدة؛ إذ رزقَه يسارًا في أخريات سِنيه، ورزقه بنين وبنات عوضًا له عما فقد من أبناء إبَّان مِحنته الأولى، لكنه عوَض لا يُطمئن نَفْسَ الوالد الثَّكلى، لأن الأبناء لا يُعَوَّضون عددًا بعددٍ كالأغنام؛ فإن الوالد ليتمنَّى عودة أبنائه الذين فقدَهم حتى إن وهبَهُ الله ما وهب أيوب، سبعة أبناء وثلاث بنات.
لهذا نرى السِّتار ينسدِل في ختام قصة أيوب على نهاية لا تطمئنُّ لها النفس طمأنينةً كاملة؛ ولكن إنْ كان بناء القصة مصدوعًا، فإن شِعرها جميل رائع من أول بيتٍ فيها إلى آخِر بيت؛ وإن شِئتَ فانفُذ إليها من أي موضع أردتَ تجدك قد وقعتَ منها على سطرٍ جميل. يقول قرَّاء العبرية: إنَّ جمال النص في لُغته الأصلية يستحيل أن ينتقِل مع الترجمة إلى أية لغةٍ أُخرى، وهو قول صائب، فكلُّ من حاول الترجمة من لغةٍ يعلَم عِلم اليقين أنَّ الشِّعر سائل سيَّال لا تكاد تصبُّه من وعاءٍ إلى وعاء يختلف شكلًا حتى ينسكِب ويعسُر إمساكه. ولقد أجمع النقَّاد على أن أسفار أيوب والمزامير ونشيد الأناشيد قد كُتبت كلها شعرًا جيدًا ممتازًا. وسفر نشيد الأناشيد سِفر غرامي يظنُّ بعض الباحثين أنه مجموع من الأغاني التي كان الشعب الإسرائيلي يُردِّدها في مناسبات الزواج والزفاف في عصورٍ مختلفة كما يذهب آخرون إلى أنها أغانٍ دينية رمزية.
•••
•••
•••
•••
ويجيء بعد ذلك سفر «دانيال»، وهو على صِغَره يروي من الأحداث شيئًا كثيرًا، وغايته أن يُسَرِّي عن أنفس اليهود كربَها، وأن يَحثَّهم على طلَب المجد والعُلا. وقد قرَّبَ دانيال من قلوب اليهود ما أظهرَه من معجزات؛ فقد كان قديرًا على تفسير الأحلام التي عجز سَحَرَةُ الكفَّار أن يُفسِّروها، وأُلقِي في عرين الأسد فخرج منه سليمًا من الأذى، وقُذِف في أتُّونٍ مُستعر فكانت النار عليه بردًا وسلامًا.
ويمتاز سِفر دانيال ببساطة التصوير ووضوحه، فهو من جلاء العبارة وسلاسة اللفظ بحيث يصلُح قَصصًا يُروى للأطفال فيستمرئونه ويُنصِتون إليه.
•••
وعلى الجُملة فقد عُني الباحثون من علماء أوروبا بكتاب العهد القديم من حيث أصلِه ومصادره، وتاريخ كتابة كل جزءٍ منه، وبيان الظروف التي كُتب فيها؛ لهم في ذلك نظريات طويلة لا مجال لذكرها، وهي تكاد تُجمِع على أن العهد القديم يؤرِّخ شعبًا بأسرِه، بأحداثه وحالته الاجتماعية، وانتصاره وانكساره، ومجدِه وذَهاب مجده، كما أنه سِجِلٌّ لحياتهم العقلية والروحية والأدبية فيما يقرُب من تسعة قرون.
وإذا كان الذي يُهمُّنا هو الناحية الأدبية فإنَّ هذا الكتاب ينطبق عليه ما قدَّمنا من سبق الشعر للنثر، فإنَّ أقدم نصٍّ أدبي عبري كان شعرًا كقصة «دبورة» التي يُرجِّح العلماء أنها ترجع إلى عام ١١٠٠ق.م. وهي مظهر من مظاهر الشَّعب الإسرائيلي وحياته، فهي أغنية كانت تُغنَّى في البيوت والشوارع، في المدن والقرى، في المراعي وفوق قِمَم الجبال.
وتدلُّ هذه الأغنية وغيرها من الأغاني الإسرائيلية على وجود طائفةٍ كانت حِرفتها الغناء والتأليف والتلحين، وكان الإسرائيليون ينظرون إليها نظرة العرب إلى الشعراء، وقد سُمِّيت «دبورة» في الكتاب المُقدَّس نبيَّة، لأن كلمة النبي عندهم كانت تُوحي بالشِّعر ودِقَّة الحسِّ والخبرة بأعقاب الأمور. وإلى جانب هذا النوع من فنون الشعر نجد في العهد القديم فنونًا أُخرى شعرية تدور حول المديح والهجاء، ووصف الأحداث التاريخية، والحديث عن المعجزات والشعائر الدينية، فلمَّا ظهرت المَلكية، واستقرَّت الحياة الإسرائيلية، تطلَّبت الحياة الجديدة أخبارًا تفصيلية تُعنى بتدوين تاريخ الملوك والرؤساء والقادة، وإذ ذاك نجد النثر هو الذي يؤدي هذه الرسالة، فنجد أخبارًا كثيرة نثرية تُعنى بأسرة داود وتَقصِّي أخبارها، كما نرى قِصصًا تدور حول إسناد تاريخ الشعب الإسرائيلي إلى عهدٍ مُمعنٍ في القِدم. ومن القرن السابع ق.م. تقريبًا نجد الأدب العبري يدخل في دورٍ جديد، فيتأثَّر بالأنبياء ويتَّجه إلى التشريع والتاريخ، فنقرأ كثيرًا عن موسى وما جاء به من التشريع والوصايا العشر.
وبعد ذلك نجد أنفسنا في العصر المعروف في الأدب العبري بالعصر الكلداني ومن زعماء ذلك العصر «أرميا»، وكانت رسالته مُوجَّهة إلى العالَم أجمع وليست مقصورةً على بني إسرائيل، وفي هذا العهد كان للأشوريين السلطان السياسي العالمي؛ إذ كانوا يسيطرون على مصر وعلى كثيرٍ من بلاد الشرق، وكان «أرميا» شاعرًا ناثرًا تجلَّت عبقريته في خُطبِهِ وفيما كتبه، ولكن ممَّا يُؤسَف له أن أجمل أغانيه لم تصِل إلينا كاملة. وحدث حادث بعد ذلك تغيَّر له تاريخ الأدب العبري والتفكير العبري، وذلك أن عصر السَّبي (٥٨٦–٥٣٧ق.م.) انتهى بسقوط «بابل» في أيدي ملك الفرس، وسمَح الفرس لليهود بالعودة إلى أورشليم، فعاد منهم من عاد، وبقِيَ منهم من بقِي، فهبَّت على الأدب ريح جديدة؛ إذ أخذت الأُمَّة تحيا وتتجدَّد، وأخذ الشعب ينصرِف مرةً أخرى إلى الحياة الأدبية الدُّنيوية، وفي هذا العصر نجد قِصتي «راعوث» و«إستير».
والأدب العِبري مملوء بالشِّعر الذي يُطلَق عليه الشعر الغنائي أو العاطفي، ولعلَّ أقدَم نوع من أنواع هذا الشِّعر هو الرثاء، وهي أشعار شعبية حزينة تتحدَّث عن مجد صهيون الغابر والبكاء عليه.
وإلى الرثاء نجد المزامير ويُسمِّيها العرب «الزبور»، ونستطيع أن نُقسِّم المزامير إلى أقسام عدة: فمنها ما يتَّصِل بالعبادة، ومنها ما يتَّصِل بالأغاني الدينية، ومنها ما يتَّصِل بالمراثي وبالشكر وبالمدائح الملكية، وكما أنها مختلفة المواضيع فهي أيضًا مِن وضْع مؤلِّفين عديدين في صُوَرٍ متوالية، ثم نشيد الأناشيد، وموضوع هذا الشِّعر من المواضيع الغرامية، ويختلف الباحثون في أنه غزَل رمزي أو هو غزَل دُنيوي.
وبين أيدينا نوع من الشعر العِبري يُعرَف بالشعر التعليمي، وقد حُفظ لنا في كتاب الأمثال، وسِفر الجامعة، وكتاب أيوب. أما كتاب الأمثال فهو مجموعة مُتفرقة من الحِكَم والأمثال، وقد تناولت مختلف المواضيع، كما نلمس فيه آثار عصورٍ مختلفة ومُؤلفين عديدين. وكذلك سِفر الجامعة، فواضِعُه حكيم عظيم له الخبرة التامَّة، والمعرفة الواسعة، مُتشائم فاقد الأمل «باطل في باطل، وكل شيء باطل.» هكذا يَبتدئ، وهكذا ينتهي، وهو شاكٌّ في قيمة كلِّ شيءٍ في الحياة، فليس أمام الإنسان إلَّا الأخذ بأسباب الحياة والتمتُّع بهذه الأيام. أما سِفر أيوب فمِن خير الكُتب لا في الأدب العبري وحدَه، بل في سائر الآداب؛ فأسلو به الشعري الأدبي من أحسن الأساليب وأروعها، وموضوعه من المواضيع الفلسفية العميقة التي تتَّصِل بالجزاء. وهو إلى جانب ذلك مملوء بالقوة والجودة حتى يصح أن يُوضَع في مصافِّ نِتاج العبقريات العالمية، وقد أثبت رجال الأدب الألماني تأثُّر «جوته» به في «فوست».
•••
حسبنا ذلك عن «العهد القديم» (التوراة) لنقول كلمةَ ختام قصيرة عن «العهد الجديد» (الإنجيل) الذي هو قبل كلِّ شيء تاريخ حياة المسيح عليه السلام. فليس في الأمم المسيحية كتاب واحد قرأه الناس وحفِظوه وناقشوه بقدْر ما صنعوا بهذا الكتاب، فهو بين الكتُب التي تَروي تراجم العظماء أشدُّها تأثيرًا في نفوسهم، حتى الذين لا يؤمنون بالعقيدة المسيحية تراهم يُلمُّون بطرفٍ من قصته؛ لأنها قصة تغلغلتْ في حياة الأمم الأوروبية وآدابها حتى بلغَتْ منها الصميم.
وقصة عيسى عليه السلام كما جاءت في الأناجيل الأربعة — أناجيل متَّى ومُرقص ولوقا وحنا — قصة قصيرة، وتزداد قِصرًا إذا حذَفْنا الأجزاء المُكرَّرة في الأناجيل الأربعة.
ولم يكن أصحاب المسيح وتابِعوهم بكاتِبين، بل كانوا — كالمسيح — يعِظون الناس بالقول، وحتى رسائل بولص — وهو أعلم مَنْ شَرحَ تعاليم المسيح — تُطالعها فكأنما تستمِع إلى وعظٍ يُلقى، لا إلى كتابةٍ تُقْرأ؛ ولم يضطره إلى كتابتها سوى أنَّ الكتابة هي وسيلته الوحيدة التي يُبلِّغ بها من لا يستطيع أن يتَّصِل بهم اتصالًا قريبًا.
ولا يقتصر «العهد الجديد» على تاريخ حياة المسيح؛ بل يروي حياته في أشخاص حوارييه ورُسُله، وعلى الأخص «بولص»، الذي لولا نبوغه لما نشَرَت النصرانية لواءها على أوروبا بأسرِها؛ ففي رسائله تقرأ العقيدة المسيحية مشروحةً في جلاءٍ وتفصيل، كما تلمح صورة لشخصية بولص نفسه.
وينتهي «العهد الجديد» بسفر الرؤيا، وهو قصيدة صُوفية مليئة بالرُّؤَى وألوان التشبيه، ولكنها جاءت غامضةً فتعذَّر فهمُها وشرحها. والفكرة الرئيسية في هذا السِّفر هي الوعد بمدينة مُقدَّسة طاهرة تجيء في إثر هذا العالَم الذي دنَّسَته الخطايا، وهي مدينة لن تكون لِغَير المؤمنين.
•••
ومع الأسف فالترجمة العربية للكتاب المقدَّس يعوزها البلاغة وقوَّة البيان وجزالة الأسلوب؛ ومن أجل ذلك لم يستطع قرَّاء العربية أن يتذوَّقوا ما فيها من جمالٍ فني. وأي أثر أدبي يفقِد روعته وجماله إذا ضعُف أسلوبه، فهو إلى اليوم ينتظِر ترجمةً عربية بليغة. ولعلَّ هذا أحد الأسباب التي منعت من استغلال أدباء العربية لهذا الكتاب كما استغلَّه الأدباء الأوروبيون، مع أنَّ المسلمين الأوَّلين قد استغلُّوه في بعض كتُب التفسير والتاريخ كالطبري وأبي الفداء، وفي بعض كتُب الأدب كابن قتيبة في «عيون الأخبار»، وفي بعض كتُب الجدل كما فعل ابن حزم في كتابه «الفَصْل في المِلَل والنِّحَل». ويظهر أنه كانت لديهم تراجم للكتاب المقدَّس أصحُّ عربيةً من التراجم التي بين أيدينا الآن.
(١) نماذج من الأدب العبري٢٧
(١-١) سفر الخروج
لا تنحِتْ لك تمثالًا، ولا تتَّخِذ لك صورةً ممَّا في السماء فوقك، ولا من الأرض تحتك، ولا من الماء تحت الأرض. ولا تسجُد لشيءٍ منها ولا تعبُدها ولكن اعبُدني، فإني أنا الله إلهك، وإني غيور، أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ممَّن يبغَضُني، وأُحسن إلى من يُحبني ويُطيع أمري.
لا تتَّخذ اسم الله لهوًا أو عبثًا؛ فإنَّ الله لا يغفر العبث باسمه.
اذكُر يوم السبت وقدِّسه، فلِلعمل ستة أيام تعمل فيها ما ينبغي أن تعمل، وأما اليوم السابع «السبت» فللَّه إلهك — لا تعمل فيه أنت ولا ابنك وابنتك وعبدك وأمَتُك وبهيمتك ونزيلك الذي تضمُّه دارك — فقد خلق الله السماء والأرض والبحر وما فيها في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، فبارَكَه الله وقدَّسه.
أكرِم أباك وأُمَّك تَطُلْ أيامُك على الأرض التي أعطاك الله.
لا تقتُل، ولا تَزْنِ، ولا تسرِق، ولا تشهد زورًا على جارك، ولا تمُدَّنَّ عينَيك إلى بيته، ولا تتطلَّع إلى زوجه ولا عبده، ولا أمَتِه، ولا ثَورِه، ولا حِماره، ولا شيءٍ ممَّا يملكه.
(١-٢) سفر أشعيا
حدِّثوا أورشليم حديثًا قلبيًّا، حدِّثوها أن قد تمَّ جهادها، وأنَّ الله قد عفا عن إثمها، وآتاها كِفلَين من رحمته عمَّا اقترفتْ من خطايا.
إنَّ في البيداء هاتفًا يهتف: مهِّدوا لله الطريق، واتَّخِذوا له سواء السبيل، فلينهَضِ الوهد، ولينخفِض النجد، وليستَقِم المُعوَج، وليسهُل الوعر، فسيُعلن الله عن مجده، وسيراه البشر جميعًا إذ ينطق الله به.
قال الهاتف: صِحْ؛ فقال بماذا أصيح؟ إنما الجسد عُشب، وإنَّ جَماله كزهرة البستان، وقد يذوي العُشب، ويذبُل الزهر إذا طاف به طائف من الله؛ إلَّا إنَّ الناس كالعُشب، وقد يجفُّ العُشب، ويذبُل الزهر، ولكن كلمة الله باقية أبدًا.
(١-٣) سفر حزقيال
قال لي: يا ابنَ آدم! أيمكن أن تحيا هذه العظام، قلت: أنت يا ربي أعلم. قال: قل لها أيَّتُها العظام اليابسة! أصغي إلى كلمة ربك، لقد شاء الله أن ينفُخ فيك من روحِه فتُبعَثين، وشاء أن يمدَّ فيك أعصابًا، ويكسوك لحمًا، وينشُر عليه جلودًا، فتعودين إلى الحياة، وتعلَمِين أنَّ الله ربك.
لقد فعلتُ كما أُمِرت، وإذا بصوتٍ يُدمدم، انظُر إلى العظام ترتج، ويدنو عَظم من عَظم. ونظرتُ فإذا هي مَكسوَّة عصبًا ولحمًا وجلدًا، ولكنها بغير رُوح.
فقال لي يا ابن آدم: نبِّئ الرُّوح أنَّ الله أمرَها أن تأتي من الرياح الأربع، وتنْبثَّ في هؤلاء القتلى، ففعلتُ ما أُمِرت، فدبَّت فيهم الروح، ونهضوا على أقدامهم، جيشًا جرَّارًا عظيمًا.
(١-٤) مزامير داود
لا مَهربَ منك إلا إليك، إنْ صعدتُ إلى السماء فأنت هناك، أو هبطتُ الهاوية فثَمَّ أنت، إن طِرتُ بأجنحة الصباح، وسكنتُ في أقصى البحار، تلقَّتْني يدُك، وأمسكتني يمينُك.
وإذا قلتُ إنَّ الظُّلمة تلفُّني، رأيتُ أن الظلام ليس ظلامًا، ورأيتُ أنَّ الليل كالنهار لدَيك، وأنَّ الظلمة والنور سواء عندك.
أنت مالك كل أمري، لأنك واضِعي بيدِك في بطن أُمي.
أحمَدُك وأشكرك، فقد أتيتَ بالأعاجيب في خَلْقي، كوَّنْتَ عظامي في الخفاء، وصنعتَني على عينِك، وقدَّرْتَ أموري في كتابك …
أنا لا أُحصي نِعَمك؛ فهي أكثرُ عددًا من الرَّمل …
إني — يا رب — أبغَضُ من يُبغضك، وأمقُتُ من يُحاربك، وأُعادي من يُعاديك.
راقِبْني — يا إلهي — واعرف قلبي، واعلَمْ ما يجُول بنفسي، فإن رأيتَني ضللتُ فاهدِني الصراط المستقيم.
طلب إلينا آسِرُونا أن نُغنِّيهم، وأراد مُهلكونا أن نفرَح لهم، ونُنشِدهم نشيدًا من أغاني «صهيون».
كيف لنا أن نترنَّم بنشيد الله في مطارح الغربة! إن نسيتُكِ يا أورشليم ولم أُفضلك على كل أسباب فرَحي فلْتَنسَ يُمناي ما عَمِلت، وليلتَصِق لِساني بأعلى فمي!
اذكر اللهم لبني أَدُوم يومَ أورشليم؛ إذ هتفوا: دكُّوا المدينة دكًّا، وائتوا عليها من أساسها.
يا بنتَ بابل! طوبى لمن يُجازيك بما جازَيتِنا، فيُطوِّح بصِغارك ويضرب بهم الصخور.
(١-٥) سفر أيوب
من هذا الذي يُظلِم الفضاء بكلامٍ لا عِلم فيه؛ اشدُدْ حيازيمك كما يفعل الرجال، لتُجيب عمَّا أسأل.
أين كنتَ حين أسَّسْتُ للأرض أساسها، ووضعتُ لها ميزانها، وبسطتُ فوقها كساءها …؟
مَن وضعَ للبحر برزخًا حين تدفَّق الماء من ينابيعه؟ متى جعلتُ من السحاب للبحر لباسًا، ومن الظلام له ألفافًا؟ ومتى شققتُ له مُستقرَّه، وأقمتُ من دونه الحواجز، وقلتُ له لك أن تبلُغ هذا الحدَّ فلا تَعْدُه، فها هنا كُتِب على أمواجك الشامخة أن تقِف؟
•••
هل انتهيتَ إلى ينابيع البحر أو سِرتَ في أعماقه؟
هل تكشَّفَتْ لك أسرار الموتِ وعرفتَ مداخله؟
هل أدركتَ عَرْض الأرض؟
تكلَّم إن كنتَ تعلم!
أين يسكُن النور وأين مقام الظلمة؟
هل أنت تَنظُم الثريَّا، وتَحلُّ نَظْم الجَبَّار، وتُنزِل النجوم في منازلها، وتهدي بنات نعش، وتعرِف سننَ السماء وتَسلُّطها على الأرض؟ أتُنادي السُّحب فتهطل بالمطر الغزير، أو تستدعي البرق فيُجيبك؟
مَن وضع في باطن الأشياء الحِكمة، وفي الفؤاد الفطنة؟
هل أنت الذي يهدي الأسدَ إلى فريسته أو يُشبِع أشباله؟ من يرزق الغراب طعامَه، إذا نَعبتْ فِراخه إلى ربِّها طالبةً قُوتَها؟!
(١-٦) سفر الجامعة
باطل في باطل، وكل شيء باطل.
ماذا يَجني الإنسان من جهده تحت الشمس؟
جِيل يذهب، وجِيل يأتي، والأرض باقية أبدًا.
الشمس تُشرق، والشمس تغرب، ثم تظهر في مكانها حيث أشرقت.
تجري الرياح جنوبًا، ثم تجري شمالًا، وتدور في جرَيانها، ثم تعود من حيث دارت.
تتدفق الأنهار في البحار، والبحار لا تمتلئ، وإذا الأنهار والبحار كما كانت.
كل شيء في حركة، والكلام يقصُر عن وصفها. لا تَشبع العين من النظر، ولا الأذن من السمع.
ما كان سيكون، وما سبق عمَلُه سيُعاد عملُه، ولا جديد تحت الشمس.
هل في الدنيا شيء تستطيع أن تنظُر إليه وتقول إنه جديد؟ كلَّا؛ لقد كان قديمًا، وكان قبل أن نكون.
لقد عَفَتْ آثار الغابرين ونُسِي ذِكرهم، وسيكون شأن الآخرين شأن الأوَّلين.
لقد كنتُ ملكًا لبني إسرائيل في أورشليم، ووَهبتُ قلبي للبحث عن حِكمة ما حدث تحت قبَّةِ السماء، فإذا كل ذلك عناءٌ نصبَ الله فيه الناسَ وشغلَهم به.
رأيتُ كل ما تحت الشمس باطلًا، وقبض الريح، فلا المُعوجُّ يستقيم، ولا النقصُ يُجْبَر.
لقد سألتُ نفسي، ماذا بعد عظمتك، وتمام حِكمتك، تفوُّقك على من كان قبلك على أورشليم، وتفتُّح قلبك للحِكمة والمعرفة، وتمييزك بين الحِكمة والغفلة، والعِلم والجهل؛ فإذا هذا أيضًا قَبضُ الريح، فمن زادت حِكمته زاد غمُّه، ومن ازداد علمًا ازداد حزنًا.
قلتُ لنفسي: سأمتحِنُكِ بالفرح، فلعلَّك تَرَين في ذلك خيرًا، فإذا هذا أيضًا باطل. رأيتُ الفرَح جنونًا، فماذا يُغني الفرح؟!
قلتُ تعلَّل بالخمْر، والْهَج بالحِكمة، واسلُك سُبُل الجاهلين، لتُدرِك ما ينبغي أن يعمل الناس في دُنياهم، فوسَّعتُ ملكي، وبنيتُ البيوت، وزرعتُ الكروم واتخذتُ لنفسي الجنان والبساتين، وغرستُ فيها الأشجار من كل صِنف، وأجريتُ فيها الماء يَسقي أشجارها، وملكتُ العبيد والجواري، وملأتُ بيتي بالخدَم، واقتنيتُ من البقر والشاه ما لم يملكه أحدٌ من قبلي في أورشليم، وجمعت الذهب والفضة، وأصبح في يدي كنوز الملوك والبلدان، وكان لي المُغنُّون والمُغنيات، ونعمتُ بأطيب ما نَعِم به البشر، وزدتُ في النعيم على ما كان لآبائي، واحتفظتُ مع كل ذلك بحِكمتي، ولم أحرِم عيني أن تستمتع كما تشاء، ولا قلبي أن يفرَح ما يشاء.
ثم نظرت، فوجدتُ كلَّ ذلك باطلًا وقبضَ الريح، ولا خيرَ يُرتَجى تحتَ الشمس.
وقلت: إنَّ الحِكمة تفُوق الجهل كما يفُوق النور الظلام، فالحكيم عينُه في رأسه، والجاهل يضلُّ السبيل، ولكن رأيتُ أنَّ الأحداث تحدُث للحكيم كما تحدُث للجاهل، فما غناء الحكمة؟ كلُّ شيءٍ باطل، فالحكيم ينسى بحِكمته، والجاهل ينسى بجهلِه، ويموت الحكيم كما يموت الجاهل، فما الحياة؟
كلُّ ما تحت الشمس باطل وقبضُ الريح.
سخرتُ من عملي الذي أعمله؛ إذ علمتُ أنه صائر لمن بعدي، ولا أعلم ما سيكون؟ حكيمًا أو جاهلًا؟
وكل شيء باطل.
حاولتُ أن أيأس من كل ما عملت، فالإنسان يجدُّ في حياته، وينجح بحِكمته، ثم يترك ما عمِلَه لمن يبذُل فيه جهدًا، ولم يُتعِب فيه قلبًا.
كلُّ شيءٍ باطل وبلاء عظيم.
فماذا ينال الإنسان من عنائه في يومِه، وغمِّه في عمله، وهمِّه في ليلِه؟
كل شيء باطل.
لا شيء للإنسان خير من أن يأكل ويشرَب ويستمتع بلذة الخير في عمله، وقد رأيتُ هذا من نعمة الله، ومَن أولى بها منِّي؟
إنَّ الله ليهَبُ للخيِّر الحِكمة والعِلم ورضا النفس، ويدَعُ الشرير يجمع المال ويُعدِّده، يحسَب أن ماله يُخلده.
كل شيء باطل وقبض الريح.
(١-٧) نشيد الأناشيد
حبيبي بين البنات، كالسَّوسنة بين الأشواك. وحبيبتي بين البنين كشجرة التفاح بين أشجار الغاب.
تفيَّأتُ ظلاله في أعظم نشوة، ووجدتُ ثمرته أحلى مذاق.
أدخلَني إلى دار الشراب، ونشَر فوقي لواء الحُب.
أسعفوني بشراب، وانعشوني بتفَّاح، فأنا مريضة بِحُبي.
إنَّ يُسراه تحت رأسي، ويُمناه تُعانقني.
نَشَدتكنَّ الظباء وآرام الحقول، يا بنات أورشليم، ألا تُوقِظنَ الحبيب ولا تُثِرْنَ نُعاسه حتى يشاء.
ذاك صوت حبيبي! انظُر، ها هو قادم يطفر فوق الجبل، ويقفز فوق التلال؛ ما أشبَهَه بظبيٍ أو ريم.
انظُر، ها هو يقِف وراء الجدار يتطلَّع من النوافذ، ويَبين من خلالها.
وتحدَّث إليَّ الحبيب فقال: انهضي يا حبيبتي وفِتنتي، وتعالَي معي بعيدًا؛ فقد مضى الشتاء، وأقلعت السماء، وازَّينت الأرض بزهرها. ها قد آن أوان تغريد الطير، وغنَّى الحَمام في أرضنا، وأخرجت شجرة التِّين خُضْر ثمارها، وعبقتِ الكروم بأريج أعنابها.
انهضي يا حبيبتي، يا فِتنتي، وتعالَي معي بعيدًا.
إيه يا ورقاء! دَعيني أشهدُ مُحيَّاك بين شِعاب الصخر وستْر المعاقل. أسمِعيني رنين صوتك، إنه لطروب، وأريني مُحيَّاك، إنه لجميل.
أبعدوا عنَّا الثعالب، صغار الثعالب؛ لأنها تفسد الكروم، وإنَّ كرومنا قد نضجتْ أعنابها.
أنا من أهوى ومن أهوى أنا، وها هو يطعَم بين زهرات السوسن.
إلى أن يُقبل الصباح وينهزِم الظلام عد — يا حبيبي — كما كنتَ ظبيًا أو رئما في شعاب الجبال.
(١-٨) من أمثال سليمان
رأس الحِكمة مخافة الله، ولكن الجاهل يزدري الحكمة والمَوعظة. اسمع يا بني وصَاةَ أبيك ولا ترفض شريعة أُمِّك؛ توكَّل على الله بكل قلبك، ولا تعتمد على عقلك. لا تمنع الخير عن أهلِه متى استطعتَ أن تفعله؛ لا تقل لصاحبك اذهبِ اليوم وسأعطيك غدًا إنْ كنتَ تملك اليوم ما تُعطيه. اذهب إلى النملة أيها الكسلان، وتعلَّم طرائقها وكُن حكيمًا، ولا تَمِلْ إلى الزانية، ولا تَشردْ في مسالكها، فإنَّ بيتها طريق إلى الهاوية، وسبيل هابطة إلى القبر. العامل بيدٍ رخوة مصيره الفقر، والغِنى في يد المُجِدِّ. تأتي الكبرياء فيأتي معها الهوان، ومع المُتواضِعين الحِكمة. طريق الجاهل مستقيم في نظره، وسامع المشورة حكيم. إن مِن الناس من ينطق بمِثل طعن السيف، ولسان الحكماء شفاء. المرأة الحكيمة تبني بيتها والحمقاء تهدِمه. الكلام اللَّين يمحو الغضب، والكلام المُوجِع يُثير السخط. لُقمة يابسة ومعها سلام خير من بيتٍ مليء بالذبائح وفيه خصام. الأخ أمنع من مدينة حصينة. الصِّيت أفضل من الغِنى، والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب. الغنيُّ والفقير يلتقيان، فكلاهما من صُنع الله.
•••
ولليهود أمثال شعبية قديمة جرَتْ على ألسنتهم في أزمانٍ مختلفة، تُمثِّل حياتهم وتفكيرهم وعاداتهم في تلك العصور، التي تعاقبَتْ عليهم فيها العزة والذِّلة والاستقلال والاستعباد؛ تصِف الحياة العائلية وفضائل الناس ورذائلهم، وقواعد السلوك في الحياة البيتية والاجتماعية، والحظ والقِسمة، والفقر والغنى، في عبارة مُنتقاة، كتلك التي في الأدب العربي. ومن خصائصها أنها لا تصُوغ الحكمة في قاعدة عامة تنطبق على كثيرٍ من الجزئيات، ولكنها غالبًا تنطق بجزئيةٍ يمكن أن يُشبَّه بها كثير من الحالات. وأكثرها يدلُّ شكلها على أنها نبعَتْ من قُرًى صغيرة لا من مدنٍ كبيرة.
- (١)
الشباب إكليل من الورد، والشيخوخة إكليل من الصفصاف.
أي إن الإكليل في عهد الشباب خفيف وجميل، أما في عهد الشيخوخة فثقيل قبيح.
- (٢)
شجرة الشوك من صغرها تنتج الإبر؛ أي أنَّ الطفل تُنبئ أعماله في صغره عمَّا سيكون في كِبَره.
- (٣)
قد يُعلِّمك الحِكمة بعضُ ولدِك.
ومعناه أن الكبار كثيرًا ما يتعلَّمون ممَّن يصغرونهم سنًّا. والقصة التي من أجلها جرى هذا المَثَل هي:
أنَّ حَبْرًا يهوديًّا كان له زوجة عنيدة تعمل دائمًا عكس ما يريد، فلو رغِب في الفول أعدَّت له عدسًا، وفي العدس أعدت له فولًا. وحدث يومًا أن أرسل الوالد ابنه يحمِل رسالة إلى أُمِّه، يأمُرُها بعمل، فنقل الابن إلى أُمِّه عكس ما أمَرَ به أبوه، وبهذا حقَّق لأبيه ما يريد. ولمَّا علِم الرجل بما فعل ابنه أنَّبَهُ على عِصيانه، ولكنه تعلَّم من تصرُّف الولد ما ينبغي له أن يصنع مع زوجه.
- (٤)
كنَّا في شبابنا رجالًا، فلمَّا أصبحنا شيوخًا صِرنا في أعين الناس صغارًا.
والمعنى أن كثيرًا من الناس يُبدون قدرة في سنِّ الشباب فيعهد إليهم بهامِّ الشئون، فإذا ما تقدَّمت بهم السن عجزوا عن القيام بخطير الأعمال، كأنما هم صغار.
- (٥)
قال الشيخ: إني أبحث عن شيءٍ لم أفقده.
والمعنى أن الشيخ إذا احدودَبَ ظهرُه مشي وعيناه إلى الأرض كأنما يبحث عن مفقود.
- (٦)
كم من جَمل مُسن يحمِل جلد جملٍ صغير.
والمعنى أنه كثيرًا ما يلاقي الشاب حتفَهُ قبل الرجل المُسن، كما تحمل الجمال التي تقدَّمت بها السن جلود صغارها التي ذبحت إلى السوق.
- (٧)
الفقر يقتفي أثر الفقير.
- (٨)
إذا ما فرغَتِ الدار من شعيرها، جاءها العناء يدخُل من بابها.
- (٩)
الكلب الجائع تزدرِد الرَّوث.
- (١٠)
تَحلُّ الآلام بأسنان من يسمع جارَه يمضُغ الطعام وهو لا يملك ما يأكلُه.
- (١١)
إلى أن يهزُل سِمَانُ الرجال يفنى منهم العِجاف.
- (١٢)
عند باب الدكان يكثُر الإخوان والأصدقاء، وعند باب البؤس لا تجِد أخًا ولا صديقًا.
أي أن الأصدقاء يكثرون في اليسار، ويختفون في العُدْم.
- (١٣)
إن قيل مات الصديق فصدِّقْ، وإن قيل أثرى الصديق فكذِّبْ.
أي أنَّ سوء الأخبار أقرب إلى الحدوث من حَسَنها.
- (١٤)
من امتلأ جوفُه زادت شرورُه.
- (١٥)
تغزل المرأة وهي تتحدَّث.
أي أنَّ المرأة تنتهِز كل فرصةٍ ممكنة لتحقيق أغراضها، فهي تركز انتباهها في الغاية التي تنشدها، حتى وهي تتلهَّى مع غيرها بالحديث.
- (١٦)
كما أن النعجة تتبَع النعجة، كذلك تفعل البنت ما تفعله أمُّها.
- (١٧)
سليلة الأمراء والملوك قد تُمتَهن للسِّفلة.
- (١٨)
المرأة في السِّتين كالصبيَّة في السادسة، تُسرِع نحو المُوسيقى التي تُعزَف في احتفال الزواج.
ومعنى ذلك أنَّ المرأة لا تفقد مَيلها نحو أمور الأمومة مهما بلغت سنُّها.
- (١٩)
انزل درجةً في اختيار الزوجة، واصعد درجةً في اختيار الصديق.
أي أن الزواج من امرأةٍ أرفع منك منزلة، خليق أن يضعك مَوضع الزِّراية من زوجك وأقاربها، أما مُصادقة مَنْ هم أعلى منك فقد ينفعك.
- (٢٠)
لا أريد لقدَمي حذاءً أوسع منها.
أي أن الزواج من أُسرة أرفع ليس سبيلًا إلى السعادة.
- (٢١)
تعجَّل في شراء الأرض، وتردَّد في اختيار الزوجة.
- (٢٢)
إن كانت زوجتك قصيرة فانحنِ إليها لتهمِس في أُذنها.
أي لا بدَّ لك من استشارة زوجتك في كل شيء، حتى لو ظننتَ نفسك أوسع منها علمًا وخبرة وذكاء.
- (٢٣)
الرذيلة في البيت كالدودة في الفاكهة.
- (٢٤)
حبُّ الوالد لبنيه، وحبُّ الأبناء لأبنائهم.
- (٢٥)
إذا نبحَكَ كلب فادخل الدار، وإذا نبحتك كلبة فاخرُج منها.
الكلب هنا رمز لزَوج البنت، والكلبة رمز لزوجة الابن، أي أن الأول غضبُه مُحتمَل، وأما الثانية فغضبها لا يُحتمل.