(١) دانتي
كان مَولد دانتي في القرن الثالث عشر، وقد أوغل بحياته في
القرن الرابع عشر؛ فجاء قُبيل الموعد الذي حدَّدَه المؤرِّخون
للنهضة في أوروبا، ولكنَّ دانتي كان في ذاته نهضةً كُبرى. وقد
وُلِد دانتي في «فلورنسه» بإيطاليا، التي كانت في عهده — بل
ظلَّت قرنَين أو ثلاثة قرون بعد زمانه — معقل الفنون والآداب،
لا يعدِلها في ذلك بين مدائن العالِمين إلَّا أثينا في عصرها
الذهبي. لكن شاء الله لشاعرنا العظيم ألا يُنشئ آيتَهُ الفنية
الكبرى في مدينة الفنون، وذلك لِما شهدته أيامُه من صراع سياسي
عنيف، وكان هو مُنتميًا إلى الحزب الخاسر،
١ فنفاه ذوو السلطان من المدينة فاعتصم بحُماة الأدب
من المُوسرين في المدائن الإيطالية، وبخاصَّة في «فيرونا»
٢ و«رافِنَا»
٣حيث أنشأ «الكوميديا».
وآية دانتي الكبرى هي «الكوميديا» التي أطلَق عليها
«الكوميديا الإلهية» — ولم يكن دانتي هو الذي أطلق عليها هذا
العنوان الثاني — وهي رحلة خيالية في الجحيم وفي الأعراف، وفي
الفردوس، وقد بلغ بها الشاعر من الجودة
الفنية حدود الكمال.
و«الكوميديا» نمَط خاص من الأدب، فلا هيَ تنخرط في سلك
الملاحِم ولا هي تندرِج تحت ضربٍ من ضروب الشعر المعروفة
المألوفة، فلم يأتِ بمثلها في الصياغة والتأليف سابق أو لاحق،
إنما خلقَها دانتي خلْقًا وأنشأها إنشاء، فجاءت في عالم الشعر
وليدًا جديدًا مادةً وصورةً وعبارة.
٤
ومع هذا فقد جمع في سطورها حِكمة عصرها؛ فإنه حين يرتحِل
ليشهد الموتى، تراه يحمِل في جُعبته حقائق التاريخ وتراجم
الأعلام والأبطال، ثُم يُعيد في أشعاره قصص الآثِمين ليُصوِّر
لهم ما يستحقُّون من ألوان العقاب، كما يقصُّ أنباء المُحسنين
وما وافاهم الله به من نعيمٍ مُقيم. والرواية عن هؤلاء وأولئك
هي مصدر ما يُصادِفه القارئ في القصيدة من مُتعةٍ وجمال،
وبخاصَّة ما رواه الشاعر عن الجحيم وساكنيه، لأنَّ القصة إذا
رُويت عن مجرم آثِم كانت أمتعَ من القصة تُرْوى عن مُتبتِّلٍ
قديس! وإن دانتي لَيُدرك هذه الحقيقة الإنسانية في وضوح،
ويستثمرها ما أسعفه الفنُّ والنبوغ، فتراه يُنزل بأصحاب الجحيم
عذابًا أليمًا يهزُّ النفوس هزًّا عنيفًا، وينوِّعُ العذاب
فيَصبُّه تارةً على الجسم وطورًا على الرُّوح، ومع ذلك لا
تحسُّ وأنت تقرؤه أنه عذاب صادر عن حقدٍ وضغينة، بل تسُوده
الرحمة والعطف الجميل. ويختم الشاعر رحلته برؤية الله، وعندئذٍ
تنطمِس الإرادة الإنسانية في «الحُبِّ الذي يُحرِّك الشمس
وسائر الأفلاك»؛ عندئذٍ يتَّحد الإنسان بالله.
وإنما أراد دانتي بهذا أن يُهيئ لأبصارنا هذه الرؤية ليفتح
أمام بصائرنا آفاق الأمل الفسيح، فيُخرجنا من إحساس بالشَّقاء
إلى رجاءٍ في النعيم.
جاءت «الكوميديا» قصيدةً رائعة بارعة، لكنها حَوَتْ
مُعَمَّيات في الفلسفة واللاهوت أخذ البحث العلمي في ستة قرونٍ
تالية يُجاهد في سبيل حلِّها وتوضيحها ثُم أعلن إفلاسه، ولكن
فيمَ هذا العناء كله في حل المشكلات والغَوص إلى الأعماق إن
كان السطح فاتنًا خلَّابًا؟ فلنستمتعْ بهذي القطوف الدانية إن
كان ما وراء ذلك فوق المُستطاع.
ولا تقِف عبقرية الشاعر عند حدِّ الفكرة، بل تعدُوها إلى
الصورة التي ألبَسَها إيَّاها؛ فبناء القصيدة عنده مُعجزة من
معجزات التأليف والإنشاء، فالكوميديا تتألَّف من ثلاثة أقسام:
الجحيم، والمَطْهَر (أو الأعراف) والفردوس، وفي كل قِسمٍ منها
ثلاثة وثلاثون مقطعًا، وإذا أضفْتَ إليها مقطعًا زائدًا
اتَّخذه الشاعر فاتحة للجحيم، كان لك بذلك مائة مقطع تُكوِّن
القصيدة. والمقاطع تكاد تتساوى كلُّها في عدد أبياتها، ففي
كلٍّ منها مائة وأربعون سطرًا أو ما يدنو من ذلك، تتركَّب من
وحداتٍ مُثلَّثة القافية؛ فالوحدة قوامها ثلاثة أسطر يتناغَم
أوسطها مع السطرين الأول والثالث من الوحدة التي تليها. ولم
تكن هذه الصورة الشعرية التي ابتكرَها دانتي لقصيدته دليلًا
على براعته في الأوزان وكفى، لكنها فوق ذلك بُرهان على سلامة
فِطرته وقوة سليقته، لأنَّ هذه الوحدات المُثلثة القافية خير
ما يصلُح للتعبير عن موضوعه، وقد تعدَّدت ألوانه وتباينت: ففيه
الفكرة، وفيه القصة، وفيه الوصف المُستفيض والحِكمة الموجَزة،
بحيث جاءت كلها نسيجًا واحدًا متماسِكَ الديباجة موصولَ
الأطراف والأجزاء. وما هو جدير بالذكر أنَّ هذا الوزن
المُبتكَر قد حاوله من بعدِ دانتي كثيرون فلم يكن في أيديهم
طيِّعًا مُتَّسقًا كما كان عند صاحبه، لذلك ظلَّ خاصًّا به لا
يُشاركه فيه شاعر سواه.
ثم ماذا؟ ثم لا يقنَع هذا النبوغُ الخارق بالفكرة السامية
يُنشئها وبالصورة الفنية في بناء القصيدة يَخلُقها، لكنه تجاوز
ذلك إلى الألفاظ نفسها، فاصطنع لغةً لم يصطنِعْها الشعراء من
قبله؛ ففي ذلك العصر الذي كانت اللاتينية فيه أداةً الكتابة
بين العلماء، لا يُنازعها في ذلك منازع، اتَّخذ دانتي من
اللهجة العامية في إقليمه «تسكانا» لغةً أدبية يستخدمها
لفنِّه، ثُم أُدخل عليها فيما بعدُ ما أُدخل من تهذيبٍ وتشذيب
حتى أصبحت أداةَ التعبير التي تجرى بها أقلام الأدباء في
إيطاليا، وهي ما نُسمِّيها اليوم ﺑ «الإيطالية القديمة». لقد
كان في إيطاليا — ولا يزال بها — لهجاتٌ كثيرات، ولِبعضِها أدب
جميل، ولكنَّ اللهجة التسكانية — وهي لهجة الحديث في فلورنسه
وما يجاورها — امتازت من دونها جميعًا، واتُّخذت مقياسًا
للتعبير الصحيح الخليق بطوائف المتعلمين، وذلك بفضل شاعرها
دانتي.
ويتَّخِذ دانتي من سلفِه فِرجيل دليلًا يَهديه في رحلة
الجحيم، كأنما أراد بذلك أن يعترِف بالجميل لأستاذه في «جمال
الأسلوب»، فليس من شكٍّ في أنَّ لفِرجيل أثرًا عميقًا في
دانتي، بل في شُعراء أوروبا الوسيطة والحديثة على
السواء.
•••
لمَّا بلغ دانتي التاسعة من عمره شاءت له المصادفة أن يلتقيَ
بفتاةٍ في مثل سنِّه هي «بياتْرتْشي»؛
٥ التقى اليافعان ولم يتبادلا حديثًا، ولكنَّ الشاعر
فيما بعدُ يُقرِّر أنه «منذ ذلك اليوم قد تمكَّن سلطان الحب من
نفسي.» ولبِثَت «بِيَاتْرتْشي»، حتى ختام حياته مُلتقى خواطره
ومشاعره؛ فها هو ذا يستعيد في أواخر سِنيه ذكرياتٍ ماضية،
فيذكُر كيف شهد الحبيبةَ يومًا يَعُدُّه أسعد الأيام وهي ترتدي
ثوبًا «أبدع ما تكون الثياب لونًا، ثوبًا قرمزيًّا جميلًا
تَطَوَّقَ وازدان على نحوٍ أتمَّ ما يكون تناسبًا مع يَفاعَةِ
سِنِّها.» ومضت بعد هذا اللقاء أعوام تِسعة، ثم قابل الشاعرُ
«بياترتشي» مرة ثانية، وكانت ترتدي ثوبًا أبيض، وتسير في شوارع
فلورنسه في صُحبة سيدتَين تَكبُرانها، ولم يتبادل الحبيبان
حديثًا في هذه المرأة أيضًا، لكن الفتاة «أدارت عينيها إلى حيث
وقفتُ يَعلوني الخجل الشديد، ثم حيَّتني في ظُرفٍ يعزُّ على
التعبير، وعلى نحوٍ من الجلال خُيِّلَ إليَّ في موقفي ذاك أني
أشهد جنَّةَ النعيم.» ثم لم تقع عيناه على حبيبته بعد ذلك
إلَّا مرةً ثالثة، فيا لها من سخرية للقدر أن تنفُث «بياترتشي»
هذه العاطفة العميقة في أكبر قلبٍ ضمَّه صدْر إنسان، ثم تمضي
بها الأيام غير عالِمةٍ بما نفَثتْ من سِحر وإلهام! لكن
الأقدار تعود فتُصلِح ما أفسدت، فتهيِّئ لهذه العاطفة القوية
التي بعثتها «بياترتشي» في قلب دانتي أن تُخلَّد في إحدى روائع
الأدب الإنساني، إذ خلَّدها دانتي في كوميدياه.
وتزوَّجت «بياترتشي» وماتت وهي في الخامسة والثلاثين عن
عمرها، فكتب عنها دانتي بعد موتها يقول: «ما إنْ فقدتُ أولى
مباهج نفسي حتى عَراني حزن تغلغل في قلبي، فلم يَعُدْ أيُّ
متاعٍ يُجدي شيئًا.» ويقصُّ دانتي قصة حُبِّه هذا في أول كتابٍ
له كتبَهُ بالإيطالية وهو «الحياة الجديدة»؛ والكتابُ رسالة
فلسفية تتخلَّلها مقطوعات شعرية، هاك إحداها يُعلِّل فيها
الشاعر موت حبيبته في سنٍّ باكرة:
صَعَدَ هذا الجلال الفيَّاض إلى السماء
فأيقظ الدهشة في ربِّ الخلود،
حتى شاع في نفسه شوق لذيذ
إلى ذلك الجمال الباهر،
فقضى الله أن تكون الفتاة نحو الله طامحة؛
إذ رأى هذه الأرض مُترعةً بالشر والعناء؛
فليست خليقة بمخلوقةٍ كهذي تفيض جلالًا.
وبعد أن أتمَّ دانتي كتابه «الحياة الجديدة» —
شرع يُنْشِد «الكوميديا الإلهية» لتكون قُربانًا يقدِّمه إلى
المرأة التي أحبَّها، فقد كتب دانتي الكوميديا ليتَّجِه بها
إلى «بياترتشي» بعد موتها؛ فهو يقول في آخِر فصول «الحياة الجديدة»:
لو شاء الذي يُفيض الحياة على الكائنات جميعًا أن
يمتدَّ أجلى أعوامًا قلائل فإني آمُل أن أكتُب عنها ما
لم يُكتَب مثله لامرأة. فإن أتممتُ ذلك، فَلْتَقْضِ
إرادة الله ربُّ الجلال أن يُصعِدَ روحي إلى السماء،
فيشهد جلال محبوبته إذ يرى «بياترتشي».
أما الكوميديا الإلهية فهي — كما أسلفنا — وصف للجحيم
والمَطْهر والفردوس، وهي تصوِّر في ظاهرها حالة الأرواح بعد
الموت، لكنها في حقيقة أمرها رمز أُريدَ به أن يُبين حاجة
الإنسان إلى الهداية وإشراق الروح. وها نحن أولاء نعرِض لك
موجزًا وافيًا لهذه القصيدة الخالدة:
ينظر دانتي فإذا هو قد ضَلَّ طريقه في غابة مُعتمة، وإذا
بفئة من الوحوش الكواسر تحُول دون صعوده جبلًا كان يعتزِم
صعوده، ها هنا يَلقاه «فِرجيل» — الشاعر الروماني العظيم —
وبعد أن يُطلِعه على ما في الجحيم من ألوان العذاب، وأن
يُرِيَه المطهر بعد ذاك، فإذا ما تمَّ ذلك صَحِبَته «بياترتشي»
إلى الفردوس تهديه سواء السبيل. يسير «دانتي» ودليلُه «فِرجيل»
حتى يأتيا باب الجحيم فيقرأ هذه الكلمات المُفزِعة التي
خُطَّتْ عليه:
أدخلوني إلى مدينة الأحزان.
أدخلوني إلى أليم العذاب.
أدخلوني بين مَنْ ضَلُّوا إلى أبد الآبدين.
إنَّ بارئي قد أقام العدل ميزانًا،
ثم شاءت قوة الله أن يقوِّم بُنياني،
وإنْ هي إلا الحِكمة العُليا والحبُّ الأول،
ولم يخلُق الله قبلي غير الخوالد،
فإني على وجه الدهر باقية؛
فيا أيها الواردون انفِضوا عن أنفسكم كل
رجاء.
ويدخلان فإذا بالجحيم هوَّة سحيقة في هيئة
مخروط مقلوب، رأسه عند مركز الأرض وجوانبه مُدَرَّجَة درجاتٍ
عراضًا تقلُّ حجمًا كلما ازدادت عمقًا، وعلى هذا الدَّرَج
حُشِرَ الآثمون: دُنياها لمن ثقُلت موازينه بخطاياه، وعُلياها
لمن خَفَّت موازينه؛ فلا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم
حتى يُبصران سهلًا مُظلمًا حُشرت فيه أرواح الذين عاشوا
لأنفسهم وأنفقوا أيامهم — ولا يقول حياتهم لأنها لم تكن عنده
بالحياة — في تَراخٍ وقُعود، وهؤلاء كانت تلدَغُهم الزنابير
فلا تدعهم يطمئنون إلى قرار.
وعبَر الزائران ذلك السهل حيث بلَغا «نهر أشيرون»
٦ وهو نهر الأسف والأسى، وعلى شطِّه ألفَيا زحامًا
عند معْبر «شارون»
٧ كلٌّ يرقُب العبور إلى الشاطئ الآخر. وكان «شارون»
هذا ينقُل المُتزاحِمين في عنفٍ وقسوة، وعيناه تدوران في وجهه
كأنهما حَلْقتان من نار؛ فلا يحتمِل دانتي هذا المشهد الرهيب،
ويسقُط في إغماءة لا يُفيق منها إلا برعدٍ يقصف قصفًا شديدًا،
فيرى أنهما قد عبرا «أشيرون». وعندئذٍ هبط مع دليلِه إلى
«لِمْبُو»، وهي أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجد عبَدَةَ
الأوثان الذين ماتوا قبل المسيحية، ولذا فقد حقَّ عليهم
الحرمان من نعيم الفردوس على الرغم من حياة الفضيلة التي
عاشوها فوق الأرض. وفي هذه الحلقة الأولى يلتقي دانتي بأسلافه
«هومر» و«هوراس» و«أوفد» فيلقاه هؤلاء لقاء حسنًا؛ ويهبطان إلى
الحلقة الثانية من الجحيم، فإذا بدانتي يُبصِر عند مدخلها «مينوس»
٨ — وهو قاضى الجحيم — فيراه كلبًا عظيمًا له وجه
إنسان؛ فلا يلبَث «مينوس» أن يُنذِر دانتي أن يكون على حذَرٍ
في دخوله تلك الأصقاع. وها
هنا يشهد دانتي عقابَ من استرسلوا في شهوات أجسادهم فأجرَموا
في الحُب، وإذا بهؤلاء قد عصفتْ بهم ريحٌ شديدة فأخذتهم
الراجفة كأنهم الكراكيُّ في العاصفة:
ها قد بدأتُ أسمع صيحاتِ الحزن والأسى،
ها قد أتيتُ إلى حيث الأنَّات الشاكيات
تقرَع أُذني فتؤذِيَها، إذ أتيتُ إلى مكان
خَفَتَ فيه الضوء، وهنالِك زمجرَتْ رياح
عواصف،
كأنه البحر مزَّقته العاصفة برياحها الهوج،
إذ هبَّت في جنباتِ الجحيم رياح عاتية،
أخذت في سَورة الغضب تسُوق أمامها الأرواح
تدور بها حتى الدُّوار، وتدفعها دفعًا عنيفًا
موجِعًا،
حتى إذا ما بلغَتْ بها عند الجائحة الفاتكة،
سمعتُ صرخات، وسمعتُ أنَّات وعويلًا،
وسمعتُ اللعنات تَسُبُّ قوَّة الخير في
السماء.
وهنالك أبصر الشاعران «بسيمراميس» و«كليو
بطرة»:
وهنالك لمَحتُ «هِلِنْ» التي في سبيلها
عَمَّ البلاء حينًا مِن الزمان طويلًا،
وأبصرت ثَمَّ «أخيل» العظيم الذي قاتل مدفوعًا
بالحُب حتى النهاية،
ورأيتُ «بارس» ورأيت «ترستان»
وغير هؤلاء ألْفًا أراني — مُشيرًا إليهم
ومُسَمِّيًا —
ممَّن أفقدتهم لوعةُ الحُب طعمَ الحياة.
وفوق هؤلاء وأولئك رأي دانتي «فرانسسكا»
٩ وحبيبها «باولو»،
١٠ وتقصُّ «فرانسسكا» عليه قصتها، فتبلُغ القصةُ من
الشاعر مواقع العطف والإشفاق. وهل يحتمِل هذا القلبُ الرقيق أن
يستمِع إلى امرأةٍ تروي كيف بُوغِتَت مع حبيبها، وكيف فتَك
بالحبيبَيْن زوجُها «يوحنَّا الأعرج»،
١١ فسقط الشاعر في إغماءةٍ حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه
في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم.
في هذه الحلقة الثالثة أُعِدَّ عِقابُ النَّهم، فهنالك شُوهد
الذين شغلتْهم في الدنيا بطونُهم، يتمرَّغون في حَمأةٍ من
الطين تحت وابلٍ من المطر والثلج والصقيع، بينما أخذ
«سيربروس Cerbru» وهو
كلبٌ عملاق — ينبَح ويعوي ويمزِّق جلودهم تمزيقًا.
إنَّ «سيربروس» — ذلك الوحش الغليظ الكاسر العجيب —
أخذ ينبح نباح الكلاب من حلقٍ عريض، له ثنايا
ثلاث
في جمع محتشد
وعيناه أرجوانيَّتان تلمعان، ولِحيته رِخْوَة
سوداء.
قد ضخُمَت منه المعدة، أمَّا يداه فمِخلبان،
بهما يُهشِّم الأرواح وينهشها ويُمزِّق
الأعضاء
شِلْوًا شِلْوًا.
ثم يدخل الشاعران حلقة الجحيم الرابعة
فيُبصران عند مدخلها «بلوتس»
١٢ إله المال يُراقِب هنالك من بسطوا أكفَّهم
بالإسراف، ومن غَلُّوا أيديهم إلى أعناقهم لا يُنفِقون، فهؤلاء
وأولئك قُضِيَ عليهم أن يدُحْرِجوا جلاميد صخرٍ عاتيات في
اتِّجاهَين مُتقابِلين، فلا تلبَثُ جلاميدهم أن يصدِم بعضها
بعضًا، فينفجِر الأشقياء — وقد نال منهم الإعياء — باللعنات
يصبُّها فريق منهم على فريق.
وبعدئذٍ يَرِدُ الراحلان إلى الحلقة الخامسة حيث الغِضَابُ
الساخطون يتقلَّبون في عَذابٍ أليم في بُحيرة «ستيجيان»،
فيُشير «فِرجيل» لزميله قائلًا:
أرأيتَ يا بُني؟
أرأيتَ أرواح من غلبتْهُم في الحياة سَورة
الغضب؟
فاعلَمْ عن هؤلاء كذلك عِلم اليقين أنَّ تحت
الماء تسكُن منهم جموع، يتنهَّدون
فتنتفِخ هذي الفقاقيع التي يعلو بفِعلها صدرُ
الماء.
انظر تشهَدْ هذا أينما وجَّهتَ البصر.
وإنهم وقد لصَقوا بالوَحْل لَيَقولون: «كنَّا ذات
يوم حِزانًا؛
كنَّا في الهواء الحلوِ تُبْهِجُهُ الشمس،
نحمِل في أجوافِنا نفوسًا مُظلمة وضبابًا
ثقيلًا،
فقد حَقَّ علينا الحُزن في هذا المكان
القاتم.»
بهذه النغمة الحزينة كانوا يُغمغمون،
لكنهم بالألفاظ واضحةً لا يُفصِحون.
وبعدئذٍ
وصل الشاعران إلى بُرج شاهق تُضيء من قِمَّته شُعلتان، وشهِدا «فليجياس»
١٣ القائم على العبور في بحيرة «ستيجيان» قادمًا
إليهما في سُرعة الملهوف ليحملهما عبر البحيرة؛ فأبصرا خلال
الضباب الكثيف القائم مدينة «ديس» وهي مدينة الشيطان، شهِدوا
أبراجَها وقبابها متوهِّجة بألسنةِ اللهب. وكانت طائفة من
الجنِّ قائمةً على حراسة أبوابها. ولم يكَدِ الراحِلان يدنُوان
من مدينة الشيطان حتى شهِدا أرواح الشياطين على رءوس المنازل
تُمزِّق شعورها التي كالأفاعي من الغَيظ والغضب، وتَصيح بقوَّة
السحر لتمنعَ الراحِليْن، فيجمُدا، لكنَّ مَلَكًا يأتي إليهما
مُسرعًا عَبْر البحيرة دون أن تبتلَّ أقدامه بمائها، فيسرد
أرواح الشياطين ويفسح للشاعرَيْن الطريق، فيدخل الرجلان
المدينة ويُبصران سهلًا فسيحًا ملأته أجداث مكشوفة لا يُخفيها
غطاء، تتأجَّج في كلٍّ منها نار تلتهِم روحًا كان صاحبه قد
ضَلَّ عن دِينه. وبلغ الراحِلان حدود الحلقة السابعة فهبطاها
خلال شَقٍّ من صخور مُمزَّقة الجوانب حتى انتهيا إلى نهرٍ من
دماءٍ وقف في لُجَجه الطُّغاة، بينما أخذت فصيلة من الجنِّ
وعلى رأسها «شيرون» تجري على الشاطئ وتُلهِب بسهامها الحِداد
جسوم أولئك الطُّغاة الذين اعتدَوا على جيرانهم سلبًا ونهبًا.
وتَقدَّم إلى الشاعريْن واحدٌ من تلك الفصيلة وقال مشيرًا إلى
جماعة الآثمين الغَرقى في نهر الدماء:
هذي أرواح الطغاة الذين استرسلوا
في سفك الدماء وسلب الأبرياء؛ انظرا إليهم يولولون
جزاءَ ما اقترفوا من إثم غليظ؛ ها هنا موطن
الإسكندر،
وها هنا هوى ديونيسيوس الذي سام صقلية
ألوان العذاب أعوامًا طوالًا.
…
انظُر إلى عدالة السماء الصارمة تهوي بالعقاب
على «أتِلَّا» الذي كان في الأرض سَوط عذاب!
ولا يزال الشاعران في الحلقة السابعة، فيدخلان
جُزأها الثاني وهو غابة كئيبة مُوحِشة تكوَّنت من أرواح الذين
أزهَقوا أنفسهم بأيديهم، فانقلبَتْ نفوسهم في هذه الغابة
أشجارًا جافَّة قصيرة، تتدلَّى منها ثمار سامَّة يعيش عليها
ضرْب من الطير القذِر له وجوه النساء، وكان كلَّما انكسر فرع
من شجرة تدفَّق الدم كأنه ينصبُّ من جسمٍ مجروح، وبعض الأرواح
التي حُشِرت في تلك الغابة كان عذابُه أن تقتفِيَه كلابٌ قوية
سوداء تنهَش جسومهم نهشًا. وللحلقة السابعة قِسم ثالث حُشِر
فيه الذين اقترفوا الإثم نحو الله أو الطبيعة أو الفن، فلهؤلاء
أُعِدَّ سهْل يُغطِّيه رمل مُلتهب جاف تتساقط عليه قِطع النار،
ثم تهبُّ عليها الريح فتحوِّلها في بطءٍ إلى ألواحٍ من
الجليد.
وواصل الراحلان المسير على شاطئ نهر الدماء، الذي يجرى خلال
هاتيك الرمال المُلتهبة، حتى بلغا من الطريق مكانًا تتدفَّق
فيه دماءُ النهر ساقطةً إلى مهوًى سحيق؛ فأخذ «فِرجيل»
مِنْطَقَةَ زميله «دانتي» وألقى بها في الهاوية، فما لبِثا
بعدئذٍ أن شاهدا حيوانًا ضخمًا مُخيفًا يعلو من القاع سابحًا
في أجواز الهواء المُظلِم القاتم حتى وصل إلى حيث يقِفان،
فامْتَطَياه إلى الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم وهي تنقسِم
عشرَ فجواتٍ أُعدَّت كلها للخداع بكلِّ ضروبه؛ ففي أُولاها
حُشر الفاسقون تنطَحُهم فئة من الشياطين ذوي القرون، وفي
الثانية أُلقي بالمُرائين يتمرَّغون في الوحل، والفجوة الثالثة
للمُتاجِرين بالدِّين، فهؤلاء عُلِّقت أجسامهم في ثغراتٍ ضيقة
عميقة، ورءوسهم مُدلَّاة إلى أسفل، وأقدامهم تشتعِل كأنها
المشاعل فوق الصخور، وكانت الفجوة الرابعة لطائفة المُتنبِّئين
لُوِيَتْ أعناقهم بحيث أطلَّت الوجوه إلى الظهور. ويتلو ذلك
حُفرة مُلئت بقارٍ يَغلي أُعدَّت للسالبين ينغمسون فيها،
ترقُبها جماعة من الشياطين ذَوي أجنحةٍ سُود وسِنَانٍ حِدَادٍ.
وَوَصْفُ دانتي لهذا المنظر من أروع ما ورَدَ في «الجحيم»، فهو
يجعل على هذه الطائفة من الحرَّاس الشياطين رئيسًا يُسمِّيه «بارباريتشا»
١٤ ويساعد على تنفيذ أوامره نفَرٌ منهم يُسمِّيهم
بأسمائهم، فمنهم «جرافيكاني»
١٥ و«فَارْفَارِلُّو»
١٦ وغيرهما:
… وإنه ليحدُث الفينة بعد الفينة
أن يعلو الآثِم بظهره فوق سطح القارِ من لذْع
الألم،
ثم يختفي في سرعة أين منها لَمحةُ البرق
الخاطف؛
فكما تقِف الضفادع من بركة الماء
عند حافتها، لا يبدو فوق الماء غير خياشيمها
أما الأقدام والخراطيم فتحت الماء خافية،
كذلك وقف الآثمون في لجَّةِ القار.
ولكن سرعان ما يكون «بارباريتشا» على مقربة،
فيغُوص الجُنَاةُ تحت المَوج؛ فلقد شهدتُ —
وقلبي يخفِق بين ضلوعي — شهدتُ أحدَهم يطفو
كما قد يحدُث لضفدعةٍ أن تظلَّ فوق الماء
طافية،
بينما تُسرع أختُها واثبةً فتختفي، وكان
«جرافيكاني»
إذ ذاك أقرَبَ الشياطين إلى ذاك المِسكين،
فأمسك بخُصلات شعره الكثيفة يجذِبها جذبًا
شديدًا،
وألقى به في عنفٍ طريحًا
حتى بدا لي كأنه كلبٌ من كلاب الماء.
ويمضي الشاعران في طريقهما إلى سائر الفجوات،
فيشهدان المُنافقين وقد أثقلتْهم قلنسواتٌ من الرصاص زُخْرف
بماء الذهب، ثم يَرَيان اللصوص كيف ينقلِبون حيَّاتٍ مُحتملين
في ذلك التحوُّل عناءً أليمًا، ثم كيف يرتدُّون إلى صورة
الآدميين. وبعدئذٍ يمُرَّان بمن استُنصِحوا فأشاروا بفعل
السوء، كل فردٍ منهم قد تحوَّل إلى لسانٍ من اللهيب يندفع هنا
وهنالك، حتى لكأنَّهم في ذاك الجُبِّ المُظلم يَراعات (ذباب
مضيء) تروح وتجيء، ثم يرى الشاعران فريق الخائنين وقد مزَّقَت
الجراح أجسادهم تمزيقًا، وقد تقدَّم من بينهم «بريان»
١٧ الذي أعلن عِصيانه على هنري الثاني ملك إنجلترا،
وقد أمسك رأسه المقطوعَ من شعرِه وأخذ يتحدَّث إلى
دانتي.
وبعد ذلك أخذ الشاعران طريقهما إلى الحلقة التاسِعة من حلقات
الجحيم، التي لم يكادا يبلُغانها حتى أوشكت آذانُهما أن
تُصَمَّ بصوت بوقٍ كان يقصِف كالرعد، ثم ما لَبِثا أن رأيا
ثلاثةَ مردَة تقِف عند الحافة من قاع الجحيم الأسفل. أما
أحدُهم «أنتيوس»
١٨ فينزل بهما إلى قاع الجحيم، وإذا به بحر تُغطِّيه
ثلوج لا تذوب، وهنالك تبدو أشباح المُعذَّبين، كأنما هي ذُباب
يضطرِب في وعاءٍ من البلُّور، وقد شهد الشاعران من تلك الأشباح
اثنَين في جُحرٍ واحدٍ يقرضُ أحدهما جمجمة الآخر كما يفعل كلبٌ
بالعظام. ولم يكد هذا القارض يُدرك الزائرَيْن حتى رفع أسنانه
العارية يقصُّ قصته، وإذا بالمُتحدِّث هو أوجولينو
١٩ الذي كان قد التُقي به مع ابنيه في «برج المَجاعة»
ولبِثوا على الطَّوى يتضوَّرون حتى أهلكهم الجوع، فكانت قصَّة
موت ابنَيه أشدَّ ما سمع الشاعران إثارةً للعطف والإشفاق. وأما
زميله في الجُحر المَثلوج فهو «رودجيري»
٢٠ رئيس الأساقفة الذي كان قد قضى على الرجل وابنَيه
بهذا العقاب.
… فلمَّا فرغ من الحديث
عاد فأنزل على الجمجمة المَنكودة أسنانه
وثبَّتها في عظمِها كما يفعل الكلْبُ الكاسر
بأنيابه،
لا تنزاح ولا تتحوَّل.
وأخيرًا … انتهى بهما المطاف إلى آخِر مشهدٍ
من مشاهد الجحيم، حيث يقِف إلى الأبد كبيرُ العصاة، وهو
الشيطان، يمضُغ بأنيابٍ غاضبة ثلاثةَ آثِمين في أفواهه
الثلاثة، وهو يضرب بأجنحتِهِ الخفَّاشية الضخمة، فيُرسل رياحًا
باردةً تُجمِّد ماء البحر.
… قال دليلي: «انظر — إذن —
إن كنتَ تستطيع النظر.» فرأيتُ ما أراه
حينما ينفجِر السحاب المُثقَل الكثيف، أو
حينما
يُرخي الليل على الأرض سُدولَه السُّود، فعلى
مبعدةٍ
بدا الشيطان كأنه الطاحون الهوائي تدفعه الريح
الشديدة دفعًا سريعًا،
فذلك ما صوَّر لي خيالي أني أراه،
ولكي أتَّقي تلك الريح العاتية عُدتُ مُسرعًا
حيث احتجبْتُ خلف دليلي، فليس لي سواه من
مأوًى،
وسِرنا إلى حيث الأرواح كلُّها محشورة في أسفل
الجحيم.
…
فبعضُها مطروح وبعضها قائم: هذا يقِف على
قدَميه،
وذلك يرتكِز على رأسه، وثالث وجهُه إلى
رجلَيه
يُحني ظهره كأنه القَوس، ثم بلغْنا مَوضعًا
عنده أراد دليلي أن يُشير لي إلى مخلوقٍ
كان ذات يومٍ بارعَ الجمال،
فخطا الدليل أمامي وأمَرَني بالوقوف وصاح بي:
«انظُر! انظر إلى مريض الشيطان،
وزوِّد قلبك بقوَّةٍ على قوة.»
وهنالك برَز أمامنا ذلك العاهل صاحب السلطان
في مملكة الأحزان، والثلج يغمُره إلى نِصف
صدرِه،
فكم أدهش عينَيَّ أن ترى
ثلاثة وجوهٍ رُكِّبت في رأسه: وجهٌ منها إلى
أمام
ولونُه قُرمزي، والوجهان الآخران يتَّصِلان
بذاك امتدادًا من نِصف الكتِف إلى قمَّة
الرأس؛
الأيمن منهما في صُفرة الشحوب، وإن شهدت
الأيسر
ألفيتَه كمن يَفِدون من مُنعَرَج النيل عند الأراضي
الواطئة،
وفي كل وجهٍ عند أسفلِه جناحان عاتِيان، يصلُحان
لأضخم الطير؛
فلم أشهدْ قطُّ في لُجَّة البحر العريض كهذي الأجنحة
قلاعًا مَنشورة،
وهي عارية من الريش تُشبه أجنحة الخفافيش.
وأخذ يضرب بأجنحته تلك في الهواء فانبعثت
منها رياح هنا ورياح هناك، تَجمَّد منها البحر إلى
قاعه،
ثم شرع يبكي بِسِتِّ عُيونه
فانسكبت على ثلاثة خدوده عبراتٌ
امتزجَت قَطراتها بزبَدٍ من دماء.
وفي كلِّ فمٍ أخذت أنيابُه تعضُّ على أثيم،
فتُحطِّمه كما يتحطَّم الجِسم بآلةٍ ثقيلة.
وعلى هذا النحو رأيْنا ثلاثةً يتعذَّبون،
ولم يكُن ما يُعانيه أمامِيُّهم من القرْض
شيئًا
إلى جانب ما يُلْهِثُ أحدَ الآخرَيْن من
تمزيقٍ
مُخيف ينزِع عن الظهر جلدَه نزعًا فظيعًا.
وقال دليلى: أمَّا ذاك الروح في أعلى،
الذي ينال من العقاب أقساه، فهو يهوذا
فانظر إلى رأسه كيف قُذِفَ إلى داخلٍ
وإلى قدَمَيه كيف طُوِيَتا إلى خارج.
أما الآخران اللذان يتدلَّى منهما الرأسان،
فمِن تراه منهما عالقًا في ذلك الفك الأسود؛
فهو «بروتس»، انظُر إليه كيف يتلوَّى ولا
يتكلَّم
… لكن الليل المَسدول قد أخذ عندئذٍ يزول،
وحان لنا حين الرحيل، فقد شهدتُ كلَّ شيء.
وبَعُد الراحلان عن مكان الشيطان، وأخذا يصعَدان في
شقٍّ عميقٍ شديد المُنحدَر
… خلال هذا الطريق المستور
دخلتُ مع دليلي، قافَلين،
إلى العالَم الجميل، ولم نقعُد لراحةٍ،
بل مَضَينا في الصعود، هو يقود وأنا أقتفي
أثرَه،
حتى أشرقَتْ على نواظِرنا أضواء السماء
الخلَّابة،
من فتحةٍ مُستديرة عند مدخل الكهف،
ومنها خرجْنا فشهِدنا أنجُم السماء من جديد.
هذان هما قد خَلَّفا الظلام والآلام، وانتهى
بهما المطاف فخرَجا إلى سفح «جبل الطهر» تحت ضوء النجوم
الخافت؛ فوجداه يتحلَّق بحلقاتٍ سبع، تُقابل سبعَ الخطايا التي
قالت بها كنيسة العصور الوسطى؛ في ثلاثتها السُّفلي تُكفِّرُ
الروح عن خطيئتها، وفي رابِعَتِها يتمُّ التكفير عن خطيئة
الكسَل والتراخي، وهي خطيئة اشترك في اقترافها الجسم والروح
معًا، وأما في ثلاث الحلقات العُليا فيُكفَّر عن ذنوب الجسد
وحدَها. وكان الشاعران يُصادِفان عند مدخل كل حلقةٍ من هاتيك
الحلقات السبع أمثلةً للفضيلة التي هي ضدَّ الرذيلة التي
يُكفَّر عنها في تلك الحلقة، ثم يُشاهدان عند ختام كل حلقةٍ
مَلَكًا واقفًا يُشخِّص تلك الفضيلة ويُجسِّدها. وهكذا يمضي
الراحِلان خلال حلقات التطهير حتى يدخُلان في «الفردوس الأرضي»
حيث يرى «دانتي» حفلًا عظيمًا يسير على صورة موكبٍ رائع
يُمثِّل «الكنيسة» وهي ماضية في طريقها قُدُمًا إلى النصر. وفي
نهاية ذلك الموكب الحافل تظهر «بياترتشي» — معشوقة دانتي — في
مركبةٍ تحفُّ بها الملائكة يُنشدون الأغاني وينثُرون الأزهار،
وكانت «بياترتشي» ترتدي ثوبًا يزدان بالألوان السحرية الثلاثة:
الأحمر والأبيض والأخضر، ويُكلِّل هامَتَها تاجٌ من أوراق
الزيتون، وهي رمز الحِكمة والسلام. وينسدِل على وجهها نقابٌ
ناصِع البياض، فما إن بدَتْ «بياترتشي» حتى أسرع «فِرجيل»
فتوارى ليقفُل راجعًا إلى محبسِهِ الكئيب الذي كان قد خرج منه
ليُرافق زميله في رحلته.
وتأخُذ «بياترتشي» في هداية الشاعر خلال سماواتٍ تِسْع،
وكلها يدور حول الأرض، فإذا ما جاوزت به ذلك كلَّه بلغت معه
آخِر سماء وهي ثابتة في مكانها لا تتحرَّك، يعلوها بحر هادئ
ساكن من الحُب الإلهي حيث يُبارك الله ملائكته
وقدِّيسيه.