الفصل الأول
الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى
العصور الوسطى في رأي التاريخ عهدٌ طوله ألفُ عام، يمتدُّ من
منتصف القرن الخامس إلى منتصف القرن الخامس عشر، وعندئذٍ نهض في
أوروبا رجال الفكر، وتلفَّتوا إلى الوراء ليستخرجوا كنوز القدماء.
واشتدَّت بهم الحماسةُ نحو ثقافة اليونان والرومان حتى تعلَّقوا
بأذيالهم، ونظروا إلى العهد الطويل الذي فصل بينهم وبين أولئك
الأسلاف فاعتبروه عصرًا «وسيطًا» بين الأصول والفروع، ونَعَتُوه
بالجدْب والإظلام، ولكنهم لم يكونوا في ذلك مُنصفين؛ فلئن كانت تلك
العصور يشوبُها شيء من ظلام، فإن بها للَمَحاتٍ من ضياء.
وأخصبُ جوانب الأدب الوسيط من حيث القيمة الفنية هو الشعر، أما
النثر فلم يكن قد بلغ من الرُّقي حدًّا يجعله أداةً فنية للتعبير
الأدبي.
ونستطيع أن نُقسِّم الأدب في العصور الوسطى — على أساس الجنس
واللغة — إلى أدب جرماني (وهو يشمل الأدب الإسكندناوي والأدب
الإنجليزي في ذلك العهد)، ثم الآداب الكلتية والفرنسية والإسبانية
والإيطالية. ولو أن هذه الأقسام المُختلفة مُتشابكة، قد أخذ بعضها
عن بعض بحيث لا تستطيع أن تجزم — إلا بعد درسٍ طويل عميق — أين بدأ
هذا الأثر الأدبي أو ذاك، وكيف نما وأضيف إليه؛ لذلك كان من حقِّك
حين تستعرِض هذه الآداب الأوروبية في العصر الأوسط أن تبدأ بأيِّها
شئتَ، ولكنك تُحسِن صنعًا أن تذكُر قبل البدء أنها تشترك جميعًا في
خصائص وسمات؛ فالكثرة الغالبة من القصص والملاحم والأساطير
والأغاني من الآداب الأوروبية في العصور الوسطى تدور حول بطولة
الفرسان في الحرب والحُب معًا. وإنها لتجتمع كلها حول مَلكٍ حقيقي
أو خيالي، بحيث تتكوَّن منها مجموعات: فمجموعة مِحورها الإسكندر
الأكبر، وثانية مدارها قيصر، وثالثة نواتُها شرلمان، ورابعة
أَرْثَرْ، وهكذا. وإن ألوان البطولة في تلك الآثار الأدبية جميعًا
لتتشابَهُ وتتكرَّر. ومن أكثرها شيوعًا أن يَلْقَى البطل الأفعوان
فيقتُلُه، وأن يُصادف الغواني في كَرْبٍ وضيقٍ فيمدَّ لهنَّ يدَ
المعونة والنجاة، وأن يتعقَّب أصحابَ السُّوء بالعقاب ليُنقِذ
الخصال الشريفة أنْ يُصيبها الفساد والأذى، ومبادئ الأخلاق — التي
يتصدَّى الفارسُ البطل ليدرأ عنها السوء — إنما هي مجموعة من
القواعد الخُلقية أوجبَ العرفُ عندئذٍ أن يتحلَّى بها الفرسان. وقد
أمكن تطبيق بعضها وتعذَّر تطبيق سائرها فظلَّت مثلًا أعلى يحلُم به
الشعراء ولم تتحقَّق كلها إلَّا في نفرٍ قليل من رجال النهضة،
فخلَّدَهم تاريخ الأدب على أنهم نماذج حيَّة تتمثَّل فيهم تلك
الصفات، وعلى رأس هؤلاء اثنان هما «بَيَارْ»
١ الفارس الفرنسي و«السير فليب سِدْني»
٢ الإنجليزي.
أما وقد بسطْنا لك بعض الخصائص التي شاعت في العصور الوسطى
فسنبدأ لك بعد ذلك بالأدب الإنجليزي فنعرِض أهمَّ ما دار حوله من
أساطير.
وأول تلك الأساطير قصةُ أَرْثَرْ
٣ التي نُقِلت إلى الأدب الإنجليزي بعد أن نَمَتْ
وتكاملت في الأدب الفرنسي، وقد جَمَعَ أطراف القصة وأجزاءها «السير
تُومَسْ مالُوري»
٤ في النصف الثاني من القرن الخامس عشَر في كتابه «موت
أرثر» الذي أوحى إلى كثيرٍ من شعراء العصور الحديثة وكُتَّابها
فأعادوا كتابة القصة. ولعلَّ أوسعها شهرةً في الشعر الإنجليزي
الحديث قصيدة «تِنِسُنْ»
٥ وعنوانها: «أناشيد المَلِكْ»
idylls of the king، وفيها يصبغ الشاعرُ أرْثَرَ
بصبغةٍ إنجليزية خالصة، وإنها لقصيدة من عيون الشعر
الإنجليزي.
أما كتاب «السير مالوري» الذي أسلفْنا الإشارة إليه فمجموعة من
القصص تروي عن «أرثر» و«لانْسِلُتْ»
٦ و«جالاد»
٧ و«بِرْسِفَال»
٨ و«تِرسْتِرام»،
٩ وغيرهم من الأبطال ذوي المغامرات في الحُبِّ والحرب.
وينقسِم هذا الكتاب إلى واحدٍ وعشرين جزءًا، يقصُّ أولها مولد
أرثَر ونشأته أم طفولته؛ فقد ظهرت فجأة ذات يوم صخرة ضخمة في فناء
كنيسة بإنجلترا وإلى جانبها سيف دُسَّ في سندان، وعلى الصخرة نُقشت
هذه العبارة بأحرُفٍ من ذهب: «إنَّ مَن يجذب هذا السيف من هذه
الصخرة والسندان مَلك شرعي أنجبتْه إنجلترا بأجمعها ليحكم.» وحدث
أن قصد أرثرُ ذات عام — بعد مباراة في الفروسية — إلى داره ليُحضر
سيف أخيه الأكبر، ففكَّر في أن يكفي نفسه مئونة السفر الطويل إلى
بلدِه طلبًا لسيف أخيه، ويُعرِّج على فناء الكنيسة ليستلَّ من
الصخرة ذلك السيف المَطمور، وجَذَبَ جذبةً فإذا السيف يَنسلُّ في
يده، فحقَّ له إذن أن يَعتليَ عرش بلاده، ولكن ذلك لم يكن هيِّنًا
يسيرًا، فقد نازَلَ وقاتل من أجل المُلك، فكان في نزاله وقتاله
يبعَثُ على العجب والإعجاب.
وتزوَّج أرثر من «جوينيفَرْ»
١٠ الفاتنة، وعاش في مدينةٍ بويلْز عيش الأبَّهة والجلال،
تحُوطه مئات الفرسان وفاتِنات الغواني، كلهم مَثَل أعلى للبسالة
وطيب النشأة ورشاقة الحركات. ومن أشجع هؤلاء الفرسان وصَفوتِهم
المُختارة اتَّخذ أرثرُ بطانته التي كانت تُجالسه حول «المائدة
المُستديرة». وقد كان يتفرق فرسان أرثر ليجُوبوا البلاد ينشدون
المُغامرة؛ فيحمُون النساء، ويتعقَّبون الطُّغاة، ويُطلِقون مَنْ
قَيَّدَهم سحرُ الساحرين، يُصَفِّدون المَرَدَةَ والأقزام. وأنت إذ
تقرأ قصص هؤلاء الأبطال فإنما تقرأ أجمل غرامٍ تُصادفه عند
المُحبين، وتجوس معهم خلال المدائن ذات الأبراج حيث تتحقَّق أحلام
الشعراء في بطولة الفرسان … وتقرأ في قصة أرثر كيف خانَتْهُ زوجته
فأحَبَّتْ سواه، وكيف قضى أرثر نحبَهُ بيدٍ أثيمة.
ومن القصص الواردة في كتاب «موت أرثر» للسير مالوري قصة
«الوعاء
المقدَّس
the Holy Grail» وهي مثال جميل لامتزاج الأساطير
المسيحية بالقصص القديمة التي سبقت عهد المسيحية، أو التي لم يكن
يصِلُها بالمسيحية سبب من الأسباب؛ فهذا «الوعاء المقدَّس» هو
الإناء الذي صُبَّ فيه دم المسيح، وهو رمز للكمال، ولا يجوز لغير
الفارس الطاهر المتخلِّق بأخلاق المسيح أن ينظُر إليه. وتروي القصة
أن «لانْسِلُتْ» الذي ثلَم الفضيلة بشَين سلوكِه أراد أن يمسَّ
الوعاء فخانَتْهُ قُواه، ولم يستطع ذلك غير أفاضل الفرسان «جاوين»
١١ و«جالاد»
١٢و«برْسِفَال».
١٣
وهنالك غير هذه قصص ممَّا يتَّصِل بأرثر وأبطاله وفُرسانه، وكلها
مُستمدٌّ من أصول فرنسية أو كلْتِيَّة، لكنَّ الأدب الإنجليزي
الوسيط لم يكن مَدينًا كله لتلك الأصول الكلتية والفرنسية، بل إنه
ليُضيف إليها لونًا جرمانيًّا ناصعًا جاءه من آبائه السكسون. فعلى
الرغم من ضَعف الخيال عند الإنجليز السكسون إذا قيس بالخيال عند
جيرانهم من الكلتيين والفرنسيين — ذلك الضعف الذي أدَّى إلى تأخُّر
الفنون عندهم — استطاعت اللغة الإنجليزية السكسونية أن تَثْبُتَ
وتستقيم أداةً فنية في ذلك العهد، الذي اتَّخذ اللاتينية لغةً
للعِلم والفرنسية أداةً للتفاهُم بين السادة. وليس الأدب الذي
بقِيَ لنا من الإنجليزية السكسونية أدبًا خصبًا غزيرًا، ولكنه مع
ذلك جديرٌ منَّا بالذِّكر والتسجيل.
وخير مِثالٍ نسُوقه للشعر الإنجليزي السكسوني قصةُ «بيوولف Beowulf» وهي تقع في فصلَين: في
الفصل الأول يأخُذ بيوولف سَمْتَهُ نحو الدانمارك، لأنه سمِع أن
أهل تلك البلاد يَشْكون من عدوان غُول فظيع اسمه «جِرِنْدِلْ»،
وبعد صراعٍ عنيفٍ يتغلَّب بيوولف على ذلك الوحش المُخيف الذي طالما
أنزل الفزَع في نفوس الناس كلما أغار عليهم في ظلام الليل، لكنَّ
أمَّ الغول لا تدع ابنها يقضي نحبَه من غير أن تنتقِم، فتغتر في
الليلة التالية وتفتِك بشريفٍ من أشراف الدانمارك، فلمَّا أصبح
الصباح اقتفى بيوولف أثرَ أمِّ الغول إلى عرينها تحت البحر
وصارَعَها صراعًا عنيفًا حتى صرعَها، وهكذا تخلَّص الدانماركيون من
ذلك الفزع المروِّع. ويَلقى بيوولف جزاء ما صنَع، فيعود مُثقلًا
بالهدايا مُتَّشحًا بالشرَف كسَبه لنفسه ولأُمَّته.
وفي الفصل الثاني من القصيدة يُحدِّثنا الشاعر أن بيوولف أصبح
ملكًا على قومِه في شيخوخته، وقد فزِعَت إليه أُمَّتُه ليُنقِذها
من أفعوانٍ مفترس يفتك بالناس فتكًا ذريعًا، فيلاقي بيوولف ذلك
الأفعوان في قتالٍ شديد ينتصِر فيه، لكنَّ الأفعوان ينفُث في البطل
سمومَه فيُردِيه قتيلًا. وتنتهي القصيدة ببناء مقبرةٍ عالية لذلك
البطل المِغوار فوق الصخور المُرتفعة على الشاطئ، يراها الملَّاحون
من بُعدٍ فتثير فيهم شعورًا بالمجد والعظمة.
وعلى الرغم ممَّا في هذه القصيدة من شرودٍ في الخيال، إلا أنها
تصوير دقيق صحيح للحياة الواقعة في عصرها؛ فشخصية بيوولف تصويرٌ
حيٌّ للأمير المقاتل في العصر القديم، بل إنَّ الغول وأُمَّه في
الجزء الأول من القصيدة، ثم الأفعوانَ في جزئها الثاني، لتُصوِّر
هذا الفزع الشديد الذي يُساور النفوس من كائناتٍ مُخيفة تعيث في
الأرض فسادًا إذا ما جَنَّ الليل. ولا فرق بين أن يَستعين الناس
ببطلٍ كبيوولف ليُنقِذهم من الغول وشَرِّهِ، وبين أن يلجأ الناس —
فيما نرى — إلى رجلٍ من رجال الدين يقرأ العزائم ويكتُب التمائم
ليُطهِّر الأرض من الجِنِّ المُخيفة.
ومن رجال الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى شاعران دينيَّان هما «كادْمُنْ»
١٤ و«سايِنولْف»
١٥ ولو أنَّنا لا ندري على وجه الدقة في أي قرنٍ عاشا.
أما كادْمُنْ — الذي يُرجَّح أنه قد عاش في القرن الثامن — فقد
نظَم شعرًا قصة «التكوين» وقصة «الخروج» وهما سِفْران في العهد
القديم. وأما «ساينولف» فلا شكَّ في أنه مؤلِّف ثلاث قصائد من
«القصائد المقدَّسة» التي جُمِعت بعنوان «المسيح»، وقد ذكر اسمه في
قصائده تلك، وأغلب الظنِّ أنه كتَب تراجم لأربعةٍ من القدِّيسين،
في بعض مواضعها دقَّة الشعور وقوَّة القصة.
كان الشعر — كما رأيت — أولَّ أداةٍ فنية اتَّخذتها اللغة
الإنجليزية للتعبير الأدبي، وذلك لأنَّ الشعر — وهو لغة العاطفة —
أسبق ظهورًا من النثر وهو لُغة العقل والمنطق كما أسلفْنا؛ ومع ذلك
فقد شهِدت العصور الوسطى إلى جانب الشعر إنتاجًا في النثر لا بأس
به قدرًا ومقدارًا. ولعلَّ أجدرَه بالذكر ما كتبَه الملك
«أَلْفِرِد الأعظم» الذي حكَم إنجلترا في الثلث الثالث من القرن
التاسع، وجاهد أن يُثقِّف شعبه فعلَّمهم القانون وبَصَّرهم بشئون
الفنِّ ومسائل الفلسفة. والأرجح أن يكون قد ساهم في كتابة «كتاب
التاريخ» Chronicle وهو أهم وثيقةٍ
نثرية في الأدب الإنجليزي السكسوني، ومصدر كثيرٍ ممَّا نعلَمُه عن
إنجلترا من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن التاسع. ولقد
تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية الحديثة لِقيمتِه في
التاريخ وفي الأدب على السواء.