الأدب الألماني في العصور الوسطى
لعل الشعراء لم يجدوا من التكريم في بلدٍ ما وجدوه في البلاد الألمانية، وفي أجزائها الجنوبية بصفةٍ خاصة: في بافاريا والنمسا، وهنالك نشأ بتأثير الشعراء «التروبادور» تقليد بين الشعراء أن يقرضوا «أنشودة الحب» فيتغزَّلوا بالحبيب على تقاليد دقيقةٍ معقدة تقوم بين الشعراء مقام القانون الذي لا يجوز لأحدٍ أن يعدو قيوده وحدوده. غير أن الشاعر الغَزِل في ألمانيا كان أكثرَ من زميله التروبادور في فرنسا جِدًّا وصرامة، وأقلَّ منه زخرفةً وبهرجة؛ فقد تناول فنَّهُ في جدٍّ لا يعرف الهزل، واستطاع في قرنين — هما الثاني عشر والثالث عشر — أن يُنتج مقدارًا كبيرًا من الشعر الغنائي الذي يشفُّ عن عبقريةٍ قوية في قرض الشعر، فكانت تلك القصائد الغنائية بالإضافة إلى الأغاني الشعبية الساذجة أساسًا «للأغاني» الألمانية التي امتازت بألفاظها وأنغامها معًا. وكان الشاعر الغَزِل في ألمانيا — عادة — فارسًا من الصفوف الدُّنيا، وموضوع «أغنية الحب» إعجاب الشاعر بل تقديسه لامرأةٍ من طبقةٍ اجتماعية تفُوق طبقة الشاعر بحيث يستحيل عليه أن يظفر بها. وقد تكون هذه المحبوبة أحيانًا مُتمثِّلة بالفعل في زوجة سيِّده، وقد تكون أحيانًا أخرى وليدةَ خياله. وإن هذا اللون من الحبِّ يُحسُّه شاعر شابٌّ نحو معشوقة فوق مناله ليَشيع في كثيرٍ من شعر العصور الوسطى وعصر النهضة. ولئن كان هذا الحب مُصطنعًا أحيانًا فإنه في معظم الأحيان صادر عن عاطفةٍ قوية سليمة تُمكِّن الشاعر أن يُعبِّر عنه تعبيرًا جميلًا.
وكاتب هذه القصيدة العُظمى شاعر ألماني مجهول عاش في القرن الثاني عشر، وقد جمع أساطير الأبطال الأوَّلين الذين ظهروا في شعوب الشمال، تلك الأساطير القديمة التي لا بدَّ أن قد تغنَّى بها أصحابها الأوائل جماعاتٍ جماعات حول المدافئ قبل أن يُخْترَع فنُّ الكتابة والتدوين. كما جمَع هومر قبل ذلك بقرونٍ أساطيرَ الإغريق الأقدَمين فَصَبَّها شعرًا في ملاحِمه، وأطلق الشاعر المجهول على مجموعة الأساطير التي أجراها في شِعره «أغاني أهل الظلام»، التي تقع من نفوس الألمان ما وقعتِ «الإلياذة» و«الأوذيسية» من نفوس الإغريق. وكما اتُّخِذت القصص الهومرية موضوعًا للمآسي الإغريقية الكبرى، كذلك اتُّخِذت «أغاني أهل الظلام» مَعينًا استمدَّ منه فنُّ العصور الحديثة، فأخذ عنها «فَجْنَرْ» — مثلًا — مسرحياته الغنائية.
وقد كان لسيجفرد هذا مغامراتٌ عجيبة في شبابه حين كان يتلقَّى تدريبه عند صانعٍ للسيوف، فقد قتَل أفعوانًا واغتسل بدمائه، فأصبح بعدئذٍ في مأمنٍ من الجراح إلا في مَوضعٍ واحدٍ من جسده، وهو موضع يقَعُ بين كتِفيه حيث لصقتْ به ورقةٌ من شجر الزيزفون حين اغتسل بدماء الأفعوان، فكان هذا المَوضع من سيجفريد ما كان العَقِبُ من أخيل في قصة الإلياذة. فوق هذه الحصانة التي اكتسبها سيجفريد كان قد حمل سيفًا بتَّارًا تُروى عن أعاجيبه الأساطير، وظفر بثوب الإخفاء إذا ما تلفَّع به اختفى عن نظر العيون، وقد أكسبَهُ هذا الثوب فوق ذلك قوةً تعدل قوة اثني عشر رجلًا مُتآزِرين؛ وكان له صولجان سِحري أكسبَه سلطانًا على الآخرين. وفوق ذلك كله اجتمعت له كنوز أهل مملكة الظلام، وهي تحوي ذهبًا وأحجارًا كريمة لا تقع تحت الحصر، وأَسلمَت له دولة الأقزام زمامها وقِيادها.
تلفَّع سيجفريد بثوبه السحري، فاختفى وازدادت قوَّتُه أضعافًا مضاعفة، ونازل الملكة المخطوبة برَنهلْد ولم يكن على جونتر الخاطِب إلا أن يهزَّ جسده ويطوِّح بيديه كأنما يقوم هو بالنزال. وانتهى الأمر بهزيمة برنهلد فكان لزامًا عليها أن تنتقِل مع خطيبها إلى بلدِه وِرْمِزْ، حيث أقيمت حفلات العرس للخاطبين جميعًا: جونتر يُزَفُّ إلى برنهلد، وسيجفريد إلى كريمهلد. وكانت الحفلات تفيض روعةً وجلالًا، لكن برنهلد — تلك الملكة الساحرة — قد استخدمت بقيَّةَ سِحرها في ليلة الزفاف، فأمسكت بخطيبها جونتر وشدَّت وثاقَهُ شدًّا بمِنْطقتها وعلَّقتْه على مِسمار في الحائط، فنهض سيجفريد مرةً أخرى يُعين زميله جونتر على تلك المرأة المروِّعة الغادِرة، وما هو إلَّا أن فُضَّتْ بكارتها حتى ذهبتْ عنها كل قوَّتها، وأسلسَتِ القيادَ لزوجها، وكان جزاء سيجفريد — لِما قدَّم من عَون — أن أخذ من برنهلد خاتَمَها ومِنطقتها وفيهما من قوَّة السِّحر ما فيهما، ثم أهداها إلى زوجته كريمهلد. وتمضي أعوام يتقلَّب فيها سيجفريد وزوجه في نعيمٍ زاخر بفضل كنوزه العريضة التي آلَتْ إليه من مملكة الظلام، ولا يشوب سعادته تلك سوى شائبة واحدة، وهي أنَّ الملكة برنهلد لم تزَلْ تُشير إلى سيجفريد بأنه عبدٌ رقيق لجونتر، وأنها لذلك سيدة لزوجته كريمهلد.
وحدث يومًا أن جاء سيجفريد إلى حفل أُقيم في وُرمز، وصحِبته زوجته وأبوه وعددٌ من الأتباع لا يكاد يُحصيهم العد، وسارت الأمور خلال الحفل على خَير ما يُرجى، ثم اشتبكت المَرأتان — برنهلد وكريمهلد — في نقاشٍ حادٍّ تزِنَان فيه قدْر زوجَيهما، وبلَغ النزاع أشدَّه حين نهضت كريمهلد وخلفها حاشية عظيمة، وذهبت نحو الباب تُريد الخروج، فلحِقتْ بها برنهلد التي لم يكُن لها من جلال الحاشية ما لتلك، وعنَّفتْها قائلة: «لن تتقدَّم زوجة العبد في الخروج على زوجة الملك.» وهنا ذاع السِّرُّ المكتوم حين انفجرت كريمهلد قائلةً وهي مغضبة حانقة:
ثم أبرزتْ لها الخاتم والمِنطقة اللَّذين انتُزِعا منها انتزاعًا حين افترَعَها زوجها قسْرًا فانفجرتْ برنهلد باكية، ثم أخذت تُفكِّر وتُدبِّر كيف يمكن لها أن تنتقِم لِما أصاب كبرياءها من جُرح بليغ.
ومضت أعوام، ثم أرسلت كريمهلد تدعو جونتر وبطلَه هيجن إلى قصر زوجها، فأدرك هيجن ما قصدتْ إليه الداعية من سُوء، وحاول أن يصرِف عنها سيِّده، ولكن جونتر لم يأبَهْ له، وذهب في حاشيته وأتباعه. ولم يكن إتزل زوج كريمهلد يعلَم عن مكيدة زوجته شيئًا، فأخذ يستقبِل الأضياف في حفاوةٍ وإكرام، وما إن اكتمل الحفل حتى أخرجت النفوس مَكنونَ الضغائن فَسُلَّتْ سيوف، ورُمِيَت قِسِي، وطاحت رءوس، وسالت دماء، ولقِيَ الأعداء من الفريقَين حتوفَهم، ولم يبقَ حيًّا سوى إتزل وبعض رجاله.