(١) تاريخ الرومان ومُؤرِّخوهم
رجل الكلام ليس دائمًا — بل ليس غالبًا — رجل العمل، فصاحب
القلَم الذي يسجل أحداث التاريخ ويصوِّر جوانب الحياة كثيرًا
ما تراه حييًّا عاكفًا على نفسه لا يجرؤ أن يقود كتيبةً إلى
حَومة الوغى، أو يقود في السياسة حزبًا من المُعارضين، ولكن
أين — في الأدب أو في الحياة — تلك القاعدة التي تخلو من شذوذ؟
فقد يحدُث أحيانًا أن يكون حاملُ القلَم صاحب العمل. وإن أردت
من رجال التاريخ أمثلةً تلتقي فيها فصاحة القول وعِظَم العمل
وجدتَ في مُقدِّمة هذه الأمثلة «يوليوس قيصر»
١ الذي صنَع التاريخ بحروبه، ودَوَّنَ التاريخ
بقلَمِه؛ فكتابه «تعليقات» كتَبَهُ عن حروب الغال والحرب
الأهلية بينَه وبين «بومبي»
٢ في أسلوب القصة الواضحة المُستقيمة، ممَّا يشهد له
بالبراعة في دولة الأدب. وإنما كتَب قيصر هذا الكتاب ليدافع عن
نفسه أمام الرومان، ولكنه كان سياسيًّا قديرًا وفنَّانًا
بارعًا، فعرَف كيف يعتدِل في حديثه فيبسُط للناس قضيَّته لا
يُرائي ولا يفاخِر ولا يُشوِّه الحقائق، فهو يدوِّن مذكراته
ويصِف مغامراته في خِضَمِّ الحوادث التي أحاطت به، والتي كان
هو نفسه مُصوِّرَها وباريها إلى حدٍّ ما، ولكنَّ حوادث الزمان
كانت أقوى من مُصَوِّرها وخالِقِها، فصرعتْه على يدي «بروتس»
٣ وعُصْبته، ممَّن أكل الحِقْدُ قلوبهم، فجاء مَصرعه
عبرةً من عبر الزمان توحي للشعراء بالشِّعر؛ فأوحت إلى شيكسبير
هذه المأساة التي تُصوِّر قيصر: كيف مُدَّ له في السلطان وكيف
قصفَهُ الموت.
تقرأ كتاب «التعليقات» فترى كيف استطاع قيصر أن يَضُمَّ ألوف
الأشتات في عبارةٍ مُطَّردة: فهذه ألوف الحادثات، وهذه طائفة
كبيرة من حملاته الحربية، وهذه دسائس ومؤامرات يحُوكها حوله
الأصدقاء والأعداء، وغير هذه من ألوان الحديث في شتَّى المسائل
تطَّرد كلها في نسيجٍ محبوك، إنه لفنَّان قدير! وهاك مثالًا من
كتابه «تعليقات على حروب الغال»:
تنقسِم الغال
إلى ثلاثة أقسام، فقِسم للبلجيين،
٤ وقِسم للأكوتيين
٥ وثالث لمن يُسمَّوْنَ في لُغتهم بالكلتيِّين
٦ وفي لُغتنا بالغاليين،
٧ وهذه الأقسام الثلاثة يختلف بعضها عن بعض
في اللغة والعادات والقوانين. والهلفيتيُّون
٨ طائفة من الغاليين تمتاز عن سائر الطوائف
ببأسها لأنها في قتالٍ مُتَّصِل مع الألمان، وفي العهد
الذي كان فيه «مسالا»
٩ «وبيزو»
١٠ قُنصُلين، دبَّر «أورجيتوركس»
١١ — وهو بين الهلفيتيين في الطليعة —
مؤامرةً من الأشراف، وألقي في روعهم أنه من اليسير
عليهم أن يكونوا سادة الغاليين جميعًا ما داموا
أشدَّهم بأسًا، وما هي إلا أن أُعِدَّت العدَّة لذلك،
لولا أن باغتَتِ المنيَّة «أورْجيتُورِكْس» وكان من
الطبيعي أن يُشكَّ بأنه انتحَر. ومع ذلك فقد حاول
الهلفيتيون بعد مَوته أن يخرجوا عن نطاق أرضهم. فلما
أُنبئ قيصر أنهم يحاولون أن يشقُّوا لأنفسهم طريقًا في
أرضنا، جمع كلَّ قوة استطاع جمعها، وسار بها مُدجَّجة
بسلاحها حتى بلغ جِنْوَا؛ فأرسل الهلفيتيُّون سفراءهم
إلى قيصر يلتمِسون الإذن باختراق الإقليم الروماني،
لكن قيصر رفض أن يُجيبهم إلى ما طلبوا لأنه ذكر أن
القُنصل «لوسيوس كاسيوس»
١٢ قد اغتاله الهلفيتيون الذين مزَّقوا جيشَه
وأخضعوه تحت نيرِهم. فلمَّا خاب رجاء الهلفيتيين
حاولوا أن يشقُّوا طريقَهم بالقوَّة عبْر الرُّون،
لكنهم سُرعان ما كفُّوا عن المسير إذ رأوا مُقاومة
الجند الرومان. فلما انتهت حرب الهلفيتيين جاء السفراء
من مُعظم أجزاء الغال ومَثَلوا بين يدَي قيصر
يُهنِّئونه ويُعلنون أن انتصاره لا ينفع بلاد الغال
أقلَّ مما ينفع الشعب الروماني؛ لأن الهلفيتيين قد
غادروا أرضهم مُعتزمين إخضاع الغال كلِّها. ولما
انفضَّ اجتماع السفراء بقِيَ منهم رؤساء «إيدْوِي»
١٣ و«سكواني»
١٤ يرفعون شكاتهم إلى قيصر بأنَّ ملك الألمان «أريوفستوس»
١٥ قد حلَّ بجُنده في بلادهم وانتزع ثُلث
أراضيهم وهو خَير مكانٍ في الغال كلها، ثُم أمرهم أن
يُخلوا له ثلثًا ثانيًا، فأرسل قيصر سفراءه يطلبون من
«أريوفستوس» أن يُحدِّد مكانًا لمؤتمر ينعقِد، لكن
«أريوفستوس» ردَّ السفراء بجواب جاف، وأعاد الجواب
نفسه في عَرْضٍ آخَر. فلمَّا بلغ قيصر أن ملك الألمان
كان يُنذِر باحتلال «فيسونشيو»
١٦ عاصمة إقليم «سكواني» سارع بجيشه
فاحتلَّها، فما كاد «أريوفستوس» يعلَم هذا النبأ حتى
غيَّر موقفه وأرسل الرُّسُل لتُنبئ قيصر أنه لا يُمانع
في لقائه ما دام قد اقترب أحدهما من الآخر وأصبح
اللقاء ميسورًا بغير التعرُّض للخطر. وانعقد المؤتمر
ولكنه لم يُؤدِّ إلى نهاية مُوفَّقة، لأن «أريوفستوس»
طالب الرومان بالانسحاب من بلاد الغال، ثم سلك نحو
الرومان سلوكًا ينمُّ عن عداءٍ شديد انتهى آخِر الأمر
بالقتال، ووقعت بين الفريقَين وقعةٌ على بُعد خمسين
ميلًا من الرِّينْ، فدبَّت الفوضى في صفوف الألمان
وفرُّوا نحو النهر هاربين، فعبَر منهم من عبَر، وقُتل
الباقون أثناء الفرار. وهكذا أُتيح لقيصر أن يَفرُغ في
حملةٍ واحدة من حربَيْن كانتا من أهمِّ حروبه، فقاد
الجيش بعدئذٍ إلى مرابض الشتاء … أمر قيصر أن يُبْنى
من السفن أكبر عدد يمكن بناؤه أثناء الشتاء، وأن
يُصْلَح من السفن الموجودة قديمُها؛ فبُنيت ستمائة من
الناقلات وستُّون سفينة حربية. وبعد أن فضَّ قيصر ما
كان بين رؤساء الغال من نزاع، قصَدَ إلى ميناء «إتْيوس»
١٧ يصحَبُه جنوده، واستصحب عددًا كبيرًا من
أعظم رؤساء الغاليين ليكونوا في قبضتِهِ رهينة،
وليحتفِظ بهم أثناء حملته المُقبلة على بريطانيا،
خشيةَ أن يُثيروا في غيبتِهِ اضطرابًا في بلاد الغال.
ولمَّا عبَرَ قيصر إلى الشاطئ البريطاني وأنزل جنودَه
في مكانٍ مُلائم، تقدَّم نحو اثني عشر ميلًا، وردَّ
كلَّ هجمةٍ قام بها فرسان العدوِّ وراكبو العجلات، ثم
سار على رأس جيشه نحو نهر التيمز مُخترقًا مُلْكَ «كاسيفلونس»،
١٨ وكان التيمز لا يُسْتطاع خَوضُه إلا من
مكانٍ واحد، وهنا حدثَت مناوشات انتهت بمُقاتلة
البريطانيين. وقد أرسل «كاسيفلونس» رُسُلَه إلى أربعة
الملوك الذين كانوا يحكمون «كِنْت»
١٩ والأقاليم المُتاخِمة للبحر … يأمرهم أن
يحشدوا كل قوتهم ليهجموا على المعسكر البحري، وانتصر
الرومان في الموقعة التي نشِبَت بعدئذٍ، فلمَّا سمع
«كاسيفلونس» نبأ الكارثة، أرسل سفراءه إلى قيصر
يُفاوضونه في أمر التسليم. ولمَّا كان قيصر قد اعتزم
أن يقضي الشتاء في أوروبا للثورات المفاجئة التي
اشتعلت في بلاد الغال، طلب عددًا من الرهائن، وحدَّد
جزيةً يدفعها البريطانيون كلَّ عام للشعب الروماني
…
وكان يُعاصر قيصر ويُناصره مؤرِّخ آخر، لعلَّه أول من أرَّخ
للرومان في حياد، ينظُر إلى الحوادث نظرةً موضوعية، وهو «سالست»
٢٠ الذي أثراه أن كان حاكمًا على «نوميديا»
٢١ وهي إقليم في أفريقيا تابِع لروما؛ فلمَّا مات
قيصر عام ٤٤ق.م. اعتزل «سالَسْت» منصبَهُ وأوى إلى داره في أرض
الوطن حيث عاش عَيش العلماء في هدوء البحث، وهو مؤرِّخ صائب
الحُكم، استخدم أعوانه يدرُسون له الوثائق ويُقاربونها فيبني
حُكمَه على دراستهم، وكان فوق ذلك كاتبًا فنَّانًا يعرِف كيف
يصُوغ قصَّته في أسلوبٍ شائق، وقد بقي لنا من مؤلَّفاته كتابان
كامِلان هما «مؤامرة كاتلين»
٢٢ و«تاريخ الحرب بين الرومانيين وملك نوميديا»،
فكأنما تتعاون كتُب قيصر وسالست على تصوير روما: كيف نشرت
سلطانها؛ فقيصر يروي كيف امتدَّت سيادتها في الشمال، وسالست
يقصُّ علينا كيف اتَّسعت رُقعتها في الجنوب. وفيما يلي مثال من
كتاب «كاتلين» الذي يصِف فيه وصفًا ضافيًا مؤامرةً دبَّرها
كاتلين سنة ٦٣ق.م. لقلْب الحُكم في روما.
«إني أضَعُ المواهب العقلية للإنسان في منزلةٍ أعلى من
الخصائص الجسدية، وقد اسْتَهْواني عمل المؤرِّخ لأنه يشحذ
مواهب الكاتب إلى أقصى الحدود، وكانت المطامع الشخصية قد
اجتذبَتْني بادئ الأمر إلى خَوض المُعترَك السياسي، لكنَّ جوَّ
السياسة بما يملؤه من ضعةٍ وفساد كان يتنافر مع طبعي، فاعتزمتُ
اعتزاله، لأُخصِّص نفسي لإخراج سلسلةٍ في البحوث التاريخية
التي وجدتُ نفسي أشدَّ ملاءمةً لها؛ إذ تحرَّرت من المؤثرات
التي تُلوِّن وجهة نظر المُتحزِّب السياسي، وقد اخترتُ مؤامرة
كاتلين لتكون أول حلقةٍ من مباحثي.
كان «لوسيوس كاتلينا»
٢٣ [وهو معروف باسم كاتلين] شريف النَّسب موهوبًا، ذا
بسطةٍ في العِلم والجسم على خير ما يُوهَب الإنسان، ولكنه كان
غاليًا في فجورِه قويَّ الاحتمال إلى درجة الشذوذ مُستهترًا،
ماكرًا مُتعدِّد الجوانب، أستاذًا في فنون الخِداع، مُقتِّرًا
ومُسرفًا في آنٍ معًا، ذا عاطفةٍ مُحتدمة لا تشكمُها الشكائم،
حاضِر البديهة لكنه لم يُوهَب من البصيرة النافذة إلا قليلًا.
وكان مُتطرِّفًا في مَطامِعه حتى لا سبيل إلى إشباعها، يتحرَّق
شوقًا أن يبسُط سلطانه على الدولة، بعد أن انْقَضَتْ سيادة «سالا»،
٢٤ لا يعبأ بالوسائل لبلوغ غايته. ولمَّا كان بطبعِه
شديد المِراس فقد شجَّعَه على المُضيِّ في سبيله شهوة المال
وإحساسُه بما يقترِف مِن آثام، والانحلال الخُلقي في مجتمع
سادَه التَّرَف والشَّرَه جنبًا إلى جنب. وسرعان ما اجتذبَ
كاتلين إلى عُصبته أشرس الناس وأشدَّهم استهتارًا وأكثرَهُم
إسرافًا، وأمعنَهم في الإجرام، فمن لم يكُن من هؤلاء قد بلَغَ
منه الفساد أقصاه فمِثل هذه العصبة كانت خليقةً أن تُفسِده
بتأثير زعيمها المُضلِّل المشئوم؛ فإن هذا الرجل لم يتورَّع في
سبيل مفاسِده أن يقتُل ابنه، ولم يتردَّد أن يستحثَّ أتباعه
إلى اقتراف الجرائم بكافة صنوفها. وبِمِثْلِ هؤلاء الأصدقاء،
وبمساعدة جيش «سالا» المُنحلِّ الذي كانت تحتشِد جموعُه في
إيطاليا، طمِع كاتلين في قلب الدولة الرومانية بينما كانت
جيوشها مُغْتربةً في القتال تحت قيادة «بومبيوس»،
٢٥ وكانت خطوته الأولى أن يضمَن انتخابه قنصلًا، وقد
فشِلت إحدى مؤامراته لأنه هو نفسه قد تحرَّك للعمل قبل سُنوح
الفرصة الملائمة، لكنَّ المتآمِرين لم يلحقْهُم أذًى. وكانت
عُصبة كاتلين عندئذٍ قد ضمَّت أعضاءً من أعرق الأُسَر ومن
مرتبة الفرسان، بل إنَّ «كراسوسْ»
٢٦ نفسه — فيما يُظَنَّ — قد ساهم في المؤامرة لِما
بينه وبين «بومبيوس» من تنافس، وألقى «كاتلين» في جمعية
المُتآمرين خطابًا يُحرِّك كوامن الضغينة في النفوس، فحثَّ
هؤلاء الذين نبذَهم المجتمع أن يثوروا على البلوتقراطية
٢٧ المُتكبِّرة، التي أسْمَنَتْها ثَرْوَةٌ جُمِعت من
أسوأ السُّبل، والتي كان للسامِعين حقٌّ فيها لا يقلُّ عن حقِّ
مُغتصبيها، ووعدَهم أن يُلغي الديون كلها، وأن يُخضع الأثرياء
لأحكام القانون من نفيٍ وإعدام، وأن يُعمِّم تطبيق القاعدة
القائلة بأنَّ «من قتل قتيلًا فلَهُ سَلَبُه.» وذكَّرهم بأن له
أصدقاء في مراكز القيادة من جيوش إسبانيا وموريتانيا،
٢٨ وأنه لو وُفِّق أنطونيوس
٢٩ في انتخابه قنصلًا ثانيًا معه لضمِن
تعاوُنَه.
ذلك هو مُلخَّص خطابه، ولكني لا أُصدِّق الخُرافة الشائعة
بأنَّ المتآمِرين قد تعاهدوا في إناءٍ مُلئ خمرًا ممزوجًا
بالدماء. لكنَّ أنباء المؤامرة أخذت تتسرَّب على لسان امرأة
تُدعى «فولفيا»
٣٠ كانت خليلة «لكِوِنْتُوس كبُورْيُو»
٣١ الذي كان قد طُرِدَ من مجلس الشيوخ لِما ارتكبَهُ
من ألوان العَسْف، وربما كان ذلك حافزًا لكثيرٍ من الأشراف أن
يؤيدوا شيشرون لمنصِب القنصلية، مع أنهم لولا ذلك لعارَضوا
شيشرون من الوجهة الدينية لِما عُرِف عنه من حرية الرأي؛
ونتيجة هذا أن فشِلت مساعي كاتلين من أجل القنصلية، وأَنْ تمَّ
انتخاب شيشرون قنصلًا وإلى جانبه أنطونيوس قنصلًا ثانيًا.
ولمَّا رأى شيشرون آخِر الأمر أن بذور الثورة تنتشِر في كل
مكانٍ إلى حدٍّ لا تكفي لكبحِها القوانين العادية، فقد ظفِر من
مجلس الشيوخ بسلطةٍ استثنائية يحكُم بها الأمَّة كما تُحكَم في
حالة الطوارئ المفاجئة، وكان للمجلس حق دستوري في أن يمنحَه
مثل هذه السلطة، فلمَّا جاءت الأنباء بأن «مانْليوس»
٣٢ وهو من أتباع كاتلين، قد شقَّ عصا الطاعة في «إتروريا»
٣٣ على رأس قوَّةٍ مسلحة، اتَّخذ على الفَور تدبيرًا
إداريًّا، وبعث بقواتٍ حربية كافية إلى أرجاء البلاد جميعًا.
أما كاتلين نفسه فلم يفعل شيئًا في العَلَن، وحضر إلى مجلس
الشيوخ فهاجمَه شيشرون على الملأ، فلمَّا أجابه بألفاظ السباب
قُوطع بصيحاتٍ مُستنكِرة، فاندفع خارج المجلس وهو يصيح: «ما
دمتُ مُحاطًا بالأعداء منبوذًا، فإنَّ النار التي أشعلتموها
حَولي لن ينطفئ لهيبُها إلا بدمائكم.» وأدرك أن التلكُّؤ قد
يقضي عليه، فقصد من فوره إلى معسكر «مانليوس» تاركًا وراءه «سيثيجوس»
٣٤ و«لِنْتِيوس»
٣٥ يُشعِلان الفتنة في روما. وأرسل خطابات إلى كثيرٍ
من ذوي المناصب العُليا يُعلن فيها أنه سيعتزِل في مرسيليا،
ولكنه بعث برسالةٍ تختلف وما ورد في الخطابات، إلى رجلٍ ظنَّ
خاطئًا أنه مَوضع ثقتِه هو «كاتالَّسْ»
٣٦ الذي بادر إلى تلاوة الرسالة في مجلس الشيوخ، ثم
عُلم فيما بعد أن كاتلين قد اتَّخذ لنفسه حقوق القُنصل واتَّصل
بمانليوس، وعندئذٍ أعلن أنه خائن مارِق على أُمَّتِه، وفُرِضت
ضريبة على الشعب، وعُيِّن أنطونبوس قائدًا في حَومة القتال،
وبقِيَ شيشرون في العاصمة لتصريف الأمور …»
في جيلٍ واحدٍ شهدت روما من كُتَّاب النثر قيصر وشيشرون
وسالست. وفي الجيل الذي تلاه، دخلت المسيحية روما وأصبحت
الإمبراطورية الرومانية هي العالَم يحكُمها قياصرة ذوو فخامةٍ
وجلال. وأول هؤلاء «أوغسطس»
٣٧ حتى سُمِّي العصر الأدبي عندئذٍ بالعصر
الأوغسطيِّ، كما يُسمَّى العصر الذي شهد شيكسبير في إنجلترا
بعصر أليصابات. في ذلك العصر الأوغسطي الزاهر كان في طليعة
المؤرخين، وعلى رأس كتاب اللاتينية الناثرين «ليفي»
٣٨ الذي حاول أن يُدوِّن قصة روما كاملةً منذ نشأت
حتى عصره في مؤلَّف عنوانه «كتُب في التاريخ منذ أُسِّست
المدينة»، ولكن لم يبقَ من كتابته سوى ربعها. فكان هذا القليل
الباقي كفيلًا وحدَه أن يضعَه في الصفِّ الأول من رواة
التاريخ، وذلك بإجماع الآراء من مؤرِّخي العصر الحديث؛ فهو
لروما كاتبُ مَلحمتها النثرية الكُبرى كما كان «فرجيل» كاتب
ملحمتها شعرًا، وإنَّ لنثره نفحةً قوية من الشعر؛ فروما في
العصر السابق للمسيح لا تحيا على صفحات التاريخ إلَّا في هذه
الصورة التي رسمَها «ليفي»، فكأنما هو خالقها أو على الأصح هو
باعثها وناشِرها من كُتُب المؤرِّخين السابقين. كان «ليفي»
ينظر إلى عصره نظرةَ المتشائم، شأنه في ذلك شأن كثيرٍ من
الفلاسفة والمؤرِّخين، فتلفَّت إلى الوراء يرنو إلى تاريخ
أُمَّتِه في مجدِها الماضي بعينٍ ملؤها الحسرة على سؤدَدٍ قديم
يتهدَّم. وليس ذلك بعجيب من رجل ولد مؤرخًا، فمن لم يَفْتِنْهُ
ماضي أُمَّته لم تُهَيِّئْهُ الطبيعةُ أن يكون مؤرخًا لها.
وهكذا كان «ليفي» مؤرخًا موهوبًا مثل من سبقه من المؤرخين،
ووضع الأساس لكلِّ من جاء بعدَه يريد أن يؤرِّخ لروما.
وفي النصف الثاني من القرن الأول بعد ميلاد المسيح، وفي
أوائل القرن الثاني، جاء «تاسيت»
٣٩ ثالث الأعلام من مؤرِّخي اللاتين وكتابه «جرمانيا»
أول رواية قَصَّها مؤرخ عن التيوتون الأوائل الذين عاشوا منذ
ألفي عام؛ فقد أعجب «تاسِيت» — كما أُعجب قيصر — بهؤلاء القوم
الذين كانوا في نظر المُثقَّفين من الرومان شعبًا بدائيًّا من
الهمَج المُتوحِّشين، ولكن كان من عوامل سيادة الرومان أنهم
على ما أظهروا من قسوةٍ وبطشٍ بغيرهم من الشعوب والقبائل، كانت
لا تُعمِيهم الأنانيةُ عمَّا لها من حسناتٍ فيزنونها بميزانٍ
فيه شيء من العدل والإنصاف. ولعلَّ «تاسِيت» حين أشاد بفضائل
تلك القبائل الجرمانية في بساطتهم وشهامتهم أراد بذلك أن يُلقي
درسًا على جماعة الرُّومان الذين أفسدَهم التَّرَف والإسراف.
اقرأْ له هذه القطعة الوصفية
نقتبِسُها من كتاب
«جرمانيا» يعرِض فيها على بني وطنه صورةً من الحياة بين
القبائل الآرية تَفضُل ما أَلِفُوه: «إن رباط الزوجية بينهم
صارم وشديد، وليس في أخلاقهم ما هو أجدَرُ منه بالثناء؛ فإنهم
يكادون يتفرَّدون بين البرابرة بالاكتفاء بزوجةٍ واحدة مع
استثناء نفرٍ قليل منهم يُعَدِّدُون الزوجات، لا عن إغراق في
الشهوة، ولكن بقصد التحالُف الذي يُطلَب إليهم أن يَعقِدوه،
لِما لهم في قومهم من مكانةٍ ممتازة، ولا تُمهِرُ الزوجةُ
زوجَها بل يُمهِر الزوجُ زوجتَه، ويجتمع الآباء والأقرباء
ليُبدوا علائم الرِّضا بما قُدِّمَ للزوجة من هدايا، وإنها
لهدايا لا تُختار لتُشبِع أذواق النساء أو تُستخدم في زينة
العروس، ولكنها ثِيَرة وخيول مُطهَّمة ودروع وحراب وسيوف، فتلك
هي الوسائل لخِطبة الزوجة التي تُقدِّم أيضًا الهدايا إلى
زوجها مُؤلَّفةً من صنوف السلاح؛ فذلك في رأيهم أدوم ما يربط
بين الزَّوجَين، وفيه كل أسرار التقديس وشعائر الدِّين. ولكيلا
تظنَّ أن الزوجة مُعفاة مما تفرِضه عهود الشِّدة من جهود، أو
مُستثناة من أخطار الحروب، فإنها تُقسِم يوم الاحتفال بزواجها
أنها إنما جاءت إلى زوجِها لتُشاركه كدْح العمل وأهوال الخطر،
وتُقاسِمه النعمة والنقمة في السِّلم والحرب … هكذا تحيا وهكذا
تموت، فقد ورثت ما لا بدَّ أن تُورِثَه أبناءها مَصونًا كريمًا
…»
وكذلك دوَّن «تاسِيت» تاريخ عصره وبقي لنا من كتابه هذا جزءٌ
كبيرٌ هو أساس عِلْمنا بالقياصرة الأوَّلين. وإنَّ عبقرية
«تاسيت» لتبدو على أوضحها وأجلاها في قُدرته على تصوير الأشخاص
وفي أسلوبه الذي يمتاز بالإيجاز المُحكَم، وهو فيما كتب
أخلاقيٌّ صارِم، يعرِض لقارئه آثام الأباطرة لا يُخفي منها
شيئًا، ولكنه رغم ذلك يؤمن بالإمبراطورية الرومانية ويُمجِّد
الخُلُق الروماني لأنَّ الفضيلة قَلْبُه وصميمُه، فتاسيت —
كسائر المؤرخين القدماء — كاتب أخلاقي وطني فنان، وتلك روح لا
نزال نلمسها في المؤرخين المُحدَثين حتى أولئك الذين يُصرُّون
على أن تكون دراسة التاريخ موضوعيةً مُحايدة تعتمِد على
الوثائق وحدَها، وعلى البحث عن الحقِّ وحدَه؛ فليس للمؤرخ —
فيما يبدو — بُدٌّ من أن يكون كذلك. على أنَّ قُرَّاء هذا
العصر لا يُطالعون تاريخ روما في تلك الأصول اللاتينية التي
ذكرناها، بل يُطالعونه فيما كتَب المؤرخون المُحدَثون الذين
درسوا هذه الأصول واعتصروها في اللغات الحديثة، وأوْلاهم
بالذكر هو «إدْوَرْدْ جِيبون»
٤٠ الذي يُعَدُّ كتابه «تدهور الإمبراطورية الرومانية
وسقوطها» آيةً في الأدب الإنجليزي.
(٢) شِعر الملاحم في اللاتينية
كان مطمح الأُدباء
الرومان أن يُنشئوا أدبًا يوازي في عظمتِه ما أنشأته اليونان،
فذلك ما أملاه عليهم الطموح في الفنِّ وأوحاه إليهم حُب الوطن.
ولئن فاتَهم أن يُحقِّقوا هذا الأمل في الروايات المسرحية، فقد
أوشَكوا أن يُحقِّقوه في الشِّعر على يدَي شاعر اللاتين الأكبر
«فِرجيل» (٧٠–١٩ق.م.) الذي ظلَّ الأوربيون قرونًا يُطلقون عليه
اسم «الشاعر» كما كانوا يُطلقون على أرسطو اسم «الفيلسوف». وما
أسرع ما أحاطَهُ الأوربيون في القرون الوسطى بهالةٍ من
التقديس، كأنما هو رسول من رُسل المسيحية، وظنُّوا به السِّحر
وألَّفوا حوله الأساطير. واتَّخذه «دانتي» في القرن الثالث عشر
مُرشدًا وهاديًا ودليلًا؛ فهو شاعر الرومان غير مُنازَع، وواحد
من أئمة الشعر في العالم لو عَدَدْتَ منهم خمسةً أو ستة تضعهم
من قافلة الشعر في الطليعة ومكان القيادة. وأول ما أنشده
فِرجيل من خالد الشِّعر «أناشيد الرُّعاة» وعددُها عشرة، يصِف
بها حياة الرُّعاة في الريف وما يدور بينهم من أساطير، يُحاكي
بها شِعر ثيوقريطس في اليونانية، ولكنها مُترَعة بحبِّ فِرجيل
للطبيعة، ومليئة بنفحات الحقول في شمال إيطاليا حيث أقام
الشاعر. وإنَّ هذه «الأشعار الريفية» لكافيةٌ وحدَها أن تجعل
من فِرجيل شاعرًا قوميًّا لإيطاليا القديمة وإيطاليا الحديثة
على السواء، وهل تغيَّرت مناظر الريف في إيطاليا أو تغيَّر
فيها الربيع؟ ولقد أحسَّ فِرجيل بجمال الريف في الربيع على
نحوٍ لم يتوافَر لشاعرٍ إيطالي سواه، فمتى كتَبَ الشاعر هذه
الأناشيد؟ كتبَها في صدر الشباب، وكانت الغابة التي يَملِكها
أبوه أول ما شهِدَت عيناه. فلما شبَّ وغَشِي روما، ذهب إلى
المَحكمة يُدافع عن قضيةٍ أمام القضاء فالْتاثَ عليه القولُ
وتعثَّر منه اللسان، فعرَف أنه لم يُخْلَقْ لذاك. ثم أراد أن
يكتُب تاريخًا لروما، ولكنه وجد نفسه جاهلًا بروما وتاريخها،
فأدرك أنه لم يُخْلَقْ لهذا أيضًا، فأدار عينَيه نحوَ الريف
الذي نشأ بين أعشابِه وأشجاره ورُعاته، فكان أن أخرج هذه
المجموعة من الأناشيد، وكان الإمبراطور قد أخذ يُقسِّم الحقول
والمزارِع بين أتباعِه، فوقعتْ مزرعة فِرجيل التي ورِثها عن
أبيه نصيبًا لضابطٍ فظٍّ غليظ، ولكنَّ رجلًا من حاشية
الإمبراطور كان قد قرأ «أناشيد الرعاة»، وطرِب لها، فتوسَّل
إلى الإمبراطور أن يرُدَّ للشاعر أرضَه المنزوعة. وهنا تَقرأ
لفِرجيل شعرًا جميلًا يصِف كيف دار الحوار بين الضابط وبين من
ذهب ليستردَّ المزرعة:
صاح الضابطُ في نغمة جافيةٍ
عَنِّي أيُّها الأوغاد فارحَلوا.
فأجاب ليسداس
٤١ صديق الشاعر:
اللهم رُحماك! كيف أباح الغضبُ الهائجُ
لابْن إلهِ الحرب في سَوْرته أن ينال من إلهةِ
الشعر؟
مَنْ ذا إذَنْ يُغَنِّي عرائس الجن، ومَن ذا ينشُر
الظلال الخُضر فوق ينابيع المياه؟
وإنَّ قصةً لُتروى عن نشيدٍ من هذه «الأناشيد
الريفية»، وهي تافهة في ظاهِرِها، ولكنها هامَّة في تاريخ
الأدب لأنها تُعلل هذا الإكبار الذي قُوبل به فِرجيل عند رجال
الكنيسة في العصور الوسطى؛ فقد روى الشاعر في هذا النشيد
روايةً غامضة عن طفلٍ يُولد فينشُر السلام في الأرض، ففسَّرها
المسيحيون بأنها نبوءة لقدوم المسيح. على أنَّ الأشعار الريفية
مهما بلغت من حلاوةٍ وطلاوة، لم تكُن سوى تدريبٍ أدبي يُمهِّد
الشاعر نفسه به لمجموعة أشعاره الثانية وهي: «أشعار الحقول»
٤٢ — وتقع في أربعة كتب — هذه الأراجيز هي شِعر
الطبيعة بكل صفاته وخصائصه؛ هي أنشودة الفلاح حين يحرُث الأرض،
ويفلَح الزرع ويرعى الماشية، ولعلَّ «ميسناس»
٤٣ وزير أوغسطس وحامي الأدب ومُشجِّعه، هو الذي أراد
أن يحمِل على الذين هجروا الريف إلى المدينة، فاتفق مع الشاعر
أن يُنشئ هذه المجموعة من الشعر تدور كلها حول الزراعة، حتى
لتُعَدُّ كتابًا نادرًا في أصول الزراعة، زراعة الكرم والزيتون
وأشجار الفاكهة. وقد ترجمها الشاعر الإنجليزي العظيم «درَيْدِنْ»
٤٤ إلى الإنجليزية شعرًا جميلًا هو خَير عوض لِمن لم
يظفر بالأصل في لاتينيته. وهاك مثالًا من هذه القصائد:
جاء الربيعُ فزَيَّن الغابَ وجَدَّدَ الورق،
وتفتَّحَت أرحامُ الأرض تستقبل البذور،
فهبط عندئذٍ كبير الآلهة من عليائه ليَدفُقَ
في عروسه الفَتِيَّة رذاذًا مُثمرًا
وخالطَتْ أعضاؤه أعضاءَها،
فطعَّم صغار النَّبْتِ عصيرًا كريمًا، وازدهرت في
رعاية الله أعشابٌ مُتزاحِمة،
وأخذت الأطيار المرِحة تؤمُّ الغاب المُنعزِل
وأخَذَ الحيوانُ — وقد مَسَّتْه الطبيعة — يُعيد
ألوان الحُبِّ والغزَل.
وبعد «أشعار الحقول» أَنْشَدَ الشاعر مَلحمتَه
الكُبرى «الإنيادة».
٤٥ وهي تقع في اثني عشر كتابًا، أُنشِئت الستة الأولى
منها على مِثال الأوذيسية لهوميروس، وفيها يقصُّ الشاعر
مُغامرات بطلِه إينياس بعد أن دمَّر الإغريق مدينته طروادة،
وقد دمر إينياس في أسفاره على قرطاجنة، وكان ما كان من حبٍّ
بينه وبين ملكتها «ديدو» ممَّا سيأتي ذِكره بعدُ، وزار العالَم
السُّفلي ليلتقي بروحِ أبيه أنشيز في جنة الخلد. أما الستة
الكُتُب الأخرى من الملحمة فقد جاءت على غرار الإلياذة في أنها
تدور كلُّها حول الحروب التي شنَّها إينياس ليبسط سلطانه على
مملكةٍ أرادت له الآلهة أن يكون حاكِمها — وهي إيطاليا — وقد
أراد فِرجيل بالإنيادة أن تكون واجبًا يؤدِّيه نحو وطنه
العزيز، وأن يُمجِّد بها إمبراطوره أوغسطس؛ أليس أوغسطس بعيدًا
عن مستوى البشر قريبًا من مرتبة الآلهة؟ إذن لا بدَّ أن يكون
سليلَ أُسرة إلهية مقدَّسة، وما دام أوغسطس على هذا الجمال
الفاتن في تكوينه وخَلْقه، فمَن ذا عسى أن يكون جدَّه الأكبر
وأصله الأول؟ لا بدَّ أن يكون الأمير سليل «فينوس» إلهة
الجمال، وفينوس كانت قد أيَّدْت طروادة ضدَّ «أثينا» التي
ناصرت اليونان في ذلك القتال القديم الذي نشِب بين الشعبَين؛
وإذن فلا رَيب أن أهل طروادة هم أسلاف الرومان. هذا هو الأساس
الذي أقام عليه فِرجيل ملحمته «الإنيادة»، ولكن كيف تمَّ
لهؤلاء الطرواديِّين القُدامى أن يُغادروا أرضهم إلى روما
فَينْسِلُوا أبناءهم الرومان؟ إنَّ «أنْشِيز»
٤٦ — وهو من أسرة طروادية عريقة — قد اتَّصل إبان
شبابه وجماله بفينوس؛ فأثمر الاتصالُ بينهما «إينياس»،
٤٧ وهو الذي رحل إلى روما مع أتباع وأشياء، فكان هذا
الأمير الإلهي الجليل جَدًّا أكبر لأوغسطس العظيم.
وتُخطئ في حقِّ الشاعر لو صَوَّرْتَ لنفسك الإنيادة قصيدة
مدحٍ تَقدَّم بها إلى الإمبراطور ليَلقى منه جزاءً حسنًا على
ما أنشد، لأنَّ فِرجيل كان عندئذٍ قد ضخُمَت ثروته وقَويَ
تأثيرُه على الإمبراطور، وإنما أنشدها فِرجيل شعرًا بسيطًا
جميلًا يُشيد فيه بمجد الرومان، ويُمتِّع قارئه لا أكثرَ ولا
أقل. والعجيب في الأمر أنه حين فرغ من قرْض مَلحمته أخذَه
الحياء والخجل، أو قُلْ كان من الشكِّ في قيمة شِعره بحيث
لبِثَ أعوامًا لا يعرِض قصيدته على أوغسطس، وأخذ الإمبراطور
يرجو ثُم يرجو ثم أخذ يَعِدُ ثُم يتوعَّد، حتى أَطْلَعَهُ
الشاعر على ما أنشد. ومن لطيف ما يُروى أنَّ فِرجيل وهو يقرأ
الملحمة أمام الإمبراطور وزوجته الإمبراطورة أوكتافيا
٤٨ قد أثَّر في قلب الإمبراطورة حين ورد في القصيدة
ذِكر ابنها، فسقطتْ في إغماء لم تُفِقْ منه إلا بعد عُسْرٍ
ومشقَّة، ولقد قال في الإنيادة إذ ذاك شاعر:
أذعِنوا يا كُتَّابَ الرومان، وأمسِكوا أيها
اليونان!
إنَّ هذا الرجل لينطق بشِعرٍ أين منه شِعر
هوميروس.
لكن «فِرجيل» أحسَّ في قصيدته نقصًا شديدًا،
وأثار ثائرته نقْدُ النقَّاد بأنه سارِق سطا على هوميروس،
فصمَّم أن يهجُر روما إلى أرض اليونان وآسيا الصغرى حيث يقيم
ثلاث سنواتٍ يَصْقُلُ أشْعاره ويزيل عنها كل أثَرٍ لسلَفِه
الضرير، لكنه وهو في طريقه قابل أوغسطس في أثينا، وألحَّ
أوغسطس أنْ يرافق الشاعر في مَسيره، وفعلًا صحِبَهُ إلى ميغارا،
٤٩ وهنالك لفحتْهُ حرارة الشمس فأصابتْهُ الحُمَّى
ومات في عامه الثالث والخمسين.
ليس الشعراء إلا بشرًا؛ ولكن لو صدق خيال الإنسان فيهم وكان
لهم وَحْي وإلهام، لَما وجدْنا عبارةً نَصِف بها فِرجيل خيرًا
من عبارة أَجْراها في ملحمته على لسان «ديدو»
٥٠ تقولها لحبيبها «إينياس»: «إني أؤمن أنَّ دماء
الآلهة تجري في عروقه.» وهاك خُلاصة لهذا الأثر الأدبي
الجليل.
(٢-١) كيف وفد إينياس الطروادي على قرطاجنة
قرطاجنةُ، تلك المدينة القديمةُ التي بناها المهاجرون
النازحون من صور.
٥١
تُواجِه إيطاليا ومَصبَّ التَّيْبَرْ
على مَبْعدةٍ، عبْر العباب؛ تلك المدينة الغنية
بمالها،
المِقْدَامَةُ في حَومات قتالها
قد فضَّلتْها «جونو»
٥٢ على سائر البلدان
ورسمَتْ لها خُطةً، إن شاء القدرُ،
أن تجعلَ منها سيِّدة العالمين،
ولكن علمتْ «جونو» أن قبيلًا من أَنْسال
طروادة،
كُتِبَ له أن يَدُكَّ من أرض «صُور»
قِلاعها،
وينشُر فوق الأرض سلطانًا، ثم يخطو في ازدهاء
الظافرين،
ويُورِد أرض ليبيا حَتْفَها ودَمارها. بهذا جرى
حُكْمُ القدَر!
فارتاعَتْ لذلك جونو، واستعادت ما مضى من
قتالٍ
حَمِي وطيسُه عند طروادة من أجل اليونان، وهم
أحبابها،
…
فجاهدت الإلهةُ أن تكون في الطريق إلى أرض
اللاتين سَدًّا مَنيعًا،
فتحُول دون أولئك الطرواديِّين الذين سَلِمَتْ
جلودُهم من سيف الإغريق،
ومن عُنْفِ أخيل، فَتُعَرِّضُهُمْ لأهوال
البِحار.
وهكذا لبِث الطرواديون أعوامًا وأعوامًا،
يجُوسُون خلال البحار هائمين في مَهبِّ
القدَر؛
فيا له من جُهدٍ كابَدوه ليُنشئوا شعبَ
الرومان!
لم يكَدْ هؤلاء الطرواديُّون الهاربون —
إينياس وأتباعه — يُقلِعون بسفُنِهم من صقلية بعد تجوال
طويل، حتى أصرَّتْ جونو أن تمضي في عنادها وأن تصُبَّ
عليهم نِقمتها؛ فذهبت من فورِها إلى «أيولَسْ»
٥٣ ملك الرياح، والتقتْ به في جُبِّهِ المُخيف
المُوحِش، وتوسَّلَتْ إليه أن يُثير عاصفةً هوجاء تذهب
بأولئك المناكيد إلى أغوار الماء.
فسدَّدَ رُمحه وضرب به جَنْبَ الجبل،
فأوغل، وانبثقتْ رياح كأنها الفرسانُ إلى أرض
الوَغى اندفعتْ.
خرجَتْ من مكان الطعن تجتاح الأرض
اجتياحًا،
وانقضَّتْ على اليَمِّ فنفذتْ إلى أعمق
الأعماق؛
ترجُّهَا بريحٍ من شرقٍ وريحٍ من جنوب،
وأخذت الأمواج المُخيفة نحو الشَّطِّ
زحفَها،
فملأ الجوَّ صياحُ الرجال وصرير الحبال،
وسرعان ما حَجب الغمامُ عن أعين الناظرين
زُرقةَ السماء وضوء النهار،
وجثم على صدر البحر ليلٌ قاتم محزون.
ثم انْشَقَّتِ السماء عن لمحاتٍ من البرق
خاطفات،
فلمعت بضوئها وأنذرت رُوَّاد البحر بمَوتٍ
قريب.
ويَلْقى بعض الراحِلين حتوفهم في تلك العواصف الهوجاء،
ولكنَّ «نبتون»
٥٤ لا يلبث أن يُسْكِتَ الريح، وينحو باللائمة
على تلك الرياح التي عصفتْ بالبحر دُون أن يأذن لها وهو
ربُّ البحار. وكانت سفينة إينياس قد رَسَتْ فيما رسا على
شاطئ ليبيا بنجوةٍ من الخطر. وهنا تَنتقِل المَلحمة
بأحداثها إلى أجواز الأثير؛ حيث الإلهة حاميةُ إينياس
— وهي فينوس — قد أوتْ تسكُب من عينَيها الدمع الغزير
حزنًا على ابنها، وتصبُّ الشكاة صبًّا في مسامع أبيها «جوبتر»
٥٥ ممَّا قَضَت به «جونو» على إينياس ورجاله من
أهوالٍ وخطوب:
ربَّاه يا مَنْ يحكُم بسُلطانه الأبديِّ
الأناسي والأرباب بقواصِف رعدِه المُخيف،
فيم أَغْضَبَك صاحبي إينياس؟
وما الذي جناه أهل طروادة حتى أُوصِدَتْ
— بعد ما عانَوه من فوادح الكروب —
في وجوههم — هذه الدُّنيا العريضة بما
وسِعت،
فحِيلَ بينهم وبين إيطاليا لا
يَبْلُغُونها؟
إني لَأَعْلَمُ عِلم اليقين أنَّ قضاءك قد جرى
بأنه في مجرى السنين،
ستُنجِب تلك العشيرة ذلك الزعيم
الرُّومانيَّ،
الذي ستُنْهِضُهُ دماء أسلافه الأمجاد،
فيحكُم البحر والبرَّ حُكمًا غير محدود.
فَيُسَرِّي جوبتر عن فينوس حُزنها بأن
يكشِف لها عمَّا قُضِيَ به في عالَم الغيب، ويؤكِّد لها أن
قضاءه لم يتغيَّر فابنها إينياس سيُنشئ مُلكَه في أرض
اللاتين وسيَخلُفُه من بعده ابنه «أسكانيوس»،
٥٦ فيعلو مجدُه وينقُل مقرَّ مُلكِه من حاضرة
أبيه «لافينوم»
٥٧ إلى مكانٍ جديد هو «ألبا لونجا»،
٥٨ ثم تمضى ثلاثة قرونٍ على ألبا لونجا قبل أن
يُنشئ «روميلوس»
٥٩ — سليل الطرواديين — مدينة روما، قال
جوبتر:
وسيُطْلِقُ روميلوس اسمَهُ على عشيرة
الرومان،
ولن أضع لسُلطانهم قيودًا أو حدودًا؛
فإني واهبُهم مُلْكًا لا تحدُّه الأطراف،
وستخشاهم جونو التي تستبدُّ اليوم بأرجاء الأرض
والسماء،
فيتبدَّلُ شعورها، وتقِف إلى جانب «جوق»
من دون الرومان حارسةً تحميهم وهُمْ سادَةُ
البشر.
ويمضي جوبتر فيتنبَّأ بالنصر يُحرزه الرومان على اليونان،
ويختم حديثه بنبوءةٍ عن قدوم القياصرة من أصلاب الرومان،
ثم تعود القصة إلى إينياس تروي أنباء رحلته، فها هو ذا
يجوب الأرض على مقربةٍ من شاطئ إفريقية فيلتقي بأمِّه
الإلهة، وقد تنكَّرت في هيئة فتاةٍ صائدة وتُنبئه أنه إنما
يجُوب في أرض تحكمُها ملكة «صور»، واسمها «ديدو»، وقد
هجرتْ وطنَها في فينيقيا بعد أن مكَر أخوها «بيجماليون»
٦٠ بزوجها «سيخاوس» ففتَكَ به، وهي الآن تبني
حاضرةً جديدة لمُلكها، وهي قرطاجنة، ثم تُشير فينوس على
فتاها أن يأخُذ سمتَهُ نحو قصر الملكة، وتزعُم له أن بها
من قُدرة الكشف عن الغيب ما يُنبئها أنَّ سُفنًا أخرى غير
سفينة إينياس قد بلغت الشاطئ سالمةً من العطب.
ثم استدارت، فاهتزَّ على جيدها ضياءٌ من لون
الورود،
وفاحت خمائل شعرِها بعبير كأنَّه أريج من
الفردوس،
وفاضت على الأرض حواشي ردائها،
فكشفت عن الإلهة الفاتنة بحُسْنِ طلعتِها،
٦١
إنها أمُّهُ! فقَفَل إليها راجعًا يَصيح بها
هاتفًا:
«إلهتي ما أقساك! فيمَ حيرة ابنك؛
تُرْبكينَهُ بهذا التنكُّر العجيب؟ ولِمَ لا
نتصافَح بالأيدي،
فيسمَعُ بعضنا من بعضٍ ويُجيب بعضنا بعضًا
بكلامٍ صريح؟»
فكان جوابُها على قول ابنها ذاك أنْ
زَمَّلَتْهُ بغمامةٍ عجيبة تُخْفيه عن الأبصار، فدَنا هو
وصاحبه الوفيُّ «أشاتس»
٦٢ — مُتلفِّعًا بغمامته — من مدينة الملكة
وصَوَّبَ إليها البصَرَ من نَشَزٍ كان يرتقيه، فلم يسَعْهُ
إلا أن يغبِط أهل قرطاجنة على هذه الحركة الدائبة فهُم
يغدُون ويروحون، في شُغُلٍ يُشيِّدون، كأنهم النَّحل في
خليته. ولمَّا دنا «إينياس» من معبدٍ أُقيم بين عرائش
الأشجار، أدهَشَهُ أن يرى حروبَ طروادة قد صُوِّرت على
الجدران فيلتفِت إلى زميله أشاتس ويقول:
هل تجِد — أي أشاتس — من الأرض موقعًا أو
موضعًا
لا يمُوج بأنباء طروادة الحزينة؟
ذلك هو «بريام»، انظر! ها هنا كذلك قد لَقِيَت
الشهرةُ جزاءها إنَّ العالَم لتغمُرُه الدموع:
ألَا إنَّ خطوب الإنسان لتهزُّ قلبَ
الإنسان.
(٢-٢) الملكة ديدو وبلاطها
بينما كان كلُّ شيءٍ يبدو عجيبًا للأمير
إينياس؛
إذ وقف مَبهوتًا في دهشةٍ عميقة.
عندئذٍ برزتْ إلى الحرَم مليكةٌ فتَّانةُ
الجمال؛
هي «ديدو» تحُوطها حاشية من البواسِل
الشجعان.
وأخذت الملكةُ وهي مُتربِّعة على عرشها تُصرِّف شئون
مُلكها، وإينياس وصاحبه أشاتس يرقُبانها وهما في ردائهما
يَختفيان. وكم بلغَتْ منهما الدهشة حين أبصرا بفريقٍ من
أصحابهما في الرحلة يدنون من مجلس الملكة، وكانا قد يئسا
من وجودهم بين الأحياء، وها هما ذان يسمعان أولئك الرِّفاق
الذين تحطَّمَت بهم السفين يضرعون إلى الملكة «ديدو» أن
تُكْرِمَ لقاءهم وهم رجال إينياس، فتُجيب ديدو على
ضراعتِهم جوابًا كريمًا:
ألا أزيحوا عن قلوبكم الخَوف وانْفُضُوا الهمَّ
فلا تحزنوا!
فمن الذي لا يدري ما طروادةُ، وما عشيرةُ
إينياس؟
من الذي لا يعرِف الرجال وأعمال الرجال واشتعال
القتال؟
كلا، إنَّ نفوسنا نحن الفينيقيين لم تبلُغ من
البلادة هذا الحدَّ البعيد.
إنَّ هذه المدينة — التي أُقِيمُها — مدينتكم،
فهاتوا إلى البرِّ
سفينكم، إنَّ أهل طروادة وأهل صُور
سيجدون في ديدو مليكة تعرِف الهوى؛
أواه! ودِدْتُ لو دفَعَتِ الريحُ التي دفعَتْ
فُلْكَكُم
أميرَكُم إينياس، إذن لكان ازْدَانَ به
بلاطي!
وكانت ديدو على وشْك أن تُنْفِذَ رُسُلَها
ليبحثوا عن إينياس، فكشف البطل عن نفسه بخروجه من
تلك الغمامة العجيبة التي كانت تلُفُّه
لتُخفِيَهُ.
وهكذا وجَّه للمليكة الخطاب، وفاجأ
الحضور
بحديثه فبُهِتَ السامعون: «انظري! ها أنا
ذا؛
أنا الرجل الذي عنه تبحَثين. ها أنا ذا إينياس
ماثلٌ بين يديك.
أنا سليل طروادة الذي سَلِم من أمواج
ليبية.
مولاتي! أنت يا مَنْ أحسَسْتِ وحدَك الرحمة نحو
طروادة،
فأشْفَقْتِ عليها في المِحنة القاسية،
وها أنت ذي تُقاسمِيننا البلدَ والدار،
أيَّتُها الملكة ديدو! لَأَنْ نَجْزِيك على فضلك
الجزاءَ الوفاق، فذلك فوق مقدورنا، بل فوق مقدور
قبيلة «داردانوس» في أنحاء العالَم أجمع.
فإن كان هنالك بين الأرباب من يرقُب
الخير،
وإن كان ميزان العدل قائمًا، وإن كان للشعور
بالحقِّ وجودٌ صحيح، إذن فليَجْزِكِ الآلهة عمَّا
فَعَلْتِ خيرَ الجزاء.
أيُّ عصرٍ سعيد قد أَنْجَبَكِ؟ حدِّثيني؛
مَن أولئك الأسلافُ الذين نَسَلُوكِ رائعةَ
الجمال؟
ما دامت جداول الماء نحو البحر دافِقة، وما دامت
ظلال الجبال نحو الوِهاد مُنحدِرة، وما دامت
السماء ترعى أفلاكَها،
فسيظلُّ قلبي نابضًا بذِكر ديدو مادحًا
ومُكَرِّمًا؛
أينما كنتُ في طول البلاد وعرضها.»
فدُهِشَت ديدو بادئ الأمر أن ترى
ذاك الأمير، ثُم فكَّرت كم لاقي من خطوب:
«أنت يا من ولَدَتكَ الإلهة، أي حظٍّ منكود
اقْتَفَاك
في مغامراتك المَحفوفة بالخطر؟ أي قوة
دَفَعَتْ بك إلى هذا الشاطئ المُوحِش؟
أأنت هو بِعَينه إينياس ذاك الذي ولَدَته
فينوس
وكان أنشيز الدارديُّ له أبًا؟»
وتروي الملكة ما كانت قد سَمِعته عن
الطرواديين من صديقٍ قديم لأبيها، ثم تبسُط يدَها بالعطاء
الكريم واللقاء الحسَن لإينياس ورفاقه.
وحدث أن أقامت الملكة مأدبةً فاخرة، وبينا الحفل قائم
نهضت ديدو بين تلك الأنوار الزاهية الساطعة، وطلبت إلى
ضَيفها أن يقصَّ قصة الكارثة الأخيرة التي نزلت بطروادة،
وأن يروي عن تجواله الذي أنفق فيه سبع سنين.
(٢-٣) سقوط طروادة
حُزْن يُخْرسُ اللسان؛ ذلك — أي مليكتي —
ما أمَرْتِني أن أُجَدِّده؛ تطلبين أن
أروي
كيف دَكَّ الإغريق من طروادة سُلطانَها،
وتلك المشاهدُ الأليمةُ ما وصفُها،
وكان لي أن ألعب فيها دَوْرًا عظيمًا، أفي قصة
كهذه
يستطيع جندي من «الميرميديين»
٦٣ أو من «الدولونيين»،
٦٤ بل هل يستطيع أحدٌ من رجال «يوليسيس»
القاسي القلب أن يُمسك عن سفح الدموع؟
ها هو ذا الليل الرطيب يُسارع إلى السماء
يَغْشَاها،
والأنجم الزواهير تُشير بإطباق الجفون،
ولكن إن كنتِ بأحزاننا مَشغوفةً،
وأردْتِ خُلاصة لآخِر ما حلَّ بطروادة من
خطوب،
فرغم ما ترتجُّ به النفس من أليم
الذِّكرى،
ورغم ما يُذيب النفس من الأسى،
سأروي لك ما تطلبين.
ويأخذ إينياس في شرح خدعة الحصان الخشبي
الذي انتقل في جوفِهِ المُحاربون الإغريق إلى مدينة طروادة
التي كُتِب عليها الدمار، ويروى عن سفك الدماء واشتعال
النيران في الليلة الأخيرة التي بعثَتِ الرُّعب في النفوس،
ويتذكَّر إينياس وهو يروي كيف نهض من نُعاسِه فزعًا على
أثر حُلمٍ مُخيف شهِد فيه أخاه هيكتور جثةً تتقلَّب في
دمائها وتتمرَّغ في الرُّغام حين أخذ أخيل يجري بها
مشدودةً إلى عربته:
أنهضتُ نفسي من نعاسي، وعلوتُ
من الدار سطحَها، وأرهفتُ أذنيَّ
تُنْصِتان،
فكما تَنْشُرُ النارَ عاصفةٌ جنونيةٌ
هوجاء،
فتَلتهِم الحصاد التهامًا، وتترك الحقلَ
بلقعًا،
أو كما ينحطُّ سيلٌ دفَّاقُ الماء من أعلى
الجبل،
فَيُغْرِقُ الحقول إغراقًا، ثم يُغْرِق الزرع
البهيج
الذي كدحَت الثِّيرةُ في إعداده كدحًا،
ثم ينساب فيقتلِع الغابَ ويكتسحِه؛
كما يحدُث هذا فيهبُّ الراعي غير عالِمٍ بما
حدث،
يهبُّ وقد سمِع فرقعةً على مَبعدةٍ،
فيقِف مشدوهًا على رأس صخرةٍ عالية؛
هكذا كنتُ ونزلَتِ النازلةُ، وافتضحت خدعةُ
الإغريق،
فها هنا دارٌ تقوَّضتْ بلهيبها،
وانعكس وهَجُ النار على أمواه «سجيوم»،
٦٥
وصاح الرجال ونفخت الأبواق،
فَجُنَّ جنوني وامتشَقتُ حُسامي فما أحرَّها
شهوةً
أن تجمَع حفنةً من الرجال وأن تخفَّ مع الرفاق
إلى القلاع …
واستحثَّ عزمي ثورةُ السُّخط ومَسُّ
الجنون،
وحدَّثتني النفس أنه جميلٌ أن نموت تحت
السلاح.
لكن كلَّ جهدٍ في مقاومة الأعداء كان عبثًا لا
يُغني عن المدينة شيئًا. وجاء رسول يُنبئ إينياس
أن قد ضاع كلُّ شيء.
•••
ولقيت «داردانيا»
٦٦ يوم حتفِها
وتلك ساعةٌ رهيبة هيهات أن يُجدي في دفعها كفاح
الإنسان،
وذَهَبَتْ ريحُنا نحن الطرواديين، وقُضي الأمر
في «إليوم»
٦٧
ومجدُنا ذاك العظيم
قد تحوَّل كلُّه — بعمل جُوف الجبار — إلى قبضةِ
الإغريق،
ومدينتنا — وهي باللهيب تَستعِر — بات الإغريق
سادتها.
وهكذا انتصر الإغريق على طروادة نصرًا
حاسِمًا؛ فأُسِرَت الأميرةُ «كاساندرا»
٦٨ وقُتِل الملك الشيخ «بريام»، وتظهر «فينوس»
لتأمُر إينياس بالفِرار؛ فيحمل إينياس أباه الكهل على
عاتقه ليُخرجه من أسوار المدينة: ويتبعه ابنه «إيولسْ»،
٦٩ لكن زوجَتَهُ «كروزا»
٧٠ تضِلُّ في المدينة المُضطربة فلا تلحَق به،
حتى إذا ما عاد إينياس يتفقَّدها ألفاها جثَّةً
هامدة.
(٢-٤) مُغامرات إينياس
بقِيَ على إينياس أن يروي للملكة وسائر الحضور قصة
مُغامراته وهو في طريقه إلى بلدٍ أراد له القدَر أن يكون
موطنه؛ فقد ابتنى لنفسه أسطولًا وأبحر به حتى بلَغ تراقيا،
لكن روح «بوليدورس»
٧١ المقتول رفرفتْ حولَه مُنذرةً إيَّاه أن يُسرع
فيغادر «تلك الأرض القاسية» هاربًا؛ وواصل هو وصحبُه السفر
حتى أدركوا «ديلوس»
٧٢ فأشارت عليهم راعية أبولو أن يرحلوا للبحث عن
«أُمِّهم الأولى»، فأخطئوا عنها الفَهم وقصدوا إلى كريت،
وهنالك أُنبِئَ إينياس في رؤياه أنَّ غايتهم المنشودة تقع
ناحية الغرب، وهي بلد يُسمَّى إيطاليا، فأقلع إينياس عن
الشاطئ الغربي لبلاد اليونان، وأرسى سفينه في «أكتيوم».
٧٣ حيث أقام حفلًا للألعاب، ثم أقلع ليرسو في «بوثروتوم»
٧٤ حيث التقى بأرملة «هكتور» — أندروماك — التي
كانت قد تزوَّجت من «هلنيوس».
٧٥
الذي أنبأ إينياس أنَّ وطنه المقصود هو الشاطئ الغربي من
إيطاليا. هكذا أراد له القدَر، وإلى هنالك يجِب أن يشدَّ
الرحال:
وأخذنا في المسير فنشرْنا أجنحة القلاع،
ها نحن أولاء قد طلع علينا الفجر أحمر
قانيًا
وعمدت أنجُم السماء إلى الفرار؛
فرأينا على بُعدٍ تلالًا يكسُوها الضباب،
إذ رأينا الساحل الإيطالي الوطيء،
فكان «أشاتس» أول من صاح «إيطاليا»!
— فردَّد صيحته «إيطاليا» رجالي في مرَح
بهيج،
— ثم جاء أبي «أنشيز» بكأسٍ عظيمة وبالإكليل
توَّجَهُ،
وملأه بصافي الخمر ونادى بالآلهة
مِن موقفه في مؤخرة السفينة العالية: أيتها
الآلهة!
يا سادة البر والبحر في الصحو والعاصفة،
عبِّدوا لنا السبيل ولتُصاحِبنا أنفاسكم.
وهكذا انطلقت بهم السفن سراعًا تجاه
صقلية، وعبَروا المضيق الخطر، هنالك مرُّوا سالِمين ببركان
إتنة الذي يتوهَّج منه اللَّهب كأنه الجحيم، لكن لم يلبَث
في هذا الوضع من الرحلة أن قضى «أنشيز»، وهو خير سندٍ
لإينياس فخلَّفَه لسلسلةٍ من العناء المُضني والشقاء
المُميت. وهنا سكَتَ إينياس عن رواية قصَّته، وما بقِيَ من
رحلته.
(٢-٥) مأساة ديدو
اشتعلت نار الحبِّ في قلب ديدو، ولم تستطِع كِتمانَه عن
أختها «أنَّا».
٧٦ فنفضَتْ لها بعض ما يضطرِم في فؤادها من
عاطفةٍ ملتهبة، فرأت لها أختها أن تعقِد أواصر الحِلف بين
قرطاجنة والطرواديين، وهنا يُضاف إلى القصَّة عنصر جديد؛
فإنَّ جونو التي ما برحتْ تعُوق إينياس وأتباعه وتحُول دون
بلوغِهم الوطنَ الجديد قد شرعتِ الآن تنسُج أحبولةً
لعدوِّها إينياس حتى ينثني عن غايته المنشودة من رحلته،
وهي إيطاليا التي اختارها الله لتكون وطنًا جديدًا له
ولأحفاده من بعده؛ فخرجت الملكة ديدو وإينياس، وبعض
الحاشية والأتباع في رحلة للصيد، لكنَّ السماء لم تلبَثْ
أن تَجهَّمَ وجهُها، واسودَّ بالسحاب أديمها، ولمعَ برقُها
وقصف رعدُها، فانقطع بالملكة وحبيبها إينياس الطريق عن
سائر الرفاق وأَوَيا إلى مخبأٍ يحتمِيان فيه، وهنالك في
ذاك المكان البعيد المُنعزِل أفضى الحبيب إلى حبيبه بما
أفضى، وعَدَّتْ ديدو نفسَها منذ ذلك الحين عروسًا للبطل
الطروادي إينياس؟ فما ذاع في الناس هذا الحُب الجديد حتى
ثارت الغيرة في قلب «آيارباس»
٧٧ وهو أمير ليبي أحبَّ ديدو، وأراد زواجها، فرفع
أكفَّ الضراعة إلى ربِّه جوبتر يدعوه العَون في مِحنته،
فاستجاب لدعائه جوبتر وبعَثَ عطارد رسولًا يأمُر إينياس أن
يَشدَّ رحاله إلى إيطاليا وطنه الموعود؛ فلم يملك إينياس
أن يُنبئ ديدو برحيله، ودبَّر مع ملَّاحيه أن تُقلِع بهم
الفلك في طيِّ الكتمان.
لكن هل يمكن للحبيب أن ينخدِع، لقد أحسَّت ديدو بالمكيدة
تجرى من وراء ستار، وجاءتها الأنباء عن سُفن تُعَدُّ وخطط
تُوضَع، فجنَّ جنونها والتهب باللَّوعة قلبها، واندفعت على
وجهها هائمة تجوس خلال المدينة حتى فاجأت إينياس:
هكذا رجوتَ يا خائنُ أن تُسدِل على خُبثِكَ
الستار،
وأن تُقْلِع عن بلادي في صمتٍ وكتمان،
هَلَّا أَثْناك عن السفر شيء؟ فلا الحبُّ
أقْعَدَكَ،
ولا عهود الأمس، ولا رحمةٌ بديدو من قضائها
المحتوم؟
أمِنيِّ تَلوذُ بالفرار يا إينياس؟ نَشَدْتُكَ
هاتيك الدموع،
نشدتُك يمينًا عاهَدْتَني بها — فلم يَبْقَ منك
لديدو المنكودة
غير يمينك والدموع — ثم نشدتك عناق الحب،
نشدتُك شعائر الزواج وقد بدأناها،
نشدتُك ما أبديتُ نحوكَ من حُسن اللقاء،
بل نشدتُك ما سَرَّكَ من جمالي، أن تُشفِق على
داري من خرابها
فإن بقِيَ للدعاء مُتَّسَع فها أنا ذا أتوسَّل
أن تُبَدِّل ما اعْتَزمْتَ؛
إنه من أجلك بات يَمقُتني عشائر ليبيا
وشيوخُها،
وامتلأت قلوبُ الصوريِّين بُغْضًا
ونفورا,
حدِّثني لِمَن — أيها الضَّيف — أنت تاركي حين
أموت؟
«فبالضيف» لا «بالزَّوج» اليوم أدعوك.
(٢-٦) إينياس في العالَم السُّفلي ثُم في إيطاليا
لكنَّ ضراعة الحبيبة لحبيبها أن يُقيم في بلادها ذهبَتْ
أدراج الرياح، فطعنَتْ ديدو نفسَها بسيفِ حبيبها.
ويستأنف إينياس رحلتَهُ نحو البلد المنشود، ويرسو على
الشاطئ الغربي لإيطاليا ويُسارع إلى كهف «سيبيل»
٧٨ حيث يُنبئ الكاهنة أنه يريد الرحلة إلى
العالَم السُّفلى ليرى هنالك أباه أنشيز، فتصحبه الكاهنة
تهدِيه السَّبيل ويهبِطان معًا إلى منازل الموتى وقد
امتلأت أرواحًا وأشباحًا.
ولم يكادا يبلُغان ذلك العالم السُّفلي حتى يعبُران نهر «ستِكْسْ».
٧٩
ويُشْرف على عبورها «شارون»
٨٠ النُّوتي الكئيب، ثُم تمضي الكاهنة يتبَعُها
إينياس خلال عالَمٍ كله يأسٌ وقنوط، ترُوح فيه وتغدو صنوفٌ
من أشباح الموتى. وهنالك يلتقي إينياس بكثيرين من أبطال
طروادة ويُقابل الملِكة ديدو، فيرى عينَيها تقدَحان
الشرَرَ مقتًا وغيظًا، ثم يبلُغان «اليزيوم»
٨١ حيث يجد إينياس أباه فيُنبئه أبوه بما قد كُتب
لسلالته من مجدٍ وفخار.
(٢-٧) حروب إينياس في إيطاليا
وكان بين النبوءات التي تنبَّأت بها «سيبيل» لإينياس
قتالٌ عنيف تُراق فيه الدماء، وعروس من أجلها يلاقي
الطرواديون أفدح الأخطار. فلمَّا بلَغ إينياس نهر التيبر
آمِنًا، وقع ذلك موقع الرِّضا من مَلِك ذلك الإقليم «لاتينوس»
٨٢ الذي وعد إينياس أن يُزوِّجه ابنته الأميرة «لافينيا»،
٨٣ لكن مَلكًا آخَر هو «تورنوس»
٨٤ كان يَعتبِر «لافينيا» عروسَه المُرتقَبَة،
فأثار نفسه ذلك الوعد الذي قطعَهُ أبوها أن يُزوِّجها
لإينياس، أضِفْ إلى ذلك أنَّ الإلهة «جونو» — وهي التي
تُناصِبُ إينياس العداء — غضبتْ لهذا الحظِّ السعيد يُصادف
إينياس، وأسرعت فنادت من العالَم السُّفلي شيطان الانتقام
ليُشعل نار القتال ويُنفِّر الملكة الوالدة من هذا الزواج
الموعود حتى تقف حائلًا دونه، وهكذا تأهَّب أهل إيطاليا
القديمة لصراعٍ وشيك الوقوع.
وفي هذا الموقف الخطير أشار إله النهر «تيبر»
٨٥ على إينياس أن يُبحِر على ظهره حتى موطن
المَلك «إفاندر»
٨٦ فيُحالفه على عدوِّه، وكانت عاصمة مُلكه —
مدينة «بلانتيوم»
٨٧ — قائمةً في الموضع الذي أُنشئت عليه روما
فيما بعد. وحالَفَه ذلك المَلِك وأتباعُه وأصدقاؤه، كما
صنَع له «فَلْكان»
٨٨ — إله النار والحدَّادين — عُدَّةً حربيةً
أوصتْه بصُنعها «فينوس».
وانتهز «تورنوس» — عدوُّ إينياس ومُنافسه — فرصة غيابه —
غياب إينياس — عن مُعسكره وحاصَرَ جنوده الطرواديين.
وأخيرًا عاد إينياس وفي صُحبته «بالاس»
٨٩ — وهو ابن حليفِهِ إفانْدر — لكن القتال لم
يكَدْ يبدأ حتى فتَكَ تورنوس ببالاس هذا، وثار إينياس
ثورةً جبارة انتقامًا لصديقه الصريع، فقَتَل من صفوف
أعدائه عددًا من الأبطال، وكان من مؤيدي «تورنوس» امرأةٌ
فارسة تُدعى «كامِلا»
٩٠ كان أبوها قد وهبَها قربانًا لإلهة الصيد «ديانا»،
٩١ فنشأت في الغابات نشأةً جعلت منها مُحاربةً
ماهرة شديدة الفتْك بعدوِّها؛ فأبدت هذه الفارسة وأتباعها
مهارةً في القتال تستوقِف الأنظار لكنها أُصيبت آخِر الأمر
بضربة قاتلة.
ولم يكد يبلُغ تورنوس نبأ موت هذه الفارسة حتى خارت
عزيمته وبدأ الحظ يبسُم لإينياس، والتقى هو وعدوُّه تورنوس
في مُبارزة حامية. وبينما هما في حرِّ القتال إذا بتورنوس
تغشاه موجة عجيبة من النوم تُذهب منه اليقظة والوعي ويعجز
عن قذف الصخرة الضخمة التي رفعَها ليضرب بها عدوَّه. وهكذا
أرداه القدَر ووقع فريسةً باردة لإينياس الذي أعمل فيه
الرُّمح فأهواه على الأرض طريحًا، وتمَّ له النصر. وأنشأ
إينياس لنفسه مدينة ذهبت بذِكرها الأساطير وهي مدينة
«روما» وحَوْل تلك المدينة نشأت الأساطير التي تُروى عن
نشأتها فيما بعد.
(٣) الشعر المسرحي والفلسفي والغنائي عند الرُّومان
أخذَ الرومان عن اليونان كلَّ صور الأدب على اختلاف ألوانها،
ولكنهم كانوا في المسرحية أشدَّ اعتمادًا على اليونان وأكثرَ
تقليدًا، حيث جاءت الروايات اللاتينية وكأنما هي رواياتٌ
يونانية فيها شيءٌ من التعديل والتبديل. ومما يستوقف النظر في
تاريخ الأدب أنَّ كُتَّاب الرواية المسرحية — ولا نستثني من
ذلك أعلامَهم النوابغ — كانوا أكثر من سائر الكُتَّاب استعارةً
من إنتاج السابقين، كأنما أُبيحت السرقة الأدبية في هذا النوع
من الأدب؛ فهذان مولييرُ وشيكسبير ومُعاصروهما قد استعاروا من
الأقدَمِين شيئًا كثيرًا، وهؤلاء كتَّابُ المسرحية في الأُمم
الحديثة ينقُل بعضهم عن بعض، مُعترِفين بهذا النقل تارةً
ومُنكرين له طورًا.
وأول من نذكُر من كتاب المسرحية اللاتينية، اثنان من أصحاب
المَلهاة (الكوميديا) هما: «بلُوتَسْ»
٩٢ و«تِرِنْسْ».
٩٣ ولو أنه من العسير علينا أن نُقرِّر كم بلغتِ
الملهاة القديمة — يونانيةً كانت أو رومانية — من التوفيق في
إثارة الضحك عند النظَّارة، وكم كانت صادقةً في تصوير الحياة
عندئذٍ؛ لأنَّ الفكاهة — وبخاصَّة حين تصطبغ بلَونٍ مَحلي
مُعين — أثر أدبي سرعان ما يفنى؛ فلا تَحسَبِ القارئ الحديث —
مهما بلغتْ دراسته للآداب القديمة من دقة وعُمق — بقادِرٍ على
أن يَستمرئ فكاهة «بلُوتَسْ» و«تِرِنْسْ» حتى تهتزَّ لها
جوانبه. أخذ «بلوتس» كثيرًا من آرائه من المَلهاة اليونانية،
ومِن ملاهي «مِنانْدر» على وجهٍ أخصَّ، وكان كثيرٌ من هذه
الملاهي قد بَدَّدَتْهُ يدُ الزمن، فجاء «بلوتس» وأظهَرَنا بما
كتَب وما استعار على شيءٍ منها. ولمَّا كان كتَّاب المسرحية
الأوروبيون فيما بعد — الفرنسيون منهم والإيطاليون والإنجليز —
أخذوا قصصَهم من هذا الكاتب اللاتيني، فقد اكتسب شُهرةً لم يكن
ليظفر بها مِن آثاره الأدبية وحدَها.
ثم جاء بعدَه «تِرِنْسْ» فكان أصقلَ منه أسلوبًا، وأقرب إلى
اليونان روحًا، ولكنه استعبد نفسه لسادَتِه اليونان، فقلَّد
ولم يخلُق، والتقليد المُطلَق في الأدب نذير الموت. وفي الحقِّ
إنَّا لا ندري لماذا عجز الرومان عن الإجادة في أدب المسرح؛
فلئن قلَّدوا مسرح اليونان، فقد قلَّدوا كذلك سائر ألوان الأدب
اليوناني، ولكنَّهم كشفوا في هذه عن عبقرية وأصالة، وربما كان
عجزُهم في أدب المسرح راجعًا إلى اشتغال الناس بحفلات
المُصارعة والمُبارزة وما إليها، حتى لم يعُد مُتَّسَع كبير من
الزمن يختلفون فيه إلى المسارح، فماتت ومات أدبها، كما نقول
اليوم عن السينما واشتغال الناس بها إنها تُهدِّد المسرح
تهديدًا مُخيفًا. أما المأساة «التراجيدية» فكاتِبُها عند
الرومان هو «سِنِكا»، لكن مأساته أبعدُ ما تكون المأساة عن
الجودة؛ فلا يعرف التاريخ «سنكا» بكتابته المسرحية بقدْر ما
يذكُره فيلسوفًا يعتنق المذهب الرواقي، وأستاذًا مُربِّيًا
لطاغية الرومان «نيرون».
كان العقل الروماني ينزِع إلى الفلسفة مُهتديًا بِهدْيِ
اليونان، وكان عقل «لوكريشس»
٩٤ هو المُلتقى الذي تزاوجَتْ عنده الفلسفة والشِّعر،
فأنتج ازدواجهما قصيدة فلسفية أدبية هي «في طبائع الأشياء»،
وإنها لقصيدة فخمة تغُوص في خِضمِّ الحياة إلى أعمقِ الأعماق؛
فلوكريشس في قصيدته هذه من الشعراء القلائل الذين أفلحوا في
إلباس الفلسفة ثوبًا من الشعر، وليست قصيدته من قبيل النَّثر
المَنظوم، بل إنَّ فيها لروحًا من الشعر الصحيح، وقد بقِيَت
لنا هذه القصيدة كاملة، وهي من حيث الجزالة والبلاغة مِثال
للشعر اللاتيني المُمتاز لا يفُوقها إلا شِعر فرجيل، لكن
«لوكريشس» لم يعدم من النقاد من يُخرجه من طائفة الشعراء
الفحول، فلا موضوعه عند هؤلاء بصالح للشعر، ولا ألفاظه ولا
أوزانه وقوافيه من الجمال بحيث تُبرر أن يوضع في صف أولئك
الشعراء، كما قال مثل ذلك القول بعض نقَّاد العرب في
لزُوميَّات أبي العلاء المعري. أما موضوعه في قصيدة «في طبائع
الأشياء» فهو بسْط لفلسفة الأبيقوريين في قالب منظوم، وهاك بعض
فصول قصيدته لتَحكُم مع هؤلاء النقَّاد أنها لا تصلُح موضوعًا
للشعر: «الشيء لا يخرُج من لا شيء، والشبيه يحدُث عن شبيهه.»
«الكون مؤلَّف من ذرَّات وخلاء.» «المادة لا تفنى.» وهكذا
يأخُذ الشاعر في شرح الذرَّات وحركاتها وتكوين الأجسام
وفسادها. وإن شاء قارئنا أن يكوِّن بنفسه رأيًا في «لوكريشس»
فليقرأ ترجمته الإنجليزية للشاعر الأمريكي «ليونارد» وهاك
مثالًا من شعره:
قال مُخاطبًا أبيقور:
أنت يا أول من رفع في الظلام الدامس
شُعلةً تُنير بها الطريق إلى السعادة!
أنت يا فخر اليونان! أنا تابِعُك،
وسأقتفي خُطاك خطوةً فخطوة،
لا أُباريك ولكن أُحاكيك؛
وهل ينافِس السُّنُونو طائرَ التِّمِّ
الجميل؟
وقال في خصوبة الأرض عند نشأتها:
أخرجَتِ الأرضُ منذ نشأتها صنوف العُشب
أشكالًا،
فاعشوشبَتْ ناصعةً نِجادُها ووهادُها،
وازدانت حقولُ الزهر بسُندسٍ أخضر،
وأُلهِمَ الشجر أنْ يُسابق في النماء بعضَه
بعضًا،
واكتسى الطير والحيوان بالرِّيش والشَّعْر
والفراء؛
فالأرض النَّضِرة قد أنبتت كلأها وشجرَها،
ثم أخرجت من جَوفها الحيوانَ يرعاهُ،
وتكاثَر الحيوان بعدئذٍ أشكالًا وألوانًا؛
فالأرض — لهذا — «أُمُّنا» لا شكَّ في
أُمومَتِها،
فمنها جاءت الأحياء طرًّا.
وعاصر «لوكريشس» شاعرٌ شابٌّ هو «كاتلَسَ»
٩٥ الذي قصفته المَنون في سنِّ الثلاثين، ولم يكن
«كاتلس» كزميلِه مشغوفًا ﺑ «طبائع الأشياء» ولكنه عُنِيَ
بطبيعة نفسه، فأدار شِعرَه حول عواطفه، ليُعبِّر به عن حُبِّه
وكُرهه، فاجتمعت في شعره نزعات القلب وقواعد الفن، فهذا هو
يخاطب حبيبته «لِزبياه»
٩٦ يُعْليها آنًا ويَسْفُلُ بها آنا؛ فهو صادق الشعور
صادق التعبير، ينشُد القصيد فتَحسَبُه إنسانًا يصيح صيحة
الطبيعة من الأعماق، ولكنها صيحة شُذِّبت أطرافُها وصُبَّتْ في
أوزان الشعر وقوافيه. وهذا مثال من شعره:
قال في قصيدةٍ عنوانها «طيش الحب»:
تعالَيْ نَعِش يا لزبيا حبيبيْن،
ولنصمَّ الآذان من لَوم الكهول العاذلين.
لتذهب الشمس في خِدرها غاربةً ولتخرُج الشمس
مُشرقةً،
فسنُغمض عن ضوئها الفاني العيون،
ونظلُّ على مَخدعٍ واحدٍ في نوم عميق،
نقضيه ليلًا سرمديًّا لا يعرِف الإصباح.
دَعيني أُقبِّلْك ألفَ قبلة، بل أريد أكثر!
سأُضيف مائة إلى الألف، سأُضيف إلى الألف
ألفًا
وعليها مائة، بل أريد ألفًا أخرى ومائة أخرى.
دعيني أُقبلك ألوفًا وألوفًا،
ولنُخطئ في عدد القُبلات عامِدين؛
فما أنكد الطالع لو عرفنا كم عددها.
فإذا عرف الحاسدون كم قَبَّلْتُك يا لزبيا،
أصابتنا بِشَرِّها أعينُ الحاسدين.
وقال في قصيدة أخرى عنوانها «إلى لزبيا التي لم تبق على
العهد»:
كنتِ يا لزبيا أيام حُبِّنا تزعُمين
أن قَلْبَك كُلَّه لي مِلْك اليمين،
وكنتِ يا لزبيا لِمخدعي لا تهجُرين،
حتى إنْ دعَوك إلى جُوف تُشاركين،
فما كان أخْلَصَ عندئذٍ عبادتي إيَّاك،
فلم تكن نار قلبي غامضةً ولا فاجرة
كالتي يؤجِّجها الجمال في الصدور الخاوية،
لكنِّي أحببتُك يا لزبيا كما يُحِب الأطفالَ
آباؤهم.
هذا الحلم الخادع وا أسفاه قد زال؛
فقد عرفْتُك الآن، فإنْ رأيتِ عينيَّ
ما تزالان تَحدجانِك كما كانتا تفعلان،
فاعلَمي أني حتى عند النظر إليك مُزدريك،
نعم، أيتها الساحرة، وقد يبدو ذلك ضربًا من
الجنون.
إنك لتُضيفين بصناعة السِّحر جمالًا إلى
جمالك،
قد أَقْدُرُكِ وقد أزدريك، ولكني أُحبك؛
فأنا لك مُقدِّسٌ ومُحتقِرٌ معًا.
وجاء بعد «كاتَلَسْ» في القرن السابق لميلاد
المسيح، وهو العصر الأوغسطي الزاهر من عصور الأدب اللاتيني، «هوراس»
٩٧ أبعَد أدباءِ اللاتين صوتًا، وأسرعهم بين القرَّاء
سيرورة، وأكثرهم عند المُحدثين إغراء بالترجمة
والاقتباس.
وُلِد «هوراس» من أبٍ عَبْدٍ اشتغل بِجباية الضرائب، فجمَع
من ذلك مالًا قليلًا، ثم جاء بابنه إلى روما، ليُنفق ما جمع
على تعليم ابنه، لا يدَّخِر لنفسه شيئًا؛ فلا يجِب أن تُطالِع
في بعض أناشيد الشاعر لونًا من عرفان الجميل لأبيه لم يبلُغ
مدى جودته إلَّا قليل من الشعراء؛ فلم يكن الوالد العطوف أن
يُضحِّي بمالِه في تربية ابنه، بل كان يصحَبُه إلى المدرسة في
الصباح، ويصحبُه من المدرسة في المساء، حرصًا عليه؛ فلمَّا
بلَغ «هوراس» عامَه التاسع عشر، بعث به أبوه إلى اليونان
يتعلَّم ما لليونان من فلسفة وشعر. ولمَّا نشِب القتال بين
بروتس وقيصر، وقف الشاعر دراسته حينًا ليُناصر بروتس، وحارب
إلى جانبه في معركة «فِلِبِّي»، فما هو إلا أن تَنْفضَ روما عن
نفسها غُبار المعركة حتى يرى الشاعر نفسه في فقرٍ مُدقع؛ فقد
مات أبوه، وصادر أوغسطس ميراث الشاعر عن أبيه، فظلَّ «هوراس»
يعمل ليكسَبَ قُوته، ويقرض الشعر في أوقات الفراغ؛ فاستوقف
شعره الجميل نظر «فرجيل» الذي قَدَّمَه إلى «ميسناس»،
٩٨ ولم يكن «ميسناس» هذا صديقًا حميمًا لأوغسطس
فحسْب، بل كان يُشجع الفن بماله الكثير، حتى أصبح اسمُه يُطلق
مجازًا على كلِّ من يبسُط كفَّه بالعطاء لأصحاب الفنون. فلمَّا
كان «هوراس» في عامِه الثاني والثلاثين، منحَه ميسناس مزرعةً
أتاحت له أن يُنفق بقية العمر في عيشٍ رغيد، فانصرف بمجهوده
إلى النشيد.
وأول آثاره الأدبية كتابان أسماهما «سخريات»، ولكن دعْك من
هذا العنوان، فالشاعر في هذَين الكتابَين يُقبل على الدنيا
راضيًا، فلا تؤذيه ظروف الحياة كما هي، بل يَعُبُّها عبًّا
وينتهِز منها سوانح الفُرَص قبل أن تُفلِت من يديه، كأنه عمر
الخيام:
لقد عاش في أمنٍ وفي دعةٍ،
من يقول: «هذا اليومُ قد عشتُه.»
وغَدِي فليجعله الله صحوًا أو مطيرًا؛
فلن يَسلُبني بهذا سرورًا ملكتُه.
إنَّ ما قد كان هيهات لقوَّةٍ أن تُفسده.
ولكنه في هذين الكتابين لا يفوته أن يسخر
سخرية خفيفة من العظماء في سلوكهم، وأن يسُوق من حياة عصره
أمثلةً تبعث على الضحك لأنها تصوِّر نقائص الإنسان.
ثم كتب في سنِّ السادسة والثلاثين «الأناشيد» وهي حلقة وُسطى
بين «السخريات» و«الأغاني». وإنَّ هذه الأخيرة لمَوضِع شهرته
ونبوغه؛ فلم تكد تُنشَر الكتب الثلاثة الأولى من أغانيه حتى
صعد من فورِه إلى الصفِّ الأول بين شعراء عصره، لا بل إلى
الطليعة من شعراء العالمين. فهذا حق لا يُنكِره عليه ناقد أو
يرتاب في صِدقِه مُرتاب؛ فهوراس — منذ أن نشَر أغانيه — رحَّبت
به زُمرة الشعراء الفحول فوقف بينهم على سفوح أولمب! ولِمَ
ذاك؟ لأنه يُشبِع جانبًا من جوانب القلب الإنساني؛ ألا تريد أن
تصطحب في غدواتك ورَوحاتك إنسانًا يبتسِم لك فتبتسِم، وينبسط
أمامك جبينه فينبسِط منك الجبين؟ ألستَ تلتمس إذا ما ضاقت بك
أمور العيش من يُريك الحياة وضَّاحة مُشرقة، ويُسمعك ألحانًا
تُظهِر لك من دُنياك وجهها المُشرق وتُخفي عنك وجهها الباكي؟
ذاك هو هوراس في أغانيه. إن من يُصيب السعادة في الحياة قلَّما
يحسُّ الحاجة للتعبير عن نفسه؛ ولهذا كان من نوادر المُصادفة
وشوارد الاتفاق أن تجِد شاعرًا سعيدًا، وهوراس هو هذه المصادفة
النادرة والاتفاق الشارد، لأنَّ السعيد والشاعر قد سكنا منه
إهابًا واحدًا. إن هوراس في أغانيه يُعلمك أن الإنسان يكبو
لينهض، وينهزِم ليقتحم. إنه يُعلِّمك أنَّ الحياة سعيدة بهيجة،
لا تشُوبها من دواعي الهمِّ إلا تَوافِهُ، إذ هو يقصُّ لك قصة
حياته فإذا هي هذه، فتقول: إنِ استطاعها هوراس، فلِمَ لا
أستطيعها، ولِمَ لا يَستطيعها ألوف الألوف من البشر؟ بل إن
هوراس ليزعُم لك أن المدينة الفاضلة التي تنشدها هي بجوار دارك
إن صحَّ منك العزْم ولم ينضبْ فيك مَعين الخير؛ استمع إليه في
أغنية «عيد الميلاد»:
«عندي قدْرٌ من جَيد النبيذ عتَّقتُه ما يربو على تِسع
سنوات، وفي حديقتي نبات البقدونس أنسُج منه الأكاليل، وفيها
لبلاب إن عَقصتَ به شَعر رأسك أبدى لك جبينَك وضَّاحًا. إن
الدار لتسطع بالأواني الفضية، وإن المذبح — تُكلِّله أوراق
الشجر المُقدَّسة — ليرقُب في شَوق أن تَنسكِبَ على ظهره دماء
الأضاحي، ها هم أولاء أهل الدار يُسرعون هنا وهناك، ويندفع في
حشدٍ مُختلط أيفاعُهم واليافعات. وإن ألسنة النار لترقُص حين
تطوي الدُّخان الأسود فتعلو به حَويات حَويات كأنها الأكاليل
…»
وحتى حين يُنذِر صديقه «بوستيومسْ» بدُنُوِّ الشيخوخة
فالموت، تراه يُغني في هدوء ورباطة جأش، مع أن موضوع الأغنية
كفيل أن يُثير الفزع في نفس قائله:
وا أسفاه بوسْتيومَسْ،
٩٩ أي بوسْتيومَسْ، إنَّ السنين لتمضي مُسرعات كأنها
من الأسْر هاربات.
ولن تُغني فضائلك بأسرِها أن تؤخِّر عن وجهك غضُونَه إن
حَلَّ موعدها، أو تحُول دون شيخوخةٍ قادمة وموت لا مفرَّ منه.
إنك قد تستعطِف الموت لِيُبطئ، ولكنه لا يتوانى في أداء قضائه
المحتوم؛ فلنكُن من جبابرة الملوك أو فُقراء الزارعين، فلا
مناصَ لمن أسْمَنَت جسومهم فاكهةُ الأرض من عبور مجرى الموت
الكئيب غير مُبطِّئين.
لن يُغْني عنك شيئًا أن تنجوَ من حربٍ زبون. لن يُغني عنك
شيئًا أن تفرَّ من أمواج البحر في الأدرياتيك الصخَّاب، ولن
يُغني عنك شيئًا أن يمضي الخريف دون أن تنالَكَ بفوادحها رياح
السيروكو الهوجاء؛ فلا بدَّ آخِر الأمر أن تواجِه نهر الموت في
تيَّاره الواني، فتُشاهد من صرعتْهم المَنون بقضائها
المحتوم.
لا بدَّ يومًا أن نزُول عن وجه الأرض؛ لا بدَّ أن نُفارق
يومًا هذا الشجر الذي عهدناه فوق السقوف، وأن نُغادر زوجاتِنا
ذوات الصدر الحنون. لن نصطحِب ممَّا أنبتناه من شجرٍ إلا
سَرْوةً حزينة تُظلُّ القبور.
لكن أبناءنا من بعدنا — ويا خيرهم أبناء — سيحتَسُون نبيذنا
المخزون مهما تكن دُونه الأقفال، وسيسكُبون على أرض الدار
المُزخرفة نبيذًا لم تشهد حلاوتَه موائد الأحبار.
ذلك هو «هوراس» الشاعر، لكنه لم يقرض الشعر وكفى، بل كان
أستاذًا في فنِّ الشعر النظري، فألَّف كتابًا عنوانه «فن
الشعر» وهو على قِصَره عميق الأثر في الأدب الحديث، فأثَّر في
إيطاليا بفضل الشاعر «فيدا»، وأثَّر في فرنسا بفضل الشاعر
الناقد «بوالو»، وأثَّر في إنجلترا بفضل «بوب».
إنَّ هوراس الرَّجُل لا يقلُّ عظمةً عن هوراس الفنان،
فشخصيته التي تسطع خلال أشعاره طريفةٌ مُمتعة، لها وقارُها
ولها ظُرفها في آنٍ واحد.
وكان يُعاصر هوراس في أُخرَيات سِنيه — قبيل ميلاد المسيح —
جماعة من شعراء المراثي (الإليجيا). ولسْنا نقصد بالمراثي
بكاءً على مَيتٍ، وإنما هي — كما ذكرنا قبل — كلمة يُطلقونها
ليَدلُّوا بها على صياغة القصيدة وبنائها وأوزانها، لا على
موضوعها ومعناها، فأول شعراء المراثي عند الرومان هو «جالَسْ»
١٠٠ وهو الذي أجهد نفسه لنقل هذا القالب الشعري من
اليونانية إلى اللاتينية، وكانت مُعظم «مراثيه» تدور حول
الحُب، فلمَّا وُفِّق في صياغة شِعره في هذا الوزن الجديد،
أصبح قالب «المرثية» بدعًا يَصطنِعه الشعراء. وأكبر شعراء
المراثي ثلاثة: «بروبرتيوس»
١٠١ و«تيبلس»
١٠٢ و«أوفِدْ»؛
١٠٣ أما «بروبرتيوس»، فقد أجاد الشِّعر وهو يافع،
وأتقن دراسة النماذج اليونانية إتقانًا جعله في سِنِّ العشرين
شاعرًا مُجيدًا ذا أصالةٍ وابتكار. وكان الحُبُّ موضوع شِعره،
وأصبحت «سنْثيا» حبيبته إحدى غواني الشِّعر الخالدات. ولقد
أفسد حُبُّه لهذه المرأة حياتَهُ حتى قُضي وهو في سنٍّ باكرة؛
فقد كانت الحبيبة امرأة مُتهتِّكة، فاستحال عليه زواجها،
ولكنها على فجورِها ما زالت تستولي على لُبِّه لمواهبها الفنية
في الغناء والرَّقص وقرْض الشعر فضلًا عن جمالها الفتَّان.
استمع إليه في وصف أُمْسِيَةٍ في إحدى «مراثيه»:
«ما دامت سنثيا
١٠٤ قد خانت فِراشي مرارًا، فقد صمَّمتُ أن أُبدِّل
مَخدعي وأُقيم رواقي في مكانٍ آخر، فهناك امرأة أعرفها اسمها
«فِلِسْ» لا تُمتِعُني وهي صاحية، أما إن شرِبَت فهي السحر
الفاتن، وهنالك امرأة أُخرى اسمُها «تِيا»، جميلة ولكنها إنْ
سكرتْ فلا يكفيها من الرجال حبيب واحد. صمَّمتُ أن أدعو هاتَين
المرأتين لأقضيَ معهما الليلة، لَعلِّي أُسرِّي عن النفس بعض
حزنها … لقد كانتا تُغَنِّيانِني، ولكني كنتُ عن غنائهما في
صمَم؛ وكانتا تكشفان لي عن الأثداء، ولكنِّي كنتُ عن ذلك في
عَمًى.
انظر! لقد فجأتنا قوائم الباب بِصريرٍ حين استدار المِصراع
على مَركزِه، وسمِعْنا صوتًا خافتًا عند مدخل الدار، واندفعت
«سِنثيا» وضربت خلفَها بمصاريع الباب المَطوية؛ ها هي «سنثيا»
منفوشة الشَّعر جميلة في سَورتها؛ فارتخت أصابعي وسقط الكأس،
وارتدَّت شفتاي المَخمورتان إلى شحوب؛ فقد لمعت عيناها
بالشرَر، وثارت ثائرتها بكلِّ ما وسِع المرأة من غضب … ودفعت
أظافرها المَغيظة في وجه «فِلِسْ»، فصاحَت «تيا» فازعةً حتى
دوَّى المكان بصياحها، واستيقظ النُّوام على سُرُج راقصة
بنُورها، ورَنَّ الطريق كله بجنون المساء، أما الفتاتان
فأسرعتا هارِبتَين في ثيابٍ مُهلهلة وشَعر مُمزَّق، ولاذتا
بأول حانة صادفتهما في الطريق.»
لقد استمدَّ «بروبرتيوس» أصول فنِّه من الإغريق، ولكنه كان
في أدبه صدًى لبيئته وحياته، يرى فيُسجِّل. ولئن كان رفقاؤه
صُحبة سوء، وكانت حبيبتُه فاجرة، إلا أنه أخرج من هذه الحياة
شعرًا جميلًا خالدًا، لجرْس ألفاظه ورنين أوزانه وقوافيه. وهاك
من تصويره مثالًا آخر:
«لو هَمَّتْ حبيبتي أن
تَذْرَعَ البحار طولًا وعرضًا فإني مُتابعها؛ فسيدفعُنا فوق
الماء نسيمٌ واحد حبيبَين وَفيَّين، وسنستلقي للراحة فوق شاطئٍ
واحد حين يأخُذنا النعاس، ستُظلنا شجرة واحدة، ونَستقي ينبوعًا
واحدًا، سيتَّخذ الحبيبان لنومِهما مخدعًا قُدَّ من لَوْحٍ
خشبيٍّ واحد، وسواءٌ لديَّ أُقيمَ السريرُ من السفينة عند
دفَّتها أو حيزومها، سأحتمِل كل الصعاب لا أبالي إن دفعَت
الرياح الشرقية الهوجاء سفينَنا، أو عبأت الرياح الجنوبية
الباردة شِراعَنا إلى حيث لا ندري … فلو ضمنتُ ألا تغيب حبيبتي
عن ناظري، فليُشعِل الله في السفينة نارًا، إذ جسدانا
العارِيان عندئذٍ سيقذِفُ بهما اليمُّ معًا إلى شاطئٍ واحد،
لا، بل ليقذِف الموج بجسدي وحده، لو وَجد جسمُك يا حبيبتي في
الثرى جدَثًا يواريه.» ولكن «بروبرتيوس» على ما في شِعره من
قوة وجمال، قد كان فيما يظهر مَعيبًا بعض الشيء في فنِّه؛
فإنَّ النقَّاد الرومان بعد أن مارسوا أصول الآداب الإغريقية
وقواعدها، تبيَّنوا في شعره نقصًا لعلَّه يرجع إلى سرعة
الإنشاء وعُنف عاطفة الشباب، وليس في وسع رجال النقد الحديث أن
يَحكموا له أو عليه، لأنَّ ما بقِيَ لنا من شعره شذرات
ناقصة.
ولعلَّ هؤلاء النقَّاد الرُّومان قد آثَروا شاعرًا آخِر من
شعراء المراثي، هو «تيبَلسْ»، إذ وجدوا أنَّ رشاقة أسلوبه
ووضوح عبارته يُلائمان رقَّة مَعانيه وجمالها، فليس في شِعر
«تيبلس» نصفُ القوة التي تحسُّها في «بروبرتيوس»، ولكن ما
غَنَاءُ القوة في شِعرٍ غنائي؟
كان «تيبلسْ» شابًّا يُحِب فتاته «ديليا»
١٠٥ التي قَسَت عليه حتى أدمعت عينيه:
هل لي أن تُبصرك عيناي حين تدنو ساعتي؟
هل لي أن أضمَّك بذراعي الواهِنتين؟
ابكيني يا «ديليا»، إذا حان الأجل. وإذا ما
أُسجيتُ
على السرير الذي سرعان ما تلتَهِمه النيران،
قبِّليني وقبليني، وامزُجي قُبلاتك بعبراتٍ
حزينات.
ابكيني؛ فليس قلبك في صندوقٍ من صُلب الحديد،
كلا، ولا قَلْبك هذا الحنونُ يحتوي صخرًا؛
فلن يعود شابٌّ ولا شابة بعد جنازتي
لا تترقرق في عينَيه أو عينَيها الدموع،
وما أحسبك مُسيئة إلى روحي بغيابك عن ذلك
الحفل،
ولكن لا تكوني عنيفةً على شَعرك المَحلول، أو
خَدِّكِ الناعم.
هكذا كان شعر «تيبلَّس» حلوًا في سذاجته ولونه
الريفي؛ فقد أنفق مُعظم حياته في مزرعته، يُمتعه أن يزرَع
ويحرُث بيدَيه، ويزدري حياة الترَف التي تُسلِّمُ المَزارعَ
إلى العبيد يفلحونها ثم لا تستمتع بجمال الريف.
لكن أحبُّ شعراء
المراثي إلى قرَّاء العصر الحديث هو «أُوفِدْ» وهو من أسرةٍ
رفيعة، وكان ممَّن أحاطوا بالإمبراطور أوغسطس، وظلَّ في حاشيته
حتى غضِب عليه الإمبراطور لسببٍ لا نَدريه فأمر به أن يُنفى من
مدينة روما. وقد قيل في تعليل غضبةِ الأمير عليه أنه نفر من
قصيدته «فنُّ الحُب» التي لم يتورَّع فيها الشاعر، ولكنَّا
نشكُّ في أن تكون هذه القصيدة الجميلة المُمتِعة سببًا في
تشريد الشاعر، مع أنها صورة صحيحة لعصره. إن «أوفد» في قصيدته
«فنُّ الحب» لم ينظُر إلى الحب من جانب الروح والخيال، لكنه
كان فيها أمينًا صادقًا، ومن أجل هذه الأمانة في الشعور
والتعبير استحقَّ مكانته العالية التي يشغلها بين
الشعراء.
على أنَّ خيال «أوفد» يبلغ أوْجَهُ في قصيدة «تغيُّرات» التي
جمع فيها كثيرًا من أساطير اليونان والرومان؛ فكان مَعينًا
للشعراء المُحدَثين يستَقُون منه، فعنه أخذ أدباء الطليان في
عصر النهضة، ومنه استمدَّ شيكسبير ومُعاصروه وشعراء الإنجليز
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولو عَرف «أوفد» في مَنفاه
ما قد يُصيب أدبه من نجاح وتوفيق بعد موته لخفَّتْ عنه آلام
النفي؛ فقد كان أدَبُه ذا أثرٍ عميق بالغٍ في آداب الأمم
الحديثة كلها، لا يُوازيه في ذلك شاعر آخر، ولا نستثني عن هذا
الحكم فِرجيل.
والأسطر الآتية مثال من قصيدته المشهورة «تغيُّرات»:
كان بادئ الأمر عصر ذهبي قام على الإخلاص والحقِّ
بمَحض إرادته، لا يزجُره قانون ولا يُحفزه
انتقام.
لم يكن بَعْدُ خوف أو عقاب،
ولم يتهدَّد الناس قانون منقوش على أقراص
النحاس،
كلَّا، ولم تروِّعهم خوذة ولا سيف، بل عاش في أمن
السلام.
وهكذا انقضت على القوم أعوامٌ سعيدة لا يعرفون
الأعداء،
وأخرجت الأرض كلَّ شيء دون أن يشقَّها
مِحراث،
واكتفى الناس بما أثمَرَتْه الأرض من غير قَسْرٍ ولا
إكراه.
•••
وكان الزمان ربيعًا كله. رحيًّا بنسيمِه
العليل،
وتهبُّ النسائمُ فتُزْهِرُ الأزهار لم تَلِدْها
بذور.
وسرعان ما آتت الأرض أكُلَها بغير مِحراث،
وابيضَّ وجهها بالقمح الغزير، ولم يَشُقَّ جوفَها
سلاح
… ثم تلاه على مرِّ الزمان عصر فِضِّي
هو أدنى من سابِقه الذهبي وأسطع من لاحِقِه
النحاسي؛
عندئذٍ قصَّرَ الإله من أمدِ الربيع، وقد كان قبلُ
دائمًا موصولًا،
وأتمَّ الحَول بأن قسَّمَه فصولًا فصولًا،
فتوهَّجتْ بَوَادِرُ الهواء وقد لفحتْها حرارة
ظامئة،
وعلَقَت أوائل ذرَّات الثلج وقد جمَّدتها
الريح،
واتَّخذ الإنسان دُورًا فأوَى إلى الكهوف
أو اتَّخذ سياجًا من شجرٍ أو غابٍ مجدول،
ثم بُذِرت بذور الزرع لأول مرةٍ في قنوات الحقول،
حيث لبِثَت طويلًا،
وخارت الثِّيَرَةُ تحت نيران المَحاريث.
وثالث المراحل المُتعاقِبات عصر نحاسي،
ازدادت فيه الروح افتراسًا واشتدَّت للقتال
اشتياقًا،
لكن الجريمة لم تُلطِّخ وجهه بعد.
وأخيرًا جاء عصر الحديد، فانبثق من فَوره خسيسًا
دَنِيًّا، كله سوء؛ فلاذت بالفرار صفاتُ «الحياء»
و«الحق» و«الإخلاص» وحلَّ محلها الكيدُ والخداع
والعنفُ وشهوةُ الكسْب المُجرمة،
ونشر الرجال قِلاعهم لريحٍ لم يعرفها الملَّاحون من
قبل، واتُّخِذَ الشجرُ — وقد كان باسِقًا على قمم
الجبال — حيازيم تَشُقُّ بها الفُلْكُ مياهًا لم تكن
من قبل تعرِفها،
وطالب الإنسان التربةَ الخصبةَ أن تُنتج أكثر من
محصولها، بل شقَّ أمعاء الأرض شقًّا،
واحتفَرَها ليبلُغ كنوزها الدفينة في ظلال
الجحيم،
وهي هنالك تُغري الإنسان بالعسف والجُور،
ثم جاء عصر الصُّلْب الفتَّاك، ثم الذهب وهو أشدُّ
فتكًا.
فاتَّخذت الحرْب من المعْدِنَيْن سلاحًا،
وأخذت تهزُّ سلاحها المُدوِّي بيدٍ تُلطخها
الدماء،
وأصبحت الغنائم للعيش موردًا؛ فلا الضيف من مُضيفه
ولا القريب من قريبه بات آمنًا.
إلى هنا ينتهي العصر الأوغسطي الزاهر الزاهي،
ويأخُذ الشعر اللاتيني في التدهور والهبوط، ولكنَّ طريقه إلى
التدهور لا يطَّرد؛ فالأدب لا يسير في هذه الخطوات المنطقية،
مُطِّردًا في صعوده وهبوطه، كلَّا ولا الحياة نفسها — وهي
لحمةُ الأدب وسداهُ — تسير في هذه الخطوط المُستقيمة صعودًا أو
هبوطًا؛ فلا تعدِم في حركة الصعود شاعرًا ضعيفًا، ولا تُخطئ في
طريق الهبوط شاعرًا قويًّا؛ وهكذا كان تدهور الشعر اللاتيني —
كتدهور الإمبراطورية نفسها — مُمتدًّا على قرونٍ طوال تستطيع
أن تشهد فيها أدبًا سليمًا إن فاته أن يكون أدبًا عظيمًا؛ فبين
شعراء القرن الأول بعد الميلاد «لُوكان»،
١٠٦ وهو خطيب نابه بالإضافة إلى شاعريته، وهو معروف
بكِتابه «فارْسالْيا»
١٠٧ الذي نظَم فيه بعض حوادث التاريخ شعرًا، فشاع بين
قرَّاء عصره والعصور الوسطى. وإن لِلُوكان لأثرًا في الأدب
الفرنسي بفضل ما نقله عنه «كورْنِي»
١٠٨ كما أنه معروف مألوف لقرَّاء الأدب الإنجليزي
لأنَّ «مارلو»
١٠٩ ترجم له الجزء الأول من «فارسالْيا» ترجمةً بلغت
غاية الإبداع.
وفي العصر الفضي اللاتيني — الذي أعقب عصر أوغسطس — شاعران
أجادا شِعر السخرية إجادةً جعلتهما في هذا الفنِّ إمامَين،
وهما: «مارشال» و«جوفنال»، وإنَّ هذا الأدب الساحر لَمِن طبيعة
العقل الروماني، بل هو الذي ابتكر هذا اللَّون من الشعر
ابتكارًا، فاصطنعه «هوراس» وفي رقَّةٍ ولُطف، ثم زاده «مارشال»
١١٠ و«جوفنال»
١١١ قوَّة وعنفًا، وأعانهما على ذلك ما ساد العصر من
صُنوف الفساد وانحلال الخلق. نعم إنَّ في كل زمانٍ ومكان
مَعِينًا لا ينضب للشاعر الساخر، لكنَّ السخرية فنٌّ لا يقوى
على أدائه كلُّ شاعر. وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكُر ما
لأُدباء الإنجليز من إنتاج خصب في أدب السخرية، لكنهم كانوا في
ذلك مَدينين لجوفنال إلى حدٍّ كبير.
ومن شعر جوفنال قصيدة عنوانها «عبَث الشهوات الإنسانية»
يسخَر فيها من التوافِهِ التي يقتتِل الناس من أجلها، وعلى
رأسها المال. ومنها:
جُلْ ببصرِك في العالم المأهول،
وانظُر كم من الناس يعرِف موضع الخير،
وإنْ عرفه قليل فكم منهم يقصد إليه؟
إن حبَّ المال أُحْبُولَته الفتَّاكة مُمتدة
الشِّباك،
فترى الكنوز يُكدِّسها الكانزون في شُغلٍ
وانهماك،
فكم من وَغْدٍ في العهود السُّود — إذا ما أشار
نيرون —
سَلَّ من أجل المال سيفَه البتَّار،
أما الدُّورُ التي خلا من المال وِفاضُها
فما أقلَّ ما يغشاها مَنْ يؤيده السلطانُ من قُطَّاع
الرقاب،
إنَّ المسافر الذي يمضي مُثْقلا بثرائه
لَيتلَفَّفُ في سواد الليل، ويتسلَّل في الطريق
مُختفيًا،
ثُم تراه رغم هذا يخشى وقْع السيف والهراوة،
ويُفزعه ظلُّ الحَلْفاء في ضوء القمر،
أما السائل فيمضي في الطريق خَلِيَّ الفؤاد،
يُغَنِّي أناشيده في أوْجُهِ اللصوص.
ولمارشال كتاب في «الأمثال» لم يُجوِّد الشاعر
فيه صناعته، ولكنه — مع ذلك — صوَّر به الحياة الرومانية كما
رآها في صدقٍ وإخلاص. هذه خاتمة شعراء اللاتين، فقد مات الشعر
بعدئذٍ، أما النثر اللاتيني فقد لبِث قائمًا بضعةَ
قرون.