التأسيس
(١) التقريش والإيلاف
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ.
التقريش
هكذا وُصف رجال الحكومة القرشية، في المرحلة قبل الإسلامية، في معاجمنا اللغوية. تلك الحكومة الابتدائية، التي تشكَّلت من كبار تُجَّار مكة؛ أثريائها وعِليتِها، حيث مثَّل كلُّ فردٍ منهم قومه في تلك الحكومة، بقَدْر ما يَملِكُ من إمكانات المظهَرِ الحسَن والشَّرَف والأبهة؛ أي بقدْر ما يملك من إمكانات مادية. وهي الحكومة التي تَمَّ تكريسها في «دار الندوة»، وعرف التاريخ أعضاءها باسم «الملأ».
وحكومة الملأ إذن — كما هو مُبيَّن — كانت مجلسًا سُلطويًّا قام في مكة، من أجل إحكام سيطرة الأرستقراطية المكية التجارية على مختلف الشئون، بغرَض تناغُمها جميعًا مع مصالحهم، بحيث يؤدي كلُّ شأنٍ دَوره في حماية تجارتهم، واستمرار سيولتها، وضمان أمنها، دون أي توقُّفٍ يُمكن أن يُهدِّدها.
وهكذا يأتي هذا التفسير الجامع، مُعبِّرًا صادقًا عن حال قُريش، وحال المرحلة التاريخية، مُتضمِّنًا حال المرحلة المُجتمعية؛ فالتقريش تجمُّع للقبائل التي حملت اسم قُريش بعدما كانت شراذم قبليَّة مُتناثرة مُتصارعة، وما جمعها إلا المصلحة المادية المُشتركة، وهي التكسُّب المادي. ذلك التكسُّب الواضح أنه ناتِج التجارة على الخطِّ التجاري، والذي تمثَّل في عشورٍ جُمركية تقبِضها قريش نظير المرور والاستراحة في مدينتها، للمَوقع المُتميِّز لمكَّة على الخط التجاري الدولي. ويحمِل التعريف معنًى هامًّا بربطه المَتين والرائع لجمْع الناس وجمْع المال بالارتباط المَصلحي، فالقِرش هو مُفرَد القروش المجموعة، والقرش هو الكسْب المالي، وهو في الوقت ذاته تجمُّع الناس في مجتمع مُترابط (هو الكسْب، وهو الجمع بعد التفرُّق)، ليبلُغ التعريف كمال تبليغِه البلاغي في تصوير حالِ هذا الجمع المُتكسِّب، واستعداده للدفاع عن مصالحه. وتطوَّر الأمر إلى حدِّ النَّهَم، فهو كالقِرش السمك المُتوحِّش لا يمرُّ بشيءٍ إلَّا أكله، مما يُشير بالضرورة إلى وجود فئاتٍ أخرى، سقطتْ في حومة ذلك الحراك الاقتصادي الاجتماعي، وذلك في قرن الجمع والتجمُّع بالكسْب والتقرُّش وجمع القروش، مع القَرْش بالأضراس الذي تُمثِّله دابَّة البحر.
الإيلاف
أما التأليف بنظام الإيلاف، فكان — في رأيِنا واستنتاجِنا — الخطوة الثانية والضرورية بعدَ التقريش، وهو ما طبَّقتْه أرستقراطية مكة القرشية بنجاح، للتأليف بين قبائل مكة التجارية، أو أثرياء مكة تحديدًا، وبين القبائل الضاربة على الخطِّ التجاري الواصِل بين مكة، وبين حدود الإمبراطوريَّتَين: الرومانية والفارسية، ثُم تأليف ثانٍ بين قريش وبين القبائل الضارِبة في باطِن الجزيرة في خطوطٍ فرعية، ثُم تأليف ثالث بين قُريش وبين الإمبراطوريَّتين.
وهكذا، كان نظام الإيلاف، تأمينًا للطريق، وطمأنةً مُعلنةً للإمبراطوريَّتَين المُنتظِرتَين على نهاية خطِّ طريق الإيلاف، للقوافل القادِمة من مكة، بحيث ضمنتْ مكة بإيلافها أمانَ الرِّضى الإمبراطوري عن دَورها، وعن اقتِدار مَلَئها، في تأمين وصول المواد المطلوبة والسلع الهامَّة، في مواقيتها دون تأخير. ولعلَّ ما يُعبِّر عن وَعي العرب بهذا المعنى في نظام الإيلاف، يتَّضِح في أبياتٍ لمَطرود بن كعب وهو يُنشِد:
أما القرآن الكريم، فكان بصِدق تبليغه، مُفصحًا، مُوجزًا، مبلغًا ببلاغتِهِ أمر الإيلاف وعلاقته بالأمن، وبالبيت الإلهي المَكِّي، في قول الآيات — في سورة تحمِل اسم قريش: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ *إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
وقد هيَّأ مكة للقِيام بهذا الدور التاريخي، مجموعةٌ مُتسارعة من الأحداث، وظروف تلاحَقَت لتتراكَم على صفحة المنطقة وتتوزَّع على خريطتها؛ حيث كان مركز اليمن الزراعي والتجاري قد تهاوى قبل العصر الجاهلي الأخير بزمان، بينما تضعَضعتْ أحوال الممالك العربية الشمالية (الغساسِنة والمَناذِرة) في العصر الجاهلي الأخير، قبل الإسلام بفترةٍ وجيزة، ووقعت تحتَ الاحتلال المُباشر من الفُرس والروم، وهو ما أحدث — ولا شك — فراغًا سياسيًّا في المنطقة المُمتدَّة من سواحل المحيط الهندي جنوبًا، وحتى الخط الفاصل بين الإمبراطوريَتين في بادية الشام شمالًا.
ولنا أن نفترض بدء ذلك التحوُّل عن قبض العشور إلى القبْض على تجارة العالم، كانت المرحلة التي عمدت فيها قريش إلى إنشاء نظام الإيلاف بعد التَّقريش. ففي مرحلة التقريش كانت قُريش تقبض عُشورها، وما كان يعنيها كثيرًا أمان الطريق؛ فهي تُتاجر تجارتها البسيطة مع القادِمين والآيِبين، وتأخذ العشور من السارق والمسروق، ومن ثَمَّ تطوَّر الأمر عندما أصبحت التجارة ملكًا كاملًا لها. ذلك التطوُّر الذي استدعى السعيَ الجِدِّيَّ لتأمين تلك التجارة بنظام الإيلاف. وهي ذات المرحلة التاريخية التي نعتقِدها مرحلةَ الفوز للصِّراع التنافُسي التجاري؛ ومن ثَمَّ السيادي، داخل مكة ذاتها، والذي انتهى كما هو واضحٌ بالمصادر الإسلامية، إلى سيادة مالية شِبه كاملة للفرْع الأموي، مع خُسرانٍ واضحٍ لأبناء عُمومتهم الفرع الهاشمي.
أما قافلة «أبي سفيان» التي كانت سببًا بعد ذلك في غزوة بدر الكُبرى فقد أسهم فيها البيت الأموي بأربعة أخماس رأس المال. وكان لأسرة «أبي أُحيحة» وحدَها ما يصِل إلى ثلاثين ألف دِينار، وهي أسرة أموية، وذلك من مجموع أموال القافلة البالغ خمسين ألف دينار.
تحريم المواسم
وعليه؛ فقد كانت ضِيافة الكعبة المكية للأرباب القبلية، تأليفًا آخَر لقبائل الجزيرة جميعًا، وهو ما ساعد على مزيدٍ من تمركُز التجارة بمكة، مع اتِّصال مكة بفروعٍ للطُّرق نحوَ الأسواق الداخلية الضاربة في بطنِ الجزيرة. وزاد في المركزة التجارية والدِّينية والقبلية بل واللغوية لمكة ولهجتِها القرشية، بعد أن أصبحتْ لغة قريش ذات السيادة والانتشار، فأصبحت مكة مزارًا لكل العرب، وحازَ موسِمُها التجاري الأكبر (موسم الحج) مكانةً لا تُضارَع، بعد أن أصبح موسمًا لكسبِهم وعبادتهم وسمَرِهم ومرَحِهم، حتى كادت مكة — على المُستوى العُرفي — أن تكون عاصِمةً لجزيرة العرَب كلها.
ولمزيدٍ من الضَّمانات، نظَّم الملأ نواةً أولى لقواتٍ مُسلحة من العبيد، ومن الأحابيش، كانت مُهمَّتُهم الأساسية حماية أصحاب رءوس الأموال والشخصيَّات الكُبرى، وحراسة بيوت رجال الملأ، ثم المهمَّة الأساسية، وهي حراسة القوافل التجارية.
وعليه؛ فقد أخذت مكة — بتسارُع — تتحوَّل إلى حاضرة، تتناقَض مع البداوَةِ والقبلية في داخلها، كما تتناقَضُ مع المُحيط المُتشرذِم حولَها في جزيرة العرب؛ ومن ثَمَّ كان ضروريًّا أن تمُرَّ مكة بتحوُّلاتٍ بِنيوية هائلة، في تركيبتها الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، التي انتهتْ بها من قبائل مُتشرذِمة، إلى قبائل مُتقرِّشة، خاضعة لرجال النَّدوة من حكومة الملأ، لتُنضِج — باشتراك المصالح — تقريشها، إيلافًا على مُحيطها القبلي في الجزيرة، وبخاصَّة القبائل التي ألَّفَها طريق الإيلاف الأكبر.
المُتغير الاجتماعي
ونرى من واجِبنا هنا التوضيح — حتى لا يختلِط الأمر — حيث كان بنو عبد مناف وبنو عبد الدار أبناءً لقُصي سيد مكة — المُتقرِّشة — الأول، والمُطلَق النفوذ، والأكثر مالًا، وكان طبيعيًّا أن يكون ورثَتُه في مُقدِّمة قريش البطاح، وليس كما ذهب «دلو» لكون وفرَةِ مالِهم الأساسي كانت من التِّجارة، وإنما لوَرَثَتِهم ألوِيَة التشريف والسيادة عن سلَفِهم «قُصي»، مما أعطاهم فرصة الحصول على النصيب الكامل من المُكوس الجمركية لبضائع الترانزيت المارَّة بمكة. وهي الألوية التي يُشرِف كلٌّ منها على لَون من الخدمات المأجورة، التي كانوا يُؤدُّونها للتُّجار المارِّين بمكة بقوافلهم، والتي حملَتْ أسماء ألويَةِ التشريف التي نظمها «قُصي»، للحصول على النصيب الأعظم من المُكوس، وتمثَّلت في (السقاية، والرفادة، والحجابة، والسدانة، واللواء، والندوة … إلخ).
والاعتراض من جانِبنا يقوم على حجَّة أنَّ تلك المرحلة كانت قبل انتقال قريش إلى مرحلة التجارة لحِسابها. إلَّا أنَّ إشارة الكاتب «دلو»، التي تؤكِّد أنَّ الوضع المالي لأبناء القبيلة قد أصبح يحتلُّ الموقِع الأول من الاعتبار، فهو الأمر الذي لا يُمكن النزاع حوله.
ومع ذلك الثراء الذي أصابَتْ حظوظه أفرادًا من عشائر مكيَّة مُختلفة، ومع تحوُّل هؤلاء النَّفَر عن قبضِ العشور إلى التجارة لحِسابها، ومع حجم تلك التجارة الهائل؛ كان طبيعيًّا، بل كان مُحتَّمًا، أن تبدأ الانقسامات الطبقية الحادَّة في الظهور بوضوحٍ داخل القبيلة الواحدة، وهو ما انعكس بدَوره على الوضع القبلي للقبائل الأخرى بالجزيرة، المُرتبطة بحركة مكة التجارية، وهو ما كان العامل الأول في تهشيم الأُسُس القديمة لروابط القبيلة، وسُيولة لُزُوجَتِها الجامعة لأفرادها، نتيجةً للتطوُّر التجاري، وما صاحَبَه من تقسيمٍ للعمل، وتضخُّم ملكيات رءوس الأموال، مُقابل فارقٍ طبقي كبير، نتيجة لتفاوُت توزيع الثروة، مع اختلاف الأوضاع والأدوار في العملية التجارية التي تقودُها مكة، أو بالتحديد نفَر مُتبعثِر في قبائلها. شكَّل الأساس الاقتصادي المَتين بينهم رابطةٌ قيادية للعملية التجارية، فتوزَّعَت الأدوار ما بين ملَّاكٍ للمال، إلى أدِلَّاء للقوافل، وحُرَّاس مُسلحين، وعُمَّال تشهيلات للشحن والتفريغ، وآخرين يَبتهِلون الفرص على الطريق لتقديم الخدمات الضرورية للقوافل، في نقاطٍ مُحدَّدة ومحطَّات قاموا بإنشائها على الطريق للترغيب في الاستراحة، وبيع خدمات الراحة. هذا إضافة إلى المُتاجِرين الصِّغار، وشيوخ القبائل الذين يتقاضَون الإتاوات، ثُمَّ الأهم وهو انتشار التعامُل النقدي بعملاتِ الفُرس والرُّوم، وهو ما أدَّى جميعه لفوارِقَ وتفاوت، فكَّكَ بالتدريج روابط النظام القَبَلي القديم، نتيجة حتميَّة لوجود العبيد والمُعدِمين على الطرف الآخر غير المُستفيد من العملية التجارية القائمة داخل ذات القبيلة، ومن ثَمَّ بدأت قِيَم القبيلة القديمة تتراجَع.
والمعلوم أنَّ القِيَم القبلية القديمة، كانت تقوم على المُساواة المُطلَقة، والامتلاك الجماعي لوسائل الإنتاج والثروة، ومن ثم توافقت معها علاقات الإنتاج. فكان الولاء الجماعي للقبيلة، وتماسُك الكلِّ في القبيلة مع أيِّ فردٍ فيها مَهما صغُر شأنه ضدَّ الكون جميعًا، فهي تأخُذ بثأره حتى لو تآكلتْ جميعًا، ثم هو معها كتِرسٍ في آلة عسكرية مُتحرِّكة دومًا، لا رابط لها سوى تلك اللُّزوجة الاجتماعية، والسَّلَف المُشترك العزيز على جميع نفوس الأفراد. فكانت القبيلة، وكان السَّلف، هو الوطن، وكان ذلك اللون من العلاقات الاجتماعية هو الضَّمان الوحيد لسلامتها كوحدةٍ مُحاربة مُتنقِّلة.
ولكن بعد التطوُّر السريع، واستقرار أكثر القبائل، خاصَّةً القوية، على الطريق التجاري الرئيسي، أو الطرُق الفرعية، وظهور الفوارق الطبقية الحادَّة داخل القبيلة، لم تعُد القبيلة مسئولةً كلَّ المسئولية عن الفرد فيها، وبدأت تظهر حالات خلْع الأفراد الذين يُمكن بحُمقِهم جلبُ الضَّرَر للقبيلة التي شرَعَت في الاستقرار، فظهرَتْ طائفة الخُلَعاء المُتشرِّدين. ثُمَّ من جانبٍ آخَر ظهرَتْ جماعات الصعاليك، أولئك الأفراد الذين بدءوا بدَورهم يرفُضون المنطق الجديد، ويَهجُرون قبائلهم. وأخذ تراكُم رأس المال لدى أفرادٍ بذاتهم يفعل فِعله في تحوُّل الولاء عن القبيلة إلى الطبقة، كما أخذَتْ قِيم الولاء الجمعي تنداحُ مُخلِّفة وراءها شكلًا جديدًا من العلاقات الاجتماعية الأكثر تطوُّرًا، تمثَّلَت في الفردية التي اتَّضحت في إمكان تحدُّد قيمة الفرد دون جماعة، مع تحوُّل قِيمة الشَّرَف عن النسب القبلي وعدد النَّفَر إلى قدْر ما يملك من مال، وهو ما أفصح عن نفسه في تكوين جيش العبيد والأحلاف والأحابيش، الذي كان مؤشرًا بالِغ الدلالة على بدء منطقٍ جديد، يمكن فيه الاستغناء عن النُّفورة وعزَّة النَّفر القبلي، بعد أن باتَ مُمكنًا شراء النَّفَر المُسلَّح والمُدرَّب، أو الحليف بالمصلحة المادية، وهو ما بدأ يخرُج بالفرد عن القبيلة إلى التحالُف المصلحي مع أفرادٍ من قبائل أخرى، وهو شاهد واضح البرْهنة على بدْءِ تفجُّر الأُطُر القبلية.
وهكذا أمسى مُمكنًا أن تجمع المصالح بين أصحاب الثروات على تفرُّقِهم بين قبائل مُختلفة، وعلى أن يجمع الشقاء بين المُستضعَفَين على تفرُّقهم بين قبائل مُختلفة، وهو ما يشهد عليه بدْءُ ظهور تجمُّعاتٍ أكبر من القبيلة، تمثَّلت في أحلافٍ يأتينا خبرُها في أسمائها عبر كُتُب السِّيَر والأخبار، مثل حِلف ذي المجاز وتنوخ، وحِلف قريش والأحابيش، وحلف الفضول، وحلف المطيبين، وحلف لَعَقة الدم، وحلف الأحلاف، وحلف الرَّباب، وحلف الحُمس … إلخ. لتُشير الظاهرة إلى توجُّهٍ اجتماعي جديد يَنحُو نحوَ التوحُّد على أساسٍ من المصالح المشتركة.
وإعمالًا لجدَل الأحداث أخذ الفارق الطبَقي بالاتِّساع السريع والهائل ليُصبح سواد العرب من الفُقراء والمُستضعَفين يعملون في رعي الأغنام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يَسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة، ويَسمعون عن الخُبز ولا يأكلونه؛ حيث كان الخُبز من علامات الوَجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللَّحم سوى الصليب، وهو ودَك العظام؛ تُجمع وتُهشَّم وتُغلى على النار طويلًا؛ ليحصلوا منها على الصليب. وغالبًا ما عاشوا على مُطاردة ظِباء الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراء؛ عرَب صُرَحاء من أبناء قبائل مُتميِّزة، دفعتْهم إلى الأسفل آلةُ التغيُّر الاقتصادي والمُجتمعي.
ويلي تلك الطبقة في التَّدنِّي، طبقة المَوالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجئوا لقبائل مُخالفة، أو كانوا أسرى فكَّ أسيادُهم أسرَهم، أو أعاجم أرقَّاء أعتَقَهم سادتُهم بمُقابل. وقد شكَّل هؤلاء طبقةً بين أبناء القبيلة الخُلَّص الصُّرحاء وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرَتْ بدَورها نتيجة التفاوُت الطبَقي الحاد، وتكوَّنت من أفرادٍ تلبَّستْهم رُوح التمرُّد على أوضاع المُجتمع الجديد، فتصرَّفوا بتلك الرُّوح فأضرُّوا بمصالح السادة، فخلعتهم قبائلهم وتبرَّأت من فِعالهم بإعلانٍ مكتوبٍ أو في الأسواق العامَّة، وهي الطبقة التي عُرفت باسم «الخُلَعاء».
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزَها المُتغير الاقتصادي المُجتمعي، فهي «الصعاليك»، وهم فئةٌ لا تملك شيئًا من وسائل الإنتاج، تمرَّدَت على الأوضاع الطبقية، بل وشنَّتْ عليها الحرب؛ بخروجهم أفرادًا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمُّعهم على اختلاف أصولِهِم في عصاباتٍ مُسلَّحة. وأبرز الأسماء التي وصلَتْنا منهم: عروة بن الورد، وتأبَّط شرًّا، والسُّليك ابن السلكة، والشَّنفرى، وقد أطلق عليهم العرب «الذؤبان»، و«العدَّائين» لسُرعتِهم.
وقد رُويَ عن هؤلاء أنهم كانوا ذَوي سماتٍ مُتميِّزة، من الشَّهامة والمُروءة والنَّبالة، وأخلاقِ الفروسية، فكانوا لا يُهاجِمون إلَّا البُخَلاء من الأغنياء، ويُوزِّعون ما يَنهبون على الفُقراء والمُعدِمين، بعد أن شكَّلوا لأنفسهم مُجتمعًا فَوضويًّا؛ شريعته القوة، وأدواته الغَزو والإغارة، وهدَفُه الأول السَّلْب والنَّهْب، وهدفه الأخير تعديل المَوازين المُجتمعيَّة.
وتَروي لنا كُتب السِّيَر والأخبار وطبقات الشُّعراء أشعارًا للصعاليك؛ ينعكِس فيها الإحساس المرير بوقْع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضجُّ بشكوى صارِخة من الظُّلم الاجتماعي، وهوان مَنزلتِهم. فهذا «قيس بن الحدادية» يُخبرنا أنه لم يكن يُساوي عند قومه عنزةً جَرْباء جَذْماء. أما الأخبار عن الشَّنفرى فتَروي كيف أسلَمَه قومُه هو وأمَّه وأخاه رهنًا لقتيلٍ عن قبيلةٍ أخرى، ولم يفدُوهم، وكيف تصعْلَك الشَّنفرى ورفع سيف ثَورتِهِ بعد أن لطمتْهُ فتاةٌ سُلامية؛ لأنه ناداها: يا أُختي؛ مُستنكِرة أن يرتَفِع إلى مقامها.
ومن مِثل تلك الأخبار نستطيع تكوين فكرةٍ واضحة عن المدى الذي فعَلَه المال داخل القبيلة، ممَّا أدَّى بالصعاليك إلى فصْم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المُسلَّحة ضدَّ الأغنياء؛ لينزِعوا منهم مقوِّمات الحياة الإنسانية التي أهدرَها الواقع، وهو المبدأ الذي يتجلَّى واضحًا في شِعر «عروة بن الورد» وهو يقول:
وفي ضوء الحاجة لليد العامِلة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرَب تعرِف النظام العُبودي، وكان مصدرُه السَّبي والنخاسة وعبودية الدَّين، حتى جاء وقتٌ أصبحَتْ تجارة العبيد بمكة تجارةً مُنتظمة، تأتي بهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السَّوداء، ومنهم من كان يُشترى من بلاد فارس والرُّوم وهم الطائفة البيضاء، لاستخدامهم في حراسة القوافِل وأعمال الرَّي الصناعي والزِّراعة والحرْب. وليس أدلَّ على كثرة هؤلاء العبيد من أنَّ «هندًا بنت عُتبة» أعتقَتْ في يومٍ واحدٍ أربعين عبدًا من عبيدها، كما أعتق أبو أُحيحة سعيد بن العاص مائةَ عبْد؛ اشتراهم وأعتقَهُم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادة التَّسرِّي بالإماء، فكان للرجُل أن يَهَبَ أو يبيع أو ينكِحَ أمَةً أو يجعلها مادَّةً للكسْب بتشغيلها في البِغاء، ثم يأخُذ ناتِجها المولود ليُباع بدَوره.
وعندما جاء الإسلام حرَّم البِغاء، ولكنَّهُ أبقى على نظام مِلك اليمين ضِمن ما أبقى عليه من أنظمةِ الجاهلية وقواعِدِها المُجتمعيَّة، ولكنه رغَّب في العِتْق وحضَّ عليه.
لكن؛ علينا هنا أن نكون حذِرين، فالمرحلة كانت مرحلةَ بدء، وكلُّ تلك التطوُّرات لم تكن تعني تفجيرًا كاملًا ومُبرَمًا للقديم؛ لأنه بقليلٍ من الجُهد، يُمكِنُنا — ونحن ندرُس مجتمع مكة تحديدًا — أن نلحَظَ المحتوى الطبقي الجديد، وهو يتخفَّى بِرداءٍ أو شكلٍ قبلي عصَبيٍّ عشائري قديم، بمعنى أنَّ الجديد قد تزيَّا بالقديم. وسعَتْ كلُّ مجموعة من الأثرياء إلى ربْط أفراد قبيلتها بهم وبمصالحهم، بالعَطاء والمنح، وإشراك صغار تجَّار القبيلة في قوافلهم التُّجارية، ممَّا أسفر في المُجتمع المكي تحديدًا عن محتوًى طبقيٍّ يتخفَّى داخل نسَقٍ عشائري، تمثَّل في انقسام المُجتمع القُرشي إلى حزبَين كبيرَين قبليَّين، بين أبناء العمومة، أو إلى طبقتَين ولكن بملامح وقَسَمات قبلية، يُمثِّلهما البيت الأموي الثري، والبيت الهاشِمي الذي غلَبَ عليه الفقْر، وبخاصَّة في بيتِ عبد المُطَّلب. وإن كان من العِلميَّة التوضيح أنَّ ذلك الانقِسام بدَوره لم يكن تامَّ التحديد بفواصل قاطعةٍ مانعة، بل كان يتضمَّن بعض التداخُل الطبَقي بين العشيرتَين، فضمَّت الطبقة الثرية أفرادًا من هاشم، مثل العبَّاس بن عبد المُطلب، وأبو لهَب «عبد العُزَّى»، يُشاركون أميَّة المصلحة الطبقية؛ ولذلك فإنَّ المُحتوى، وإن تغيَّر، فقد ظلَّ يتخفَّى بأرديةٍ عصبيَّةِ النسَق، وظلَّ الشكل القديم مُحافظًا مع تغيُّر المحتوى. لقد كانت المرحلةُ مرحلةَ بدء؛ بدء تحوُّل، بدء طَوْرٍ انتقالي.
… هاشم واسمه عمرو، سُمِّي هاشمًا لهشْمِهِ الثريد مع اللَّحم لقومِه في سِني المَحْل، كما قال مطرود بن كعْب الخُزاغي في قصيدته …
وإشارة «مطرود بن كعب» هنا، لعلاقة هاشم برحلتَي الشتاء والصيف، إضافة لما سبَق وأشرْنا إليه في أخذِهِ الإيلاف لقُريش من الملوك وزعماء القبائل، تُلقي ضوءًا على علاقة البيت الهاشمي الوطيدة، القديمة، بالنظام التِّجاري المَلَكي، باعتباره أحدَ المُؤسِّسين لنظام الإيلاف، ودَوره في التجارة العالمية، التي — لا شكَّ — جعلت بيت هاشم أيامًا، بيتًا ثَريًّا يُنافِس البيت الأموي. وإنْ أفقرَه ذلك الأمر غير الواضح بكُتُبنا التُّراثية، والذي أرجعناه افتراضًا إلى السقوط في حلبةِ المُنافسة، وإلى عُنصر آخَرَ غير تامِّ الإقناع، وإن كان ذا دَور هام، وهو الكرَم والعطاء، لإقامة تَحالُفات مطلوبة في الصراع، وكسبًا للرجال في حومة مُقبِلة. وإن كان ذلك العنصر في منطق الجزيرة وطبعها المُجدِب الشظف، وخاصَّة في تلك المرحلة الطبقية، ربما كان منطقًا مُقنعًا للعرَب أنفسهم بحقِّ التشريف السيادي لهاشم، فكان للكرَم لدَيهم مَغزاهُ السياسي والاجتماعي، وكان مِمَّا يدعم الكريم بالتَّسييد وما يَستتبِعُه التسييد من سُلطة، وهو ما يدلُّ عليه قول «حاتم الطائي» أكرم العربِ وأشهرهم في هذا الضرب السيادي:
المستوى الفكري
ومع مزيدٍ من التراكُم على خط التطوُّر، كان لا بدَّ أن يتزايد التناقُض بين الشكل والمحتوى، حتى يبلُغ مَداه التفجيري للإطار أو الشكل، لصالِح المحتوى الجديد، بعد تراكُم الجديد داخل إطارٍ ضاقَ به ولم يعُد يسعه. وقد ساعد على زيادة ذلك التناقُض بين الشكل والمحتوى، بقاء الشكل أو الإطار محكومًا بعلاقاتٍ استهلَكَها التطوُّر السريع، فتفسَّخت القِيَم القبلية، رغم الإصرار الظاهر على استدامَتِها. هذا بالطبع مع الإفراز الفكري للمرحلة التي اصطبغت بالشكل المادي النفعي، فاستُبطن المحتوى الجديد، داخل فكرٍ قديم، لكن فقط للمُسامرات الفكرية، والندوات الدِّيوانية، والمُمارسات الطقسية، والتبريرات النفعية، دون إيمانٍ حقيقي. فعلى المستوى الواقعي، أمسى ظاهرًا رفض العربي وخاصَّة المكي، لكثيرٍ من أشكال المُعجزات الميتافيزيقية القديمة، خاصَّة إذا ما كان ذلك المكي من الطبقة الثرية الأرستقراطية، المُترَفة والمُتحقِّقة، حتى أصبحت تلك الميتافيزيقا القديمة في مأثوره الجديد — على لسان الصفوة التي أتاحت لها الثروة التزوُّدَ بالثقافة الحضارية في مدارس الإمبراطوريات وجامعاتها — مُجرَّد أساطير الأولين، وما كان يتمُّ استدعاؤها عن قناعة، بل من باب التَّخديم على المصالح المادية. ولم يعُد الفكر الدِّيني ومفاهيمه، سوى أسلوب لتنسيق المكاسب، ومطيَّة لمنافع ماديةٍ بحْتة.
ومن ثَمَّ تُخبرنا صُدور كُتب السِّيَر والأخبار، بتسامُحٍ مطَّاط في قَبول أي دين وأي مُعتقد، مهما بدا شاذًّا وغير مألوف، شرْطَ أن يكون دافعًا لمزيدٍ من الحضور التجاري، أو على الأقل شرط ألَّا يكون مُتضاربًا مع المصلحة التجارية. وكان أمرًا مفروغ الحدوث، أن يبلُغ ذلك التناقُض مداه على كافَّة المُستويات.
فعلى المستوى الاقتصادي، كان تركُّز الثروة بيَدِ أفرادٍ دون آخرين داخل القبيلة، دافعًا لمزيدٍ من تناقُض الشكل القبلي والمحتوى الطبقي. وكان مُفترضًا وصول التناقُض لمرحلة التفجُّر لصالح المحتوى الطبقي، لولا أنَّ الشكل القبلي كان يؤدِّي للقيادة المكية ولمصالح الملأ تحديدًا، مكْسبًا أكبر من التحوُّل النهائي نحوَ الشكل الطبقي؛ لأن بقاء القبيلة وإطالة أمدها، كان يعني مزيدًا من التراكُم الثَّروي لأرستقراطية مكة، وهو الأمر الذي يُفسره المستوى الفكري.
وعلى المستوى الفكري: نحتاج بعض التأنِّي هنا لنُحاول وضعَ لوحةٍ واضحة للمستوى الفكري والمحتوى المعرفي لهذه المرحلة.
معلوم أنَّ عجز الإنسان وضَعفه أمام ظواهر الطبيعة المُتقلِّبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصوُّر قوى مُفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقِف وراء مُتغيِّرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسُكونها. ولأنَّ تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضًا غيبيَّة؛ ولذلك ارتبطَتْ عقائد الناس في أربابها بوسطِها البيئي؛ حيث عبَّرت عن ذلك الوسط وأظهَرِ مظاهِرِه وأكثرِها تكرارًا وديمومة، ومن هنا قدَّس العربيُّ أجرام السماء التي تظهر بكل وضوح في ليلِهِ الصحراوي المُنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدَّس الأحجار بخاصَّة ذات السِّمات المُتفرِّدة منها، فبيئتُه رمال وصخور وأحجار وقد غلَبَ انتشار الصُّخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلَقُوا عليها اسم الحرات من الحرارة والانصهار.
لكنَّ اتِّساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة أدى إلى تبايُن ظروف البيئة والمناخ ممَّا أدى إلى تعدُّد مُماثل في الظواهر، وبالتالي تعدُّدية في العبادات. هذا ناهيك عن وُعُورة المسالك في الجزيرة؛ والتي أدَّت إلى ما يُشبه العُزلة لمَواطنٍ دُون مَواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مِمَّا أدى إلى احتفاظها بألوانٍ من العقائد المُوغِلة في قِدَمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تُساعد على تَطوُّر الراسب المعرفي، ومن ثَمَّ العقائدي.
وهكذا يُمكنك أن تجِد إضافةً لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور بقايا من دياناتٍ بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثرُ ديانات الجزيرة انتشارًا بين أهلها، وهي تُقدِّس الأشياء المادية كالأحجار؛ للاعتقاد بوجود قُوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادِمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالَم المَوتى. وقد ظلَّت تلك العقائد قائمةً حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقِد بوجود صِلة لأفراد القبيلة بحَيوانٍ ما مُقدَّس، فتظهَر في مُسمَّيات قبائل العرب (أسد، فهد، يربوع، ضبَّة، كلب، ظبيان … إلخ)، لذلك كانوا يُحرِّمون لمْسَ الطوطم أو حتى التلفُّظ باسمه؛ لذلك كانوا يُكنُّون عنه؛ فالملدوغ يقولون عنه السَّليم، والنَّعامة يُكنَّى عنها الملجم، والأسد أبي الحارث، والثعلب ابن آوى، والضَّبع أم عامر، هكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يُعظِّمونها، ويأتُونها كلَّ سنةٍ فيذبحون عندَها ويُعلِّقون عليها أسلِحَتهم وأردِيَتهم.
كذلك عبَد العرب كائنات أسمَوها «الجن» خوفًا ورهبة، ودفعًا لأذاها، وظنُّوها تقطُن الأماكن المُوحِشة والمَواضِع المُقفِرة والمَقابر. وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيَّا سُكَّانه من الجنِّ بقوله؛ عِمُوا إظلامًا، ويقِف قائد الجماعة يُنادي: إنا عائذون بسيِّد هذا الوادي. وتصوَّروا الجنَّ كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صِلاتُ الرَّحِم، يَتقاتَلون ويغزو بعضُهم بعضًا، ولهم سادةٌ وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفاتِ العُربان كثير، فهم يرعَون حُرمة الجوار ويحفظون الذِّمَم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتَلون فيُثيرون العواصف، ويُصيبون البَشَر بالأوبئة والجنون. وقد نَسبوا إلى الجنِّ الهتْفَ قبل الدعوة مُباشرة، حيث كثُرت الهواتف أي الأصوات التي تُنادي بأمورٍ وتُنبئ بأخرى بصوتٍ مسموع وجِسم مرئي. وقد اعتمد الكُهَّان على تلك الاعتقادات فزَعَموا أنهم يتلقَّون وَحيَهم عن الجن، وأنَّ بإمكانهم الصعود إلى السماء والتصنُّت على مصائر البشر في حكاياتِ الملأ الأعلى مع بعضهم عمَّن في الأرض، وإنَّ الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشَر عبْرَ رفيقه من جواسيسه على السماء من الجان.
أما أشدُّ العبادات انتشارًا وأقربُها إلى الظرف المكاني والمُجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحِلين. ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غايةً التطوُّر في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرْف القبيلة لا يسمَحُ بأيِّ تفكُّكٍ نظرًا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقُّل الذي يلزمه لُزوجة جامعة لأفرادها، تمَّ تمثُّله في سلَف القبيلة وسيِّدها الراحل الغابر، فأصبح هو الربُّ المعبود وهو الكافِل لها الحماية والتماسُك، بوصفها وحدةً عسكرية مُقاتلة مُتحرِّكة دومًا. فاستَبدلَت بمفهوم الوطن مفهوم الحِمى، والذي يُشرف عليه سيِّدُهم وأبوهم القديم وربُّهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه. ومن هنا كان الربُّ هو سيِّدُ القبيلة الراحل القديم، الذي تمثَّلوه بطلًا مُقاتلًا أو حكيمًا لا يُضارَع، ومن ثَمَّ تعدَّدت الأرباب بتعدُّد القبائل، ونزعَت القبائل مع ذلك نحوَ التوحيد. وهي المُعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطةَ الأمر تكمُن في أنَّ البدوِيَّ في قبيلته كان لا يَعبُد في العادة ولا يُبجِّل سوى رَبِّه الذي هو رمز عِزَّتِه ورابط قبيلته، ولا يعترِف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجًا واضحًا في المُدوَّن الإسرائيلي المُقدَّس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروفًا قبليَّةً شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مِثلُك بين الآلهة يا رب.» أي أنَّ القَبَلي كان يعرف أربابًا أُخرى لقبائل أُخرى، لكن ربَّه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدويُّ في قبليته يأنَف أن يَحكُمه أحد من خارج نَسَبه، لأنَّ نَسَبَه هو رَبُّه هو سلَفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرُّق العرَب القبلي، وعدَم توحُّدِهم في وحدةٍ مركزية تجمعهم.
ولم يأت الاعتراف بآلهةٍ أخرى لقبائل أخرى إلَّا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفرادٍ في قبيلةٍ ترتبط بمصالح لأفرادٍ في قبيلة أخرى، مِمَّا أدَّى لاعترافٍ مُتبادَل بالأرباب. وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصَّة في المدن الكبرى بالجزيرة على خطِّ التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدَث في مكة والطائف ويَثرِب وغيرها.
وقد دأب بعض مُفكِّرينا في شئون الدين — عافاهم الله — على الحطِّ من شأن عرَب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورةٍ مُنكَرة وسار على دربِهم أصحاب الفنون الحديثة في القصَّة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدَّموا ذلك العربي عاريًا من أية ثقافة أو حتى فَهم أو حتى إنسانية، حتى باتتْ صورتُه في ذِهن شبيبتِنا، إن لم تكن في أذهان بعض المُثقَّفين بل والكُتَّاب أيضًا، أقرَبَ إلى الحيوانيَّة منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدْحَ في شأن عرَب قبل الإسلام، وإبرازِهم بتلك الصورة، هو فرْشُ أرضيَّة الصورة بالسَّواد، لإبراز نُور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلَّما زادوا في تبشيع عرَب الجاهلية، كلَّما كان الإسلام أكثرَ استضاءة وثقافةً وعلمًا وخُلقًا وتطوُّرًا على كلِّ المستويات. وإن الأمر بهذا الشكل يبعث أولًا على الشعور بالفجاجة والسُّخف، ثُمَّ هو يُجافي أبسط القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يستمدُّ قِيمته من دَعوته، ومن نَصِّه القُدسي، وسِيرة نبيِّه. فقيمتُه في ذاته، قِيمةٌ داخلية، وليست من مُقارنته بآخَر. أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتِمَّ مُقارنة الإلهي بالإنساني، لإبراز قِيمة الإلهي إزاء نقصِ الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكِلَيهما: الإلهي والإنساني؛ فالإلهي لا يُقارَن بغَيره، كما أن مُقارنة الإنسان به فداحةٌ في التجنِّي على الإنساني بما لا يُقارَن مع الإلهي.
وقد فطن «الدكتور طه حسين» إلى ذلك الأمر وعمَدَ إلى إيضاحه في كتابه «الأدب الجاهلي» مُبيِّنًا مدى تهافُت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرَب قبل الإسلام، وكيف أنَّ تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المُتوحِّشة. لإبراز دَور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء الأقوام المُتوحِّشين، فجأةً دون مُقدِّمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمَّةٍ واحدة، فتَحوا الدُّنيا وكوَّنوا إمبراطوريةً كُبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرَب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تُشير بوضوح، إلى أنَّ العرَب لم يكونوا كذلك. أما الرُّكون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشدُّ فجاجةً في الرؤية، فيكفينا أن نُلقي نظرةً حولنا، على الإنسان وهو في مشارف قرنِهِ الحادي والعشرين، لنجِده لم يزل بعد يعتقدُ في أمورٍ هي من أشدِّ الأمور سُخفًا ومَدعاة للضحك.
والمُطالِع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كُتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجِد في الأخلاق مستوًى رفيعًا هو النَّبالة ذاتها، وسيجِد المستوى المَعرفي هو المستوى المعرفي للأُمَم من حولهم. وأنَّ معارفهم كانت تَجمع إلى معارِف تلك الأمم معارفهم الخاصَّة. فقط كان تَشتُّتهم القبلي وعدَم توحُّدهم في دولة مركزية، عائقًا حقيقيًا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاوَرَهم من حضاراتٍ مركزية مُستقرَّة. وهو الأمر الذي أخذ في التطوُّر المُتسارِع في العصر الجاهلي الأخير نحوَ التوحُّد في أحلافٍ كُبرى، تهيئةً للأمر العظيم الآتي في تَوحُّدٍ مركزي ودولة كُبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصوُّرات واضحة، تُضاهي التصوُّرات في الحضارات حولهم؛ فالأرض كُرةٌ مُدحَّاة، والسماء سقف محفوظ تُزيِّنه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيَّارة، أطلقوا عليها «الخُنَّس والجواري الكنس». فهذا «زيد بن عمرو بن نُفيل» يُحدِّثنا عن التصوُّر الكَوني المعروف في بلاد الحضارات في قوله:
بينما نجد «أُميَّة بن عبد الله الثقفي»، يُصوِّر لنا ما درَج عليه العالم القديم من تَصوُّرٍ للسماء سقفًا بلا عَمَد، وأنها طبقاتٌ سبع، وأنَّ الشُّهُب فيها حماية ورصدًا ومنعًا للجن من استِراق السَّمع على الملأ الأعلى.
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سِمة عصرها، وهي المنحولة عن عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مُجمَلًا في مُدوَّنات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرِفه جزيرة العرب، فهذا «الأفوَهُ الأودي» يأبى إلَّا أن يُسجِّل أسماء أبناء نوح في قوله:
أما طول العمر النُّوحي فكان مضرِب المثَل، وهو يُؤخَذ في مديح الأعشى لإياس:
وهو ما جاء أيضًا في ضرب الراجز، رافضًا عمرًا كعُمر نوح:
وكان انتشار قصص التَّوراة في معارف الأُمم يجِد صداه في معارف ذلك العصر، فها هو «أميَّة بن أبي الصَّلت» يُقدِّم حوارًا شِعريًّا بَين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
بل وعرف العرب قصَّة مريم وولدها، وسارت فيهم كقصةٍ معلومة، وهو ما صاغه «أُمَيَّة» شعرًا بدَوره، إضافة إلى ما جاءت به المسيحية عن يوم بعثٍ ونُشور، مُضافًا إليه ما سبق إليه المصريُّون من القول بحسابٍ للموتى أمام موازين العدْل في قاعة الحساب السماوية. فهذا شعر بقي عن «قس بن ساعدة» يقول:
وهو الأمر الذي يُوضِّحه شِعر «زيد بن نُفيل» وهو يُصوِّر أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
وهو ذات الأمر الذي فصَّل أمرَه «أمية الثقفي» في قوله:
أما «علاف بن شهاب التميمي» فيؤكد:
كذلك جاء تقرير «زهير بن أبي سُلمى واضحًا» في قوله:
وقد عبَّرَتْ عن المستوى الفكري والمعرفي عدَّةٌ من المعالم أهمها المَعْلم الأدبي، فليس جديدًا التأكيد على شِعريَّة العربي، حتى قيل إن كلَّ عربي شاعر، وحتى أصبح الشِّعر ديوان العرب، رواية حالهم وظروفهم وعقائدهم، وسجلٌّ لمعارفهم ومستواهم الثقافي الأخلاقي، وسجلٌّ لحياتهم العملية وطُرُق عيشهم بل ورؤاهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانب الشِّعر كان مَعْلم الخطابة بما حواه من ذات المُحتويات الشعرية، بنثره المنظوم المسجوع، إضافةً إلى سجْع الكهَّان المُرسَل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسواقهم، التي عادةً ما كانت تُفتَتح افتتاحًا ثقافيًّا، بإلقاء الخُطَب النثرية، والقصائد الشعرية، وإجراء المسابقات حول أفضل القصائد، وهو ما بَرَز في «المُعلَّقات السبع». مِمَّا يشير إلى دَيدَنِ أمَّة اهتمَّت بتنمية الثقافة وتشجيعها، رغم تشتُّتِها شِيعًا في قبائل لا تجمعها وحدة مركزية.
وكان العربي حريصًا على تقديم معارفه وثقافته شعرًا، وإن نثَرَها حرصَ على الجرس الموسيقي فيها، ممَّا يُشير إلى رَهافَةٍ في الحسِّ وارتقاءٍ في الذوق، ونماذج من ذلك النثر، ما جاء قسمًا بالمظاهر الكونية عند «الزبراء» وهي تقول: «واللَّوح الخافِق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنَّجم الطارق، والمزان الوادق، إنَّ شجَرَّ الوادي ليأود ختلًا، ويرقُّ أنيابًا عُصلًا، وإن صخْر الطَّودِ ليُنذر ثقلًا، لا تَجدون عنه معلًا.»
ومن ألوان هذا السَّجع سجْعٌ دِيني، جاء في وصف «ربيعة بن ربيعة» ليوم البعث والنشور، بقوله: «يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المُحسنون، ويَشقى فيه المُسيئون.» وهو ذات الرجل الذي يُقسِم بصِدق قوله قائلًا: «والشَّفَق والغسَق، والفلق إذا اتَّسَقَ، إنَّ ما أنبأتُك به لحق.» أما «شق بن صعب» فيَصِف ذات اليوم بقوله: «يوم تُجزى فيه الولايات، يُدعى فيه من السماء بدعوات، يَسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمَع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتَّقى الفوز والخيرات.»
ويقسم «ابن صعب» لسائله بأنه يقول الحق: «وربُّ السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، أنَّ ما أنبأتُك به لحق، ما فيه أمض.» أما الكاهن الخُزاعي الذي احتكم إليه هاشم وأُميَّة في نِزاعهما، فأصدَر قراره سجعًا يقول: «والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوِّ من طائر، وما اهتدى بعِلمٍ مسافر، من مُنجِدٍ وغائر، قد سبق هاشم أُميَّة إلى المفاخر.»
أما «قس بن ساعدة الأيادي» فيُرسل سجْعَه مُصوِّرًا معارف العصر الكونية في نثرِه قائلًا: «ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهَر، وبحار تزخَر، وأرض مُدحاة، وأنهار مُجراة، إنَّ في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا.»
والشِّعر الجاهلي وثيقة هامَّة في يد الباحث العلمي، تأخُذ سمتَ العلم التاريخي، رغم ما أُثير حول الشِّعر الجاهلي من تشكيكٍ في صحَّةِ انتسابه لعصره فعلًا، وكان أبرز ما قيل بشأنه قضية النَّحل التي أثارها «الدكتور طه حسين» في كتابه الشِّعر الجاهلي، والمحاكمة المشهورة التي جرَتْ آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الاطمئنان في الغالبية مما وصَلَنا من ذلك الشعر، مُدوَّنًا بأقلام المُسلمين، هو أن القافية والوزن كانا يَضمَنان منع حدوثِ تغييرٍ كبير على ذلك الشِّعر، كما أن المُحتوى البسيط لذلك الشعر، وما جاء من أخبار التخاصُم على الإبل والمراعي يضمَنُ عدَم التصنُّع. وعلى رأي د. حسين مروة أنَّنا لو حكَمْنا على شعر الأخطل وجرير … بشكله، لتعذَّر علينا نِسبتُه إلى ما بعد الإسلام.
وكان «ابن سلام» أولَ من بحث قضية الانتِحال، وعزا أسبابها إلى العصبية القبلية، والرُّواة الوضَّاعين، مثل حماد الرَّاوية، وخلف الأحمر. وسبق الجميع إلى مسألة الانتِحال «المُفضَّل الضبِّي» الذي نقد خلفًا الأحمر، أما «طه حسين» فقد ردَّد ما سبقه إليه المُستشرق «مرجليوث» بشكلٍ مُختلف بعض الشيء. وإن كان أهمُّ حيثيات مُحاكمته هي إنكاره هبوط إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام جزيرة العرب.
وقد قامت جمهرة السلفيِّين تؤكد قَبولها صحَّة نسب الشعر الجاهلي دون تحفُّظ أو تشكك. وقد ظهر ذلك واضحًا في المؤلَّفات التي وُضِعت للردِّ على «طه حسين»، ونموذجًا لذلك ما جاء في كتاب «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوى، و«مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد، وغيرهم. ونسبة الشِّعر الجاهلي لعصره، قد اتَّفق أمرها بين المسلمين السلفيين، وبين كثيرٍ من المُستشرقين، وهو ما يُمثِّله نموذجًا قول المُستشرِق «ليال»: «والواقع أنَّ هذا الشِّعر الجاهلي، قد أفاد المُؤرِّخ الباحِث في تاريخ الجاهلية، فائدةً لا تُقدَّر بثمَن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التاريخية، على فائدته من الوجهة الأدبية لأنه حوى أمورًا مُهمَّة عن أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وُسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.»
والخطابة كانت من أبرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعرب، وكانوا يلجئون فيها إلى كلِّ الوسائل الإبداعية والجماليَّة والبلاغية لإقناع المُستمع بوجاهة محتوى الخطبة. وعند التعامُل مع ملوك الدول كان العرب يختارون أكثرهم تَفوُّهًا، وقد ذكر «ابن عبد ربه» في عقده الفريد، أن كسرى تنقَّص من أمر العرَب في حضور «النُّعمان بن المنذر» لديه، مما استفزَّ «النُّعمان» لعُروبتِهِ فأرسل في طلَب خُطباء العرب وأوفدَهم إلى كسرى ليعرِف مآثِر العرب وقدرَهم الثقافي.
وكان الخُطباء يخطبون في وفادتهم على الأمراء، فيقِف رئيس الوفد بين يدي صاحب السُّلطان ليتحدَّث بلسان قومه، ومن هذه الخُطب ما قيل بين يدي رسول الله ﷺ عام الوفود وأوردَتْه كُتُب السِّير والأخبار. ومن أشهر الخُطباء، أولئك الذين وردَتْ أسماؤهم في الردِّ على كسرى، وهم «أكثم بن صيفي»، و«حاجب بن زرارة التميمي»، و«الحارث بن عباد»، و«قيس بن مسعود»، و«عمرو بن الشريد السلمي»، و«عمرو بن معد يكرب الزبيدي». ومن خُطباء مكة «عُتبة بن ربيعة» و«سهيل بن عمرو»، ومن الخطباء أيضا «هرم بن قطبة»، و«عامر بن الظرب العدواني»، وهي نماذج تُشير إلى خطباء كُثر لقبائل العرب، أوردَتْها كُتب الأخبار والسِّيَر تفصيلًا وحصرًا.
مع التطوُّر الرتيب البطيء للقُوى المُنتجة، نتيجةً للتعدُّدية والتشظِّي القبلي، تواضَع العقل العربي على إلقاء تفاسير مِيتافيزية، لما يُجابِهه من ظواهر طبيعية، يُحاول بها تبرير ما يحدُث حوله، وهو ما اصطُلح بعد ذلك على تسميتِهِ بالأساطير بين العرَب أنفسهم. خاصَّة بين الطبَقة المُثقَّفة من أثرياء تُجَّارهم، وهو ما يُعلِن عدم قناعةٍ مُستبطَن بتلك التفاسير، التي أُدرِجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوَّادِهم تحت عنوان واحد يجمعها هو «الأساطير».
ولمَّا كان المَطَر أهمَّ الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وضعت بشأنِ انقطاعِهِ أو تواتُره سُيولًا، تفاسيرُ أسطورية بدائية بسيطة بساطةَ حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نَسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة النجمية التي توافقت في الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أُمطِرنا بنَوء كذا. وكان لِفَيض المطر أحيانًا ودَوره المُدمِّر تفاسير من لونٍ آخر، فيبدو أنَّ الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرَبٍ قدَماء، دُمِّرت بلادُهم بسبب الأمطار العاصفة. فحَكَوا عنها روايات تفسيرية، تكمُن الأسباب فيها بيد الآلهة الغاضِبة البطوش على من خالَفوا أوامرها أو نواهيها. وهو ما روتْهُ العرب مثيلةً عن هلاك عادٍ وثمود، ويُمكن الرجوع بشأنه تفصيلًا للفصول الأولى من كُتب الأخبار والسِّيَر الإسلامية، وعلى سبيل المثال «تاريخ الرسل والملوك» للطبري.
كذلك كان لنُدرة المطر أساطيرها الخاصَّة، والتي دفعتْهم إلى ابتداع ألوانٍ من الطقوس، قصدوا بها تحريض الطبيعة على العمل، ويبدو أنَّ مُلاحظة سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابًا مُمطرًا، أثَّرَ في تصوُّر اصطناع حالةٍ شبيهة، فكانوا يُوقِدون نارًا تُخرِج مادَّتُها دخانًا شبيهًا بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستِمطار. ولأنَّ البَقَر كان رمزًا للخِصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبَقَر في طقس يَجمعون فيه الأبقار ويَصعدون بها المُرتفَعات، ويربطون في ذُيولها موادَّ قابلة للاشتعال يُوقِدون فيها النار، فتُهرَع الأبقار مذعورةً تُثير الغُبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنِع حالةً شبيهةً بالعواصِف المُمطِرة، وأثناء ذلك يَضجُّون بالدُّعاء والتضرُّع، ويرَون ذلك سببًا للسُّقيا، وذلك إعمالًا لمبدأ السِّحر التشاكُلي حيث الشَّبيهُ يُنتِج الشَّبيه.
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النُّزوع نحوَ توحُّدٍ قومي دِيني تحتَ ظلِّ إلهٍ واحدٍ ارتفع العرَب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنًا السماء في قصرٍ عظيمٍ تحفُّه حاشيةٌ من الملائكة ويجلس على عرشٍ محمولٍ فوقَ أعناق فريقٍ آخَرَ من الملائكة، لذلك قدَّسوا السماء وأجرامَها، والقَسَم بها، وبظواهرها، وحفُّوا بالقُدسيَّة كلَّ ما تساقَط من السماء بحُسبانِهِ قادمًا من ذلك المكان المُقدَّس حيث العرش، فكان تقديس الأحجار النَّيزكيَّة أحدَ نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسَبوا إلى الأفلاك أثرًا عظيمًا في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقُط الشُّهب يعني وقوع أحداث جلل، كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجلٍ عظيم، أو مَوتٍ لآخَر.
ويبدو أن تلك القُدسيَّة امتدَّتْ عند بعض القبائل إلى تأليه نجوم السماء، بينما اتَّجَه البعض الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهنَّ بناتُ الله، أو لهنَّ علاقة بالله على الجُملة في أكثرِ من شأن. وتُعبِّر عن ذلك الرواية المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملكَين هاروت وماروت وكيف أغوَتِ الزهرة الغانِية الملَكَين الوَرِعَين فارتكبا الخطيئةَ وعصيا الله خالقَ السماوات والأرض، وكيف تحوَّلتْ تلك المرأة التي أغوَتْ ملائكة السماء بدَورها إلى كائنٍ سماويٍّ يتمثَّل في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
كذلك لم يجِد العرَب في تميُّز بعض الأشخاص إلَّا سماتٍ خارقة، نَسَبوها إليهم أحيانًا انبهارًا، وأحيانًا تمجيدًا. فهذا خالد بن سنان يُطفئ النار التي خرجت بجزيرة العرَب وكانت لها رءوس تَسيح فتُهلِك البُلدان، ويبدو أنها كانت ذِكرى بُركان مدمِّر، لكنهم جعلوا للنار البُركان رءوسًا آكِلة حارَبَها ابن سنان حتى أطفأها وردَّها إلى مقرِّ الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتدُّ الإعجاب به وبقوَّتِه حتى يقولوا إنه قتَلَ الغُول وأتى يَحمل رأسه تحت إبطه، فأسمَوه «تأبَّط شرًّا». وهذا عنترة بن شداد يشدُّ على الأعادي فيكسِر رماح الحديد وينزِع النَّخيل من مواضعه ويُحارِب الغُزاة، حتى يتحوَّل مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطلٍ عربي قومي يُحارب أعداء العرَب بقُواه الجبَّارة.
وذلك «سيف بن ذي يَزَن» يدخُل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيَتمُّ التعتيم على استعانتِهِ بالفُرس الذين يحتلُّون بلادَه عوضًا عن الأحباش، ليتمَّ تصويره بطلًا شعبيًّا عظيمًا يُقاتل الجيوش ويَهزمُها بقوَّتِهِ ومهارته.
وهو ما يُشير إلى نزوع جديد نحوَ أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنَعَ رمزَها القومي العربي، وهي تنحُو نحوَ التوحُّد الآتي. وكان الربُّ يُمثِّل سيد القبيلة وسلفَها ومعبودها ورمز عزَّتها وكبريائها، وكان تجمُّع تلك الأرباب في ضيافة الكعبة المكية، يعني مزيدًا من الحضور التجاري لأتباع الأرباب، ومزيدًا من المكاسِب. فكان المحتوى الطبقي يسير نحو تفجير الشكل القبلي لصالح توحُّد القبائل جميعًا، بتقارُب مصالح الأثرياء من قبائل مُختلفة، بحيث صار مُمكنًا رفضُ ربِّ القبيلة وسيِّدِها وسلفِها المعبود لدى الفرد عند الشريحتَين الاجتماعيَّتَين، الأرستقراطية والمعدِمة، فكانت الشريحة الأرستقراطية تنحُو نحوَ التوحُّد المصلحي الذي احتاج أدْلَجة، أفرزَت اعتقادًا في إلهٍ واحدٍ يَرعى تلك المصالِح، ولأنهم السَّادة والملأ والحكومة، فقد جاء إلههم الجديد في مرتبةٍ تتَّفِق ومكانتهم، ليُصبِح فوق آلهة الكعبة جميعًا، وسيِّدًا مُطلقًا للكون الذي أمسكوا عِنان تجارتِه بأيديهم، وراعيًا غائبًا لمصالحهم.
كذلك كانت فئة المُضطهَدين والمُعدِمين والعبيد، في حالة رفضٍ نفسي وعقلي لأربابٍ لا تعدِلُ في تقسيم الأرزاق، ومن ثَمَّ كان رفضُ تلك الأرباب لدى المُضطهَدين؛ قناعةً مُهيَّأةً للإعلان العملي السافِر. وقد برَز الاعتقاد المكي في إلهٍ واحدٍ فوق أرباب القبائل وأسلافِها المُتعدِّدين، الواقفين في فناء الكعبة، وأمسى مُعترَفًا به بشكلٍ نهائي في العصر الجاهلي الأخير، وهو ما قرَّرتْهُ بعد ذلك آياتُ القرآن الكريم في نصوصٍ كثيرة مُتعدِّدة، نقتصِر منها على أمثلة تقول:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦-٨٧).
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (العنكبوت: ٦١).
لذلك ظلَّ التشرذُم القبلي قائمًا، وجنين الوحدة المُقبِلة لعرَب الجزيرة في حالة إرهاصٍ ومَخاض، دون ميلاد حقيقي، يجمع العرَب جميعًا في مصلحةٍ واحدة، ووحدة قومية جامعة في ظلِّ إلهٍ واحد، ولذلك انتشر الاعتقاد في مَهمَّةٍ باقية لهذه الأرباب القبلية المُتفرِّقة، وهي التشفُّع لأتباعها لدى الإله الواحد، واتِّخاذهم إليه زُلفى وتقرُّبًا، وهو ما كان — على المُستوى النفسي — إخضاعًا داخليًّا ذاتيًّا للقبائل، لمَلأ مكة وسيادة ذلك الملأ، عن طريق الاعتراف بسيادة إلهِ الملأ على أرباب القبائل. وقد صوَّرت آياتُ القرآن الكريم، المعنى الذي انتهى إليه أربابُ القبائل بتصويرٍ بليغ، يَليق بصِدق الوحي الكريم، وتَطابُقه مع واقع مكة والجزيرة، دون تفاوُت مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (الملك: ٣)، بقول يأتي على لسان المُشركين:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى (الزمر: ٣).
وعلى المستوى السياسي؛ تجاوزت حكومة الملأ — أصحاب النَّدوة — الشكل القبلي القديم، لكنها حرصت على استدامة النقيضَين حرصًا على المصلحة المادية؛ فكانت حكومة الملأ حكومةً شِبهَ جمهورية، تتجاوز الشكل المشيخي الرئاسي القبلي القديم، لكنها تَستبطِنه في تمثيل رجال الملأ للتعدُّدية القبلية لبطون قريش، بينما صراع النقيضَين يفعل فعله التراكُمي لصالح توحُّدٍ كامل لشكل الحُكم، بغرَض القضاء على التمثيل القبلي والقبلية، لصالِح نظام حُكم مركزي جامع، يقوم على سلطةٍ واحدة مُوحَّدة، لا تضع بحُسبانها مصالح الملأ الأنانية الضَّيِّقة، بل تتجاوَزها بضرب التعدُّد السُّلطوي والربوبي، لصالِح دولةٍ كبرى ومصالح أعظم وأعمَّ نفعًا لجميع عرب الجزيرة، حُكم يُمكنه أن يُوحِّد تلك الشراذِم المُتأجِّجة بين الفردية والقبلية، الجديد والقديم، في مرحلتها الانتقالية، نحوَ أمَّةٍ واحدة، وهو ما يُخبِرنا التاريخ بأنه قد حدَث، وذلك مع المرحلة الأولى من المراحل التي مرَّت بها أطوار الدولة المُقبلة.
وقد تمثَّلت المرحلة الأولى في تكوين تلك الدولة في ظُهور سُلطتها كسُلطة نبويَّة، في مكة، بنداء النبي ﷺ لعشيرته، بما بين يدَيه من سُلطة نبويَّة «إني نذير لكم بين يدَي عذاب شديد»، تلك السلطة التي استندَتْ إلى أساسَين أولَّين هما: السلطة النبويَّة المُستمدَّة من الأساس الثاني والأعظم، وهي سُلطة الله الأوحد العُليا، الراعي الأقدَر للدَّولة القادِمة.
اتبعوني أجعلكم أنسابًا. والذي نفسي بيده، لتملكُنَّ كنوز كسرى وقيصر.
وهو المعنى الذي كان يحمِل في طيَّاتِه غرَض كسْب ولاء جماعةٍ تضامُنية، تُشكِّل الأساس الثالث للدولة، جماعة تُشكِّل نواةً تأسيسية للأمة المُقبلة.
ظهور الإسلام
كنَّا نقول حتى الآن: من الطبيعي، ومن الحَتْمي، ومن الضروري، فالأمر حسب قوانين التاريخ، لا بدَّ أن تؤدِّي مُقدِّماته إلى نتائجه، متى توافرت الشروط، لكن هنا قد يجوز القول لقائل: ومن الغريب أن ينهض بإتمام التطوُّر إلى نهاية نُضجه، لصالح الطبقة التجارية، فردٌ مكيٌّ قُرشيٌّ، هو نبي الإسلام ﷺ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. ووجهُ الغرابة أنه نشأ يتيمًا فقيرًا كادحًا، ينتمي إلى فرع هاشم، بل إلى الغُصن الأفقَرِ فيه، غُصن عبد المطلب وأبي طالب، وأنه لِضرورات وظروف نشأته، بدأ حياته العملية من أجل الرِّزق، وهو لم يتجاوز بعد صِباه المُبكِّر، فاشتغل وهو أقرَبُ إلى الطفولة برعي غنَمِ أهله، ورعي غنم أهل مكة، الذين يرفلون في ثراء النعمة، ثم — مع تجاوز الصبا إلى الرجولة — اشتغل بالتجارة لحساب الأثرياء، وهو ما يَصِلنا خبَرُه في رحيله إلى الشام، بتجارةٍ لإحدى شريفات قُريش «خديجة بنت خويلد الأسدي».
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام: ١٦١).
ولا بدَّ للوحدة السياسية من توحيدٍ علويٍّ يتمثَّل في سُلطةٍ إلهيَّةٍ واحدة مُوحِّدة عبر نَبيٍّ عربي.
وإعمالًا لكلِّ ذلك، وتأسيسًا على انقسام الجزيرة إلى وحدات، يُصِرُّ الملأ على استدامَتِها قبليًّا وربوبيًّا، ووقوف ذلك عائقًا دون تحقيق التطوُّر لغايَتِه. جاء الحضور التوحيدي في الإسلام مُتحقِّقًا على المُستوَيَين: المستوى المادي بسعْيهِ لوحدة مُؤسَّسِيَّة جامعة، في دولة مركزية، وعلى مستوى الوعي بنهوضه على فكرةٍ واعتقادٍ في مبدأ أيديولوجي يضع النظرية لمُؤسَّسةِ الدولة المُقبِلة.
والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه، ما تركتُه.
وهكذا بدا واضحًا أنَّ الملأ لم يَعُوا المقاصد الكُبرى للدَّعوة، ودَورهم المُمكن فيها، إزاء رؤيةٍ قاصرة، تقِف عند حدود المصالح الآنية الأنانية المَرحليَّة، ولم يتجاوزوا المنافع الضَّيِّقة لنفرٍ معدود، التي تُحقِّقها التعدُّدية الربوبية القبلية، ولم تتَّسِع رؤيتهم لتستطلِع الاتجاه التاريخي، لمسار حركة التطوُّر العام للحَراك الاجتماعي العربي، ولم تَعِ إطلاقًا أنَّ ذلك الحَراك هو تطوُّر على درجةٍ أعلى لمُستقبلها كطبقة تُشكِّل نواةً لشريحة كُبرى، يُمكنها أن تلعَب دورًا كبيرًا في الفرْز المُرتقَب للتشكيل التاريخي.
نعم لم يُدرِك الملأ أنهم الطبقة المؤهَّلة لقيادة الدولة، وأنَّ قُريشًا هي الفريق المُؤهَّل لرئاسة حركةٍ كبرى — وهو ما سيحدُث بالفعل بعد ذلك — ولم يُدرِكوا أنَّ مصلحة الطبقة جميعًا على المستوى البعيد، مع التوحُّد في دولةٍ مركزية، تكون نَواتُها وعاصمتها مكة، تحت راية إلهٍ واحد فرْد، يُشكِّل الوحدة الجامعة الأيديولوجية، وتحت زعامة نَبيٍّ عربي واحد مُوحِّد، لكن ذلك لا ينفي إدراك بعض عقلاء القوم — بوعيهم النافذ وحِنكتِهم وحِكمتهم ودُربتِهم — للأمر العظيم، وهو ما يُمثِّله موقف أكثر رجال الملأ حِكمةً وجلالًا «عُتبة بن ربيعة»، ذلك العَجوز الخبير الدَّاهية، بعد أنِ التقى النبي ﷺ، وأدرك الأهداف الكُبرى للدعوة.
وضاع كلام عُتبة، وسط ضجيج الحَمِيَّة للمصالح الأنانية الضيقة. وتراكم خطأ حسابات الملأ، ممَّا دفع إلى خطواتٍ أخرى، ومُتغيِّرات أخرى. وبالتدقيق، يُمكن قراءة دوافع ذلك الخطأ الأساسي وكشفه، والذي يكمُن برأينا، في مُجاهرة النبي بضربِ المصالح الآنِية الأنانية لأطماع الملأ التي لا تتوقَّف، بدءًا بضرب التعدُّد الرُّبوبي القبلي، بهدَفِ التوحيد الآتي، وإعلانه كُفرانَ قُريش، وسلبها لقب «أهل الله»، ومُخاطبته إيَّاها بالقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (الكافرون: ١، ٢)، ثُم تسفِيهه لمُعتقداتها وعقائد العُربان، الذين هُم أشدُّ كُفرًا، باتِّباعهم أربابًا وأسماء سمَّوها ما أنزل الله بها من سُلطان.
ثُمَّ ما كان أكثر نكايةً للملأ، برفْض الدَّعوة لقواعد التِّجارة السارية، بعد أن خَبَر النبيُّ في تجاربه السابقة وتِجارته، ما تؤدِّي إليه هذه القواعد من تعطيلٍ وتجميدٍ للحركة التجارية، عند حدود المكاسِب الأكثر عائديَّة للأرستقراطية المكيَّة وحدَها، فقام يُهاجِم كَنْز الذهب والفضَّة وتعطيلهما عن أداء دَورهما في التَّنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتنديده بلا هوادة بالرِّبا والمُرابين لدَورهما في سحق صغار التجار، بغرَض تركيز الثروة بيدِ فئةٍ لا تُؤدِّي للمجتمع خدمات مَنوطة بوضعها السِّيادي، ثُمَّ ما يؤدِّي إليه الرِّبا في النهاية من استرقاق المدين، وهو ما يُلقى بأيدٍ مَسحوقة لعملٍ غيرِ مأجور، وكان لا بدَّ أن يُسفِر الأمر عن جفوةٍ فعداء جهير، أدى بالنبي ﷺ إلى وجهةٍ أخرى مرحليَّة، على خطوات الطريق الاستراتيجي الطويل، تحوَّل بمُوجبها نحوَ المُستضعَفين والمُعدِمين والعبيد، يدعوهم إلى النَّسب، وامتلاك كنوز كِسرى وقيصر، التي تتضاءل أمامها كنوز الملأ، وإلى الشَّرَف والكرامة، لتشكيل نواةٍ أولى لأمَّةٍ جديدة واحدة من دون الناس وهم دومًا مادَّة الحروب لمصالح الطبقات المُسيطرة ومادة الانتقال الثَّوري لمصالح طبقة غيرهم.
وتبع تلك الخطوة مُتتابِعات سريعة، فتمَّ تكثيف الهجوم المُباشر على الأثرياء، وتوعُّدهم بسوء المآل، حتى أسفر الهجوم أحيانًا عن ذمِّ الثروة في ذاتها، مع وعيدٍ وإنذارٍ بعذاب مُقيم، لمن يُمارسون قواعد تجارية يجِب تجاوزها، من أجل سُيولةٍ ونضوجٍ أفضل، يَسمحان بإشراك المجتمع كله في الحركة الاقتصادية، فكان الهجوم على آكِلي أموال اليتامى والمساكين، وعلى احتكار مواد المَعيشة الأساسية، واستغلال الأرستقراطية لحاجة الناس من أجل ربحٍ أقصى، فسفَّهَ أمر من جمع المال وعدَّدَه مُتصورًا أنَّ ماله أخلده، غير عالم أنَّ خلوده سيكون بالنَّبْذِ في الحُطَمة، نار الله الموقدة، مع النذير للمُطفِّفين الذين ما أغنى عنهم مالهم وما كَسَبُوا.
وعلى الجانب الآخر، كانت البُشرى للمُستضعَفين، بأنهم بانضوائهم في الأمة الجديدة، سيحلُّون محلَّ الملأ، وذلك باعتصامهم جميعا بحبل الله، وهو ما سيجعل هناك فرقًا بيِّنًا بين تكوينهم المُجتمعي، وتكوين الذين تفرَّقوا واختلفوا قبائلَ وعشائر شذَرًا مَذَرًا بعد ما جاءتهم البينات، وهو ما سيترتَّبُ عليه حتمًا تنازُع هؤلاء وفشَلِهم وذهاب رِيحهم، ومن ثَمَّ كان إعلان الوحي بالنتيجة المُحتَّمة، والخطط المُعدَّة للدولة الواحدة، في قوله:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص: ٥).
فالمُستضعفون، هم من سيشكلون مادة الأمة الطالعة، وهم من سيكونون الأئمة والقادة، وهم من سيَرِثون سيادة الملأ وحكومته. والسبيل أمة جديدة، تقوم على مبدأ جديد، واحد لا يُفرِّق، يجمع أصحاب المصلحة في التغيير في مَصهرٍ واحد، عبَّرَت عنه الآيات الكريمة بقولها:
… أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (الشورى: ١٣).
ومع ذلك المَنحى المَرحلي — وإن كان أساسًا جَوهريًّا في أُسُس الدولة — تفتَّحت الآمال أمام المُستضعَفين، فبدءوا يتذارَفون فُرداى إليها، دون قبائلهم وعشائرهم، ممَّا جعل دخول كلٍّ منهم في المنظومة الجديدة، وتركه ولائه القبلي، سهمًا يُطلَق على جِسم النظام القبلي، وكان تحوُّل العبد عن سيِّدِه إلى جماعة المسلمين، يعني شراءه من قبل المسلمين لصالِحِ الجماعة وإعتاقِهِ ومنحه حُريته، وهي الصورة التي اجتذبت أفئدة العبيد إلى جماعة لا تُفرِّق في تشكيلها بين سيِّدٍ وعبد، ولا ابن قبيلةٍ وأخرى، إلَّا بمدى طاعتِهِ لقواعد الجماعة، التي قرَّرها الوَحي، فكان الإضعاف الإسلامي في تلك المرحلة للقبيلة، بإحلاله الولاء لجماعة الإسلام مَحلَّ أيِّ ولاءٍ آخر، وهو ما تمَّ تدعيمه بالانتماء الفردي في علاقة المُسلِم بالنَّبي وبالله، وهو ما ساعد على مزيدٍ من انهيار الولاء للقبيلة، ودعا إليه الوحي بقوله:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (التوبة: ١١٣).
يثرِب قبل الهجرة
خرجت قريش إذن — بعدائها للدعوة — عن قواعدها التي سنَّها الملأ، وقعَّدها الأسلاف منذ «قُصي»، في حُرية الاعتقاد، التي كانت تكفُل سيولة الحركة التجارية، وتضمَن اكتظاظ الأسواق بالرُّواد على مُختلف المِلَل، ومن ثَمَّ أفصحوا عن رفضٍ مُبرَم للدعوة الجديدة ولصاحِبها، واحتسبُوها — عن غفلة — حلقةً في تكتيك البيت الهاشمي، لصالِحِ إمساكه بعنان السُّلطة وإلغاء سُلطة الملأ، ممَّا أدَّى بصاحب الدعوة إلى يأسٍ مُطبقٍ من إفهام تلك الرءوس المكيَّة الصُّلبة. ولم يبقَ سوى البحث عن مكانٍ آخَرَ بعيدًا عن مكة.
ولما كانت الأرض قد مُهِّدت سلفًا، ببرمجة هاشم في تَحالُفه مع أهل الحرب والدَّم والحلقة في «يثرِب»، وزواجه من البيت الخزرجي، وما تَبِعه فيه عبد المُطَّلب بن هاشم بزواجٍ آخَر يُصادِق على الحِلف، فقد كانت الخئولة اليثربية، مَدعاةً للمُراهنة على نواةٍ أخرى للدولة المُقبلة خارج مكة في «يثرب»، المدينة المُنافِسة الحقيقية لمكة.
ومعلوم أنَّ علاقة مكة بيثرِب كانت علاقةً تنافُسية، لكن مع اختلافٍ عميق بين كِليهما في التشكيل الاقتصادي والاجتماعي؛ فبينما كانت التجارة هي عصَبُ الاقتصاد المكي، فإنَّ أعمدة الاقتصاد اليَثربيِّ قد أضافتْ إلى عماد التجارة، زراعةَ الكروم والحبوب. وكانت حبوب يثرِب غذاءً استراتيجيًا لأهل مكة، هذا مع نُشوء الشكل الحِرَفي حيث تعاظَمَتْ صناعة السلاح إلى حدٍّ كبير، وحقَّقت اكتفاءها الذاتي، مع فائضٍ جيِّد للتصدير، من سيوفٍ ودروع وجحفٍ ورماحٍ وسهام، ولباس حرب من خُوذ للرأس لا تُظهر غير عينَي المُحارب، ودروع ذات سماتٍ رومانية تُغطِّي الجسد كله.
أما الشكل المُجتمعي، فرغم أنه كان أميَلَ إلى الاستقرار كنتيجةٍ مباشرة لحِرفة الزراعة، فإنه كان أقربَ إلى القَبلية المُضطربة، نتيجة التكوين الهجين لعناصر ذلك المجتمع، لوجود عنصرٍ غيرِ أصيل العروبة والاعتقاد، مثَّلته ثلاثُ قبائل يهوديَّةٍ كبرى، هي قَينقاع والنَّضير وقُريظة، بينما مثَّل العنصر العربي، قبائل نازحة من اليمن، هي قبائل الأوس والخزرج، الذين حلُّوا على يهود يثرِب، ولم يجِدِ اليهود في وجودهم غضاضة، بل على العكس، وَجدوا فيهم تنشيطًا للاقتصاد اليَثرِبي، وكأيِّ تاجِر سلاح، كان لا بُدَّ من دسائس، تؤدِّي إلى صراعاتٍ تُورِث الضغائن والثارات، بين الأوس والخزرج، لمزيدٍ من التنشيط الاقتصادي.
ومِن هنا كان التحالف بالمُصاهرة بين الخزرج والهاشميين، ثُمَّ استقبال الخزرج لابن أُختهم الهاشمي وصحبِه، ردًّا لجُرح تُؤجِّجه ذكرى معبس ومضرس، واستشفاء نفسيًّا، واستجلابًا لوضعٍ أهملتْهُ قُريش وأسقطته من حسابات الإيلاف، واستشرافًا لوعدٍ نَبوي، استقبَلَهُ الوعي اليَثْربي النفاذ، بوحدةٍ تلمُّ الشمل، لتقف يثرب كمنافس له شأن أمام الملأ المكي، وربما كعاصمةٍ لدولةٍ كُبرى مع مُداولة الأيام.
المستوى الفكري
أما على المستوى الفكري، فكان واضحًا أن يثرب في اختلاف كبير عن مكة، حيث أدَّت عوامل عدَّة إلى تكوُّن الفكر اليَثربي بألوانٍ جدِّ مُخالفة للفكر المكي؛ فبينما كان الفكر المكي قد تجاوَزَ مجموعة العقائد القديمة على مستوى جِدِّية الاعتقاد وصِدق الإيمان، وتحوَّلت العقائد عنده إلى أداةٍ يُمكن تخديمها لصالح المكاسب التجارية، وتحوَّلت قِصص السالِفين من أبطالٍ وأنبياء، إلى أساطير الأوَّلين، فإنَّ وجود اليهود في يثرِب، مع كتابهم المُقدَّس، وحكاياتهم عن قُدامى أنبيائهم، وسلوكهم وفق شرائع مُحدَّدة وضعها أولئك الأنبياء، وضع التاريخ الديني، والنَّبوي منه تحديدًا، موضع احترامٍ بين عرَب يثرِب، ناهيك عن النُّبوءة التوراتية المُتواترة، عن مجيء نبيٍّ آخر الزمان، ليُقيم لليهود دولتَهم الغابرة، التي سقطت وانتهى أمر يهودها بالشَّتات من فلسطين عام ٧٠م على يدِ الرُّومان، وهو ما وَجَد فيه اليَثاربة العرَب عند ظهور الدعوة الإسلامية إنباءً بالنبي ﷺ كان مَخبوءًا في رحِم التوراة القديم، لكن مع تحليلٍ جديد، في ضوء المعنى الأُمَمي الذي خرج بالنُّبوَّة عن دائرة بني إسرائيل الضيقة، وعن العنصرية اليهودية المُتزمِّتة، إلى آفاقٍ رحبة، تستوعب فكرة عدم عنصرة النُّبوة وتجنيسها، وخروجها عن اليهود إلى الأُمَم، فكان الرسول أُميًّا، من الأُمَم، غير يهودي، عربي، زعيمًا للعرب، ومؤسسًا لِديانة عالمية، وليس حكرًا على بني إسرائيل، ودولتها الغابرة، أو المُقبِلة في حلمها التَّوراتي.
ثم كان التوحيد التَّوراتي، مَدعاةً لاختلال عرَب يثرِب بالوَثنية، ممَّا هيَّأهم لقَبول فكرة التوحيد، والإقبال عليها عندما جاءت عربية، يدعو إليها نبي عربي، يُفاخرون به اليهود الذين طالما تفاخَروا عليهم بتاريخهم النبوي، وكتابهم المُقدَّس. هذا فضلًا عن تواضُع النُّضوج الاقتصادي والاجتماعي في يثرِب، مُقارنًا بما حدَث في مكة. فبينما أصبحت الأفكار الدِّينية في مكة وسيلةً لمزيدٍ من الارتزاق، فإنَّ العكس كان عند عرَب يثرِب، حيث كانت الحُرُمات التي فرضَها السلوك اليهودي، تمهيدًا طيِّبًا لقَبول عقيدةٍ إيمانية توحيدية؛ ليس فقط لتحقيق أهدافٍ بعَينها، بل بنفوسٍ تأثَّرت بالتُّراث الدِّيني التَّوراتي حولها، ممَّا جعلها أكثر قَبولًا لتصديق الدَّعوة وتقديس الإيمان. هذا إضافة إلى الثراء الفكري، الذي صاحَبَ ذلك المناخ، وسبَّبتْهُ مُتاخَمة يثرِب للمناطق الحضارية العريقة في الشمال، على حدود الإمبراطوريَّتَين الفارسية والرومانية.
الهجرة
وإعمالًا لكلِّ تلك الظروف، يُمكننا أن نقرأ ببعض الوعي، لقاء العقَبة الأول والثاني بين رسول الله ﷺ، وبين نُقَباء يثرِب، لنرى فيه وثيقة ميلاد الدولة وهي تدوَّن في التاريخ، باتفاقٍ بين أخوال النبي اليثاربة، وبين النبي الأمين، والتي ظهرت في البدء كما لو كانت مُجرَّد اتفاقٍ دفاعي عن شخص النبي، حيث كان النبيُّ في مكة مُمتنِعًا ببيتِهِ الهاشمي ممَّن عاداه وخالفه، وكان معنى الاتفاق على الهجرة إلى الأخوال، هو الانتقال إلى حِمًى جديد، يرفع الضغط عن الأعمام، في شكلٍ يَظهَر كَلَونٍ من الحماية. وكان للأحداث دلالَتُها الصادقة، التي تنطِق بمدلولاتها في ذهاب «العباس بن عبد المطلب» عم النبي، وهو بعدُ على دين قومه، مع ابن أخيه، للقاء اليَثاربة سرًّا في العقبةِ الثانية، وهو لم يذهب — فيما يقول «الطبري» — «إلَّا لأنَّهُ أحبَّ أن يحضُر أمرَ ابن أخيه ويستوثِق له.»
لكن الواضح بما لا يقبل جدلًا، أنَّ فكرة الحرب والنِّية عليها، كانت قائمة ومُبيَّتة في ذلك التحالف، وقد وعاها الأنصار جيدًا.
والواضح إذن أنَّ اللقاء التأسيسي كان حلفًا مُحاربًا وليس حلفًا دافعيًّا عن النبي، وأن الحرب كانت هي القائمة، وكانت هي البند الأساسي، من أجل الهدف الأعظم؛ قيام الدولة الكبرى.
وبالفعل تمَّت الهجرة إلى يثرِب، ولم يجد العنصر اليهودي في يَثرِب أية مشكلة في استضافة الخزرج لابن أُختِهم وصحبِه، واحتضانهم لدعوتهم، تأسيسًا على موقفٍ عملي تكسُّبي، أدَّى إليه نجاحهم السابق في احتواء الهجرة اليمنية (الأوس والخزرج)، وتوظيفها لصالح مَزيدٍ من المكاسب، وترويجًا لصناعتهم الحربية، وضَعف المُهاجرين الظاهر الذي لا يُشكِّل أي خطر، وهي عوامل دعَتْ للاطمئنان، وإمكان احتواء هذا الوافد الجديد، وهو الموقف الذي دفعت إليه وأذكته الآيات الكريمة التي سبقت الهجرة في الوصول إلى يثرب، تتحدَّث عن مكانة بني إسرائيل في التاريخ السياسي للمنطقة (مملكة داود وسليمان)، ومكانتهم في التاريخ الديني (مجموعة الأنبياء من نُوحٍ إلى إبراهيم وإسحق ويوسف وموسى … إلخ)، بصياغة تكريمية عظيمة، تُقدِّم احترامًا واضحًا أيضًا للتوراة اليهودية، كما في قولها:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٤).
… إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ (الصف: ٦).
هذا مع الاحترام حتى للتفاصيل التَّوراتية الصغيرة، وأخذِها بالاعتبار، والإشارة إليها في الآيات، كتابوت الإله اليهودي «يهوه»، وكتابة الله لألواح موسى … إلخ. ثم الموقف العَملي للنبي عند وصوله يثرِب، حيث استقبل قبلةَ اليهود في الصلاة، بل وصام الغفران، ثُمَّ عُقد للنبي الصحيفة مع اليهود، للتعاوُن والأمن والدفاع المُشترَك، مع كفالة حُرية الاعتقاد التامَّة، مع إعلانٍ عن عدم التناقُض الاعتقادي، وهو ما تنطق به آياتٌ كثيرة، منها:
وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (البقرة: ٩١).
وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (البقرة: ١٣٩).
وكان ذلك بالنسبة ليهود يثرب، لونًا من مُمكنات مُستقبلية، تُحوِّل مركز الجزيرة وقلبها عن مكة إلى يثرِب، وما سيعود نتيجة ذلك من منافع عظيمة، ومكاسب مادية جمَّة.
لكن الغنيَّ عن الذكر هنا، أنَّ يهود يثرِب وهم يُهيئون أنفسهم للكسْب، اكتشفوا — خاصَّة بعد بدرٍ الكُبرى — خطأ حساباتهم القاتل؛ حيث تحدَّد الموقف تمامًا بعدما كسَبه المسلمون في بدر من قوةٍ مادية ومعنوية، لم تجعلهم في حاجة إلى مثل ذلك التحالُف النَّفعي، حيث أثبتَ التجَّار المُهاجرون حذقًا وحنكةً بحُكم الدُّربة والخبرة، مما جعلهم مُنافسين أقوياء ليهود يثرِب، وقد دعم ذلك النجاح التجاري، ما لحق بأساليب المُهاجرين التجارية من تهذيبٍ قنَّنه الإسلام، بحيث تناقضتْ مع طرائف اليهود الشبيهة بأساليب الملأ المكِّي، من احتكارٍ للسلع، والمُغالاة في الكسْب، مع الكسْب الربوي الذي بات مُحرَّمًا في قوانين الدولة الجديدة.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة من مراحل تكوُّن الدولة الإسلامية، بعد المرحلتَين: الأولى بظهور السُّلطة النبوية في مكة، والثانية المُتمثِّلة في بيعة العقبة الثانية. أما الثالثة فهي الواقعة بمُجمَل أحداثِها ما بين الهجرة إلى المدينة وبين غزوة بدر الكُبرى، كما ستُبيِّنها الأحداث التالية.
وفي بداية المرحلة الثالثة من مراحل تأسيس الدولة، وحتى يُصبح مُمكنًا حلُّ إشكاليات الفُرقة القبلية بين الأوس والخزرج، قام النبي ﷺ بتأمين الحدِّ الأدنى من التآلُف الداخلي، بمُصالحة الأوس والخزرج ثُمَّ مُؤاخاة المُهاجرين والأنصار. أما على المُستوى الإيماني فقد صارت الأخوَّة الإسلامية ضربًا للفُرقة التي سبَّبتْها العصبية القبلية، بحيث صار خارجًا على جماعة المؤمنين من فضَّل أخاه في القبيلة والعشيرة، على أخيه في الإسلام، وهو ما نشهد له نماذج بالغة القوة، ربما كان أبْلغها ما أضاء تحت غبار وقعة بدر الكبرى؛ فبينما كانت قريش تخشى إراقةَ دمِ أحدٍ من أبناء العمِّ أو الخال من المُهاجرين، كان المُسلمون يُحاربون غير هيَّابين ولا مُبالِين في هذا السبيل بأحدٍ من الأقارب، وهو ما عبَّرت عنه الآيات الكريمة بقولها: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (الأنفال: ٦٣).
والأمثلة كثير، سردُها إطالةٌ لا حاجة لها، لكن الدرسَ المأخوذ هنا، هو أنه بينما كانت مكة تتفكَّك قبليًّا لصالح الشكل الطبقي، كانت يثرِب تتوحَّد إيمانيًّا وطبقيًّا، وتذوب في مستوًى مادي مُتقارب، كناتجٍ للتوزيع العادل للغنائم، لتُشكِّل نواةَ الدولة المُقبلة.
مكة والحصار
تمكن إذن النَّبي العربي ﷺ، من تسكين أوضاع يثرِب الداخلية، خاصة بعد إعطائه مركز الزعامة لسعد بن مُعاذ زعيم الأوس، حتى لا تُحتسَب عليه مَظنَّةُ مُوالاة أخواله من الخزرج، بعد أن تمكَّن من تحييد زعيم الخزْرج «عبد الله بن أبي بن سلول»، ممَّا ربَط الأوس بالدَّعوة وصاحِبها، إضافة للارتباط القرابي للخزْرج به. وبعد تحييد اليهود بالصحيفة، ومُؤاخاة المُهاجرين مع الأنصار، بدأ العدُّ التنازلي للإجراء المُقبل، وهو ما جاء في قصة ترويها كُتُب السير والأخبار، عن هبوط كبير الأنصار «سعد بن مُعاذ» إلى مكة، في رحلةٍ تقول كُتُب السِّيَر إنها كانت — فقط — لأداء العمرة، حيث نزل ضيفًا على صديقه «أُميَّة بن خلف»، أحد أشراف قريش وسادتها.
وهكذا كان الاختبار، وهكذا كان الرُّسوب، ورسَب أحد كِبار رجالات الملأ بجدارة؛ لأنَّ تحريم أمْن البيت وزوَّاره، كان تأمينًا لكلِّ المِلَل والنِّحَل، من أجل أمن التجارة وسيُولتها وتدفُّقها مع زوَّار مكة، وكان تهديد أبي الحكَم لسعدٍ كبيرِ عربِ يثرِب الجديد، إنما يَعني أنَّ قريشًا قد بدأت تفقِدُ أعصابها، ومع فقْد الأعصاب تضيع المصالح، فقامَتْ تُهدد — بموقِف أبي الحكم وتهديدِه لسعد — مصالِحَها التجارية كبلدٍ اقتصادي مفتوح، بيدِها.
أما الأمر الذي لا يَفُوت على لبيب، فهو الإنذار المُتضمَّن في ردِّ سعد لملأ مكة بما هو آتٍ من حصارٍ اقتصادي يقطع عليها الطريق إلى الشام. ولعلَّ تلك العمرة التي أدَّاها «سعد بن معاذ» — على الطريقة الوثنية، وطقوس الشرك، والتي لم يكن الإسلام قد أقرَّها بعد، ولم يكن قد طهَّرَها من أدران الجاهلية وأصنامها — لم تكن مُجرَّد مُصادفة، خاصَّةً إذا ما تذكَّرنا أنَّ قِبلة المسلمين كانت آنذاك إلى بيت المقدس.
وهنا نستكشِف الأساس الرابع من الأُسس التي قامت عليها الدولة، بعد الأُسُس الثلاثة المُتمثِّلة في السُّلطة النبوية والسُّلطة السيادية الإلهية، وتكوين جماعة تُضامُنية أولى كنواةٍ تأسِيسيَّة للدولة. ويظهر الأساس الرابع للدولة في تَحوُّل الجماعة الإسلامية إلى جيشٍ مُتكامِل؛ أي تَجييش مادَّة الدولة، وتحويلِها من مُستضعَفين مُهاجِرين إلى وحدةٍ أو دولة عسكرية مُقاتلة. والآن، لا يجِب أن نُفاجأ عندما نجد يثرب تُرسِل سراياها لقطع طريق الإيلاف. هذا ما يجِب تذكُّره من أمرَين كانا بداية الضغط على الملأ المكي، الأول هو منع يثرب قمْحَها عن مكة، أما الثاني فهو مُوادعة قبائل الساحل القديمة حول ميناء «الجار» على البحر الأحمر ليثرب، والذي كان يُعرَف أنه ميناء يثرِب على البحر، ومنه تمَّ منع شُحنات القمح الوارد من مصر إلى مكة، ولم يبقَ سوى طريق الإيلاف الشامي خالصًا لمكة، ومن ثَمَّ دَهَمت دوريَّات المسلمين هذا الطريق دون كَلَل، تتصدَّى للقوافل القادمة إلى مكة أو الآيِبةِ منها، وهي الدَّوريات التي بدأت — مُحدِّدةً أهدافها — مُبكِّرًا، وقبل مُضي سبعة أشهر على الهجرة؛ حيث خرجت أولى تلك الدوريات النشطة في سَرِيَّة بقيادة «حمزة بن عبد المطلب»، لاعتراض عِيرٍ لقريش، في ثلاثين مُهاجرًا، لكن السَّرِية فُوجئت أنَّ قريشًا كانت يَقِظة، فأردفت بقافلتها ثلاثمائة مُحارب بقيادة أبي الحكم نفسه، فتدخَّل «مجدي بن عمرو الجُهَني» ليحجِزَ بينهما ويُنهي الموقف، واكتفَتْ حراسة القافلة بالانصراف إلى سبيلها، بعد أن أقنَعَتِ المُهاجرين باقتدارها، وكثرة عددها وعدَّتها.
ولم يمضِ شهر على سَريَّة «حمزة»، حتى خرجت سريَّة بقيادة «عبيدة بن الحارث بن المُطَّلب» إلى «بطن رابغ» بمُقاتلين من المُهاجرين، فالتقَوا بقافلةٍ لقُريش، يبدو أنها كانت بدَورها في حراسةٍ جيدة، وهو ما يُستنتَج من عدم الاشتباك، واكتفاء السَّريَّة اليَثرِبية برَميِها بالنِّبال عن بُعد.
وبعدها بأيام خرجت سَرِية «سعد بن أبي وقَّاص» إلى الخرار، ليَلحَقَ بقافلةٍ لقُريش، ولم يتمكَّن من اللحوق بها، وكانت بدَورها لا تحوي في مُقاتليها سوى رجال من المهاجرين.
وهنا جاء ردُّ الآيات الكريمة المُفحِم، يحمِل أكثر من دلالة، حول مفهوم الأشهر الحرام، وقيمة ذلك التحريم أساسًا، ومدى قناعة القوَّة اليَثربيَّة الطالِعة بتلك القيمة، وأخذها على مأخَذ الجد من عدمه، خاصَّة بعدَ أن أكثرَ الناس الكلام عن استحلال أصحاب محمد للشَّهر الحرام، ثُم إنَّ الردَّ حمَلَ أيضًا تحديدًا واضحًا لمن أصبح بيده الأمر، وبإمكانه التحليل والتحريم، ناهيك عن قِيمة قريش ذاتها كراعيةٍ للأشهُر الحرام، وصاحبة لقَب «أهل الله»، وقيمة ذلك اللقب ومدى مِصداقيته، لأن الردَّ كان:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (البقرة: ٢١٧).
وكان ذلك الخبر مَدعاةً لتداعِياتٍ أخرى مُتسارعة، فجَّرَت صراعًا عسكريًّا، كان مُبتدَؤه وفَيصله، غزوة بدر الكبرى.