الأدب اليوناني
(١) أساطير اليونان
كانت حياة الإنسان الأول شاقَّة عسيرة، وكان العالم من حوله يعجُّ بظواهر لا يفهمها، ومشكلات لا يقوى على تعليلها، ولكنه كلما ازداد على مرِّ الزمان خبرةً وذكاء ازداد رغبة في فهم هذه الطبيعة وتفسيرها؛ فما أصل العالَم؟ وكيف خُلق الإنسان والحيوان؟ كيف نشأت أفلاك السماء في مسالكها ونظامها؟ كيف نُعلِّل حركات الشمس والقمر؟ لماذا كانت هذه الشجرة حمراء الزهر وذلك الطائر أسود الذَّيل؟ ما أصل هذا وذاك من كل ما يُحيط بالإنسان؟
حاول الإنسان الأول أن يُجيب عن هذه الأسئلة وأشباهها، وهو في محاولته الإجابة لم يكن يفرِّق بين الإنسان وسائر الكائنات كما نفعل اليوم، إنما الكائنات في رأيه مخلوقات سواء؛ فكل حيوان له روح كروح الإنسان، وكل شيء في الوجود له شخصية كشخصية الإنسان. ويُنبئنا «هيرودوت» أن المصريين الأوَّلين كانوا يَعُدُّون النار حيوانًا نشيطًا، والرياح كائنًا حيًّا يتزوَّج ويُعقِب الأبناء.
على هذا الأساس أخذ الإنسان الأول في تفسير الطبيعة، فكان من الطبيعي أن ينسج القصص حول ظواهر الكون كما تُنسج حول أفراد الإنسان؛ فلكل ظاهرةٍ قصتها، أو أسطورتها التي تشرح تاريخها، فتكوَّنت بذلك طائفة من الأساطير تُصور عقلية الإنسان الأول في فهمه للأشياء. ولمَّا بدأ الإنسان في إنشاء أدبه وتدوينه، لم يجِد بُدًّا من تسجيل تلك الأساطير الأولى التي أخذت تتوارثها الأجيال، وكل جيل جديد يُضيف إليها شيئًا من إنتاجه يُصور وجهةَ نظرِه في مشكلات الحياة والموت وعلاقة الإنسان بالعالَم الذي يعيش فيه.
هذه الأساطير — التي اتَّخذها الأدب أساسًا يقوم عليه — مُتنوعة متعدِّدة كما تتنوَّع ظواهر الحياة وتتعدَّد.
فهذه أساطير عن أصل العالَم وأصل الإنسان، وهذه أساطير عن فنون الحياة تقصُّ علينا كيف تعلم الإنسان رماية الرمح وجرَّ المحراث وصناعة الخزف وهكذا، وهذه أساطير تدور حول الشمس والقمر والنجوم، وأخرى تتعلق بالموت وما بعد الموت. ثم هذه مجموعة من الأساطير — لعلَّها أروعها وأمتَعُها — تتَّصل بالحب وعلاقة الرجال بالنساء. والصفة المشتركة بين هذه الأساطير كلها هي الشخصية التي تخلعها على الحيوان والجماد. وقد أدَّت هذه النظرة بالإنسان إلى العقيدة بوجود آلهةٍ لا عدد لهم يسكنون ويكمُنون في كل ظواهر الوجود، ويُعنَون بشئون البشر فيرقبونها ويتدخَّلون في مجراها في شغفٍ واهتمام، وكثيرًا ما يقِف بعض الآلهة موقف العداوة من الإنسان، لهذا لم يكن بدٌّ عند الإنسان الأول من عبادة الآلهة وخشية بطشها. ومن هنا كانت هذه الأساطير وثيقة العلاقة بنشأة الدِّين. ولمَّا كانت طلائع الأدب تدور في جُملتها حول الآلهة وما يعملون، ثُم لمَّا كان الدين قد استتبع في تطوُّره إنشاء المعابد، فقد صار المعبد الديني في كثير من بلاد العالم القديم مأوى الآداب.
وإنه لمن أروع وأهم ما يرويه تاريخ الإنسانية هذا التشابُه الشديد بين أُمم الأرض في أغانيها الشعبية وفي أساطيرها، فأغاني الشرق وأغاني الغرب مُتفقة في الموضوع، وكل شعوب العالم تقص قصصًا متشابهة أو متقاربة. أيكون هذا الاتفاق حادثًا عارضًا؟ أم نعلل اتفاق الهنود والفرس والإغريق والرومان والجرمان وأهل اسكندناوه والروس والكلتيين بأنهم جميعًا استمدُّوا أساطيرهم من الجنس الذي عنه تفرَّعوا جميعًا، وهو الجنس الآري الذي كان مقرُّه هضبة آسيا الوسطى قبل أن يهاجر نحو الغرب في موجات متلاحقات ليؤسِّس الأمم الأوروبية؟ قد يكون هذا التعليل مقبولًا لولا أنه لا يفسر التشابه بين الآريين وغير الآريين.
لهذا كان الأرجح أن يكون تشابُه الأساطير عند مختلف الشعوب راجعًا إلى أنها نتيجة تجارب متشابهة وعقليات متقاربة وعواطف متجانسة يحسُّها الإنسان ما دام إنسانًا، فهي إنتاج العقل والعاطفة الإنسانية في بدايتهما.
ونحن نبسط لك أمثلة من أساطير اليونان، لما لها من أثر قوي في الآداب العالمية وخاصة الأدب الأوروبي:
(١-١) قصة: كيوبد وسيكه١
•••
وهي قصة ترمُز إلى حقيقةٍ إنسانية قريبة، وهي أن النفس لا يجوز لها أن تُمعن النظر في الحُب وإلا تبدَّد، وقريب من هذا قول الشاعر العربي:
(١-٢) قصة: ديانا وإنديميون٣
كانت ديانا — إلهة القمر — تسُوق جيادها البيض النواصع في السماء، فلمحت إنديميون نائمًا على سفح جبل، وإنديميون شابٌّ من الرُّعاة فاتن الجمال، فانحنت إليه تُقبله، وأخذت كلَّ ليلة تقِف بعربتها في هذا المكان، فتقضي مع الشاب الجميل لحظةً قصيرة، هي عندها السعادة والنعيم، ثم ما لبثت ديانا أن أشفقت على هذا الجمال أن يُفلِت منها أو تُتْلِفَهُ الحياة على الأرض، فأغرقتْه في نعاسٍ دائم وأخفتْه في غارٍ لا يُدنِّسه إنسان من البشر.
هذه القصة من أساطير النجوم، ويقول شارحوها إن إنديميون يُمثل الشمس الغاربة التي يتطلَّع إليها القمر كلما بدأ في الليل رحلته.
(١-٣) طريق الدمار أو قصة: فيتون٤
ولكنه سرعان ما ندم على قسَمِه، لأن فيتون قد طلب إلى أبيه أن يعهد إليه بعربة الشمس يقودها يومًا واحدًا، فقال أبولو: «لن يقود عربة النهار ذات اللَّهب إلا أنا.» وأنذر ابنه بما يُصيب الكون من الكوارث لو عهد إليه بعربة الشمس يقودها، وأخذ يصِف له مخاطر الطريق: «أول الطريق شديد الانحدار … ووسطه عال في أجواز السماء، حتى أكاد أنا نفسي لا أستطيع أن أُصوِّب نظري نحو الأرض التي تمتدُّ تحتي دون أن يأخُذني الفزَع … أضِف إلى ذلك كله أن السماء لا تنفكُّ دائرة تحمل معها النجوم، فلا بدَّ لي أن أكون على حذرٍ خشية أن تدفعني حركة السماء الدائرة التي تدفع كلَّ شيء. فهبْني أَعَرْتُك العربة يومًا، فماذا أنت صانع؟
هكذا علَّل عقل الإنسان الأول — وفيه ما فيه من ضَعف التعليل وشرود الخيال — نشأة الصحراء والأصقاع المُجدِبة وما إلى ذلك على ظهر الأرض.
(١-٤) قصة إكو ونارسيس (الصدى والنرجس)١٠
«ستُحرَمين هذا اللسان الناطق الذي تخدعينني به؛ فلن ينطق لسانك بعد الآن إلا بشيءٍ واحد أنت به مغرمة، وهو: الجواب. وسأبقي لك القدرة على رَدِّ الكلمة الأخيرة من حديث المُتكلِّم، وأسلُبك القدرة على البدْء بالحديث.» فتذهب إكو صامتة اللسان لا تُحركه إلا لكي تُكرر به آخِر كلمات المتحدث، ثم يشاء حظها الأنكد أن تُغرَم بشابٍّ جميل «نارسيس» (النرجس) وتهمُّ بمُغازلته فلا تستطيع؛ فنال منها الحزن والعار كلَّ مبلغ، وآوت إلى الصخور والجبال حيث أخذت تذوي وتذبُل حتى فنيَ منها الجسد، ولم يبقَ لها إلا الصوت تُردِّد به الكلمة الأخيرة مما تسمع، ولا تزال حتى اليوم نعرفها بصوتها. وشاءت المقادير أن تنتقم لها من نارسيس الذي رفض حُبَّها بل أشاح بوجهه عن العرائس جميعًا.
وذلك أن نارسيس رأى يومًا صورة وجهه معكوسة في الماء فأحبَّها، ولكن لا سبيل إلى ضمِّ هذا الحبيب.
لذلك اعتزل في حُزنه حتى مات؛ فأرادت العرائس أن تواري جسدَه في جدَثٍ يليق به، ولكنها لم تجِدْ من جسده إلَّا زهرةً تحمل اسمه، هي زهرة النرجس. ولعلَّها رمْز إلى زهرة النرجس التي تنمو على حافة المياه.
(١-٥) قصة بروزربين المُغتصَبة١٢
وبروزربين في هذه القصة ترمُز لحبَّة القمح التي تقضي الشتاء راقدةً في مخبأ مظلم تحت التراب، ثم تعود فتبرز على وجه الأرض في الربيع مورقةً مزدهرة. أو بعبارة أخرى ترمُز هذه القصة لموات الشتاء تتلوه حياة الربيع إلى أبد الآبدين.
•••
وقد تناولها العلماء بالبحث في أصولها ونشأتها ورموزها، وسمَّوا هذا العِلم «ميثولوجيا» أيضًا، وهو علم واسع احتدَم فيه الجدل واختلفت فيه وجوه التفسير.
في هذه الأسطورة يرى أفلوطين وتلاميذه أنها رمز للصراع بين العقل والغواية، وهو بعدُ تفسير قريب مقبول، ولكن موضع الخطر كان في تعميمهم لمثل ذلك الفهم ومحاولتهم تطبيقه على كافة الأساطير.
هاتان هما المُحاولتان الكبيرتان اللَّتان عرفهما القدماء ورجال القرون الوسطى في تفسير الأساطير. وأما العصور الحديثة — أعني منذ النهضة الأوروبية — فقد تفنَّنت في الفروض يضعها العلماء ثم يأخذون في البرهنة على صِحَّتها مُعتمِدِين على المقارنة. ولقد كان في اكتشاف أمريكا ومجاهل أفريقيا وجزر الأوقيانوس ما مكَّن العلماء من تدوين كثير من أساطير الشعوب الفطرية التي لا تزال تسكن بعض تلك الجهات. وعلى ضوء تلك الأساطير حاولوا تفسير الأساطير القديمة. فقال البعض إن الأساطير لم تُوضَع إلا لتفسير الطقوس الدينية التي توارثها الأقوام البُدائيون دون أن يفهموا لقِيامها معنًى، فأخذوا ينسجون لتفسيرها القصص، وقال آخرون إنها وُضِعت لكي تنفُث نوعًا من الحياة في الأصنام والتماثيل التي توارثها أولئك القوم. وقال آخرون إنها نشأت عن عبادة الشمس أو غيرها من قوى الطبيعة التي خشِيَها الإنسان البدائي وعجز عن فهمها فعبدَها. وهكذا تنوَّعت المذاهب مما لا سبيل إلى حصره، وفي كلٍّ منها شيء من الحق، ولكنها كلُّها لا تقوم إلا على الفروض التي لا تُفيد يقينًا.
والأساطير اليونانية لم تصِل إلينا على حالتها الفطرية الأولى، بل إنَّ الشعراء الذين أتوا بعدُ تلقَّفوا الأساطير من أفواه الشعب، وهم لم يقِفوا عند مجرَّد التدوين أو الصياغة الشعرية بل نمَّوا ما سمِعوا وفهموه بعقولهم الممتازة، ووجَّهوه نحو معانٍ جديدة عميقة، ثم عادوا فردُّوا إلى الشعب ما أخذوه عنه، وإذا بالشعب ينسى الصِّيغ الأولى لأساطيره ولا يعود يذكُر غير ما يرويه الشعراء. وعلى هذا النحو نستطيع أن نقول إنَّ الشعراء هم الذين خلقوا الأساطير التي بين أيدينا الآن.
والذي لا شكَّ فيه أن أساطير الإغريق كغيرها من الأساطير تدور حول العناصر الأبدية الثلاثة؛ (١) الإنسان. (٢) الطبيعة. (٣) الآلهة؛ فهذه العناصر الثلاثة هي أبطال كل تلك القصص. والذي شغل الإنسانية منذ أقدم الأزمنة — ولايزال يشغلها حتى اليوم — هو فَهم العلاقة بين هذه العناصر وحلُّ المشكلة القائمة بينها. ولقد استطاع اليونان أن يفهموا تلك العلاقة وأن يحلوا ذلك الإشكال حلًّا شعريًّا فيه تتركَّز كل خصائصهم الروحية.
ولعلَّهم لم يستطيعوا حلَّ تلك المشكلة العويصة — مشكلة الإنسان والطبيعة والآلهة — ذلك الحلَّ الشِّعرى إلا بفضل تلك الخاصية التي يُجمع النقَّاد على توفُّرها لديهم؛ ونعني بها أنهم قوم كانوا يفكرون بخيالهم، وبذلك استطاعوا أن يجمعوا بين نشأة الآلهة ونشأة العالم، حتى لنقرأ اليوم كتاب هزيود السابق فنرى فيه بوضوحٍ فلسفة للكون تُماشي تسلسُل الآلهة وتوزيع الاختصاص بينهم، وكانت هذه أول مرحلةٍ لحلِّ المشكلة، وكانت الثانية خلع صفات الإنسان على آلهتهم وبذلك قرَّبوها إليهم وحمَّلوها نزعاتهم، ومنذ أن أصبحت لهم آلهة شبيهة بالبشر أخذوا يتصوَّرون آلهة أخرى وربَّات في كل ما في الطبيعة من جبالٍ وأنهار وغابات وأشجار، حتى لنستطيع أن نقول: إذا كان الهنود يعتقدون بالحلول الإلهي في الكون، فإنَّ اليونان قد آمنوا بالحلول الإنساني في الآلهة، فالإنسان عندهم حالٌّ بكل شيء، حالٌّ بالآلهة ثم حالٌّ بالطبيعة التي تصوَّروها بملك كل خصائص الإنسان. وهكذا اتَّخذ اليونان من الإنسان محورًا للوجود كله ومَنبعًا له.
انتصر كرونس وكان الفضل الأكبر في انتصاره لزيوس الذي لم ينس أنه لم ينجُ من أبيه إلا بحيلة أُمِّه، والذي كان يَعلم حقَّ العِلم أن لا بقاء مع «الزمن» لشيءٍ ولا لأحد. وتطلَّع زيوس إلى الخلود فأخذ بتلابيب «كرونس» وألقاه إلى الأرض حيث سقط إلى جوار روما، فيما يروي «فرجيل» شاعر اللاتين الذي حسب أنَّ سقوطه بجوار تلك المدينة العريقة سيضمَن لها الخلود، ولكنَّنا لسُوء الحظِّ نلحظ أنَّ نزوله إلى الأرض لم يحفظ روما ولا حفِظ غيرها.
تخلَّص زيوس من كرونس فضمن الخلود.
وانتصار زيوس هو انتصار النهار على الزمن. انتصار هذا الجزء من اليوم الذي يعود كل صباح إلى الظهور، فهو انتصار الحياة المتجدِّدة على الفناء المُستمر. وهكذا عبَر الخيال اليوناني من الزمن المُدمِّر الذي يُفني بعضُه بعضًا إلى النهار الذي يعقبه الليل، إلى الحياة يتلُوها الفناء.
انتصار النهار على الزمن انتصار لمِقياس محدود وقانون مُطَّرد على امتداد الزمن الذي لا أول له ولا نهاية، فهو انتصار للمحدود على اللامحدود، انتصار للنظام على الفوضى، ومن هنا سَمَّى هوميروس زيوس «سيد النظام».
بذلك وصل الخيال اليوناني في فهمه لنشأة الآلهة ونشأة الكون إلى مبدأين أساسيين: (١) مبدأ الخلق والفناء. (٢) مبدأ النظام الذي يسود هذا الوجود.
هكذا انتصر «زيوس» على العمالقة من قوى الطبيعة فساد الجبر عالَم المادة، ولكن هل سيبسط هو نفوذه أيضًا على البشر؟ وهل سيخضع له هؤلاء البشر في شخص برومثيوس أم لا بدَّ من قيام صراع بينهما؟ وإن كان فلِمَن ستكون الغلَبة؟
وفي الحقِّ أنَّ هذا الصراع لم يكُن منه بد، فبرومثيوس لم ينسَ أن له الفضل الأكبر في تمكين زيوس من الانتصار وبرومثيوس يُمثِّل هؤلاء البشر الذين يُحسُّون أن لهم إرادةً حرة أو يعتقدون أنها حرة، وفي تلك الحُرية أملُهم العذب ومصدر شعورهم بكرامة الإنسان المسئول عمَّا يأتي وما يدَع.
ولقد كانت لهذا الصراع قصَّة طويلة، وإنما يُهمُّنا الآن أن نُقرِّر أن زيوس وبرومثيوس، أو قُلْ إن مبدأ الجبر والبشرية قد وصلا إلى كلمةٍ سواء، فكفَّ زيوس عن البشَر أذاه وخضعت الإنسانية لأحكامه. ولكن بعدَ زمنٍ طويل تحوَّل فيه الإله عن طبيعته الاستبدادية إلى إلهٍ مقيد بقوانين الحق والعدل والخير، وأشرك معه في الملك من إخوته وأقاربه عددًا انفردَ كلٌّ منهم بالسيادة على جزءٍ من الوجود وإن ظلَّت له السيطرة العُليا، بل ودنا من البشر فاتَّخذ الكثير من خصائصهم، فأصبح يفرح ويحزن، ويلهو ويتألَّم، ويُحب ويكره، ويشتهي، كما يفعل البشر سواءً بسواءٍ.
وأخذت كلُّ تلك الآلهة صفات البشر حتى قال بعضهم إذا كانت بعض الأديان تقول إنَّ الله خلق آدم على صورته. فاليوناني هو الذي خلق آلهته على صورته «صورة الإنسان».
ولمَّا كان كل أدبٍ قديمٍ وليد الدين وصورة له، فقد اتَّصف الأدب اليوناني بما اتَّصفتْ به آلهتهم، فجاء كما قُلنا أدبًا إنسانيًّا، أدب انسجام، أدب تشخيص فيه كل ما في أساطيرهم من صفات.
(٢) شعر الملاحم عند اليونان٤٤
ولسْنا ندري من أمر هوميروس في حياته الخاصة شيئًا؛ إذ إنه لمَّا أتيح لمؤرِّخي اليونان ونُقَّادهم في القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد أن يتعقَّبوا أشخاص التاريخ ويقفوا على أصولهم ليرووا صحيح أخبارهم، كان هوميروس بين أيديهم أسطورةً يعجزون عن تحقيقها كما هو اليوم أسطورة عند الباحث الحديث، فلم يكن اليونان في عصر أفلاطون وأرسطو يعلمون عن شعرائهم السابقين ما نعلمه نحن عن شعرائنا، لأن شعراءنا قريبو العهد بنا، وإذا تجاوزْنا الأوَّلين فقد كانوا يعيشون في عهد الكتابة، وفي خمسة القرون الأخيرة كانوا يعيشون في عصور مطبعةٍ ونشر. أما اليونان في عصر بركليز فلم يكن لهم بالطباعة عهد، وكان عليهم أن يحفظوا أشعار هوميروس عن ظهر قلب. والأرجح أنَّ تلك الأشعار لم تتَّخذ وضعَها وترتيبها كما هي اليوم إلا في القرن السادس قبل الميلاد.
وبعدُ، فما الإلياذة؟ وما الأوذيسة؟
(٢-١) الإلياذة
يُحدِّثنا الشاعر في السطور الأولى من ملحمته أن الجيش اليوناني الرابض أمام طروادة، قضى عليه الآلهة أن تفتِك به الأمراض، ففشا فيه الطاعون، فلمَّا سُئل العرَّاف عن تعليل هذا القضاء، وأجاب بأنَّ «أبولو» قد رماهم بحِرابه المسمومة، لأنَّ أجاممنون قد أبى أن يفدي ابنة كاهِنِه لمَّا وقعت أسيرةً في إحدى المدن التي فتحها اليونان فقسَّموا بينهم نساءها وأسلابها؛ فما إن سمِع أجاممنون جواب العرَّاف حتى ردَّ للكاهن ابنتَه، واستبدل بها «برْيِسِيس» التي كانت نصيب «أخيل» من السبايا؛ فلم يسَعْ أخيل إلا أن يقفل راجعًا إلى سفينته. وهو يكاد يتميَّز من الغيظ، وأعلن أنه لن يُحارب في صفوف اليونان بعد، وطلَبَ إلى أُمِّه ثيتس — وهي من عرائس البحر — أن تصُبَّ نِقمتها هي المُستبد الغاصِب، ودعا «جوف» أن ينتقِم له من قائد اليونان وجُنده، فأبى «جوف» أن يُنزل باليونانيين شرًّا لأنهم في حِمى زوجته.
وتضرَّعت «ثیتس» إلى «جوبتر» أن يكون لابنها أخيل عونًا على عدوِّه أجاممنون، فأوحى جوبتر إلى أجاممنون حلمًا زائفًا يزعُم له أن طروادة قد آنَ لها أن تسقُط في يدَيه، فعليه أن يُبادر بالهجوم. وانخدع أجاممنون بالحلم، وصفَّ جند اليونان في حَومة الوغى استعدادًا للقتال، إلَّا أخيل وأتباعه الذين غادروا المعمعة غاضبين. وتقدَّم جُند طروادة للقاء اليونان، وعندئذٍ تحدَّى «منلاوس» عدوَّه «بارس» أن يُبارزه بمُفرده، إذ كان هذان الفارسان هما سبب القتال، مُذ اختطف الثاني زوجة الأول، وأُعلنت الهدنة بين الجيشين حتى تتمَّ المبارزة بين القائدَين، فطوَّح بارس برُمحه ولكنه لم ينفُذ في درع مُقاتله، وتأهَّب منلاوس واستعان بجوف ثم:
•••
ويمتشِق هكتور حُسامه ويدخل معمعان النزال، فيبارِز «أجاكس» مُبارزة تنتهي أول الأمر بالتعادل، فيتبادل البطلان كلماتٍ طيبات وهدايا كأنهما الصديقان، وبعدئذٍ يمتدُّ القتال إلى آلهة الأولمب أنفسهم، إذ يشتركون مع الفريقين في الحرب، وهنا يُحذِّر «زيوس» الآلهة مُتنبئًا بالهزيمة لفريق اليونان، ويُعِدُّ هكتور عُدَّته للهجوم على أعدائه في الصباح التالي، فيوجس أبطال اليونان خيفة، ويذهب منهم «يوليسيز» و«فينكس» و«أجاكس» إلى أخيل يُصلِحون ما فسَدَ بينه وبين أجاممنون، ويَعِدونه أن تُرَدَّ له فتاته المُغتصبة «بريسيس»، وأن يُسْمَح له بزواج إحدى بنات أجاممنون، وأن يُعْطى فوق ذلك المنح والهدايا، وبينها سبْعٌ من أجمل المدن، ولكنَّ أخيل يرفض كل هذا في حديثٍ هو أروع ما بلَغَتْه قُدرة الشاعر في البلاغة الخطابية.
فأجاب أخيلُ فخرُ الإغريق قائلًا:
وكانت ليلة مليئة بالأحداث، يتلوها صباح يشهد جُند طروادة — وعلى رأسهم هكتور — يهجمون على الإغريق هجمةً لا سبيل إلى ردِّها. وحاول «نبتيون» الإله أن يُنقِذ الإغريق من الأسْر فلم يستطع، لولا حِيلة نَسجَت حبائلها الإلهة «جونو» وجعلت الحُبَّ قِوامَها؛ فالحبُّ والحرب هما في الإلياذة ما يقصد إليه الآلهة والناس.
حمل «باتروكلس» درع أخيل وعُدَّته — ما عدا الرمح الذي لا يستطيع القتال به غير سيِّدِه وصاحبه أخيل — ونزل المعمعة «باتروكلس» وصحبُه من أتباع أخيل.
نزل «باتروكلس» المعمعة مُتَّشحًا بدرع أخيل. فلمَّا رآه الطرواديُّون ظنُّوه أخيل وفرُّوا هاربين، لكن «أبولو»، الذي كان هواه مع الطرواديين منذ استبى قائد الإغريق ابنةَ كاهنِه، نزع عن باتروكلس عُدَّته ليكشِف للطرواديين عن حقيقته، فهجم عليه طروادي من الخلْف فأسقَطَه، وأسرع إليه هكتور وأرداه قتيلًا؛ وهنا هبَّ من أبطال الإغريق «أجاكس» و«منلاوس» يُنقذان جثة البطل الصريع، وفرَّ هكتور، بعد أن انتزع من باتروكلس عُدَّته، وها هنا نقطة التحوُّل في حوادث هذه المأساة الكبرى التي أثارت آلهة السماء وأهل الأرض على السواء. فلمَّا جاء النبأ إلى أخيل بموت صديقه الحميم، غضِب غضبةً جبَّارة ارتفعت بها الملحمة إلى أسمى مراتب الشعور؛ فلم تكن غضبة أخيل الأولى — من أجل فتاة أسيرة — جديرةً بمأساةٍ عظيمة كالإلياذة، لكنها هذه الغضبة الثانية هي الخليقة بالبطولة.
وفي هذه الأثناء كانت «ثيتس» قد قصدت إلى «فلكان» وطلبتْ إليه أن يصنع للبطل درعًا جديدة يصفها هوميروس في مقطوعة هي من أجمل ما جاء في الإلياذة. ولم تكد ثيتس تتسلَّم الدرع الجديدة من صانعها، حتى هبطت بها من قمَّة الأولمب واثبةً كأنها البازي يندفع وراء فريسته.
ويتمُّ الصلح بين أخيل وأجاممنون، ويدَّرعُ أخيل بدرعِه الجديدة، ويهبط إلى ساحة القتال، يضرب بسيفِه هنا وهناك، فيقتُل عددًا من أبطال طروادة، ولكنه لا يبغي سوى هكتور ليُورِدَه الحتْف جزاء ما قتل صديقه الحميم، وذلك هو هكتور يأبى أن يحتمي بأسوار المدينة مع سائر الطرواديين الهاربين، ويظلُّ واقفًا في مكانٍ كأنما جاءت به إليه أيدي القدَر، وهذا أبوه الكهل «بريام» يجلس على سور المدينة، فيرى أخيل مُندفعًا إلى ابنه كأنَّه رسول القضاء، فيَصيح بريام الوالد وهكوبا الوالدة بابنهما هكتور أن يتوارى من عدوِّه داخل الأسوار.
ولكن هكتور يُعير والدَيه أذنًا صمَّاء، ويعتدِل للقاء عدوِّه؛ انظر إلى أخيل يقترب منه كأنه الأفعى الجبليَّة في عرينها، سار السُّمُّ في بدنِها، واحتدمَتْ بالغضب.
ويقذِف أخيل برُمحه، فهبط هكتور جاثيًا، ويمرُّ الرمح فوق رأسه فلا يُصيبه فتتسلَّل منيرفا خفيةً وتُعيد الرمح إلى أخيل، ليُعيد البطل العظيم ضربته، ويقذف هكتور هذه المرة برُمحه، ولكنه لا يُصيب الهدف، فينادي بأخيه «ديفوبس» أن يُناوله رُمحًا جديدًا؛ ولكن أين «ديفوبس»؟ إنه ليس هناك، وهنا تُشرِق الحقيقة لهكتور أن «منيرفا» قد حبكتْ هذه الخيانة فخدعتْه، ويُدرك أن قضاءه محتوم، ولكنه يستلُّ حُسامَه ويهاجم عدوَّه لعلَّه يأتي عملًا من البطولة قبل أن يلفظ الروح، غير أنَّ أخيل يضرِب عُنقه بالرُّمح ضربةً تقضي عليه، ويسقُط المهزوم، ويضرَع إلى قاتله ألَّا يدع جُثمانه طعامًا تنهَشُه الكلاب التي يُطلقها الإغريق من سفائنهم، ولكن أخيل يُجيبه — ولا يزال الغضب في وجهه باديًا — «وددتُ لو أطاعني قلبي، إذن لمزَّقتُك إربًا إربًا، وطعمتُ بلحمك الآن، جزاء ما جرَّعْتني من غُصَصٍ وأوْرثتَني من كروب.»
وقضى هكتور نحبَه، فأنزل به أخيل شرَّ ما يُنزل عدوٌّ بعدوه؛ فقد ثقب قدَمَيه وشدَّ وثاقهما إلى عربته برِباطٍ من الجلد، ودفع الجياد دفعًا سريعًا، وجُثة عدوِّه برأسها تتمرَّغ في التراب، حتى بلغ به معسكر الإغريق.
وشهد «بريام» الوالدُ و«هكوبا» الوالدة مصرع ابنهما هكتور، وهما جالسان على قمَّة السور يرقُبان. أما زوجته «أندروماك» فلم تكن تعلَم أنَّ زوجها بقِيَ خارج الأسوار طريدًا لأخيل، حتى سمعت ضجيج الأصوات يملأ الفضاء!
فصعدت إلى بُرجِها، صُعِقتْ، سقط الغزل من يدِها، اضطرب فؤادها، نادت خدَمَها، إنها تُريد أن تعلَم ما وراء تلك الصيحة المشئومة؟ صاحت «تعالوا».
ومضتْ ثائرةً، وتبِعَتْها خادمتان — كما أرادت — أعانتاها على الصعود إلى قمَّة البرج … وأدارت بصرَها الملهوف نحو الجمع المُحتشِد.
فرأت هكتورها قتيلًا مشدودًا إلى عربة أخيل.
يَجذبه — في غير إكرام — إلى حيث سفائن الإغريق.
فغشيتها الغاشية كأنها الليل البهيم، وخار قدَماها، وسقطت في غير وعي …
وحزنت طروادة على بطلِها الصريع حُزنًا شديدًا. أما أخيل فقد أقام شعائر الجنازة لصديقه «باتروكلس»، وأقيمت لتكريمه الألعاب؛ حتى جاءت إليه أمُّه «ثيتس» مبعوثةً من الآلهة تأمُرُه أن يمنع سخطه على هكتور، فقد كفاه ما صنَع، وأن يُجيز للطرواديين أن يستردوا جثَّة فتاهُم مُقابل فدية للظافر. وذهبت الإلهة «إيريس» إلى «بريام» الوالد المحزون تعرض أن يدفع فديةً لأخيل يفتدي بها جثمان ولدِه هكتور؛ وما عتَّم الشيخ المكروب أن حمل أثمن الهدايا، وقصد إلى أخيل في خيمته، وجثا على رُكبتَيه أمام البطل مُستعطفًا مُسترحمًا:
فاهتزَّ قلب أخيل رحمة بالشيخ، وطاعة للرسالة التي حملتْها إليه أمُّه ثيتس من عند الآلهة، فقبل الفدية وأذِن لبريام أن يحمِل جثمان هكتور، ومنحَهُ اثنَي عشر يومًا يقِف فيها القتال؛ ليتمكَّن الوالد الحزين من إقامة شعائر الجنازة على فقيده الكريم، وإنه بها لجدير.
ووضع الجثمان فوق النار حتى احترق، ثم جمع رمادَه في وعاءٍ من ذهبٍ دُفن في القبر.
•••
ولم يرَ الإغريق في الأجيال التالية فيما صنَعَه أخيل بجثَّة عدوِّه هكتور موضعًا للتمجيد، لأنهم يمقُتون التمثيل بأجساد المَوتى، ولم يغفروا قطُّ لأخيل هذه الغضبة الشنعاء وما انتهت إليه؛ ولذا لا تجد أحدًا من كتَّاب المأساة من بعدِه يتَّخِذ من أخيل بطلًا لمأساته، مع أن حياته أصلَحُ ما تكون لأبطال المآسي. وتنتهي الإلياذة بجنازة هكتور. أما طروادة فقد قوَّض الإغريق بُنيانها، ولم يذكُر الشاعر في الإلياذة شيئًا عن موت أخيل وبارس، ولكنهما قُتِلا أثناء الحصار.
(٢-٢) الأوذيسية
اجتمع الآلهة ودبَّروا أن يعود يوليسيز إلى وطنه، وبعثوا بالإله «هرمس» — رسول الآلهة — يُنبئ كالبسو بهذا القرار. وفي الوقت نفسه بدت منيرفا مُتنكِّرة أمام تلماكس، وأشارت عليه أن يستطلِع أخبار أبيه من صديقَي أبيه: نسطور ومنلاوس.
فأرسل تلماكس في اليوم التالي مُنادين بجوسون خلال المدينة ليطلبوا إلى الناس أن يعقدوا جمعًا يسمعون فيه شكاة تلماكس من خاطِبي أمِّه الذين أحرجوه غايةَ الحرَج، وأرسلت بنلوب إلى هؤلاء الخاطبين تُماطلهم وتُخادعهم، ولبثت أربعة أعوام تزعُم لهم أنها تغزِل رداءً لأبي زوجِها، وظلَّت تغزل في النهار وتنقُض في الليل غزلَها.
وتنكَّرت منيرفا في هيئةٍ جديدة، وهيَّأت لتلماكس سفينةً أقلع بها إلى «بيلوس» ليلتقِيَ بصديق أبيه «نسطور» عسى أن يعلم منه شيئًا عن أبيه؛ فعلم منه نبأ الفتْك بأجاممنون — وهو أخو نسطور — لكنه لم يسمع شيئًا عن غَيبة أبيه. ونصح «نسطورُ» «تلماكس» أن يقصد إلى منلاوس في أسبرطة لعلَّه يعلَم عن أبيه شيئًا، وذهب الفتى إلى أسبرطة، وهناك التقى ﺑ «هِلن» فعرفته وذكَرَتْه، وأخذ أصدقاؤه يبكون أيامًا جميلةً مضت، ثم أخذ منلاوس يقصُّ على السامعين كيف جيء بالحصان الخشبي في طروادة يحمل في جوفِه أبطال الإغريق، وكيف أخذت هِلِنْ تدور حوله وتقرَعُه بكفِّها وتُنادي أبطال اليونان واحدًا فواحدًا، وتُقلِّد لكلِّ واحدٍ منهم صوت زوجته حتى تَستفزَّه للجواب، وكانت في تقليد الأصوات بارعةً حتى كاد الأبطال المُختبئون في جوف الحصان يلبُّون النداء، لولا أن رأوا في زميلهم يوليسيز رباطةَ جأشٍ كانت لهم جميعًا شكيمة رادعة. ثم أنبأ «منلاوس» «تلماكس» أنه شهد أباه في الجزيرة المُنعزلة التي تسكنها عروس البحر «كالبسو».
ثم طلب إليها يوليسيز أن تُنعِم عليه ببعض الثياب، لأنه خرج من البحر عاريًا، وأن تَهدِيَه إلى طريق المدينة. فنادت نوسكا وصيفاتها فأحضرن له طعامًا وثيابًا، وابتعدنَ قليلًا حتى يغسل جسده ويرتدي ثيابه. وبينما هو جالس وحدَه:
ثم التهم «سيكلوب» اثنَين من رجالي ونام، ولم أستطع أن أقتُلَه وهو نائم لأنه قد سدَّ مدخل الكهف بصخرةٍ ضخمة لا قِبَل لنا بحملِها، فلو قتلْنا هذا العملاق لظللنا سُجناء في الكهف حتى يُدرِكنا الموت. ولما جاء الصباح أخرج «سيكلوب» قطيع غنمِه من الكهف وراح يرعاها بعد أن أحكم إغلاق الكهف بتلك الصخرة الكُبرى، وقبل أن يُغادر الكهف مع غنمه التهم اثنَين آخرَين من رجالي؛ وفي غيبته أعددْنا قضيبًا نفقأ به عينَه الواحدة إذا عاد، وعاد مع المساء يسوق قطيعَه ودخل الكهف وأغلقه.
واجتمعت عشيرة السيكلوب تسأل من اقترف الإثم، فقال لهم:
لكنَّا رصَصْنا الأغنام ثلاثًا ثلاثًا وربطنا أنفسنا في أسفل بطونها، وخرجْنا بها مُسرعين حتى بلغْنا السفينة، فما إنِ احتوتْنا حتى صِحْتُ قائلًا:
ودعتهم الإلهة أن يدخلوا، فلبَّوا إلَّا رئيسهم إذ ظلَّ يرقبُهم خارج الدار، فرآها تُطعِمهم شهيَّ الطعام، ثم مسَّتهم بعصاها السحرية فإذا هم خنازير! فلمَّا جاء رئيسهم يُنبئني بذلك قصدتُ إلى دارها مُسرعًا، ولقِيَني في الطريق رسول من الآلهة وأعطاني عُشبًا يَقيني سِحرها، ودخلتُ الدار فأطعمَتْني «سيرس» ومسَّتني بعصاها:
ففعلتْ كما أمرتُها، وأكرمتْ بعدئذٍ ضيافتَنا، حتى طاب لنا المُقام فمكثْنا معها عامًا كاملًا، ولم نُغادِر ذلك المكان حتى زُرتُ العالَم الأسفل حيث التقيتُ بكثيرٍ من أعلام الرجال الذين ماتوا. وودَّعْنا سيرس بعد أن حذَّرتْنا ممَّا عساه أن يُصادفنا في الطريق من صعاب ومخاوف، وظللْنا نقع في الخطر بعد الخطر حتى بلغْنا جزيرةً يأكل من عُشبها ثيران الشمس، فهمَّ أصحابي أن يذبحوها، وحقَّتْ عليهم كلمة ربها وأُهلِكوا، ونجوتُ وحدي ورَسَوتُ في جزيرة كالبسو.
•••
ولمَّا فرغ يوليسيز من قصته، أرسله ملك «فيقيا» إلى وطنه «إثاكا» بكل ما معه من هدايا في سفينة أعدَّها له. وها هنا نعود مع يوليسيز إلى هذا العالَم الأرضي، بعد أن حلَّق بنا وهو يقصُّ مُغامراته في عالَم الآلهة والأرواح، وكان لا بدَّ له حين وصل إلى «إثاكا» أن يدخُل بحذَرٍ شديد خشية أن يقتُلَه خاطبو زوجته غيرةً وانتقامًا. ويصِل يوليسيز إلى داره فلا يعرِفه بادئ الأمر إلا كلبُه، لكن كلبه الوفي لا يُلاحِقه أو يُداعبه، لأنه لم يكد يعرِف سيِّدَه حتى يقضي نحبه. ثم يدخل يوليسيز داره في هيئة سائلٍ مسكين، فيُقابله الخدَم وخاطبو زوجته في زرايةٍ وعنف. وهكذا تشاء سخرية المقادير أن يُقاتله في داره قوم لا شأن لهم بها، وما دَرَوا أنه مُرسَل من القدَر لينتقم.
ولمَّا حانت ساعة الحساب، نشبت بين يوليسيز وأعدائه معركة هي أقرب إلى المذبحة منها إلى المبارزة والقتال، وأنزل يوليسيز وابنة تلماكس بالخدَم الذين خانوا عهد سيِّدهم ضروبًا من الانتقام المُر، نفرَتْ منها نفوس اليونان فيما بعد.
وأخيرًا يلتقي يوليسيز بزوجتِهِ الوفيَّة، فيضمُّها بين ذراعيه، وتبذُل «منيرفا» وُسعها لتُطيل ليل اللقاء بعد أن قضى الزَّوجان ما قَضَياه من أعوامٍ طويلة مليئة بالأحزان والصعاب.
•••
ولعلَّ الأوذيسية أن تكون بين آيات الأدب العالمي أشدَّها تحريكًا للمشاعر والعواطف، وهي في موضوعها أقوى وأجمل من أختها الإلياذة، فهذه سلسلة من دسائس ومعارك بين الآلهة فيها كثير من التكرار المَملول.
وأما سِيرة يوليسيز فتعبير جميل عن دوافع الحياة البشرية ونوازعها، وهي تمسُّ في قلب الإنسان شعوره الفِطري، وتَستثير منه مصادر الحيوية والنشاط.
أضف إلى ذلك أنَّ يوليسيز في حلبة البطولة أفحَلُ من أخيل، وانتصار يوليسيز يبعَثُ في نفس القارئ طمأنينة لا تشوبها شائبة من قلق؛ لأنَّ نصره نتيجة صبره وذكائه، وهو نصر أسمى منزلة من فوز يظفر به أخيل بجسمه القوي وعضلاته المفتولة. وفي أعمال يوليسيز ومغامراته تنوُّع سريع يستولي على قلب القارئ؛ فهو إنسان فيه الإنسانية بمعناها الصحيح، أو إن شئت فقل إنه إنسان أعلى.
•••
وبعدُ، فهذه خُلاصة ضئيلة للإلياذة والأوذيسية، فإن أردت أن تستمتِع بجمالها — حقًّا — فليس لذلك من سبيلٍ سوى قراءتهما في أصولها أو في تراجمهما الوافية الدقيقة.
وقد نالتا إعجاب الأدباء في كل العصور، وتُرجِمَتا إلى أكثر اللغات، وتُرجِمت الألياذة إلى العربية، ولكنها فقدتْ كثيرًا من جمالها.
ويرجع ما لهوميروس وملحمتَيه من شُهرة أدبية خالدة إلى ما فيهما من البساطة، والقوة في الأسلوب، والصِّدق، والجمال.
فهوميروس في عرضِه للأحداث يؤثِّر ببساطته وإيجازه، فلا تَكلُّف، ولا إطناب، ولا تعقيد، وإنما هي بساطة كبساطة الطفل.
انظُر إليه في موقف هكتور وأندروماك وطفلهما الرضيع؛ فالولد يبكي من منظر والده، والوالد يضحك من بكائه، ثُم يخلع خوذته ويُقبله ويقول: «يا إلهي زيوس ويا جميع الآلهة، أدعوكم أن يبلُغ ابني بين أهل طروادة ما بلغْتُه من العظمة والقوة والشجاعة، وأن يكون ملكًا كبيرًا لطروادة.»
والزوجة تبكي مُشفقةً على زوجها، وهو يردُّها قائلًا: إنَّ القضاء المحتوم لا ينجو منه أحد. والزوجة تعود إلى بيتها حزينة، فيُثير منظرُها في وصيفاتها الأشجان؛ إذ توقَّعنَ ألا يعود سالمًا من الحرب.
كل هذه عواطف إنسانية تحدُث في كل عصرٍ ولكل الناس، عُرضت في سهولةٍ وبساطة. والطريقة التي عُولِج بها الموضوع بسيطة، والاهتمام كلُّه موجَّه إلى النُّقَط الأساسية للمأساة.
وبجانب البساطة، كان الفنُّ في تصوير الأشخاص والأحداث، كخُلُق أخيل، وموت هكتور، وموقف أبيه.
كذلك ممَّا امتاز به شعر هوميروس صِدقه، ولسْنا نعني بالصدق مطابقة الخبر للواقع، وإنما نعني به إجادة الفنان في التعبير عن شعوره؛ فهوميروس ليس آلةً صمَّاء، ولكنه يشعُر كل الشعور بما يقصُّه، ويُسبغ شعوره على ما يَحكيه، كما ترى في موقف أبي هكتور من أخيل.
كذلك امتاز هوميروس في ملحمتَيه بأنه — فيما يحكي — لا يتحيَّز، فالقارئ يعطف مثلًا على هكتور أكثر مما يعطف على أخيل، ولكن هوميروس يقف مُتجردًا يبتعِد عن هذا النزاع كلَّ البعد، وكان عمله الوحيد أن يسجِّل لكلٍّ منهما ما له وما عليه من غير أن يحكُم، وفي صراحة تامة.
إلى ذلك ما يراه قارئو الإلياذة والأوذيسية في أصولهما من جمالٍ فني رائع هو جمال البساطة والجمال الفطري الطبيعي.
كل هذا جعل للإلياذة والأوذيسية هذه القيمة الكبيرة التي لا تزال لهما إلى اليوم.
(٣) الشعر الغنائي عند اليونان
منذ أقدم العصور كان ببلاد اليونان قصص شعبي كما كان بها غناء شعبي، ونحن لا نستطيع أن ندَّعي أسبقية أحدِها في الظهور إلا أن يكون ذلك على سبيل الفروض التي لا تستنِد إلَّا إلى الحقائق النفسية العامة. وهنا قد نستطيع أن نُجازف فنقول بأسبقية الغناء لتأصُّله في طبائع البشر، ثم لأنَّ القصص لا ينشأ إلا بتراخي الزمن، وبعد اجتماع أحداثٍ تعود الشعوب أو القبائل إلى ذِكرها.
ذلك إذا نظرنا إلى هذين النوعَين كأدبٍ شعبي، وأما إذا نظرنا إليهما كأدبٍ فني فالثابت تاريخيًّا هو أسبقية القصص الشعري على الغناء. وتلك ظاهرة يُمكن تفسيرها من الناحية التاريخية إذ يمكن تتبُّع المراحل التي انقرض فيها شِعر الملاحم وحلَّ محلَّه الشعر الغنائي.
ويمكن القول بوجهٍ عام إنَّ الشعر القصصي الفني (شعر الملاحم) قد سيطر على بلاد اليونان ثلاثة قرون (من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الثامن قبل الميلاد)، ثُم سيطر الشعر الغنائي ثلاثة قرون أخرى (من الثامن قبل الميلاد إلى الخامس). وأخيرًا سيطر الشعر التمثيلي خلال القرنين الخامس والرابع، ومنذ القرن الرابع يمكن القول بأن عصور الإنتاج الحقيقي قد انتهت بغزو المَقدونيين لبلاد اليونان وتحطيمهم لاستقلال مُدُنها.
وإذن، فالنصوص تؤيد وجود شعر غنائي مُعاصر للشعر القصصي أو سابق عليه، ومع ذلك لم يحرِص هوميروس على أنْ يصُوغ ذلك الشعر، ولا أنْ يرويه، وإنما انصرف جُهده إلى كتابة الشعر القصصي. لأنَّ الشعر الغنائي كان نواةً لم تكتمِل.
ثُم في القرون الثلاثة التي سبقت الحروب الميدية (من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الخامس) تطوَّرت بلاد اليونان من الناحيتَين السياسية والعقلية، فقد اختفت الملكيَّات القديمة التي تغنَّى بها هوميروس، وكثُرَت الغزوات والهجرات التي قلبَتْ أوضاع الحياة، وعلى أنقاض الملكية نشأت حكوماتٌ أرستقراطية وحكومات ديمقراطية. ومن حينٍ إلى حين نُظم استبدادية، وفي وسط تلك الحركات والانقلابات أُرهفَ الإحساس، ونمَتِ الشخصية، وتيقَّظ التفكير يبغي إخضاع الأشياء للعقل أو فَهم قوانينها، أو العبارة عن تأثيرها في النفوس.
هذا الانقلاب في الحياة العامة كانت له نتيجتان: الأولى ظهور الشخصية الفردية، والثانية نموُّ الحالة العقلية. وفي هاتَين النتيجتَين ما يُفسِّر انصراف الشعراء إلى الشعر الغنائي وتفضيلهم له على الشعر القصصي؛ فالشاعر الغنائي يضع نفسه في شعره، كما يصدُر فيه عن واقع الحياة التي يُدركها بحواسِّه، فتترُك في نفسه انفعالاتٍ شعورية، أو تُرسِّب بعقله أفكارًا.
شعر هزيود التعليمي إذن مرحلةٌ بين القصص والغناء. مرحلة عابرة؛ إذ سرعان ما غلَب الغناء وأصبح هو الفن الشعري السائد في بلاد الإغريق كافة.
لقد كان اليونان ينشدون الشعر القصصي بمصاحبة القيثارة، ولكنَّ الموسيقى لم تكن تُماشي الشاعر عندئذٍ مقطعًا مقطعًا، بل كانوا يكتَفُون من الموسيقى بخلْق الجو، وأما في الشعر الغنائي فقد استخدموا الموسيقى — وبخاصَّة في الأغاني الشخصية وفي الأناشيد الجماعية — استخدامًا أشمل وأعمق، فتعدَّدت الآلات وتعدَّدت النغمات، وأصبحت كل نغمة تُماشي مقطعًا في التفاعيل، ولقد فطِنوا إلى استخدام كل آلةٍ فيما يُلائمها من موضوعات، فتراهُم يستخدِمون النايَ حينًا والقيثارة حينًا آخَر كما قد تجتمِع الآلتان في أناشيد النصر، وكل ذلك دون أن تطغى الموسيقى على الشعر كما نرى اليوم في الأوبرا. وقد استطاع اليونان ذلك لبساطة موسيقاهم، فهي موسيقى قريبة من موسيقانا الشرقية.
ولقد أتي على الإغريق زمن كانوا يُنشدون فيه الشعر القصصي دون أيِّ مصاحبةٍ موسيقية. وأما الشعر الغنائي بمعناه الدقيق الذي سنراه فيما بعدُ فقد ظل يُنشد مع الموسيقى، وكان المُميز لأنواع الشعر الغنائي المختلفة هو أوزانها الشعرية أولًا ثم موضوعاتها بعد ذلك.
- (١) الشعر الإليجي والشعر الأيامبي elegy – iambic poetry.
- (٢) الشعر الغنائي بمعناه الدقيق. وهذا ينقسِم إلى قِسمَين:
- (أ) أغانٍ فردية song.
- (ب) أناشيد جماعية دينية وغير دينية hymns & odes.
- (أ)
وأساس هذا التقسيم يستنِد قبل كلِّ شيءٍ إلى الأوزان الشعرية، فكلمة إليجي وكلمة إيامبى عند اليونان لا تصدُق إلَّا على وزنَين مُعيَّنين: الوزن الإليجي وَحْدتُه ما نستطيع أن نُسميه بالمثنوي، والمثنوي الإليجي عبارة عن بيتَين: أحدُهما سداسي التفاعيل والآخر خماسي، وطبيعة التفاعيل فيه تقرُب من تفاعيل الشعر القصصي. وأما الأيامبى فوَحْدَتُه البيت الواحد المُكوَّن من ستِّ تفاعيل إيامبية، والأيامب عبارة عن مقطعٍ قصير وآخَر طويل.
وأما الرثاء، فلا نجده إلَّا عند أرخلوكوس، ثم عند الشاعرة سافو، وأخيرًا عند سيمونيدس الكِيُوسي أيام الحروب الميدية.
هذان النَّوعان من الشعر — أشعار الناي، وأشعار الهجاء — ليسا من الشعر الغنائي بالمعنى الدقيق، لأنَّ الموسيقى لم تصاحبهما دائمًا، وإنما صاحبتْهما في أوائل نشأتهما، ثُم استقلَّا عنها منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وأصبحا يُنشَدان مجرَّد إنشاد، ولهذا يُميِّز النقَّاد بينهما وبين الشعر الغنائي بمعناه الدقيق.
•••
ونحن إذا ما أخذنا نُفصِّل الحديث عن الشعر الغنائي عند اليونان، فجَأتْنا في أول الطريق خسارتان فادِحتان أصابَتا تاريخ الأدب، أما صُغراهما فهي أننا لا نجِد أحدًا، مهما بلغَتْ دراسته في اليونانية القديمة، يستطيع أن يقرأ الشعر اليوناني في صوتٍ إيقاعي على نحوٍ يُبيِّن تفاعيله ووقفاته بيانًا صحيحًا جميلًا، وأما كُبراهما فهي أنَّ مُعظم الشعراء الغنائيين من اليونان القُدَماء قد امَّحت آثارُهم، ولم يبقَ من تُراثهم إلَّا نُبَذٌ قليلة، وإنما عرفنا قيمة أشعارهم من تلاميذهم الفحول الذين اقتفَوا أثرهم وخلَّدوهم في شعرهم.
(٣-١) شعر الإليجي
وهاك مثالًا من شعرِه الذي وصَلَنا منه ما يقرُب من ١٤٠٠ بيت:
اختيار الأصدقاء
ومن شعره أيضًا:
لا تلُم فقيرًا على فقرِه
ومن شعره أيضًا:
الأموات لا يشعرون
(٣-٢) الشعر الأيامبي
ومن شعراء الهجاء سيمونيدس الأمورجي، وله هذه القصيدة الجميلة:
بضعي النساء
•••
•••
•••
•••
•••
(٣-٣) الأغاني الفردية
وأما أنَّ «سافو» كانت رائعة بارعة، فدليل ذلك أنها كانت في القرن السادس قبل الميلاد مُعترفًا لها بزعامة مدرسة للشعر في الزبوس، إحدى جزر اليونان ومهْد الأغاني فيما يذكُر القُدماء.
وإنَّ الأشعار القليلة التي بقِيَت لنا من نظمها لتنطق بعلوِّ كعبها، وبما كان لها من عاطفة حادة وإحساس شديد بنعيم الحب وجحيمه. وقد كانت «سافو» في أعيُن اليونان شاعرةً مجيدة وضعوها في صفِّ هوميروس، وسرعان ما أصبحتْ في أساطيرهم بطلةً تُحاك حولها الأنباء والأخبار. ولقد سُمِّي باسمها وزنٌ من أوزان الشعر ابتكرتْهُ أو وجدتْهُ هزيلًا فبلغت به حدَّ الكمال؛ وهذا الوزن «السَّافي» كان نموذجًا لكثيرٍ من شعراء اللاتين، وبخاصة هوراس.
ونحن نسوق لك مثالًا من شعر «ألكيوس» ثُم نتبعه بمثالٍ من شعر «سافو».
قال ألكيوس في أشعار من أغاني الشراب:
وهذا مثال من شعر سافو. قالت في امرأةٍ ستُنسى لأنها ليست فنَّانة:
صفيةٌ
المساء
والعجب أن مُقلديه ومُترجميه من المُحدثين إنما يقلدون ويترجمون تلك الأشعار المنحولة، أكثر ممَّا يرجعون إلى أشعاره الصحيحة.
والحق أن مجموعة من هذه القصائد المنحولة قد جُمعت في ديوان اسمه «أناكرونيات»، وهي من الجَمال والروعة بحيث تستحقُّ النسبة إلى هذا الشاعر العظيم.
وهاك مثالًا منها:
الشيخوخة
إنَّ القصائد الغنائية التي أنشدَها «أناكريون» و«سافو» وغيرهما، فيها من الطابع الشخصي شيء كثير؛ فهي تعبير عن عاطفة فردية، إذ تلمس فيها أنَّةَ الحزن وصرخة الألم، وتسمع فيها ضحِك السرور وإشفاق الأسف، وغير ذلك مما كان يحسُّه الشاعر في حياته الشخصية.
(٣-٤) الأناشيد الجماعية
وأما الأناشيد الجماعية فقد قرضَها قارضوها لتُغنيها مجموعة من الناس، وهي تُعبر عن عواطف جماعةٍ لا عاطفة فرد. ومن أمثال ذلك التراتيل الدينية وأناشيد المجد التي كانت تُغَنَّى للأبطال الظافرين.
أما «سيمونيدس» فقد أجاد في قصائد المدح يَتوجَّه بها إلى من أراد مدحَهُ من العظماء، وكانت طريقته أن يذكُر بطلًا من أبطال الماضي ليعرِضه على سبيل المقارنة بالعظيم الممدوح؛ ولذلك فقد حَفِظت لنا أشعاره كثيرًا من أساطير الأولين.
وهذه أمثلة من شعره:
موتى الإغريق في ترموبولي
الصعود إلى الفضيلة
قبر
وأما «باخليدس» فكان من شعراء الأناشيد تُغنَّى للظافرين. ومن أروع قصائده نشيد قالَه في تمجيد جواد كسَب السَّبْق في حلبة الألعاب الأولمبية. وقد كان الإغريق ينظرون إلى الرياضة البدنيَّة نظرةً فيها الروح الوطنية وفيها العبادة الدينية، ممَّا ليس لنا به عهد نحن المُحدَثين.
ولقد وصَلَنا من شعر بندار أربعةٌ وأربعون نشيدًا موزَّعة في أربع مجموعات حسب نوع الألعاب التي قِيلت فيها:
(المقطوعة الأولى: تُنشدها الجوقة وهي تتحرَّك من اليمين إلى اليسار):
«المال. المال. هو الرجل.» قالها عندما فَقَد أصدقاءه لَمَّا فقد ماله. وأما أنت فرَجُل حكيم. إني أُشيد بنصرٍ لا يجهله أحد، هو النصر الذي وهبَهُ «بوسيدون» لزينوقراط مكافأةً لعربته، ذات الخيول الأربعة، ليُتوَّج بإكليل الآس.
(المقطوعة الثانية: تنشدها الجوقة وهي تتحرَّك من اليسار إلى اليمين):
(المقطوعة الثالثة: تنشدها الجوقة وهي ساكنة):
هذا النشيد الصغير يُرينا مثلًا من أناشيد النصر عند اليونان، فالشاعر يتغنَّى بجمال تراسيبولس الشاب الذي أرسل إليه مدحَه لأبيه، وهو يُشيد بذلك الأب لانتصاره في الألعاب في سباق العربات، وهو يذكُر ما كان من نصرٍ سابق في كريسه وفي أثينا وفي أولمبيا، نصر أحرزه الممدوح أو غيره من أسرته، ثم يُمجد سائق العربة، وأخيرًا يتحدَّث الشاعر عن نفسه مُعلنًا اعتزازه بشعره. وليست كل أناشيد بندار في هذا الاختصار؛ إذ إن من بينها ما يبلغ خمسمائة بيت تقريبًا، أي ما يقرُب من أغنية من أغاني الإلياذة أو الأوذيسية. والشاعر يلتمس عندئذٍ مادة لشعره في الأساطير التي تدور حول أجداد البطل أو حول مدينته.
وشعر بندار يمتاز بقوة التركيز، وهو شعر غامض حارت في فهمِه العقول. انظُر مثلًا إلى جمعِه بين «رياح الكرم التي تهبُّ حول مائدة الممدوح» و«رحلات الممدوح إلى الشمال حتى فاسس، وإلى الجنوب حتى ضفاف النيل.» التماسًا لوجاهة الثراء، وكيف جمع الشاعر بين المَعنيين الحقيقي والمجازي، واصلًا بينهما بقوله «إنَّ رياح الكرم لا تمنع الممدوح من أن يُبحر طلبًا للمال من التجارة.» فهذا تركيز لا يخلو من غموض، ولكنه من مصادر عظمة ذلك الشاعر الذي يرى فيه النقَّاد أكبر شاعر غنائي.
•••
كانت أثينا طوال ذلك الزمن الذي عاش فيه من ذكرنا من الشعراء زعيمة اليونان العقلية، ولكن المدنية اليونانية لم تقتصِر على أثينا، بل ترامت إلى آسيا الصغرى وإلى صقلية وجنوبي إيطاليا، وازدهرت الفنون في كثيرٍ من هاتيك المدن والأقاليم، وإنه لَمِمَّا يدلُّ على تنافُسهم وتسابُقها أن ادَّعى سبعٌ منها بنوَّة هوميروس، كل منها يدَّعيه لنفسه. وقد ظهر من ذكرنا من شعراء في مدن مختلفة من البلاد اليونانية، ولكنهم كانوا يحجُّون إلى أثينا؛ هذا يذهب إليها في زيارة قصيرة، وذلك يقصد إليها لإقامة طويلة.
فلمَّا بسط الإسكندر الأكبر سُلطانه على العالم، فقدت المدن اليونانية قوَّتها وإن لم تفقد طابعها، فأخذ الأدب هنالك يضعُف وتنهار دعائمه، ولم يعد — على مرِّ الزمن — تعبيرًا طبيعيًّا عن خواطر الشعب تجري على ألسنة شعرائهم؛ لم يَعُد الأدب — تدريجًا — صوت الحياة، بل أصبح موضوعًا يُدْرس في كتب، وأصبح الأثر الفنِّي تقليدًا وصناعة يؤدِّيها الأديب بعقله لا بقلبه.
استمدَّ ثيوقريطس أغانيه من أناشيد الرُّعاة الذين كانوا يعيشون في صقلية فوق تِلالها الخضراء، وتحت سمائها الزرقاء، يمرحون ويترنَّمون. وعلى الرغم ممَّا خلعه ثيوقريطس على تلك الأناشيد الحلوة التي جرَتْ على ألسنة أصحابها مع السليقة والطبع، من صناعةٍ لفظية أبعدته عن جمال الطبع، فإن ما في قصائده من صِدق التعبير ودقة التصوير لِهؤلاء الرعاة السذَّج جعله شاعرًا مجيدًا.
وهذا مثال من الشعر المنسوب لثيوقريطس:
الصيَّادون
وقد أصبح الشعر الريفي بعد ثيوقريطس تقليدًا في كل اللغات الحديثة فالشاعر «فرجيل» في ديوانه «أناشيد الرعاة» تأثر خطو ثيوقريطس ثم أثَّر هو في الشعر الإنجليزي؛ فإليه يرجع الفضل في اصطناع الأدب الإنجليزي للشعر الريفي. ولئن كان كثير من الأدب الريفي في الآداب الأوروبية الحديثة كاذبَ العاطفة لبُعد ما بين قائليه وبين البيئة الريفية، فإنَّ كثيرًا من هذا الشعر الريفي قد بلغ الكمال لأنَّ قارِضِيه كانوا يسكنون الريف ويُحبُّونه فيَصدُرون عنه صدور الطبع لا عن تقليد وصناعة. وقد ظهر الشعر الريفي في الآداب الأوروبية الحديثة في أربعة ألوان:
… أُرْضِعا رحيقَ تلٍّ واحد
وأُطعِما سويًّا قطيعًا واحدًا، إلى جانب الينبوع والظِّلِّ والجدول.
قال ذلك ليُعبِّر عن أنهما كانا طالبين زميلين في الجامعة، وبعدُ فالأرجح أن هذا اللون من الشعر قد ذهب زمانه، ولن يعود إلى الأدب الحديث عظيمًا كما كان.
(٣-٥) الرواية المسرحية عند اليونان
وكان لهذا النصر الباهر أثرٌ عميق في شخصية إسخيلوس وفنِّه، فقد كتَبَ رواياته في عصرٍ يمُوج بذِكر البطولة والأبطال على أثَرِ هذا النصر العظيم، فصوَّر فيها مزيجًا من الإيمان الدِّيني والزهو بالوطن والجنس.
فأما أولاه. فرواية «برومتيوس حامل النار».
وأما الثالثة فهي «بروميتوس الطليق»، وقد ضاعت الأولى والثالثة، وبقِيَتْ لنا الوسطى التي نُلخِّصها فيما يلي:
ويَمقتني كلُّ مَن تناله قوَّته، وإنه على كل شيء قدير، وذنبي أني شديد الحُب للإنسان.
فما هي إلا أن تنصبَّ على الثائر ألوان العقاب، فيُرسِل الله نسرًا جارحًا ينهَشُ لحمه نهشًا، وهنا تنشقُّ الأرض وتغوص الصخرة التي شُدَّ إليها برومتيوس إلى أعماق الهاوية.
وقد روى المؤلف في الرواية الثالثة من ثالوثه المسرحي أنَّ برومتيوس وزيوس قد وصلا إلى اتِّفاق بينهما وانحسم الخلاف.
ولعلَّ الحِكمة التي قصد إليها الكاتب هي أنَّ الآلهة كانت في بداية الأمر تُريد أن تأخذ الإنسان بالقانون الصارم، لكنها بعد جذبٍ وشد، رأتْ أن تُخفِّف من حدَّة القانون الذي تفرِضه على الإنسان، فأصبح على نحوٍ ما يرى قانونًا مقبولًا معقولًا يجمع بين العدل والرحمة، والشدَّة واللِّين، والجبر والاختيار.
فتتعقَّبه الآلهة بالعقاب، ولكنها تعود — في رواية أخرى للكاتب — فتعفو عنه.
فكأنما أراد إسخيلوس أن يُقرِّر مذهبه وهو أن الخطيئة لا بدَّ أن تلقى جزاءها قبل العفو عنها.
وأعظم تجديد جدَّده إسخيلوس في الرواية المسرحية أنه أدخل أكثر من مُمثل واحد على المسرح في وقتٍ واحد، لأنه بذلك هيَّأ الظروف للمحاورة التي هي ركنٌ أساسي في المسرحية.
ولسنا ندرى — على وجه التحقيق — كيف كان بناء المسرح عند اليونان في عهد ازدهار الرواية المسرحية، ولا كيف كان مُمثِّلوهم يُمارسون صناعتهم المسرحية، إذ لم يَبْقَ لنا أثر لمسرح بُنيَ في القرن الخامس قبل الميلاد نستشهِد بمَعالِمه، فمسرح ديونيسوس الذي كشف عنه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بسفح الأكروبول بأثينا لم يتمَّ بناؤه إلا في القرن الرابع ق.م.
ولكنَّا نُرجِّح أنهم بلغوا في ذلك من الدقة مَبلغًا عظيمًا، وإلا فكيف استطاعت الجوقة في رواية إسخيلوس؛ «برومتيوس المُصفَّد» أن تُمثل عرائس البحر سابحة في الهواء، وتظلُّ سابحة حتى يأمُرَها «برومتيوس» بالهبوط؟
وقد يكون تمثيلهم للمناظر على غير ما نفهمه في عصرنا الحديث، لأنَّنا إن قرأنا الرواية اليوم وجدناها أقرب إلى أن تكون قصةً تُروَى مصحوبةً بغناء الجوقة منها إلى أن تكون عملًا ومحاورة بين المُمثلين يراه النظَّارة ويسمعونه كما يحدُث اليوم. ومهما يكن من أمر، فقد كان لا يظهر على المسرح إلا مُمثِّلان يتبادلان حوارًا، يتبعه ويفسره غناء تُنشده الجوقة التي كان الغرض منها أن تعْلَمَ من مشيئة الآلهة وتدبير القدر ما لا يعلَمُه البطل في تخبُّطه ومِحنته.
•••
وثاني شعراء المأساة النوابغ عند اليونان هو «سوفوكليس» الذي يصغُر جيلًا عن «إسخيلوس». وقد كانت عادة الشعراء أن يتنافسوا من أجل جوائز مُعينة تُعطى للفائزين، وتنافس سوفوكليس وإسخيلوس في إحدى هذه المُساجلات، فظفر بالجائزة سوفوكليس.
ومنذ ذلك الحين أخذ نجاحُه يطَّرد اطِّرادًا موصولًا لا ينقطع، حتى وافته مَنيَّته حول سنة ٤٠٠ق.م. وكانت سنُّه إذ ذاك تِسعين عامًا.
كتب «سوفوكليس» أكثر من مائة رواية، بقِيَ منها سبع، وهي تدور حول الأساطير ومسائل الدين كروايات إسخيلوس، فلم يكن كُتَّاب الرواية المسرحية من اليونان — وهم في هذا مثل شيكسبير وبعض الشعراء المُحدَثين — يزعُمون لأنفسهم ابتكارًا في الموضوع، بل كان موضع التنافُس والفخر كيف يُعالَجُ موضوع معروف في قالَب الرواية.
ولعلَّ قصة أوديب الذي قتل أباه وتزوَّج من أمِّه عن غير عِلم، أن تكون من أروع وأبشَعِ ما يراه الإنسان مُمثلًا على المسرح، ولا بدَّ أن يكون أثرُها أشدَّ وقعًا في نفوس اليونان منه في نفوسِنا، لأنهم كانوا يعرفون القصة، فينظُر المتفرِّجون في إشفاقٍ إلى أوديب على المسرح يعمل غير عالِمٍ بما يُخبئه له القدَر من أحداثٍ جسام.
إنَّ ما كسبته المسرحية على يدي سوفوكليس، هو أنه حدَّ بعض الشيء من سلطان الآلهة على سلوك البَشَر؛ فقد كان ما يقضي به الآلهة عند إسخيلوس، هو ما يرسم للإنسان سلوكه. أما سوفوكليس، فقد جعل الإنسان مُسيَّرًا بقدرٍ هو نتيجة أعمال الإنسان نفسه إلى حدٍّ كبير.
وللمُصادفة عنده قِسطٌ موفور في تحديد تلك الأعمال، فالإنسان عند سوفوكليس كائن مجيد نبيل، فترى أشخاصَه يُجاهدون ويرسُمون لأنفسهم الخطط، وهم إذا جابهوا الكوارث، فإنما يُجابهونها كما يُواجِهُ السَّبَّاح الماهر مَوج البحر الهائج: يُصارعه ويُكافحه ما استطاع إلى الكفاح سبيلًا.
«أما أنا، فلا بدَّ أن أواري أخي، فإذا أدَّيتُ هذا الواجب، فما أجملَ بي أن أموت، ولئن متُّ فإنما أنا صديقة لَحِقَت بصديقها، سأؤدِّي واجبًا عدلًا ملؤه التقوى، لأن الوقت الذي سأُقيم فيه بين الموتى أطول من الوقت الذي سأُقيم فيه بين الأحياء.»
فقَبَض عليها أولو الأمر لعِصيانها، وجيء بها بين يدي كريون، فلم تُحاول إخفاء ما فعلت، بل أعلنتْ أمام الملك أنها كانت عالمةً بأمره، مُقدِّرة ما يترتَّب على عصيانها من نتائج:
وبعدَ حوارٍ طويل بين الملك وأنتيجونا، يقضي الملك أن تُدفَن الفتاة حيَّةً في غارٍ صخري.
- تريسياس: «إذًا فاعلم أنك لن ترى الشمس تطلُع مرَّات دون أن تُصابَ بموت كائنٍ أنت أبوه، دِيةً لمَوتِ آخر، لأنك ألقيتَ في بطن الأرض كائنًا كان يعيش على ظهرِها، ولأنك أخزَيت نفسك؛ حبَستَ حيًّا في القبر، وخلَّيت جثةً بالعراء، بعيدًا عن آلهة الموتى، في غير ما ينبغي لها من الشرَف والمأْوى.»
كان يوربيدس يميل إلى العُزلة، لأنه كان في نغمة عصره نشازًا لا ينسجِم مع ميول العامَّة من الناس، زاعمًا أنه يُؤثِر حياة الريف الساذجة على حياة المدينة المُتحضِّرة. وقد كان في فنِّه مُجدِّدًا، فكان تجديده ذاك وخروجه على التقليد المألوف موضع السخرية من شيخ الساخرين «أرستوفانس» الذي كان زعيمًا للرجعية وإمامًا، فقد كرِهَ كل جديد وسخِر منه، لكن يوربيدس كان مُرَّ النفس، ضيِّقَ الصدر، يكرَه أن يكون أضحوكةَ الضاحكين:
ولكن إنْ جاء شاعرنا نشازًا في نغمة عصره، فقد كان مُتَّسقًا، مع ذلك العصر من بعض الوجوه؛ ذلك أنه شاطر زمانه ما سادَهُ من شكٍّ في الآلهة والعقائد، وكان شكُّه قائمًا على أساس خُلقي، فقد رأى في الأساطير القديمة ما ينافي الأخلاق، لأنه إن كانت تلك الأساطير صادقة فيا ترويه عن الآلهة، فليست الآلهة — إذن — جديرة بالعبادة والتقدير، وإن كانت الأساطير كاذبةً فقد انهدَمَ بناء الديانة الإغريقية القديمة من أساسِه، فإذا اتَّهمَه أرستوفانس بعد ذلك بالإلحاد، فلم يتَّهِمْه زورًا وباطلًا؛ لكنَّ يوربيدس يُصرُّ على أنَّ الشكَّ في الله أو الآلهة لا يَعني فساد الأخلاق عند الشَّاك، ولا تعجَبْ من مثل هذا الرأي يصدُر عن شاعرٍ يوناني؛ فالفضيلة عند اليوناني العريق تجتذِب النفس بجمالها لا بثوابها.
وخير مَسرحياته هي «ميديا» التي كتبها في صدر شبابه حين اضطرمَتْ في صدره جَذْوَةُ الشك، والتهبت نفسُه حُبًّا في الحقيقة الخالِصة.
وتبدأ الرواية إذ يكون «جيسُنْ» قد ضجرتْ نفسه من رفيقته الساحرة «ميديا»، فتزوَّج من الابنة الوحيدة لملك كورنثة، وتمضي السنون ويبلُغ جيسُنْ سنَّ الرجولة المُكتملة، فيملُّ شواغلَ الحبِّ ودواعيه، ويلمَح فيها سخفًا لا تحتمِله النفس، فيصدُف عنه ليُقْبل على شئون حياته بكلِّ ما وَسِعه من عناية وجهد، وعندئذٍ تكون «ميديا» قد أدركت سنَّ النساء وتَمتلئ مقتًا وبُغضًا؛ ويأمر ملك كورنثة بهذه الساحرة أن يَطوَّح بها في المنفي بعيدًا عن أرض الوطن ليخلو لابنته الجوُّ فلا تتهدَّدها «ميديا» ولا تُناصِبها العداء، لكنه يسمح لميديا بيومٍ واحد تقضيه في المدينة قبل نفيِها. وها هنا نشهد لقاءً مُرًّا بينها وبين «جيسن» تكيل له اللوم والتأنيب كيْلًا لما أبداه نحوَها من نكران للجميل.
فيغضب جيسُن ويثور في نفسه السُّخطُ كما يصنع الرجال إذا سلقتْهم ألسنةُ النساء الحِداد:
لكنَّ ميديا لم تكُن المرأة التي تعفو وتغفِر، فأخذت تُدبِّر كيدَها لتصبَّ على أعدائها النقمة والانتقام؛ فَضَرَّتُها مصيرها الموتُ المَحتوم، ولكن لا يَكفيها أن يَعْدَمَ جيسُن الزوجةَ ويبقى له البنون. فَلْتُدَبِّر لقتْل هؤلاء الأسباب حتى ينال ذلك من أبيهم، ولكنهم أبناؤه منها، فهل تفتِكُ بفَلذاتِ كبدِها انتقامًا من غدر حبيبها؛ ولم لا تفعل، فهل للثأر عينٌ تُبصِر؟
وحينما تلتقي «ميديا» بجيسُن مرة أخرى تتظاهر بالإذعان لما أراد لها القضاء من تعذيب، وتقع عيناها على أبنائها فتنفجِر باكية، وتعود لها العاطفة الإنسانية أمدًا قصيرًا:
لكن هذه العاطفة الحنون سرعان ما تمضي، ويبلُغها نبأ موت ابنة الملك فتأخُذُها نشوة السرور، وتُصمِّم أن تُورِد أبناءها موارد الحتوف، وتستحثُّ نفسها لتقترِف ذلك الإثم الفظيع، ثُم يتمُّ لها ما دبَّرت. وكان جيسُنْ قد أُنبئ بما اعتزمتْهُ ميديا من قتل بَنيها وبنيه، فطار برأسِه الجنون، واندفع يُنقِذ الأبناء الأبرياء من تلك المرأة المُجرِمة الغشوم. وها هو ذا عند دارها يَدُقُّ الباب دَقًّا حتى ليكاد يَدُكُّ البناء دكًا، ولكن ماذا تُجدي لهفتُه؟ لقد سبق السيف العزل ونفذ القضاء المحتوم في الأبناء.
وتبدو ميديا في عربةٍ تجرُّها وحوش مُجَنَّحَة وعلى سطحها رُصَّتْ جُثَث أطفالها، فلما أبصرت جيسُنْ نظرت إليه مُحنَقة وتنبَّأت له بأفدح الخطوب.
أما أنت فانظُر! إنَّ الموت يدنو ليُطبق عليك.
وحِكْمَةُ الرواية أنَّ فعل الشرِّ يتبَعُه العذاب، فقد غدَر جيسُن بميديا وأنكر عليها ما صنعتْ له من جميلٍ فأُصيب بالكوارث تترى. وإنَّ ميديا لتعترِف أنها ضحية لقسوة قلبها. وقد يبدو للقارئ أو الرائي أنَّ العقاب كان أفظع من الإثم، ولكن هكذا الحياة التي حرص يوربيدس على تصويرها.
فإنَّ يوربيدس يعتقد عقيدةً جازمة بأنَّ العقاب لا مندوحةَ عنه للقصاص من الخطيئة.
فالإثم دَيْن على الآثِم ولا بدَّ من الحساب ليتمَّ للدَّيْن الوفاء، ولا عِبرة بعد ذلك إن جاء العقاب أخفَّ من الجُرم أو أشدَّ وأقسى.
ذلك هو يوربيدس الذي مجَّد فيه أرسطو العبقرية والنبوغ. ولما جاءته مَنيَّتُه لبس عليه سوفوكليس ثوب الحداد، كما حزن لفقدِه أهل المدينة جميعًا.
وبموته انتهى عصر المأساة (أو التراجيدي) الذهبي عند اليونان.
(٣-٦) الكوميديا (الملهاة)
فأعياد العصير إذن هي الأصل الشعبي للكوميديا الإغريقية، كما أنَّ أعياد العنب كانت الأصل الشعبي للتراجيديا، فكِلا الفنَّين قد نشأ من عبادة باكوس. التراجيديا بعد الجَنْي، حول شهري نوفمبر وديسمبر عندما يأخُذ العنب في الجفاف فيبكُون إلهه، والكوميديا عندما يبيعون العصير فيعبَثون ويمرَحون. وإلى جانب هذين العيدَين نشأت أعياد كبيرة في آثينا كانت تُقام في شهر مارس، وكثيرًا ما كان يجتمع فيها الفنَّانِ؛ التراجيديا والكوميديا. وقد بلغت من الشُّهرة في بلاد اليونان كافة مَبلغًا عظيمًا حتى إنَّ الكثيرين من الإغريق كانوا يأتون من كافة المدن لحضورها.
كانت الكوميديا إذن تُمثَّل في أعياد العصير، ولقد أصبحت فنًّا أدبيًّا بأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان ظهورها في هذا المظهر مُتأخرًا عن التراجيديا بنحو ثلاثين أو أربعين سنة؛ إذ إن الثابت تاريخيًّا هو أن الدولة لم تُنظِّم مسابقات الكوميديا إلا قبل سنة ٤٥٨ق.م. بقليل.
وها هي فقرة يصِف فيها شاعرنا «الرجل الطُّفيلي»:
«أتناول العشاء مع أي إنسانٍ يُريدني. يكفي أن يدعوني أحد، بل وأتناوله مع من لا يُريدني، فلا داعي للدعوة. وأنا على المائدة حاضر النُّكتة أُضحِك الجميع وأمدح مُقدِّم العشاء، وإذا سوَّلت لأحدٍ نفسه أن يُعارضه في شيءٍ وقفتُ ضدَّ هذا المُعارض، وأخذتُ قتاله على عاتقي، حتى إذا أكلتُ وشربتُ ملء بطني انصرفتُ والمصباح بيدي لا يَصحبني عبد. أسير وحيدًا وسط الظلام وأتعثَّر أحيانًا، فإنْ قابلتُ الحرَّاس مصادفة حمدت الله إذا لم يقتلوني واكتفَوا بأن يُطوِّقوني بعصيهم. وعندما أصل في النهاية إلى منزلي وقد نضح جلدي أضطجع على الأرض الصَّلدة، ولكنَّني لا أستطيع أن أنام قبل أن يُحدِث النبيذُ النقيُّ أثره الطيِّب بوعيي.»
ولا شكَّ أنَّ مثل هذا الوصف يدلُّ على نزعةٍ واقعية تعتمد على الملاحظة المباشرة.
ولعلَّ الكوميديا قد ازدهرت في صقلية قبل أن تزدهر في أثينا لوجود نوع من الأدب الشعبي عُرف بتلك الجزيرة يُشبه الكوميديا، ونَعني به ما يُسمَّى «حِوَار المحاكاة» وهو عبارة عن حوار واقعي بين فردين من أفراد الشعب: بين امرأتَين أو بين رجُلين يتبادلان فيه حديثًا عاديًّا كالذي نسمَعُه كلَّ يوم في الأزقَّة والحارات. ولقد وصلتْنا أسماء كتَّاب صقليين برعوا في ذلك الفن خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ولقد قلَّدهم فيما بعد شعراء الإسكندرية وعلى رأسهم ثيوقريطس نفسه. وقيمة هذا الفن إنما تأتيه من بساطته ورصدِه للحياة وتُخيُّره للتفاصيل الدالة على النفوس وما يَشغلها من توافِهَ. وهو بذلك يُعالِج عقلية السواد الأعظم من الشعب كما يعالج الحياة في مظاهرها البدائية الشائعة؛ لهذا كان يُكتَب في أول الأمر نثرًا ليكون أقرب إلى الواقع.
ويُلاحظ أنَّ سكان صقلية كانوا مَيَّالين بطبعهم إلى السخرية والمرح والمحاكاة وكثرة الحركات المُعبرة. لقد كانوا يُحاكون كلَّ أمر جِدِّي ليُحيلوه إلى سخرية، حتى ولو كان ذلك الأمر من الأساطير الدينية. وكانت لهم فيما يظهر مقدرة واضحة على الملاحظة والنقد، وكل هذه خصائص الكوميديا.
نشأت إذن الكوميديا بصقلية فنًّا أدبيًّا قبل أن تنشأ بأثينا، وكان فيما أحدثه إبيكارموس من تجديد أن جعل للكوميديا موضوعًا كما كان لحوار المحاكاة الذي تَحدَّثنا عنه أثرٌ كبير في الوصول إلى مرتبة النضوج، ومع ذلك فلا شكَّ أنها قد تأثَّرت أيضًا بالتراجيديا الأثينية من حيث الموضوع والشخصيَّات والتمثيل. وأيًّا ما كان فالكوميديا في جُملتها فنٌّ أثيني وإن كانت الدولة الآثينية قد تردَّدت طويلًا في تنظيمها وإدخالها في الأعياد الرسمية. ولعلَّها كانت تخشاها لِما فيها من نقدٍ لاذع لرجال الحُكم. ولقد حدث بالفعل أن قيَّدت الدولة من حُرية شعراء الكوميديا، ولكن تلك القيود لم تدُم طويلًا، ولم يلبَثْ هؤلاء الشعراء أن تمتَّعوا بحُرية كاملة وإن لم يُفلتوا دائمًا من المُحاكمة أمام القضاء.
وللكوميديا بأثينا تاريخ طويل تطوَّرت في خلاله وتغيَّرت رُوحها وموضوعاتها. ولقد كانت الكوميديا والفلسفة المظهرَين الوحيدين للنشاط العقلي بأثينا بعد سقوط تلك المدينة العظيمة في يدِ المقدونيين، في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد؛ إذ ذوت عندئذٍ كل فنون الأدب والتفكير فلا ملاحِم ولا غِناء ولا تراجيديا ولا خطابة ولا تاريخ، فلمْ يبقَ كما قُلنا غير الفلسفة ثم الكوميديا.
وإذن فاستمرار الكوميديا حيَّةً مُزدهرة بأثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، ثم خلال القرن الرابع — رغم انحطاط الفنون الأدبية الأخرى بل وانقراضها — قد أدَّى بذلك الفنِّ إلى التطوُّر؛ ولهذا نرى مؤرِّخي الأدب اليوناني يقسِّمون الكوميديا الأثينية إلى ثلاثة أقسام: (١) الكوميديا القديمة. (٢) الكوميديا المتوسِّطة. (٣) الكوميديا الحديثة.
(٣-٧) الكوميديا القديمة
هذه هي كوميديا القرن الخامس حتى سنة ٤٠٠ق.م. وتمتاز هذه الكوميديا بأنها كانت سياسية أو شخصية؛ فهي تتَّخِذ صِيغة الحوار وتعتمِد على قصة لا لتصوِّرَ شخصياتٍ ولا لتُحلِّل حالاتٍ نفسية، ولكن لتنقُد نظامًا قائمًا، ولتسخَر من حالةٍ اجتماعية بذاتها، أو لتخرج شخصية من الشخصيات البارزة: لقد كانت أشبَهَ ما تكون ﺑ «الهجاء التمثيلي» وروحها روح هزلٍ صُراح؛ هزل لا يتحرَّج من أقبح الألفاظ، فهي مُسرفة في الواقعية، ومع ذلك فقد استطاع أكبر مُمثِّل لتلك الكوميديا وهو أرستوفان أن يُعبِّر بذلك الهزل عن كثيرٍ من الحقائق، بل وأنْ يجمع إلى الهزل أرقَّ الشعر؛ فلقد ترى جوقات كوميدياته تتكوَّن من السُّحب أو الضفادع أو الزنابير، ومع ذلك تسمع تلك الجوقات تتغنَّى بأجمل الغناء. وهكذا يأتي الشعر مُصاحبًا لهزل الشخصيات الروائية فتُدهَش لمقدرة ذلك الشاعر العظيم على العبور من الشِّعر الرقيق إلى العبَث المُسفِّ في هذا اليُسر وتلك القوَّة. ولعلَّ أغاني الجوقات في كوميديا أرستوفان هي التي أوحتْ إلى ناقدٍ لاتيني كبيرٍ قولَه عن الكوميديا القديمة: «لقد كانت الكوميديا القديمة الفنَّ الأدبيَّ الوحيد الذي احتفظ بنقاء اللغة الأتيكية ورشاقتها الأصيلة؛ فهي فصيحة فصاحة صريحة رائعة في نقدِها للرذائل، مليئة بالقوة في الوصول إلى ما تريد. لقد امتازت بالعظمة والرشاقة والسِّحر، وفي ذلك تركَّزت خصائصها.» فهذا الحكم يصدُق على الأجزاء الغنائية وعلى بعض الحوار، ولكنه لا يصِف تلك الكوميديا وصفًا شاملًا إذ نجد فيها إلى جانب الرشاقة والعظمة القُبح والإسفاف في اللفظ.
أكبر مُمثِّل لتلك الكوميديا — كما قُلنا — هو أرستوفان المولود حوالي سنة ٤٥٠ق.م. وُلِد هذا الشاعر الموهوب لأبوَين أثينيَّين من أصلٍ حُر، وكان لوالديه إقطاع صغير بجزيرة «إيجينا» يستغلَّانه فيقوم بأوْدِهما. وقد عاش الشاعر مُنقطعًا لفنِّه فكل ما نعرفه عنه إنما يتصل بذلك الفن، ومن كوميدياته نفسها استقى المؤرخون معلوماتهم عنه، وذلك لوجود عنصر في الكوميديا القديمة هو «الاستطراد» وفيه يتحدَّث الشاعر دائمًا عن نفسه وعن روايته وعما يريد أن يُدلل عليه. ولقد كان أرستوفان مُبكِّر النضوج، فمنذ سنة ٤٢٧ق.م. أخذ يقدِّم للمسرح كوميدياته وكانت أولاها بعنوان «ضيوف هرقل» وهي مفقودة، ولكننا نعلَم أنَّ الشاعر قد هاجم فيها الاتجاه الذي أخذ يسود إذ ذاك تربية الشبَّان وتوجيههم نحو النقد الفلسفي للتقاليد القديمة؛ دينيةً كانت أو اجتماعية. وفي السنة التالية ٤٢٦ق.م. قدَّم «البابليون» ونال بها الجائزة الثانية، وهذه الرواية أيضًا مفقودة، ولكنَّا نعلَم أنه قد هاجم فيها الزعماء الشعبيين وبخاصَّةٍ كليون. ولقد قُدِّم للمُحاكمة من أجل تلك الرواية، ولم يستطِع أن يُفلِت من العقاب إلا بعدَ مشقَّة كبيرة، ولكنه خرج من المُحاكمة أشدَّ إقدامًا وأحمى قلمًا، وقدَّم في سنة ٤٢٥ق.م. رواية جديدة في «الأكارنيون» وهي أقدم رواية وصلتْ إلينا من رواياته. ولقد نال بها الجائزة الأولى، وفي تلك الرواية يعرِض الشاعر قصَّة فلَّاح أتيكي ملَّ الحرب (حرب البلبونيزيا التي كانت قائمة وقتئذٍ بين أثينا وإسبرطة) التي أكرهته على التخلِّي عن حقله والالتجاء إلى المدينة، ومن ثَم فهو يريد السلام ولكنه يريده وحدَه، ولهذا نراه يعقِد — وحدَه وباسمه الخاص — الهُدنة مع الأعداء. ويصِل الخبر إلى المُحامين وهم الذين يكوِّنون الجوقة فيُسرعون إلى الرجل ليقتلوه كخائن، ولكن فلَّاحَنا ينجح في أن يُقنعهم بمزايا السِّلم، وبأنه كان على حقٍّ فيما فعل. ونراه عندئذٍ ينعم بكل خيرات السِّلم فيشتري ويبيع ويُولِم ويمزَح، بينما الآخرون يتضوَّرون جوعًا ويَصْلَون ويلات الحرب. وفي سنة ٤٢٤ق.م. قدَّم رواية «الفرسان» وفيها أعنف هجوم على «كليون» خصمِه اللدود، مع أنَّ هذا الزعيم الشعبي كان عندئذٍ في أوْج المجد بفضل انتصاراته الحربية. وفي سنة ٤٢٣ق.م. قدَّم رواية «السحب» وهي من أشهر رواياته، وفيها يعود إلى نقد التربية الفلسفية. وقد اختلطت الفلسفة عنده بالسفسطة. ومن غريب الأمر أنه عدَّ سقراط كبير السوفسطائية. وقصة الرواية تتلخَّص في أن فلَّاحًا بسيطًا نشيطًا مُقتصدًا له ولدٌ مُسرف ما فتئ يُبدِّد أموال أبيه حتى أثقلت الرجل الديون وعجز عن دفعها، فأراد أن يتعلَّم البلاغة مُعتقدًا أنها الفن الذي يُمكِّنه من العبَث بدائنيه والإفلات من القُضاة. وقد بلغه أنَّ مُعلم هذا الفن هو سقراط الذي يُمثله الشاعر محتالًا كبيرًا. وذهب الفلاح إلى سقراط ولكنه كان أصلد عقلًا من أن يعي دروس الأستاذ، ولذلك أرسل ابنه بدلًا منه، وتعلَّم الابن فنَّ البلاغة وحذَقَه، ولكنه بدل أن يستخدمه مع القضاة والدائنين استخدَمَه مع أبيه يضرِبُه ويعبَثُ به ويُقنعه بأنه هو المُخطئ، وهذه هي مزايا التربية الجديدة التي تستطيع أن تجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا. وهاج الأب الفلَّاح وغلى دمُه فأخذ نارًا واتَّجه إلى بيت سقراط وأشعلها فيه. والسُّحب في الرواية هي التي تُكوِّن الجوقة، وهي تُمثل الأبخرة التي يعبدها الفلاسفة. وبرغم قوة هذه الرواية لم يَنلِ الشاعر بها غير المرتبة الثالثة، ولكنه مع ذلك قد أصاب نجاحًا واضحًا؛ إذ كانت روايته من الأسباب التي مهَّدت الرأي العام لقَبول الحُكم على سقراط بالموت بعد ذلك بخمسٍ وعشرين عامًا. ونحن اليوم لا نملك أنفسنا من الدهشة عندما نرى شاعرًا كبيرًا كأرستوفان يُمثِّل أبا الفلاسفة في هذه الصورة الظالمة، وإنه لمِمَّا يسُوء أن يتحمَّل الشاعر نصيبًا في مأساة تلك الرُّوح النبيلة الخالدة رُوح سقراط، وفي سنة ٤٢٢ قدَّم الشاعر رواية «الزنابير» وموضوعها أنَّ رجلًا مُسنًّا تطنُّ من حوله الزنابير الذين يُمثلون رجال المحاكم ولكنَّ ابنه يأخذ في علاج داء أبيه، ومحاولات الابن في هذا السبيل هي التي تكوِّن الجزء الأساسي من الرواية، ولقد شُفي الرجل من دائه فتخلَّص من هموم المحاكم والدعاوى وراق له العيش، ومن هذه الرواية استوحى الشاعر الفرنسي راسين روايته الشهيرة «المُتقاضون» وهكذا. ولكن ابتداءً من سنة ٤١٤ق.م. تتتابَعُ رواياته التي تُمثِّل مرحلةً ثانية في فنِّ الشاعر؛ إذ أصبح أقلَّ عنفًا وأكثر بُعدًا عن الهجاء الشخصي، ففي تلك السنة قدَّم رواية «العصافير» وموضوعها أن رَجُلين أثينيَّين قد سَئما مُعاناة العمل من الصباح إلى المساء فهجَرا البشر ليعيشا مع الطير. وقد اتَّفَق مِزاجهما ومزاج الطير، واستطاعا حمْل الطير على بناء مدينةٍ جديدة مُعلَّقة بين السماء والأرض. وعندما يُحاول الدسَّاسون من رجال الأرض أن يشقُّوا سبيلهم إلى تلك المدينة يُحال بينهم وبين ذلك بالضرب بالعِصى. وأما الآلهة فعبثًا تُحاول السيطرة على تلك المدينة، وأخيرًا يعقدون صلحًا مع أولئك الآلهة ويقبل «زيوس» أن يتخلَّى عن السيطرة لأحد الرَّجُلين.
والظاهر أنَّ الشاعر قد قصد بهذه الرواية إلى المرَح أكثر ممَّا قصد إلى درسٍ أخلاقي بعَينه، وكل ما نستطيع استخلاصه منها هو مهاجمته للدسَّاسين والمُحتالين.
ويختتم الشاعر هذه الدَّورة برواية الضفادع وهي من أهم روايات أرستوفان، وفيها وصفٌ كامل لفنِّ يوربيد الذي كان قد مات فأخذ ديونيسوس القلق إذ لم يعُد للتراجيديا من يُمثِّلها فصمَّم على الذهاب إلى العالَم الآخر ليعود بأحد شعراء التراجيديا، ولكن بمن يعود؟ هنا مَوضع الحيرة فالإله يتردَّد بين أسكيلوس ويوربيد وأخيرًا يُقرِّر تنظيم مسابقة بين الشاعرين اللذين يأخُذان في مهاجمة أحدهما الآخر. وبذلك ينقُد كل منهما شِعر صاحبه نقدًا دقيقًا مُفصَّلًا من الناحيتَين الأخلاقية والشعرية، وينتهي الأمر بأن يظهر يوربيد في مظهر السوفسطائي الذي أفسد التراجيديا وحطَّ من المُثُل العُليا وأنزل الاضطراب بالنفوس وساق إلى انحلال الأخلاق، وبذلك يُفضِّل ديونيسوس أسكيلوس ويعود به إلى الأرض.
(٣-٨) الكوميديا المتوسِّطة والكوميديا الحديثة
لقد رأينا في الكوميديا القديمة آثار التطوُّر فروايات أرستوفان التي كتبها بين ٤٢٦ و٤٢١ تُغاير تلك التي كتبها بين ٤١١ و٤٠٤؛ إذ خفَّت حدَّة الشاعر وهدأت مُهاجمته للأشخاص نوعًا ما، وأخيرًا جاءت روايتاه الأخيرتان «مجمع النساء» و«بلوتس» من منحًى جديد، فهو لا يُعالج فيهما نظمًا قائمة بل يتصوَّر مجرد فروض كفرْض الاشتراكية وفرْض الثراء العام، ويبحث ما ينتُج عن ذلك من مشاكل، وهذه هي خصائص الكوميديا المتوسِّطة التي يَعتبِر العلماء روايتَي أرستوفان بدءًا لها.
ولو أنَّنا أضفْنا إلى ذلك اختلاقًا فنيًّا في بناء الكوميديا المتوسطة — هو خلوُّها من الجوقة ومن الاستطراد — لكَمُل لنا تعريف الكوميديا المتوسطة، فهي رواية تُعالج مسائل فرضية يتصوَّر الشاعر حدوثها ثُم يُعالج نتائجها كمشاكل الغِنى والفقر والتطفُّل والغرور. وهي قد تَستخدِم لذلك الأساطير ترمُز بها لما تريد كما قد تُتصوَّر بالخيال المواقف والأوضاع.
تطوَّرت الكوميديا إذن من معالجة المسائل الواقعية إلى معالجة الفروض، وبذلك انتقلنا من الكوميديا القديمة إلى الكوميديا المتوسطة، ولكن التطور لم يقف عند هذا الحد، فلم تلبث الكوميديا المتوسطة أن أسلمت مكانها للكوميديا الحديثة وهي الكوميديا الأخلاقية النفسية التي تصِف الحياة كما هي، وتصوِّر الحالات الأخلاقية.
وإن كان هناك فرق في معالجة ما يُسمَّى بالكوميديا المتوسطة وما يُسمَّى بالكوميديا الحديثة لتلك الموضوعات فإنه يقوم كذلك في جودة العلاج فالكوميديا الحديثة هي التي وصلت بتلك الشخصيات إلى حدِّ الصور الأخلاقية، وإن لم تصِل إلى مستوى كاتب كبير كموليير في القرن السابع عشر، وذلك لأن هذا الشاعر الفرنسي الكبير لم يصور شخصياتٍ واقعية فحسب، بل صوَّر شخصيات نموذجية؛ صوَّر البخيل والمنافق وكارِه البشر … إلخ، على نحوٍ يجعل الرجل البخيل يتعرَّف صفاته المُستترة في نفسه على ضوء الصورة التي رسمَها موليير «هار يجون» مثلًا. وهذه مرحلة لم يصل إليها الإغريق قط. لقد صوَّر الإغريق الواقع ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الواقع النفسي الدفين ولا أن يحسِموا خفايا القلوب.
ثُمَّ إنَّ الكوميديا الحديثة قد استغلَّت موضوعًا لا نجد له أثرًا في الكوميديا القديمة، وهو موضوع الحُب. شابٌّ يُحب شابة يجهل كل شيءٍ عنها، وتقوم عدَّة صعوبات في سبيله، كأصل الفتاة أو فقرِها أو إرادة أبيها، ولكنَّ الفتى يستخدِم عبدًا ماكرًا في تذليل الصعوبات، ويتناوب الشابُّ النجاح والإخفاق، والأمل واليأس، وأخيرًا يكتشف أن الفتاة من أصل حُرٍّ أو أنها قد ورِثَت، أو يغير الأب رأيَه لسببٍ من الأسباب وينتهي الأمر بالزَّواج. وفي مثل هذه الموضوعات نرى الروح الأبيقورية التي كانت منتشرة عندئذٍ تغزو المسرح، وهي واضحة لا في الناحية الخُلقية أو العقلية فحسْب بل وفي الناحية الفنية، ناحية الحبكة المسرحية؛ فكثير من الروايات تنتهي بفضل المُصادفة البحتة كتعرُّف شخصٍ حقيقة آخَر أو حدوث أمرٍ غير متوقَّع، والأبيقوريون — كما نعلم — قد قالوا بالمُصادفة نتيجة لإنكارهم وجود إلهٍ يحكُم سَير العالَم. ومع ذلك فلا يجوز أن نتوهَّم أن المسرح قد أخذ يُطبِّق الأبيقورية كمذهبٍ شامل.
لقد كانت للكوميديا القديمة مُثُلها العُليا: الشرَف في السياسة والبساطة في الخلق؛ فنقدُها إذن كان نقدًا سليمًا قويًّا. وأما الكوميديا الحديثة فأصبحت لا تهتمُّ بالنقد قدْرَ اهتمامها بإثارة الضحك، بفضل إظهارها ما في البشر من مواضع ضَعفٍ ومُضحكات وشهوات لا يُحكم قِيادها.
وُلِد مناندر بأثينا سنة ٣٤٠ق.م. ودرس بنوع خاص يوربيد، وتعرَّف فيما يقولون بأبيقور، وقدم أول رواية له سنة ٣٢٢ق.م. أي بعد موت الإسكندر بعامين. والظاهر أن الحوادث المُؤلِمة التي اجتاحت بلاد الإغريق في ذلك الحين لم تؤثِّر كثيرًا في شاعرنا الأبيقوري المُستهتِر، إذ أُولِع بإحدى الفتيات وعاش معها في بيريه ميناء أثينا، وعبثًا حاول بطليموس سوتير أن يُغرِيَه بالمجيء إلى مصر.
ولقد جعل كل همِّهِ كتابة الكوميديات حتى أنهم ليقولون إنه قد كتب مائة كوميديا خلال ثلاثين عامًا وكانت وفاته سنة ٢٩٢ق.م. بعد أن نال الجائزة في ثمان مسابقات.
ولقد كنَّا لا نملك ممَّا كتَب مناندر إلا فقرات صغيرة ولكنها غنية بمعانيها حتى كانت سنة ١٩٠٧م فاكتُشفت بمصر أوراق بردي عليها أجزاء طويلة من ستِّ روايات لذلك الشاعر العظيم وهي الحارث، المُتملِّق، البطل، التحكيم، السامية (نسبة إلى ساموس)، المرأة المقصوصة الشعر.
وأطول قطعةٍ وصلتْنا تبلغ خمسمائة بيتٍ وهي من رواية «التحكيم» وهي تُمكِّننا من استقراء خصائص الشاعر ومواضع قوَّته، من غريزة تمثيلية قوية، إلى مقدِرة على وصف الحالات الأخلاقية، إلى تملُّك لوسائل الإثارة العاطفية، مُجتمِعة مع المهارة في تحريك الضحك، وأخيرًا نلمح في تلك القطعة اتجاهه نحو المزْج بين معارك الشهوات ومبادئ الأخلاق وإضاءة أحدِهما الآخر.
وثمَّة خاصيَّة أُخرى امتدحها جميع النقَّاد القدماء عند هذا الشاعر وهي تفوُّقُه في القصص وفي خُطَب الدفاع، ولدَينا فصلٌ من فصول «التحكيم» يؤيد ما ذهب إليه هؤلاء النُّقَّاد، وهو يعرِض عبدَين أحدهما راعٍ والآخر فحَّام، يحتكِمان إلى حكَمٍ وذلك أنَّ الراعي كان قد عثَر بطفلٍ أعطاه للفحَّام، ولكنه احتفظ بما كان على الطِّفل من حُلِيٍّ دليلًا على أنه هو الذي عثَر على الطفل وأعطاه للفحَّام، ويأبى الفحام إلَّا أن يُطالِب بالحُلِي. وأخيرًا يحتكِمان إلى حكَمٍ كما قُلنا، ويعرِض كلٌّ منهما وجهة نظره ويدافع عنها دفاعًا قويًّا. ومَوضع قُدرة الشاعر في هذين الدفاعين هو في الكيفية التي استطاع بها أن يُظهِرنا على خُلق كلٍّ من الرَّجُلين بنوع دفاعه وطبيعة الحجج التي يُدلي بها. وما ننتهي من قراءة الدفاعَين حتى نُحسَّ أنَّنا أمام رَجُلين من أبناء الشعب وأنَّ لكلٍّ من الرَّجُلَين صفاته، فالفحَّام رجل أَثِر، به جشَع مادي ولكنه مُخلص مؤمن بحقِّه. والراعي رجل كريم خيالي مِثالي في سذاجة، وما نظنُّ أن تلك القدرة العجيبة على تصوير الشخصيات بِخُطَب يقولونها قد استطاعها عددٌ كبير من شعراء الإنسانية وكتَّابها.
هذه هي التخطيطات العامة للكوميديا الإغريقية، نخلُص منها بأنَّ هذا الفنَّ قد نشأ كما نشأت كافَّة الفنون الأدبية عند الإغريق نشأةً شعبية، حتى إذا توفَّر عليه الشعراء أصبح فنًّا أدبيًّا. ولقد كان في أول أمرِه مُختلطًا بالأساطير والعبادات ولكنَّهُ لم يلبَث أن تخلَّص منها ليُصبح نقدًا سياسيًّا وشخصيًّا، نقدًا يُقصَد منه إلى مهاجمة الواقع وتغييره والدعوة إلى ما يُخالِفه. وهذه هي الكوميديا القديمة، وبتراخي الزَّمن وتغيُّر الحالة السياسية والعقلية في أثينا بسبب الهزيمة التي لحِقَت بتلك المدينة العريقة في حرب بلبونيزيا ثم سقوطها في يد المَقدونيين، تغيَّر منحى الكوميديا، ولعلَّه قد حدَّ من حُريتها فلم تعُد تنقُد الواقع وتريد تغييره، ولم تعُد تُهاجم الشخصيات البارزة وتعمل على هدمِها، بل أصبحت تكتفي بتصوير ذلك الواقع كما هو، وقد عدَلَت عن التجريح إلى تصوير حالاتٍ خُلقية أو شخصيَّات روائية. وهذه هي الكوميديا الحديثة التي لم تكن الكوميديا المتوسطة إلا تمهيدًا لها. وكانت الروح الفلسفية قد أخذت تنمو أيام الكوميديا الحديثة، ولهذا جاءت ملاحظات كتَّابها النفسية أنفذَ وأعمق، وإن تكن رُوح الضحك الصُّراح قد ضَعُفَت كما ضعُفَت جرأة الشعراء وقوَّة نفوسهم وحِرصهم على خير مدينتهم. ومن المعلوم أن الكوميديا من بين فنون الأدب فنٌّ يُمكن أن يوضَع في خدمة الحياة الأخلاقية والاجتماعية للدول دون أن يفقد شيئًا من قيمتِه.
كانت الكوميديا القديمة إذن نقدًا سياسيًّا شخصيًّا، وأصبحت الكوميديا الحديثة رواياتٍ أخلاقيةً وبقِيَت مرحلة أخيرة لم يصِل إليها الإغريق ولا اللَّاتين هي مرحلة الكوميديا ذات الشخصيات النموذجية، وهذه كما أشرْنا من قبلُ هي المرحلة التي حقَّقها موليير أكبر شعراء فرنسا بل أكبر شعراء الكوميديا في العالَم.
(٤) النثر عند اليونان
(٤-١) التاريخ والمؤرِّخون
نشأة النثر: لم يظهر النثر الفني عند اليونان إلا مُتأخرًا، وبعد أن ظهر الشعر بقرون؛ فليس لدَينا منه — سواء في الفلسفة أم في التاريخ — نصوص أقدم من القرن السادس قبل الميلاد. أما الشعر فقد سبق أن قُلنا إنَّ الإلياذة والأوذيسية يرجعان إلى القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا.
ولقد حاول المؤرِّخون تعليل تلك الظاهرة، فرجَعَها بعضهم إلى الجهل بالكتابة وعدم وجود البردي. ومن المعلوم أن وزن الشعر يساعد على روايته الشفوية، كما يحفظ تلك الرواية من الاضطراب. وأما النثر فليس من السهل حفظه. ولكن هذا التعليل قد ثبَت عدم صحته؛ فالإغريق كانوا يعرفون الكتابة قبل ذلك بزمنٍ طويل، والدليل على هذا يمكن استنتاجه من طبيعة الكتابة الإغريقية ذاتها، فهي مأخوذة عن الكتابة الفينيقية، وقد كانت العلاقات قائمة بين الإغريق والفينيقيين منذ أقدم الأزمنة، ثم إنَّ هناك نصوصًا قديمة نثرية كُتبت على بعض الآثار. وأما عن البردي فنحن نعلم أنَّ الإغريق كانوا يكتُبون على الجلود قبل أن يعرفوا البردي، وبذلك حدَّثنا هيرودوت.
وإذن فهذا التعليل غير صحيح، وسبيل فَهمِنا لتلك الظاهرة هو أن ننظُر في طبيعة الشعر وطبيعة النثر وفي موضوعاتهما، فنرى أنَّ أقدم الشعر كان قصصًا للماضي؛ لماضٍ بعيدٍ يتَّخِذ شكل التاريخ وهو في باب الأساطير أَدخَلُ، ولكنَّ الإغريق آمنوا بأنه تاريخ، وكانت النفوس ساذجة لم تستيقِظ فيها بعدُ ملكة التفكير أو النقد، ومن ثم قامت الملاحم مَقام التاريخ، والشعر أنسبُ شيءٍ لهذه الأساطير وهذه الملاحم التي يسُودها الخيال. ولم يشعُر أحد بحاجةٍ إلى كتابة التاريخ الدقيق نثرًا. وأما الفلسفة فمِن الواضح أن نشأتها لم تكن مُنتظرةً قبل القرن السادس، وهي دليل نضوج عقلي وتفتُّح لفهم حقائق الوجود.
ولقد كانت نشأة النثر بأيونيا في آسيا الصغرى، حيث كانت نشأة الشعر أيضًا؛ وذلك لأنَّ تلك البلاد — لاتِّصالها بالحضارات الشرقية القديمة ولتوفُّر أسباب الحضارة المادية بها — كانت أسبق من بلاد الإغريق الأوروبية في كافَّة مظاهر النشاط العقلي؛ ففيها ظهرت الفلسفة وفيها ظهر التاريخ، وهذان هما المَظهران الأوَّلان للنثر.
وكان بعد ذلك أن استولى الفُرس على كثيرٍ من بلاد الإغريق بآسيا الصغرى فخفَّ لنجدتهم إغريق أوروبا، وكان لأثينا في ذلك الفضل الأول، فأصبحت تلك المدينة المجيدة أقوى مُدن اليونان وأغناها وأشدَّها مِنعةً وأوفرها حُرية، وإذا بالنثر يزدهر بها بعد أن ازدهر الأدب التمثيلي، وإذا بالأثينيين يكتبون في الفلسفة والتاريخ ويُضيفون إليهما الخطابة. ومن ذلك الحين لم يُكتَب نثر قطُّ في غير اللغة الأتيكية — لغة مقاطعة أثينا — ولقد استطاعت أثينا — مدينة بركليس — أن تجمع كل ألوان الأدب والتفكير لأنها أصبحت زعيمة العالَم الإغريقي كلِّه ما يقرُب من نصف قرن، وذلك في المدَّة التي تقع بين الحروب الميدية وحروب البيلونيزيا خلال القرن الخامس قبل الميلاد.
نشأ النثر إذن بأيونيا في القرن السادس قبل الميلاد، ونقتصِر هنا على الحديث عن النثر التاريخي؛ فنُلاحِظ أنه في أول الأمر كان يتناول نفس الموضوعات التي تناولها الشِّعر القصصي، وأنه لا يكاد يُفرِّق بينه وبين ذلك الشعر شيء غير الوزن، فهو قصصي نثري، بل إنَّ لُغتَه ذاتها لم تخلُ من تأثُّرٍ بلغة الشعر.
(أ) هيرودوت
وُلِد هيرودوت — أقدم مُؤرِّخي الإغريق في آسيا الصغرى — بمدينة هليكرناسوس سنة ٤٨٠ق.م. وكانت تلك المدينة الدورية الأصل قد اصطبغت في ذلك الحين بالحضارة الأيونية اصطباغًا تامًّا، فأصبحت لُغتها اللغة الأيونية.
وأما أثينا فقد زارها بلا رَيب غير مرة، وأقام فيها إقاماتٍ طويلة، وهُم يُحدثوننا أنه قد قرأ في سنة ٤٤٦ق.م. جزءًا من كتابه في الساحة العامة بتلك المدينة فنال إعجاب السامعين، وكافأته المدينة مكافأةً مالية كبيرة، وفي سنة ٤٤٠ق.م. حيَّاه الشاعر سوفوكليس تحيةً شعرية جميلة عند عودته إلى مدينة بركليس.
ومن ذلك نرى أن الكتُب الخمسة الأولى تتحدَّث عن إمبراطورية الفرس، وأن الأربعة الأخيرة هي التي تقصُّ أنباء الحروب الميدية.
وأما تقسيم الكتاب على هذا النحو وتَسميته بهذه الأسماء فلسْنا نعرف على وجه التحقيق سببَه، وإن يكُن القدماء قد أخبرونا بأنَّ الإغريق جميعًا قد اتَّفقوا على تسمية كلِّ جزءٍ باسم ربَّةٍ من ربَّات الوحي بعد قراءةٍ تامَّةٍ للكتاب في أولمبيا أثناء انعقاد مسابقاتها الرياضية الشهيرة، ولكنَّ قولهم هذا أشبَهُ ما يكون بالأسطورة، وربما يكون هذا التقسيم من عمَل علماء الإسكندرية.
ولقد تناقش العلماء المُحدثون مناقشاتٍ كثيرة في قِيمة هذا الكتاب وفي وحدته وفي تاريخ تأليفه وتأليف أجزائه المختلفة، وبحثوا في هل هو تامٌّ أم ناقص إلى غير ذلك من الأبحاث التي لا تزال مُستمرة. ولكننا نكتفي بأن نقول إن الكتاب كما هو الآن يُكوِّن وحدة متسلسلة متجانسة. وأما قِيمته التاريخية فليست سواء في كل أجزائه، فالكتُب الخمسة الأولى ليست في قيمة الأربعة الأخيرة، وهذا أمر من السهل تعليلُه، فالمؤلف عندما يتحدَّث عن تاريخ الفُرس القديم وعن مصر أو بلاد السكيت لم يكن لِمعلوماته ولا لِمصادره من اليقين ما كان لحديثه عن الحروب المِيدية التي عاصرَها وسمع عنها ولقِيَ شهودها، ومع ذلك فحتي النصف الضعيف من كتابه لا نزال حتى اليوم نستقي منه أقدم المعلومات نُقارِنها بنتائج الأبحاث الأثرية فنهتدي إلى الكثير من الحقائق التاريخية الثابتة.
ثُم إنَّ المؤلف كان يتمتَّع بالكثير من الصفات التي نتطلَّبها في المؤرِّخين المُحدثين، فهو بعيد عن التحيُّز حتى لَنراه يعترِف للفُرس بمزاياهم كما يعترف للإغريق سواءً بسواء، وهو وإن كان قد أخطأ في بعض التفاصيل فإنه كان يملك القدرة على إدراك الكليَّات وعرْضها عرضًا شاملًا، ثم إنه قد حرص على جمع أكبر كميةٍ مُمكنة من المعلومات التي أخذها عن ألسنة الرجال أو عن مشاهداته أثناء سياحاته المختلفة، وأخيرًا عن النصوص المكتوبة کنبوءات العَرَّافات التي يُورِدها بنصِّها، وعن كتابات اللوجوجراف الذين أشرْنا إليهم فيما سبق.
وأما مواضع ضَعفه فهي في سذاجته التي حملته على الإيمان بكثيرٍ من الخُرافات ثُم في عدَم دقَّته، كما نُلاحظ ذلك في وصفِه للمعارك وفي النقص الواضح في تثبُّته من المعلومات التي تُروى له.
وأعظم عيب يؤخَذ على كتابه هو عدَم نفاذه إلى معنى الحوادث التاريخية وأسبابها وعدَم تعمُّقه في فهم النفس البشرية ودوافعها، ولهذا قلَّما نعثُر عنده على تحليلٍ دقيق لعقلية القادة والزعماء، وهو في هذا يُغاير «ثيوسيديد» كل المُغايَرة.
وإذا كانت لهيرودوت فكرة جامعة عن سَير التاريخ فهي سيطرة القضاء على حياة البشر وغِيرة الآلهة من صلَف الإنسان، فكم من مرةٍ يقِف ليُحدِّثنا عما أنزلت الآلهة بهذا الرجل أو ذاك من عقابٍ عندما أخذَه الغرور وتطاوَل إلى حيث لا ينبغي له.
هذا عن قيمة الكتاب التاريخية. وأما قِيمته الأدبية فالإجماع مُنعقد على توفُّرها. وإنك لتقرأ كتابه فلا يأخذك ملل أو فتور قط، وذلك لأنَّ هيرودوت يُطلعك أحيانًا على سذاجةٍ ساحرة يلهو بها العقل فيُمسك عن أعمال النقد، ويُطلعك أحيانًا أخرى على قوَّة في التصوير والقصص، فإذا بك كأنك تحضُر المعركة الحامية فتنفعل وتُستثار، وهو يمرُّ بك طورًا بعد طورٍ من القصص إلى الحوار إلى الخُطب في أسلوبٍ سهلٍ واضح قريب.
(ب) ثيوسيديد
وُلِد ثيوسيديد سنة ٤٦٩ق.م. أي بعد هيرودوت بعشرين عامًا فقط، ومع ذلك يُخيَّل إلينا عندما نقرأ كتابه ونُقارنه بكتاب هيرودوت أن بينهما قرونًا طوالًا.
لقد رأينا المؤرخ الأيوني يقصد إلى تمجيد أعمال البطولة وتخليد ذِكراها وأما ثيوسيديد فيُعلن في أول كتابه أنه لا يريد أن يُبهر الناس بروائع القصص وإنما يريد أن يصِل إلى الحقيقة العارية وأنْ يعرضها في غير تحيُّز فيقول: إنه يودُّ أن يترك للإنسانية «شرعية أبدية»، ولهذا يرفُض أن يأخُذ معلوماته عن كل طارق، ويحرِص على التثبُّت أدقَّ حِرص؛ ومن ثم جاء كتابه أقربَ ما يكون إلى كتُب المؤرخين المُحدثين من حيث تحرير الحقائق التاريخية. وقد استطاع ذلك المؤرِّخ العظيم ما لم يستطِعه إلا القليل من كِبار الكتَّاب في تاريخ الإنسانية كلها: استطاع أن يشقَّ الحُجُب عن النفوس وأن يستخرج دوافعها الخفيَّة، وكتابُه من هذه الناحية لا يُعتبر كتاب تاريخ فحسب، بل كتابًا إنسانيًّا يجِد فيه المفكرون وقادة الشعوب بل والفلاسفة كثيرًا من الحقائق الخالدة التي لا نزال حتى اليوم نبحث عنها في زوايا النفوس أو نتلمِسها في مضمون الحوادث؛ سياسيةً كانت أو أخلاقية أو اجتماعية.
كتاب ثيوسيديد عنوانه «حرب البلبونيزيا» وهي تلك الحرب التي قامت بين أثينا وإسبرطة وحُلفاء كلٍّ منهما بعد انتهاء الحرب الميدية بما يقرُب من نصف قرن، وسبب قِيامها كانت الغيرة التي استشعرتْها إسبرطة وغيرها من مدن اليونان نحو أثينا التي تمكَّنت بفضل جهودها الرائعة في الحرب ضدَّ الفُرس من أن تتزعَّم مُدن اليونان كافة وأن تضرب عليها نفوذها. ولقد دامت تلك الحرب المُدمرة ما يقرُب من ستٍّ وعشرين عامًا (من ٤٣١ إلى ٤٠٤ق.م.) وانتهت بهزيمة أثينا، بل بتحطيم بلاد اليونان كلها ممَّا مهَّد السبيل إلى استيلاء المَقدونيين في القرن الثاني على مُدن اليونان كافة والقضاء على ما كان لها من حُريةٍ ومجد.
كتاب ثيوسيديد ينقسِم إلى ثمانية كتُب، وَلكن هذا التقسيم لا يرجع إلى المؤلِّف نفسه، ولقد قسَّمَه القدماء أحيانًا إلى ثمانية كتُب وأحيانًا إلى تسعةٍ وأحيانًا إلى ثلاثة عشر، وإن يكن التقسيم المُستقِر اليوم هو التقسيم الثُّماني.
- القسم الأول: من الكتاب الأول إلى الفصل الخامس والعشرين من الكتاب الخامس، وبه مُقدمة الكتاب ثم أخبار الحرب حتى معاهدة نكياس سنة ٤٢١ق.م.
- القسم الثاني: يبدأ من الفصل السادس والعشرين من الكتاب الخامس ويستمرُّ إلى آخِر الكتاب الثامن، وبه مُقدِّمة أخرى، ثُم حوادث الحرب من معاهدة نكياس حتى آخِر سنة ٤١١ق.م. وهناك أدلَّة كثيرة تُرجِّح أنَّ الجزء الأول كان قد نُشِر منفردًا.
وخطَّة ثيوسيديد في تأليف كتابه هي مُتابعة الزمن، فهو يُقسِّم كلَّ عام إلى صيفٍ وشتاء، ويتتبَّع الحوادث تتبُّعًا تاريخيًّا حتى ليُشبِهُ كتابه اليوميات. وهو في هذا يُغاير المؤرِّخين المُحدَثين الذين يُقسِّمون كتُبَهم إلى موضوعاتٍ فيُعالجون كلَّ موضوعٍ في فصلٍ خاصٍّ. ومن مجموع تلك الفصول نخرُج بفكرةٍ جامعة عن العصر الذي يتحدَّثون عنه من نواحيه المختلفة: السياسية والحربية والاجتماعية والثقافية. وإنما أملى على ثيوسيديد خُطَّتَه طبيعة الموضوع الذي كتَب فيه، فهو يُريد أن يقُصَّ أنباء حرب البلبونيزيا كما قصَّ هيرودوت من قبلُ أخبار الحروب الميدية.
وليس معنى هذا أنَّ ثيوسيديد لم يُحدثنا إلا عن المعارك التي حدثت، فكتابُه أعمق وأهمُّ بكثيرٍ ممَّا يدلُّ عليه عنوانه، وما تدلُّ عليه خُطته، ولعلَّ مصدر غِناه يأتيه من أنه ليس قصصًا فحسْب بل قصصٌ وخُطَبٌ. في الكتاب ما يقرُب من أربعين خطبةً طويلة تُعَدُّ من أثمن ما خلَّفت العبقرية اليونانية، وهذه الخُطَب ينسِبها المؤلِّف إلى القادة والزعماء، وهو يُخبرنا أنها لم تُقَل بحرفها، وذلك لأنه قد حاول أن يُورِدها نقلًا عمَّن سمِعَها. ومِن الواضح أنه ليس من السهل أن نروي خُطَب الغَير نقلًا عن سامعيها، ولهذا لم يكن بدٌّ للمؤلف من أن يستعين بما رُوي له منها مجرَّد استعانة في كتابةِ تلك الخُطَب التي هي في الواقع من أسلوبه الخاص، ولكنها مع ذلك لا تفقِد شيئًا من قِيمتها، بل لعلَّها قد اكتسبت من القيمة التاريخية والإنسانية أكثرَ ممَّا كان لها، وذلك لِعِظم ذكاء المؤلِّف الذي عَرف كيف يُلخص المواقف ويكشف عن الدوافع ويناقش الأهواء ويستعرض النظر في تلك الخطب الرائعة.
ولثيوسيديد ملَكة قوية في إدراك فهم الأشياء، فبالرَّغم من أنه قد كتَب حوادث عاصرَها فغمرته من جميع النواحي إلا أنه قد استطاع أن ينظُر إليها وكأنَّ بينه وبينها أعوامًا بل قرونًا، فميَّز الأهمَّ من المُهم، ووضع كل حادثةٍ في مكانها وأعطاها أهميَّتَها بلا إفراطٍ ولا تقصير، وتلك ملكة لم يُوهَبَها إلا القليل.
وثيوسيديد مؤرخٌ ثبْتٌ دقيق يعرِف كيف ينقد مصادره، وهو يرفض التسليم بخوارق الأمور فلا يقبَل من الخُرافات ما قَبِل هيرودوت، وهو لا يقِف عند الحوادث ليُعلق على ما تُوحي به من فلسفةٍ أخلاقية رخيصة عن تفاهة الحياة أو بؤسِها ونعيمها كما يفعل هيرودوت. ثيوسيديد مؤرخ جافٌّ غزير التفكير مُركَّز الأسلوب، وهو أحرص على فهم النفوس منه على دروس الأخلاق المُبتذَلة.
وباستطاعة القارئ أن يعود إلى قراءة خطبة بركليس في تأبين جُند أثينا الذين قُتلوا في السنة الأولى من الحرب ليرى الكثير من المواهب التي تميَّز بها مؤرخنا، فالخطبة لا شكَّ من تحرير المؤلف نفسه، وإن يكن من الراجح أن يكون بركليس قد قال من المعاني ما يقرُب ممَّا ورد فيها.
يبدأ الخطيب بالحديث عن نُظم أثينا الديمقراطية، تلك النُّظم التي عنها صدر مجد المدينة وبفضلِها أحبَّ المواطنون مدينتهم فقاتلوا في سبيلها حتى قُتل منهم مَن قُتل، وأخيرًا يصِل إلى التأبين، وهنا يظهر ذكاء الخطيب أو على الأصح ذكاء المؤرِّخ، فهو يُدرك «أنه من الشاقِّ أن يدعو الآباء إلى التعزِّي بالمجد عن فقْد أبنائهم وأمامهم فرَح الغير بسلامة أبنائهم يُذكِّرهم بما كانوا فيه من فرحٍ هم أيضًا بأبنائهم.» والمُتكلِّم يعلَم «أنَّنا لا نألَم للحرمان من شيءٍ لم نألَفْه قدْر ما نألَم لفقْد ما اعتدنا المُتعة به.» ولهذا يدعوهم «إلى الشجاعة والتزوُّد بالأمل في أن يكون — لمن يستطيع منهم — خلَف جديد يعوِّض مَن فُقد. وأما من لم تعُدِ السنُّ تسمح له بخلَفٍ جديد فعليه أن يذكُر أن معظم حياته قد تُقضى سعيدًا، وأنَّ ما بقيَ هو الأقل، وأنه سوف يجد في ذِكرى أبنائه المجيدة ما يُخفِّف من آلامه.» هذا حديثه إلى الآباء وفيه تُحسُّ ما أشرنا إليه من فهم عميق للنفس البشرية، فهو لا يتجاهَل حقائق تلك النفس وإنما يُسلِّم بها ثُم يلتمس لها علاجًا، وإنه لَمِن الحُمق ألا نُسلِّم للمتألِّم بأسباب ألَمهِ ظانِّين في ذلك ما يصرِفُه عنه، وإنما السبيل هو أن تُجاري إحساسه وأن تُسلِّم له بمشروعية ذلك الإحساس، ثُم تُحاول بعد ذلك أن تُخفِّف عنه حِمله. وفي حديثه لإخوة وأبناء الموتى حقائق نفسية أخرى يعترِف بها الخطيب في قوَّة خُلقية وإنسانية نقِف أمامها حَيارى. انظُر إليه يُخاطبهم: «وأما أنتم، أبناءَ هؤلاء الأبطال وإخوتهم! فأمامكم صراع عنيف، وإنه لحبيبٌ إلى كل نفس أن تمتدِح ما مَضَى، ولهذا أرجو لكم أن تصِلوا إلى ما وصَل إليه هؤلاء الأبطال أو على الأصح إلى ما يُدانيهم، وذلك لأنَّ الحسد ينال دائمًا من فضل الأحياء، حتى إذا ذهب الموت بما يُلقون على مُعاصريهم من ظلالٍ تغمرهم بظُلمتها نزل فضلُهم من كل القلوب منزلة التقديس.» أليس في هذه الصراحة النفسية ما يرفع من قدْر قائلها وهو يعترِف بأن الحسد شيء طبيعي في النفوس، وأنه من الخير أن يُوطِّد كل فردٍ نفسه على قَبوله مِن الغير مُدركًا أنه ليس من السهل على النفوس أن تقبل «الظلمة»، التي يُلقيها عليها «ظلُّ الغير»، وأنه ليس للأحياء أن يرَوا الناس مُجمِعين على فضلِهم، فهذا لن يكون إلا بعد موتهم! وتلك حقيقة فيها أكبر العزاء لبطولة الأحياء، كما فيها أكبر دافعٍ إلى الإقدام وطرْح ما يمكن أن يُصيب النفوس الخيِّرة من يأسٍ يُوحيه ما يَهُولها من عدم الاعتراف بما لها من فضل.
وأما النساء فكلُّ ما يطلُبه إليهنَّ هو «أن يلتمسنَ المجد في ألا يُظهرنَ من ضعفٍ غير ما تقضى به فطرتهن، وأن يتنافسنَ في أن يكون تأثيرهنَّ في الرجال أقلَّ ما يكون سواءً أكان هذا التأثير في الخير أم الشر.»
هذا هو الذكاء الخارق الذي تحدَّثنا عنه. الذكاء الذي يُدرِك حقائق النفوس ويُسلِّم بتلك الحقائق، وعلى هذا الأساس يصُوغ أقواله ويضع خُطَطه.
هذا هو ثيوسيديد الكاتب القوى والمؤرخ الثَّبْت. رجل عبقري من كِبار العقول اليونانية بل العقول الإنسانية على الإطلاق، وهو بعدُ مؤلِّف ليست قراءته أمرًا سهلًا لا في أصلِه اليوناني ولا في ترجماته المُختلفة، وذلك لِعُمق تفكيره عُمقًا يُشبه الغموض، وإن لم يكن من الغموض في شيءٍ لأنك بالصبر وإمعان النظر تستطيع دائمًا أن تُدرك ما يُريد قوله، وإنما يكون الغموض عندما يعجز عقل الكاتب عن أن يُدرك بوضوح ما بنفسه من أفكار ثم يتعجَّل صياغتها. وثيوسيديد أبعدُ الناس عن هذا العجز، وذلك لأن عقله كان من القوة بحيث استطاع دائمًا أن يسيطر سيطرة مُهيمنة على كل ما تحدَّث عنه.
(ﺟ) أكسينوفون
لم يظهر في القرنَين التاليين لوفاة ثيوسيديد أي مؤرخ كبير، ومؤلَّفات من كتَب في التاريخ خلال هذين القرنَين قد ضاع مُعظمها إنْ لم يكن كلها. ومع ذلك فمن الواجب أن تَستثني أكسينوفون الكاتب المعروف في تاريخ الفلسفة، وذلك لأن أكسينوفون قد كان مؤرخًا كما كان فيلسوفًا، وإن لم يصِل في التاريخ إلى ما يُداني من قريبٍ أو بعيد ثيوسيديد، كما لم يصِل في الفلسفة إلى ما يدنو من مستوى أفلاطون مع أن كلَيهما قد تتلمذ لسقراط وكتَبَ عنه في صيغة الحوار.
وُلِد أكسينوفون فيما يُرجَّح سنة ٤٣٠ق.م. ومات سنة ٣٠٠ق.م. تقريبًا. وُلِد في إحدى ضواحي أثينا لأسرةٍ أرستقراطية غنيَّة وتتلمذ لسقراط، وفي سنة ٤٠١ق.م. صحِب الحملة التي وجَّهها الإغريق إلى آسيا الصغرى لمُحاربة الفُرس وأتباع الفُرس. ولم يكن أكسينوفون في تلك الحملة جُنديًّا ولا ضابطًا ولا قائدًا، كما يقول، بل مجرَّد هاوٍ، وكان ما كان من هزيمة الحملة بعد قتْل قُوَّادها غدرًا. وهنا يتولَّى أكسينوفون رياسة الجند ويتقهقر بهم إلى البحر، وهو يصِف لنا ذلك التقهقُر وما اعترضه من عقبات، وكتابه أشبَهُ ما يكون بالمُذكرات، ومع ذلك ففيه كثيرٌ من الملاحظات الهامَّة عن الأراضي التي مرُّوا بها وعن فنون القتال، كما أنَّ قَصَصه لا يخلو من يُسرٍ وجمال.
بعد ذلك التاريخ استقرَّ أكسينوفون في ضَيعةٍ اشتراها بإحدى مقاطعات البلبونيزيا حتى سنة ٣٧١ق.م. إذ ضرب المُغيرون ضَيعته، وهنا ينتقِل إلى كورنثة يُقيم فيها حتى تعود أثينا عن قرار نَفيه وتسمح له بالعودة إلى وطنه حيث مات.
لأكسينوفون أربعة عشر كتابًا من بينها الثلاثة التي ذكرناها، وأما بقيَّتها فمنها ما تتعلَّق بتربية الخَيل وركوبها والحرب على ظهورها، ومنها ما يتعلَّق بالصيد ومنها ما يتعلق بالاقتصاد وإدارة الأموال، كما أن منها الكتُب الفلسفية.
لقد كان أكسينوفون رجلًا أرستقراطيًّا مُولعًا بالخيل والصيد، رجلًا سهلَ الطبع، راضيًا عن الحياة، ولكنه سطحي، وكل هذه الصفات واضحة في أسلوبه وفي كتاباته.
(د) بوليبوس
وجاء بعدُ بوليبوس مؤرخ مُتأخر عاش من سنة ٢٠١ق.م. إلى سنة ١٢٠ق.م. ولكنه مؤرخ كبير يكاد يكون ثاني مؤرِّخي الإغريق بعد ثيوسيديد؛ فهو من ناحية الدقة التاريخية وفَهم الحوادث وتحليلها وشرح أسبابها لا يقلُّ عن مؤرخ حرب البلبونيزيا إن لم يفُقْه، وأما من الناحية الأدبية ومن الناحية الإنسانية فهو يَنحطُّ عن ثيوسيديد بمسافاتٍ بعيدة.
وُلِد بوليبوس بمقاطعة أركاديا في البلبونيزيا من أسرة أرستقراطية وكان صديقًا لزعماء الحرب والسياسة في ذلك العهد، وقد تعلَّم من أبيه فنَّ الحرب واشترك في الحياة السياسية والحربية، وفي سنة ١٦٨ق.م. وقع أسيرًا في يد الرومان الذين قادوه إلى روما حيث ظلَّ حتى سنة ١٥٠ق.م. ولقد استطاع أن يُصادق كبار زعماء روما، وبفضل تلك الصداقة لم يحجِز في إحدى مُدن إيطاليا كما حجز غيرُه من الأسرى، بل تُرك طليقًا بروما حيث استطاع أن يبحث في محفوظات الدولة وأن يدرُس التاريخ الروماني.
وفي أثناء إقامته الطويلة بتلك البلاد أُعجِب بخُلق الرومانيين، ذلك الشعب الحكيم الصبور الجاد إذا قِيس بإغريق ذلك العهد الخِفاف الأحلام المُتقلِّبي الأهواء. وفي سنة ١٥٠ق.م. سُمح له بالعودة إلى بلاد الإغريق وإن كان قد عاد إلى روما غير مرة؛ إذ أصبحت تلك المدينة بمثابة وطنٍ ثانٍ له. ولقد صاحب أسكبيون القائد الروماني الشهير في حملاته ضدَّ القرطاجانيين وشهد استيلاءه على قرطاجنة عاصمة مُلكهم. ولقد حاول أن يمنع ثورة الإغريق الأخيرة ولكنه لم يستطِع، وكان أن أخضع الرومان بلاد الإغريق كلها بعد استيلائهم على كورنثة، وبذلك أصبحت اليونان مُقاطعة رومانية سنة ١٤٦ق.م. ولم تقُم لها بعد ذلك قائمة. وأما بوليبوس فقد استخدَم نفوذه عند أصدقائه الرومانيين ليُخفِّف من قسوة الشروط التي أملَوها على مواطنيه. ولقد قام بوليبوس بعدَّة سياحاتٍ في سبيل الدرس، وزار ليبيا وإسبانيا وبلاد الغال، ومات وهو في الثانية والثمانين من عمره، إذ سقط من فوق حصان.
فكتابه من الناحية التاريخية عظيم الأهمية، وذلك لاعتماده على محفوظات الدولة كما ذكرنا وعلى كل كتُب سابقيه، ثم على أقوال من شهِدوا الوقائع التي يتحدَّث عنها، وأخيرًا لأنه قد رأى كثيرًا من الحوادث التي وردت في كتابه. وهو بعد ذلك يملك القدرة على مناقشة مصادره وإعطاء كل منها ما يستحق من أهميته، كما أنه قد خلا من كل تحزُّب. وهو في كتابه يتتبَّع خُطى الزمن ولكنه كثير الاستطراد إلى مسائل تتعلق باشتقاق الأسماء والألفاظ وبمناقشة التواريخ وبالمسائل الفلسفية، ثُم إنه كثيرًا ما يقِف ليحاجَّ سابقيه محاجَّات طويلة.
وأما عن قيمة كتابه الأدبية فضعيفة كما قُلنا، وذلك لبرودة قصصه وخلوِّه من كل تلوين، ثُم لثِقل أسلوبه وتعثُّره وغموضه لكثرة الاصطلاحات الفنية والألفاظ المجرَّدة. وليس هذا لعدَم حِرصه على فنِّ الكتابة — فأسلوبه لا يخلو من عناية مُتكلَّفة — بل لأنه لم يكن يملك هبة الأسلوب ذاتها.
(ﻫ) بلوتارك
ويمضي قرنان آخران قبل أن يظهر بلوتارك، الذي يُعتبر آخر مؤرِّخ إغريقي كبير.
ولد بلوتارك في مقاطعة بيوشيا سنة ٤٦ بعد الميلاد وعاش حتى سنة ١٢٠ بعد الميلاد، وهو لم يكتُب في التاريخ فحسب، بل وفي الفلسفة التي كتب فيها عدة كتب.
تربَّى بلوتارك في أُسرته حيث أشرف أبوه وجدُّه على تعليمه، ثم قام بعدة رحلات إلى أثينا وروما، وألقى بالمدينتين عدة محاضرات عامة باليونانية وباللاتينية فلقي نجاحًا عظيمًا، وأخيرًا عاد إلى مَسقط رأسه حيث مضى الجانب الأكبر من حياته موزَّع الجهد بين حياته الخاصة كرَبِّ أسرة، وبين مهامِّه كأديب ومؤرخ وفيلسوف بل وعُمدة لمدينته.
لقد كان بلوتارك رجلًا شريفًا وديعًا هادئًا سمْح الخلق، شديد التعلق بدينه الإغريقي، وبخاصة بعبادة أبولون الدلفي حيث كان يقوم ببعض أعمال الكهنوت. وكان إلى جانب هذا رجلًا مُتفتح النفس للمعرفة والبحث عن الحقائق، فدرس كافة العلوم التي كانت معروفةً في عصره، وبخاصة التاريخ والفلسفة الأخلاقية.
ولقد ألف بلوتارك في الفلسفة الأخلاقية عدَّة كتُب نذكر منها: «مُهلة القضاء الإلهي» وفيه يعالج مشكلة القدر، و«كتاب الحُب» وهو دفاع عن الحب الشرعي، و«عزاء لزوجته عند وفاة بنتها»، و«كيف نقرأ الشعراء»، و«التطيُّر»، و«الزواج»، و«النبل»، و«صمت العرَّافات»، و«إزيس وأوزيريس» وفيه يتحدَّث عن الميثولوجيا بوجهٍ عام، و«كيف نُنصِت»، و«كيف نُميِّز الصديق الحق من المُتملِّق»، و«كيف نمدح أنفسنا دون أن نجرح غيرنا»، و«عن كثرة الأصدقاء»، و«عن فائدة الأعداء»، و«عن الصحة»، و«عن الثرثرة»، و«عن شيطان سقراط»، و«عن الموسيقى»، و«أحاديث المائدة» … إلخ.
وهو يعلن عن أخذه بمذهب أفلاطون، ولكنه في الحقيقة قد أخذ عن جميع المذاهب، كما حاول أن يوفِّق بين الميثولوجيا وفلسفة أفلاطون. وهو يقول بوجود إلهٍ واحد مُسيطر ومن دونه آلهة ثانوية تقوم على أمور البشر، وهي آلهة خيِّرة وشريرة، تعيش عدَّة قرون، وتُسرِف على التطيُّر والعَرَافة.
فلسفة بلوتارك في الواقع ضعيفة الأصالة، وهي ليست سبب مجدِه، وإنما اشتُهر بلوتارك وظلَّ يُقرأ طوال القرون الماضية حتى يومنا هذا من حيث هو مؤرخ كتَبَ كتابًا كان له ولا يزال أكبر الأثر في الكُتَّاب في مختلف الأجيال، ونعني بذلك كتابه المُسمَّى «الحَيَوَات المتوازية»، وفيه يورِد أربعًا وأربعين حياة كلُّ حياةٍ لكبيرٍ من كبراء الإغريق مقارنة بكبيرٍ من كبراء الرومان: تيموستكليس وكاميل، ليساندروس وسيلا، الإسكندر ويوليوس قيصر، أجيسيلاس وبومبيوس، ديموستين وشيشرون، ألسبيادس وكوريولانوس … إلخ.
كتابه — إذن — عن حياة العظماء اليونان والرومان، وقد آخى وقارن في كل فصلٍ بين اثنين من هؤلاء العظماء: قائد مع قائد، وخطيب مع خطيب، وإمبراطور مع إمبراطور، وهكذا. ولقد قرأ بلوتارك الكثير من الكتُب التي ألَّفها سابقوه، ولهذا جاء كتابه غنيًّا بالمعلومات التاريخية الهامة؛ ولكنه كان رجلًا جمَّاعًا حظُّه من النقد قليل، وأثَرُ السرعة وعدم التمهُّل واضح في كتابه، وهو أقل حرصًا على الحقيقة العارية منه على مغزى الوقائع ودروسها الأخلاقية؛ ومن ثَمَّ تراه يسوق الكثير من القصص لمجرد جمالها. وهو — وإن حاول ألا يتحيَّز — لا يخلو من مَيلٍ إلى الإغريق.
لقد حرص بلوتارك على أن يُصوِّر الشخصيات أكثر من حرصه على أن يقصَّ الوقائع؛ ومن ثم لم يكتُب تاريخًا سياسيًّا كما فعل ثيوسيديد أو بوليبوس ولكنه قد نجح فيما أراد نجاحًا رائعًا، فشخصيَّاتُه حية واضحة المعالِم، وكتابه من هذه الناحية فريد في بابه.
ولقد كان لبلوتارك تأثير قوي على الكثيرين من الكتَّاب وبخاصة شيكسبير الذي صدر عنه في تصويره لكوريلانوس ويوليوس قيصر وغيرهما.
ديموسثنيس وشيشرون
حسبنا أن نرى ما بين الرَّجُلين من تَشابهٍ في الميول لنعلَم أن الطبيعة قد أنشأت هذين الخطيبين العظيمين منذ البداية في صورة واحدة؛ فكلاهما يطمح لغايةٍ بعَينها، وكلاهما يُحب الحرية، وكلاهما جبانٌ في الوَغى ومواقف الخطر. كذلك تشابهت السيرة عند الرَّجُلين، فكلاهما نشأ من أصلٍ مغمور وشقَّ طريقه إلى مناصب النفوذ والسلطان، وكلاهما عارَضَ الملوك والطغاة، وكلاهما نُفِي عن أرض الوطن ثم عاد عَوْدَ الكريم ثُم اضطرَّ أن يلوذ بالفرار، ثم وقع في أيدي الأعداء. وذهب بذهاب كلٍّ من الرجلين حُرية بلاده.
وعلى الرغم من نجاح ديموسثنيس في دعواه تلك، كان عليه أن يواصِل الدرس ليُتمَّ نقصًا كبيرًا، إذ كانت أولى خُطَبه تُثير في سامعيه الضحك، فقد كان أسلوبه عنيفًا ومضطربًا، وصوته خافتًا مُتلعثِما وإلقاؤه مقطوع الأنفاس، لكن هذه الأخطاء أُصلِحت كلها بالمِران الطويل الشاقِّ الذي قام به في جُبٍّ أنشأه لنفسه تحت الأرض، كان يُقيم فيه شهرين أو ثلاثة دَفْعَةً واحدة. وقد أزال من لسانه اللعثمة بالتحدُّث والحصا مِلْءُ فِيه، وزاد من قوَّة صوته بالجري صاعدًا فوق سطح الجبل يصيح وهو يلهَث، وكان يُطيل النظر إلى موقفه وحركاته في المرآة.
ولم يُلْقِ ديموسثنيس الخطاب ارتجالًا إلا نادرًا، فقد كان الناس يَصيحون به في المجامع ليَخطُبَهم لكنه كان يظلُّ صامتًا، إلا إنْ كان قد أعَدَّ ما يُلقيه، وكانت عادته أن يكتب الشطر الأعظم من خطابه — إن لم يكتبُه بأجمعِه — قبل أن يُلقيه؛ ولذا كان يُعْترضُ عليه بأنَّ الحجج في خُطَبه تفوح برائحة المصباح، ولكنه مع ذلك قد خطب في حالاتٍ قليلة بغير إعداد فجاءت خطابته عندئذٍ وكأنَّها تتدفَّق من مَعين خارِقٍ لقُدرة البشر.
كذلك لمعت عبقرية شيشرون العظيمة في أيام دراسته، فقد كانت له القدرة كما كان له المَيل إلى تعلُّم الفنون كلها، وإن يكن أميلَ إلى الشِّعر منه إلى غيره من الفنون. وجاء يومٌ عرفتْهُ فيه روما أمجد الشعراء وأعظم الخطباء في آنٍ معًا؛ فبعد دراسته للقانون وتدريبه في أعمال الحرب، أوى إلى حياة العُزلة يدرس الفلسفة.
وكان شيشرون مُعتلَّ الصحة لا يستطيع أن يأكُل إلا طعامًا قليلًا، ولا يكون ذلك إلَّا في آخِر النهار، وكان صوته أجشَّ عاليًا مرذولَ النغم، لكنه كسلَفِه ديموسثنيس استطاع بمرانٍ طويل أن يُهذِّب من نغمة صوته، حتى أصبحت مليئة مُنغمة حلوة الرنين، ودراسته على فحول البلاغة قوَّمت من فصاحته.
إنَّ ديموسثنيس قد ركَّز كلَّ قوته في فنِّ الخطابة وحدَه، فبات لا يُشقُّ له غبار في قوة فصاحته وجزالتها ودِقَّتِها. أما شيشرون فقد كان أوسع مدًى في دراسته، فلم يُجاهد أن يكون خطيبًا نابغًا وكفى، لكنه أراد أن يكون كذلك فيلسوفًا وعالمًا. واختلاف الخطيبَين في المزاج مُتبيِّن في اختلافهما في الأسلوب، فديموسثنيس في خطابته دائمًا صارم جادٌّ يَنشُد الفكرة الجافة. أما شيشرون فيُحِبُّ النكتة، وقد يبلُغ به المزاح في الحديث أحيانًا حدَّ المُهاترة، ولم يكن الخطيب اليوناني يمدح نفسه في خُطبه إلا إن قصد بذلك هدفًا ساميًا، وحتى إنْ فعَل ففي تواضُع وفي غير اعتداد. أما الخطيب الروماني فلا يحاول أن يُخفي غرورَه بنفسه إلى حدِّ الإسراف، ممَّا جعله مَمقوتًا عند كثيرٍ من مُعاصريه.
وكان للرجُلين جميعًا مقدرة سياسية ممتازة، لكن بينما نجد ديموسثنيس لا يشغل منصبًا سياسيًّا قط، ويُشَكُّ في أنه أحيانًا كان يبيع موهبته لِمن يُجزِل له العطاء، نرى شيشرون يحكُم إقليمًا في عصره كان الجشع فيه قد بلغ أقصى درجاته، لكنه لم يُعرَف عنه إلَّا العطف الإنساني وازدراء المال حتى لَيرفُض الهدايا البريئة.
إلى هنا ننتهي من استعراض المؤرِّخين الإغريق، ونخلُص مما رأينا بأن فنَّ كتابة التاريخ عند اليونان وإن يكن قد وصَل أحيانًا من العُمق في الفَهم إلى أبعدِ المراحل، إلا أنه لم يصِل في الواقع إلى ما وصل إليه المؤرِّخون المُحدَثون؛ وذلك لأنه ظل جزئيًّا، يتحدَّث عن ناحيةٍ خاصة من نواحي الأُمَم ويُهمِل ما عداها، فهُم لم يكتبوا مثلًا تاريخ عصرٍ من العصور يُفضِّلون فيه القول عن الحياة السياسية والحياة العقلية والحياة الحربية والحياة الاجتماعية، بحيث يخرُج القارئ بصورةٍ تامَّة لذلك العصر. ولكنَّنا عندما نذكُر أنَّ هذا المنهج الشامل في كتابة التاريخ لم يهتدِ إليه المؤرِّخون إلَّا في القرن التاسع عشر، نستطيع أن نتصوَّر أنه لم يكُن من المُمكن أن يقفِز الإغريق إلى الكمال.
ومع ذلك فقد امتاز المؤرِّخون الإغريق بصفةٍ هامَّة هي عدم التحيز، وكانت لهم فوق ذلك قدرة عجيبة على فهم النفس البشرية وإيضاح دوافعها، وفي هذا ما يضمَن لكُتُبهم الخلود، لا من حيث هي مصادر التاريخ فحسب، بل ومن حيث هي كتُب أدبٍ إنساني خليق بأن يُخصب النفس ويشحَذ الإدراك.
(٤-٢) الفلسفة والخطابة
(أ) الفلسفة
أُغرِم العقل اليوناني — بعد أن قطع مرحلة الأساطير والإمعان في الخيال — بإطالة التفكير والتأمُّل فيا يصادف من ظواهر، فيحاول تعليلها وتعقُّب أسبابها. وإنك لتقرأ عن اليونان وفلسفتهم فتحسب القوم يتنفَّسون الفلسفة مع الهواء. وما ظنُّك بجماعة تُناقش موضوعات الفلسفة إذا التقوا في الأسواق، أو صادف بعضهم بعضًا في عرْض الطريق! وحسبُك أن تقرأ ما كتبَه أفلاطون وأرسطو، وما بلغت إليه الفلسفة في العصر الحديث، لتعلم أن الإنسانية لم تكد تخطو — في الفلسفة — إلى الأمام بعد اليونان خطوات، بل لِتعلَم أن الإنسان الحديث في ركضه السريع يُوشِك أن يتخلَّف عمَّا أدركه اليونان من حِكمةٍ في بعض النواحي. ولْنَمضِ مُسرعين على هامات القرون، مُخلِّفين وراءنا فلاسفة اليونان الأولين، فأولئك على عظيم قدرهم لا يتَّسع لهم مقام كتابنا.
ولنقِفْ عند القرن الخامس قبل الميلاد، حيث سوفوكليز ويوريبيد يعرضان على المسرح آياتهم، لننظُر إلى هذا الفيلسوف الذي يذرَع شوارع أثينا ويغشى أسواقها، يناقش ويحاور في منطقٍ سليم وأسلوب أخَّاذ، لننظُر إلى سقراط جالسًا ومن حوله مُعارضوه ومُؤيدُوه؛ فما يزال يُلقي هنا سؤالًا وهناك سؤالًا، ويتلقَّى من هذا جوابًا ومن ذاك جوابًا حتى يستقيم له الموضوع الذي يناقِشُه، ويبلُغ النتيجة التي يريد، مُتهكِّمًا ساخرًا بمن زعموا لأنفسهم العِلم وهم جاهلون، مُستحثًّا الشباب أن يفكروا لأنفسهم ليُدركوا الحق بأنفسهم مُعلنًا أنه لا يدري شيئًا، وأنه إنما ينشُد الحِكمة عند الآخرين مُسَيَّرًا في ذلك كله بصوتٍ باطني لعلَّه أن يكون وحيًا من الآلهة. ولقد أحبَّ سقراط من فهِموه، وسخط عليه من كانت لهم في نفوس الناس مكانة علمية فزلزلَها سقراط وعرَّضهم لسخرية الساخرين؛ فرفع ثلاثة من هؤلاء أمر سقراط إلى القضاء بتُهمة إفساد عقول الشبَّان، وإنكار الآلهة، ومهاجمة الدولة ونظامها. وكانت المُحاكمة وكان الحُكم، فإذا هو أن يجرَع سقراط كأسًا من السُّمِّ ليموت، فلم يظهَرْ من شخصية سقراط عندئذٍ إلَّا جانب الفيلسوف. وقضى آخِر أيامه في السجن يحاور تلاميذه في النفس وخلودها! وهل ترى أَمرَّ سخريةً في تاريخ الإنسانية كله من هذه الحقيقة المرة: وهي أنها تقتُل من أبنائها من يَعْلُو وَيَنْبُغ.
… نهض ودخل غُرفة الحمَّام، يصحَبُه أقريطون، الذي أشار إلينا بأن ننتظِر؛ فانتظرنا نتحدَّث ونُفكر في أمر الحوار وفي هَول المُصاب. لقد كنَّا كمن ثكِل أباه، وأوشكْنا أن نقضي ما بقي من أيَّامنا كالأيتام. فلمَّا تمَّ اغتساله جيء له بأبنائه (وكانوا طفلَين صغيرَين ويافعًا)، كما وفدَتْ نساءُ أسرتِه، فحادَثَهنَّ وأوصاهنَّ بعضَ نُصحه، على مسمعٍ من أقريطون، ثم صَرفهُنَّ وعاد إلينا.
ها قد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتًا طويلًا، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنَّا لم نُفِض في الحديث. وما هي إلا أن جاء السجَّان وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لستُ أتَّهِمُك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمُرُهم بتجرُّع السُّم، ولم أكنْ إلا صادعًا بأمر أولي الأمر. أما أنت، فقد رأيتُك أنبلَ وأرقَّ وأفضل ممَّن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يُخامرني شكٌّ أنك لن تنقِم عليَّ، فليس الذنب ذنبي، كما تعلَم، إنما في جريرة سواي … وبعد، فوداعًا، وحاوِلْ أن تحمل راضيًا ما ليس من وقوعِه بُد، إنك لتعلَم فيمَ قُدومي إليك. ثم استدار فخرج مُنفجرًا بالبكاء. فنظر إليه سقراط وقال: لك منِّي جميل بجميل، فسأصدَعُ بما أمرتَني به، ثم التفتَ إلينا وقال: يا له من فاتن! إنه ما انفك يزورني في السجن، وكان يُحادثني الحين بعد الحين، ويُعاملني بالحُسنى ما وسِعَتْه … انظر إليه الآن، كيف يدفعُه فضلُه أن يحزَن من أجلى! فلِزامٌ علينا، يا أقريطون، أن نفعل ما يُريد. مُرْ أحدًا أن يجيء بالقدَح إن كان قد تمَّ إعداد السُّم، وإلا فقُل للخادم أن يُهيئ شيئًا منه؛ فقال أقريطون: ولكنَّ الشمس لا تزال ساطعةً فوق التلاع، وكثيرٌ ممَّن سبقوك لم يجرعوا السُّمَّ إلا في ساعةٍ متأخِّرة بعد أن كانوا يأكلون ويشربون وينغمِسون في لذائذ الحسِّ، فلا تتعجَّل إذن؛ إذ لا يزال في الوقت مُتَّسع!
فقال سقراط: نعم يا أقريطون، لقد أصاب من حدَّثتَني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أنَّ وراء التأجيل نفعًا يَجنونه، وإني كذلك لعلى حقٍّ في ألَّا أفعل كما فعلوا، لأني لا أظنُّ أني مُنتفع من تأخير شراب السُّمِّ ساعةً قصيرة! إنني بذلك إنما أحتفِظ وأُبقي على حياةٍ قد انقضى أجلُها فعلًا، إني لو فعلتُ ذلك سخرتُ من نفسي. أرجو إذن أن تفعل ما أشرتُ به ولا تعصِ أمري! فلمَّا سمِع أقريطون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبَثْ إلا قليلًا حتى عاد يصحَبُه السجَّان يحمِل قدَح السُّم؛ فقال سقراط: أي صديقي العزيز! إنك قد مُرِّنت على هذا الأمر، فارشِدْني كيف أبدأ؟ فأجاب الرجل: لا عليك إلَّا أن تجُول حتى تثقُل ساقاك، ثم ترقُد فيَسري السُّم. وهنا ناول سقراط القدح، فحدَّق في الرجل بكلِّ عينَيه، يا أشكراتس، وأخذ القدَح جريئًا وديعًا لم يُرَع ولم يُمتَقَع لون وجهه؛ هكذا تناول القدَح وقال: ما قولك إذا سكبتَ هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: إنَّنا لا نُعِدُّ يا سقراط إلا بمِقدار ما نظنُّه كافيًا. فقال: إني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحقُّ لي بل يجِب عليَّ أن أُصلِّي للآلهة أن تُوفِّقني في رِحلتي من هذا العالَم إلى العالَم الآخر؛ فلعلَّ الآلهة تَهَبُني هذا؟ فهو صلاتي لها، ثم رفع القدَح إلى شفتَيه وجرَع السُّمَّ حتى الثُّمالة رابِطَ الجأش مُغتبطًا، وقد استطاع مُعظمنا أن يكبَحَ جماح حُزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرَب السُّمَّ، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعُد في قوس الصبر مَنزِع، وانهمَر منِّي الدمع مدرارًا على الرغم منِّي، فسترتُ وجهي وأخذت أندُب نفسي … حقًّا، إني لم أكن أبكيه، بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مِثل هذا الرفيق، ولم أكن أول من فعل هذا، بل إن أقريطون، وقد ألفى نفسه عاجزًا عن حبس عبراته، نهض وابتعد، فتبعتُه، وهنا انفجر إيولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت في صيحةٍ عالية وضعتْنا جميعًا مَوضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منَّا إلَّا سقراط. فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟! لقد صرفتُ النسوة خاصةً حتى لا يُسِئنَ صنيعًا على هذا النحو؛ فقد خُبِّرتُ أنه ينبغي للإنسان أن يُسْلِمَ الرُّوح في هدوء، فسُكونًا وصبرًا … فلمَّا سمِعنا ذلك اعترانا الخجل وكفكفْنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجوَّل حتى بدأت ساقاه تتخلخلان — كما قال — ثم استلقى على ظهرِه، كما أُشير له أن يفعل. وكان الرجل الذي ناوَلَه السُّم ينظُر إلى قدَمَيه وساقيه حينًا بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدَمَيه وسألَه: هل أحَسَّ فأجاب أَنْ لا، ثم ضغط على ساقِه، وهكذا صعدَ ثم صعد، مُشيرًا لنا كيف أنه بَردَ وتصلَّب. ثم لمس سقراط نفسُه ساقَيه وقال. ستكون الخاتمة حين يصِل السُّم إلى القلب. فلمَّا أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذَيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثَّر نفسه بغطاءٍ وقال (وكانت هذه آخِر كلماته):
هكذا يا أشكراتس قضى صديقُنا الذي أدعوه بحقٍّ أحكمَ مَنْ قد عرفتُ من الناس، وأَوْسَعَهم عدلًا وأكثرهم فضلًا.