والإشارة هنا إلى ثلاثمائة أنصاري، قرَّروا قبل المعركة البقاء في المدينة، وعدم
الخروج إلى أحد، برأي عسكري عرَّكته خِبرتهم بمناعةِ مدينتهم. وإزاء ذلك الفوَران، الذي
بات يُهدِّد هيبة الدولة الناشئة، ويُعطي الفرصة للرءوس المَحنيَّة للتعالي والتغامُز،
وما قد يجرُّه ذلك من تردِّي هيبة صنعها المجاهدون بدمائهم في بدر؛ كان لا بدَّ من خطوة
أولى لتهدئة رَوع المسلمين، ومن ثمَّ استرسَلَ الوحيُ يردُّ على هؤلاء بالقول
الكريم:
أما الذين حزِنوا على المغانم الزائلة من عرَض الدنيا، فقد توجَّه إليهم الوحي
يقول:
(١) العلاج النفسي
والدليل أنَّ النبي
ﷺ قال: «لمَّا أُصيب إخوانكم بأُحد، جعل الله أرواحَهم
في جَوف طيرٍ خُضر، ترِدُ أنهار الجنة، وتأكُل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ
مُعلقة في ظلِّ العرش، فلمَّا وجدُوا طِيب مأكلهم ومَشربِهم ومقبلهم قالوا: من
يُبلِّغ إخواننا عنَّا أنَّنا أحياء في الجنة نُرزَق؛ لئلا يَنكلُوا عند الحرب، ولا
يَزهَدوا في الجهاد. قال الله عز وجل: أنا أُبلِّغُهم عنكم. فأنزل الله تعالى:
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
….»
٣
ثم يلتفتُ المُصطفى إلى «جابر» رضي الله عنه ويقول له: «يا جابر؛ ألا أُبشِّرك؟
قال: بلى بشَّرك الله بالخير. قال: شعرتُ أن الله أحيا أباك فقال: تمنَّ عليَّ عبدي
ما شئتَ أُعطِكَه. قال: يا ربِّ ما عبدتُك حقَّ عبادتك، أتمنَّى عليك أن تَرُدَّني
إلى الدنيا فأُقتَل مع نبيك، وأُقتَل فيك مرة أخرى. قال: إنه قد سلَفَ مِنِّي
القول، لا يرجع إليها.»
٤
وهكذا كان العلاج النفسي، والبلسَم الشافي المُداوي، ولمُّ شتات الأنفُس
المُبعثرة فرقًا وهلعًا، وتقوية العزائم بتثبيت الإيمان. لكن مُؤرِّخينا لا يجِدون
— عافاهم الله — في تلك الخطَّة المُداوية، والكلام السديد بالرأي الرشيد، كفايةً
وشفاءً وغَناء، إنما يطمَحون دَومًا كدأبهم إلى حديث الأحاجي والمُعجزات، وهو حديثٌ
ما كان يَشفي أصحاب أُحد وهم مهزومون، قدْرَ ما يشفيهم الوحي الصادِق، والقيادة
الحكيمة. لكن أحاديث الأحاجي كُتِبت على ما يبدو لأجيال بعد ذلك ستقرأ التاريخ،
وربما تتساءل في ضوء المشروع عقلًا، فكان إلقامُهم سلفًا تلك الدلائل على الإعجاز،
رغم تجرُّع المسلمين مرارة الهزيمة في هدوءٍ وبطولة. فجاءتنا الروايات تقفو بعضها،
لتُعيد حديث الملائكة، وتؤكد أنَّ الملأ الأعلى المُحارب قد هبَط إلى أُحُد، وأعمل
خبرتَهُ القتالية في المعركة غير مُدرِكين إلى أيِّ مُنزلقٍ يذهبون بتلك المزاعم.
ومنها ما جاء يُحكى عن الوقعة في حمِيَّتها، والرسول يتعرَّض للهجوم، وأمامه سعد بن
أبي وقَّاص، «فقال عليه الصلاة والسلام لسعد: اردُدْهم. قال: كيف أردُّهم وحدي؟
فقال له: اردُدْهم. قال سعد رضي الله عنه: فأخذتُ سهمًا من كنانتي فرمَيتُ به رجلًا
منهم فقتلتُه، ثم أخذتُ سهمًا آخر فإذا هو سَهمي الذي رميتُ به، فرميتُ به آخَرَ
فقتلتُه، ثم أخذتُ سهمًا فإذا هو الذي رميتُ به فرميتُ به آخَرَ فقتلتُه، فهبطوا من
مكانهم، فقلت: هذا سَهمٌ مُبارك، فكان عندي في كنانتي لا يُفارِق كنانتي.»
ولا تفطن الروايات إلى أنَّ سعدًا لو استمرَّ بسهمِهِ المبروك هذا، لأفنى
المُشركين، ثم تؤكد أنَّ هذا السَّهم «كان بعدَه عند بَنيه … ورُوي عنه أنه قال:
لقد رأيتُني أرمي بالسَّهم يوم أحد، فيردُّه عليَّ رجلٌ أبيض حسَنُ الوجه لا أعرفه،
حتى كان بعد … فظننتُ أنه ملك.»
ثم يُنسب لسعد حديثٌ آخر يقول فيه:
رأيتُ يومَ أحد عن يمين النبي عليه الصلاة والسلام وعن يَساره، رجُلَين
عليهما ثياب بِيض يقاتلان عن رسول الله أشدَّ القتال، ما رأيتُهما قبل ذلك
اليوم ولا بعده.
٥
بل وتُحدِّد كُتب التراث الرجُلَين البِيض بالثياب البيض بالاسم فقد كانا
الملكَين «جبريل» و«ميكائيل».
٦
ورواية أخرى، تضع سعدًا مرةً أخرى، في حبكةٍ أخرى، تقول:
لمَّا كان يومُ أحد انكشفوا عن رسول الله
ﷺ، وسعد يرمي بين يدَيه،
وفتًى يَنبِل له كلَّما ذهبت نبلةٌ أتاهُ بها، يقول: ارمِ أبا إسحق. فلمَّا
فرغوا نظروا: من الشاب؟ فلم يَرَوه ولم يُعرَف.
٧
ومثل تلك الروايات التي تُصرُّ على نزول الملائكة إلى أُحد
وحربها مع المسلمين، رواية تحكي عن أمرٍ تعلَمه كُتب الأخبار؛ وهو أن «أبا الرُّوم»
أخو «مُصعب بن عمير»، حمل اللواء من «مُصعب» بعد سقوط أخيه شهيدًا، وفي زحمة
المعركة وهولها، ومع إصابة النبي تلك الإصابات الشديدة، ظنَّ أبا الرُّوم مُصعبًا،
لكن الرواية تتمُّ حياكتها لتُخبرنا خبرًا آخَرَ يقول:
ولما قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وسقط اللواء، أخذه ملك في صورة
مصعب … وجعل رسول الله
ﷺ يقول للملك الذي على صورة مُصعب: تقدَّم يا
مصعب. فالتفَتَ إليه الملك فقال: لستُ بمصعَب. فعرَف عليه الصلاة والسلام
أنه ملك أُيِّد به.
هذا بينما يُعقِّب الحلبي في سِيرته على الرواية فيقول: «… ورأيتُ في روايةٍ أنه
لمَّا سقط اللواء، أخذه «أبو الرُّوم» أخو «مُصعب»، ولم يزَلْ في يدِه حتى دخل المدينة.»
٨
وفي سياق سَوق المُعجزات، لا يرضى «الحلبي» في موضع آخر من سيرته، إلا بموتةٍ
قميئةٍ لابن قَمِئة الذي شجَّ النبيَّ في وجهه وضربه بالمِغفر، فيقول:
إنَّ هذه الشجَّة لم تُشِنْه، بل زادتْهُ جمالًا … فقال رسول الله
ﷺ: أقمأك الله … وقد استجاب فيه دعوةَ نبيِّه، فإنه بعد الوقعة خرج
إلى غنَمِهِ فوافاها على ذروةِ الجبل، فأخذ يعترِضها، فشدَّ عليه كبشُها،
فنطحَهُ نطحةً فأرداه من شاهق الجبل فتقطَّع.
٩
كذلك تُثني الروايات على «أُبي بن خلف» الذي قتله النبيُّ بالحربة، حتى يُسكِته
عن إسماع المُشركين نداءه وهو يهتف: أي مُحمَّد؟ لا نجوتُ إن نجا. لتقول بلسان عبد الله
بن عمر:
مات أُبيُّ بن خلَفٍ ببطْن رابغ، فإني لأسيرُ ببطن رابغ بعد هويٍّ من
الليل، إذا نار تتأجَّج لي فهِبتُها، وإذا رجل يخرُج منها في سلسلةٍ
يَجتنبها وهو يصيح: العطش العطش. وإذا رجل يقول: لا تسقِه، فإنَّ هذا قتيل
رسول الله، هذا أُبيُّ بن خلَف.
١٠
ثم لا يجِد مؤرِّخُونا بأسًا هنا من تكرار بعض ما صاغوه لبدر الكبرى، ومنها
القول: «أخبرَنا أشياخُنا أنَّ عبد الله بن جحْش جاء إلى النبيِّ يومَ أُحدٍ وقد
ذهب سيفه، فأعطاه النبي
ﷺ عسيبًا من نخل، فرجَع في يدِ عبد الله سيفًا …
وأصيبت يومئذٍ عَين قتادة بن نعمان حتى وقعَتْ على وجنتِه، فردَّها رسول الله
ﷺ فكانت أحسنَ عينَيه وأحدَّهُما.» وتفصيل إعادة تركيب العين في موضعها، في
أنَّ النبي رفع حدقَتَه فوضعَها موضعها ثم غمزَها براحته، وقال: «اللهم اكْسُه
جمالًا.» فماتَ وما يدري من لقِيَه أي عينيه أصيبت.
١١
ثم يُعرِّج رواة السير والأخبار على ألوانٍ أخرى من الروايات، قصدوا بها التدليل
على صِدق نُبوَّة المصطفى
ﷺ، وعِصمته، وطهارته، وطهارة جسِدِه، وما قد يَنال
المؤمن الصادق إذا ما نالَ من ذلك الجسد شيئًا، يرفع من مكانته ويُزكيه، لكنَّها من
جانبٍ آخر — إن كانت قد حدثَتْ — فإنها تُلقي ضوءًا على المكانة التي وصل إليها
رسول الله مع أتباعِه. وربما قصد بتلك الروايات وضعها في مُقابلةٍ مع أخبار من شكَّ
أو فرَّ وهرَب، لإثبات وجود المُؤمنين الصادِقين الثابِتين، الواثِقين بنبيِّهم إلى
حدِّ التبتُّل فيه، حدًّا لم يصِله قبله إنسان ولا بعدَه. ومن تلك الروايات أن
«مالكَ بن سنان الخدري»، أبا «سعيد الخدري»، قد امتصَّ دمَ النبي من جُروحه في أحد،
وازدَرَدَ تلك الدِّماء، فقال النبي:
من سرَّهُ أن ينظُر إلى رجلٍ لا تمسُّه النار، فلينظُر إلى مالك بن سنان،
من مسَّ دمي لم تُصبْهُ نار.
ويُعقِّب «الحلبي» على ازدراد دم النبيِّ تعقيبًا شارحًا مُطولًا يقول فيه: «ولم
يُنقَل أنه
ﷺ، أمر هذا الذي امتصَّ دمَه بغسْل فمه، ولا أنه غسَل فمه بعد
ذلك، كما لم يُنقَل أنه أمر حاضِنَته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها، بغسْل
فمِها، ولا هي غسلتْهُ بعد ذلك لمَّا شربت بولَه
ﷺ، ففيها رضيَ الله عنها
أنها قالت: قام رسول الله من الليل إلى فخارةٍ تحت سريره، فبالَ فيها، فقُمتُ وأنا
عطشى فشربتُ ما في الفخَّارة، وأنا لا أشعُر، فلمَّا أصبح النبي
ﷺ قال: يا
أم أيمن، قُومي إلى تلك الفخَّارة فأهريقي ما فيها. فقالت: والله لقد شربتُ ما
فيها. فضحِكَ حتى بدتْ نواجِذُه، ثم قال: لا يجفُر بطنُك بعدَه أبدًا … أي لا تشتكي
بطنك … وقد شرِبتْ بولَهُ أيضًا امرأة يُقال لها بركة بنت ثعلبة بنت عمرو، وكانت
تخدُم أم حبيبة رضي الله عنها، جاءت معها من الحبشة … وفي كلام ابن الجَوزي، بركة
بنت يَسار مولاة أبي سفيان الحبشية، خادِمة أم حبيبة زوج النبي
ﷺ، … فقال
لها حين علِم أنها شربت ذلك: صحَّة يا أم يوسف. فما مرضت قط، حتى كان مرضُها الذي
ماتت فيه.»
١٢
(٢) غزوة حمراء الأسد
هكذا كانت البلسَمة الشافية لجراح أُحد على المستوى النفسي، لإعادة تثبيت
المُؤمنين حول الإيمان وحول نبيِّهم
ﷺ، وعلاقته الحميمة بمُحبِّيه ومُريديه
والخُلَّص له. أما على المستوى العسكري، فإنَّ «ابن هشام» راوي السيرة يَحكي:
فلمَّا كان الغدُ يوم الأحد، لستِّ عشرة ليلةً مضت من شوال، أذَّن
مُؤذِّن الرسول في الناس بطلَب العدو … أنه لا يخرُجَنَّ معنا أحد، إلا
أحدٌ حضَرَ يومَنا بالأمس.
ثم يُعقِّب بالقول: «وإنما خرَج رسول الله
ﷺ، مُرهبًا للعدو، وليبلِّغهم
أنه خرج في طلبهم، ليظنُّوا به قوَّة، وأن الذي أصابهم لم يُوهِنهم عن عدوِّهم.»
١٣
وعليه، فإنَّ قريشًا لم تستمتِع بنشوةِ نصرِها سوى ليلةٍ واحدة، أو بضعًا منها،
وخاب فألُها في هيبتِها، وسقطت آمالُها في تأمين طريق الإيلاف، فلم تمضِ شوطًا عن
المدينة، حتى خرَج المسلمون وهم بعدُ جرحى، بزعامة قائدهم المقتدِر، رغم ما أثقلَ
جسدَه الشريف من آلامٍ وجراح، إلى حمراء الأسد. ليُوهِم قريشًا أنه خرج لها
مُطاردًا، وأنَّ المسلمين لم يَهِنوا أو يتخاذَلوا ليسلُبَهم لذَّة نصر الأمس،
ونشوة عزِّهم الكاذِب، وليُثبتَ لهم أن ما حدَثَ بأُحد، كان أمرًا اعتراضيًّا في
مشوارٍ طويل سيطُول مداه، وأن النبي لن يتراجع عما انتواه. وبالفعل خرج المسلمون
إلى حمراء الأسد طاعةً لنبيهم رغم جراحِهم، «فمنهم من كان به تِسع جراحات، وهو
أُسيد بن حُضير رضي الله عنه، وعُقبة بن عامر رضي الله عنه، ومنهم من كان به عَشْر
جراحات وهو خراش بن الصمَّة رضي الله عنه، ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو
كعْب بن مالك رضي الله عنه، ومنهم من كان به بضْعٌ وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيد
الله … وخرج رسول الله
ﷺ وهو مجروح في وجهه من أثَر الحلقتَين، ومشجوج في
وجهه، ومكسورة رُباعيَّته، وشفته السُّفلى قد جُرحت من باطنها، وشفتُه العُليا قد
كُلِمت من باطنها، مُتوهِّن منكبه لضربة ابن قَمئة لعنه الله، وركبتاه مَجروحتان من
وقعته في الحفيرة.»
١٤
ثم نعلَم أن خُزاعة بمُشركيها، رغم هزيمة المسلمين، ظلَّتْ على عهدِها ليثرِب
وقائدها. وهنا يجِب ألَّا ننسى، أنَّ خُزاعة لم تنسَ أبدًا أن قريشًا سلبتْها
سيادتها على مكة وعلى البيت، وطردتْها من مكة بعد أن تحالفت مع مَن والاها من قبائل
العرب، بحيلةٍ احتال بها سلَف قريش «قصيُّ بن كلاب» على «أبي غبشان الخُزاعي»،
فاشترى منه مفتاح الكعبة بزقٍّ من الخمر وقَعود،
١٥ لذلك:
كانت خُزاعة مُسلمهم وكافرهم عيبة رسول
ﷺ بتِهامة، صفقتُهم معه لا
يُخفون عنه شيئًا كان بها. ومعبد بن أبي معبد الخُزاعي يومئذٍ مُشرك، مرَّ
برسول الله
ﷺ وهو مُقيم بحمراء الأسد، فقال: يا محمد؛ أما والله لقد
عزَّ علينا ما أصابكَ في أصحابك، ولودَدْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج من
عند رسول الله بحمراء الأسد، حتى لقِيَ أبا سفيان بن حربٍ ومن معه
بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه … فلمَّا رأى أبو
سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يَطلُبُكم
في جمعٍ لم أرَ مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرُّقًا، قد اجتمع معه من كان قد
تخلَّف عنه في يومكم، وندِموا على ما صنعوا، فيهم من الحنقِ عليكم ما لم
أرَ مِثله قط. قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحِل حتى ترى نواصي
الخَيل … فقال النبيُّ وهو بحمراء الأسد حين بلغَه أنهم همُّوا بالرجْعة،
والذي نفسي بيده، لقد سوِّمَتْ لهم حجارة، لو صُبِّحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.
١٦
وعليه، شدَّت قريش في طريق العودة سراعًا نحوَ مكة، وهي تظنُّ
يثرِب بجمعها قد خرجتْ وراءها تطلبُها، بينما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام في
طريق عودته من حمراء الأسد إلى يثرِب، بعد أن حقَّق غرض الإرهاب لقريش، ليبدأ
بالمرحلة الثالثة من عِلاج نتائج أُحد، بعد العلاج النفسي، والإرهاب العسكري. فقام
يضرِب بسرعةٍ وبقوة، كلَّ القوى المناوئة والمُضادَّة في يثرِب، وكلَّ من سوَّلتْ
له نفسه التشفِّي أو التهكُّم أو اهتِبال الفُرَص، وهو ما بدأه بإصدار الأمر بقتْل
«الحارث بن سويد بن الصامت»، الذي قتل «المُجذَّر بن زياد» في أُحد، ثأرًا لأبيه:
فأمر رسول الله
ﷺ، عويمر بن ساعدة بضرْب عُنقِه، فقال له: قدِّم
الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عُنقَه. وقيل أمرَ عثمان بن عفَّان
بذلك، «والمرجح أنَّ عثمان هو الذي قتلَه، رغم أنه كان من الهاربين»،
فقِدَم ليضرب عنُقه، فقال الحارث: لِمَ يا رسول الله؟ فقال: بقتلِكَ
المُجذَّر بن زياد … فقال الحارث: والله قتلتُه، وما كان قتلي إياه رجوعًا
عن الإسلام ولا ارتيابًا فيه، ولكن حمِيَّةً من الشيطان، وإني أتوب إلى
الله ورسوله ممَّا عمِلت، وأصوم شهرَين مُتتابِعَين، وأعتِقُ رقبة. فلم
يقبَل منه النبيُّ
ﷺ.
١٧
أما «ابن سلول» الذي عاد بثُلث جيش المسلمين من أُحد، مُتشكِّكًا
في النصر الموعود، والملائكة المُنزَّلة، فكان له شأنٌ آخَر، نقرؤه في رواية تقول:
كانت عادة عبد الله بن أُبيِّ بن سلول، إذا جلس النبي
ﷺ يوم
الجمعة على المنبر، قام فقال: أيُّها الناس، هذا رسول الله بين أظهُركم،
أكرَمَكم الله تعالى به وأعزَّكم، فانصُروه وعزِّرُوه، واسمَعوا له
وأطيعوا، ثُمَّ يجلِس.
ومثل ذلك القول المُعتاد من «ابن سلول»، يُشير إلى أمرِ الرجل
كسيِّدٍ من سادة المدينة، يُوجِّهُ نُصحَه وأمره لرجالِهِ وأتباعِهِ وحلفائه، بطاعة
النبي، كما يُشير لهم أنه بِخطابه قد بدأ هو بالطاعة للنبيِّ وعليهم اتِّباعُه، كما
أنَّ تلك المُقدِّمة الدَّورية منه كلَّ جُمعة. كانت تعني من جانبٍ آخَر، تنازُلًا
مُضطرًا للسيد الجديد، كما كانت تمسُّحًا به وتزلُّفًا لبقية المؤمنين، وهو يُعطيها
كما لو كان يُعطي برضاه، أو كمن تنازل عن السيادة وأمَرَ أتباعَهُ بالطاعة ولولاه
ما أطاعوا. إنها المُحاولة الدائبة من سيِّدٍ انحدر أمره يُريد التشبُّث بما بقيَ
له من ظلال السيادة، ولو على من بقِيَ له من أتباع، ليقوم مُمثلًا لهم مُعطيًا
بيعةً دوريَّةً للسيد الجديد. لكن بعد أحد، حدَث ما جاء في كُتب السِّيَر يقول:
فبعد أُحد، أراد أن يفعل ذلك، فلمَّا قام، أخذ المسلمون بثَوبِهِ من
نواحيه، وقالوا له: اجلس عدوَّ الله، واللهِ لستَ لذلك بأهل، وقد صنعتَ ما
صنعْت. فخرج وهو يتخطَّى رقاب الناس وهو يقول: كأنِّي إنما قلتُ هجرًا؟!
وقال له بعض الأنصار: ارجع يَستغفِر لك رسول الله، فقال: والله ما ابتغي أن
يَستغفِر لي، إن قمتُ إلَّا لأُشدِّد أمرَه.
١٨
وهكذا سقط ما كان قد تبقَّى لابن سلول من سيادةٍ وتشريف، كان يلتمِسُه عبر تقديم
سيِّد المدينة الجديد لأتباعه، وانحدَر أمره، وتضاءل حجمُه وأمعنَ بقيَّةُ الأنصار
مع المُهاجرين في تصغيره، حتى لا يكون فتنةً للمسلمين بعد الهزيمة، وحتى لا يكون ذا
أثرٍ محسوس لمُعارضةٍ حيَّةٍ أو نشِطة في الدولة الجديدة، زمن حرب ومعركة
دائبة.
(٣) المعارضون
ثُمَّ كان أن سلَّ الإسلام سيفَه على الرءوس الكبيرة داخل المدينة وخارجها،
إرهابًا وإنذارًا، لتعود القبائل إلى الانكماش ولا تجِد في أُحد فرصة للتطاوُل على
دولة المسلمين الطالِعة، وفي ذلك يُذكِّرنا «ابن حبيب» بمقتل الرأس اليهودي «كعب بن
الأشرف»، الذي هاله أمرُ قتلى المُشركين في بدْر وأفصح بالعداء للمُسلمين، لكن
ليُضيف إليه رأسًا آخَرَ تمَّ اجتثاثُه، فيقول: «وفي سنة ثلاث، بُعث محمد بن مُسلمة
وسلكان بن سلامة إلى كعْب بن الأشرف فقتلاه … وبُعث في النِّصف من رجب عبد الله بن
أنيس إلى سلام بن أبي الحَقيق اليهودي فقتله.»
١٩ ويُفصِّل لنا «ابن كثير» أمر اغتيال «أبي رافع/سلَّام بن أبي الحقيق»
بقوله: «وكانت الأوس قبل أُحد قد قتلت كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول الله
ﷺ في قتل سلَّام بن أبي الحَقيق وهو بخيبر، فأذن لهم، قال ابن إسحق:
فحدَّثَني محمد بن مُسلم الزُّهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان ممَّا صنع
الله لرسوله
ﷺ، أنَّ هذَين الحيَّين من الأنصار والأوس، كانا يتصاولان مع
رسول الله تصاوُل الفَحْلين، لا تصنَعُ الأوس شيئًا فيه غَناء عن رسول الله إلَّا
وقالت الخزرج والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله، فلا ينتهون حتى
يُوقِعوا مثلها، وإذا فعلَتِ الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك. ولمَّا أصابتِ الأوس
كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلًا علينا
أبدًا. قال: فتذاكروا من رجُلٍ لرسول الله في العداوة كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي
الحَقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله في قتلِه فأذِن لهم، فخرَج من الخزرج من
بني سلَمَة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس وأبو
قتادة الحارث بن رَبعي، وخُزاعي بن أسود حليف لهم، حتى إذا قدِموا خيبر أتَوا دار
ابن أبي الحَقيق ليلًا …» ثم يروي راويهم «فلمَّا دخلْنا عليه، أغلقْنا عليه وعلينا
الغُرفة، فابتدرْناه وهو على فِراشِه بأسيافنا، فوالله ما يَدلُّنا عليه في سواد
الليل إلَّا بياضُه، كأنه قبطيَّةٌ مُلقاة … وتحامَلَ عليه عبد الله بن أنيس
بسيفِهِ في بطنه حتى أنفَذَه وهو يقول: قطني قطني …» أما «ابن أنيس» فيؤكد
المَقتلةَ حتى الموت بقوله:
فوضعتُ السيف في بطنِه، ثم انكفأتُ عليه، حتى سمعتُ صوتَ العظْم.
وقال «الزهري»: قال «أبيُّ بن كعب»: فقدِموا على رسول الله
ﷺ وهو على
المنبر: فلمَّا رآهُم قال: أفلحَتِ الوجوه … فقال حسَّان بن ثابت في ذلك، يُعلِم
الحاضر والبادي أنَّ سيفَ الإسلام وإن تراجَعَ مهزومًا في أُحد، فلا زال قادرًا على
قطْع الرءوس:
لله درُّ عصابةٍ لاقيتَهُم
يا ابن الحقيقِ وأنت يا ابن الأشرفِ
يَسرُون بالبِيض الخِفاف إليكم
مرحًا كأُسدٍ في عرين مُغرفِ
حتى أتوكُم في محلِّ بلادكم
فسَقوكُمُ حتفًا بِبيضٍ ذُفَّفِ
مُستبشرين لنصر دين نبيهم
مُستصغِرين لكلِّ أمرٍ مُجحِفِ
٢٠
وإذ يُصرُّ «ابن حبيب» في كتابه المُحبَّر، على اغتيال أبي رافع سلَّام بن أبي
الحقيق، بعد أُحد مُباشرة، فإن رُواة السِّيرة في مواضِع مُختلفة يُحاولون تبرير
المَقتلة، فيقولون إنها حدثتْ فيما بعد، بعدَ وقعةِ الخندق. والسبب هو أنَّ «سلَّام
بن أبي الحقيق» كان أحد الذين حزَّبوا الأحزاب ضدَّ دولة الرسول وهو ما يُناقِضُ ما
جاء في شِعر «حسَّان بن ثابت»، عندما جمع بين مقتل «كعْب بن الأشرف» ومقتل «أبي
رافع سلَّام بن أبي الحقيق» في قصيدته التي تستعرِض قوة السيف الإسلامي. ومعلوم
أنَّ «ابن الأشرف» قد تمَّ قتلُه بعد أُحدٍ مُباشرةً لقولتِهِ التي قالَها. هذا
بينما نعلَم من «ابن سيد الناس» في مَغازيه «عيون الأثر»، أن «أبا رافع سلَّام بن
أبي الحقيق» قد قُتل بعد أُحد، وتم تسييد سيِّدٍ بعدَه على خيبر هو «أسير بن رزام»،
وذلك في قوله: «لمَّا قُتل أبو رافع سلَّام بن أبي الحقيق، أمَّرَت يهود عليهم
أسيرَ بن رزام، فسار في غطفان وغيرهم فجمعهم لرسول الله.» ومن ثَمَّ فإن من حزَّب
الأحزاب هنا هو «أسير بن رزام» وليس «أبا رافع»، لأنَّ أبا رافع كان قد قُتل بعدَ
أُحد، وقد تمَّ الخلْط بعد ذلك بين كليهما. إذ إنَّ «أسير بن رزام» هو الذي قُتل
بعد تحزيبه الأحزاب في سريَّةٍ إسلامية أخرى، سرَتْ إليه لتَقتُله بعد غزوة الأحزاب
أو الخندق كما سنرى.
٢١ بل إنه في رواية ابن هشام ما يؤكد قتْل «أبي رافع» بعد أُحد مباشرة، في
قوله السالف «وكانت الأوس قبل أُحد قد قتلَتْ كعب بن الأشرف، فاستأذن الخزرج رسول
الله في قتْل سلَّام بن أبي الحقيق.»
ثُمَّ انطلقَ سيف الإسلام داخل يثرِب يعمل لإسكات أيِّ لونٍ من ألوان الاستهانة
بالدولة، وهي الاستهانة والمُعارضة التي يُمكن أن تُشكِّلَ كارثة لدولةٍ عسكرية في
زمن حرْب. وهو ما نقرؤه في قصَّة اغتيال «أبي عفك/عمرو بن عوف»، ذلك الشيخ الذي
تخطَّى بعمره من الزمان قرنًا، فلم تبقَ لديه قُوى تُمكِّنه من إمساك دمعِهِ
واستمرار تجلُّده، وهو يرى مُسلمًا آخر هو «الحارث بن سُويد بن الصامت»، وهو يُذبَح
بباب المسجد النبوي وهو ابن «سُويد بن الصَّامِت» الذي عُرِف بين العرَب بالحِكمة،
وبأنه صاحِب صحيفة لُقمان التي وافق عليها الوحي القرآني. فانهمَرَ دمع «أبي عفك»
مُرسِلًا شعره نحيبًا باكيًا «الحارث» ابن صاحِب صحيفة لقمان. ورجل في عُمر «أبي
عفك» إن أرسلَ نُواحَه في الفيافي بين العُربان، الذين يُقدِّسون المُسنِّين،
ويعبدون الأسلاف ويَحنُون الهامة للمُعمِّرين، لا يترُكها إلا بقلوبٍ كليمة مَوجوعة
جزعة، وهو الشِّعر الباكي الذي جاءنا خبرٌ منه في رواية ابن إسحق عن «غزوة سالم بن
عُمير لقتل أبي عفك أحد بني عمرو بن عوف، ثم بني عبيدة، وكان قد نجَم نفاقُه حين
قتل رسول الله
ﷺ الحارث بن سُويد بن الصَّامت.» وإشارة ابن إسحق لنفاق الرجل
تُشير إلى أنه كان حتى قوله ذلك الشِّعر مُسلمًا، وما نافَقَ إلَّا بتلك البُكائية
التي تقول في طرفٍ منها:
لقد عشتُ دهرًا وما إن أرى
من الناس دارًا ولا مَجمعَا
أبرَّ عهودًا وأوفى لمنْ
يُعاقد فيهم إذا ما دعَا
من اولاد قَيلة في جمعهم
يهدُّ الجبالَ ولم يخضعَا
فصدَّعَهم راكبٌ جاءهُم
حلالٌ حرامٌ لشتَّى معَا
فلو أنَّ بالعزِّ صدَّقتُمُ
أو المُلك تابعتُم تُبَّعَا
فقال رسول الله: من لي بهذا الخبيث؟ فخرج إليه سالم بن عمير، أخو بني عمرو بن عوف
(أي أحد رجال عشيرته) فقتَلَه، وهو ما طربَتْ له «إمامة المزبرية» حتى قالت:
تُكذِّبُ دينَ الله والمرءَ أحمدَا
لعَمر الذي أمناك أنْ بئس ما يُمني
حباكَ حنيفٌ آخِر الليل طعنةً
أبا عَفَكٍ خُذها على كِبَر السِّنِّ
ولكن لمصرَع رجل مثل «الحارث»، ثم مَقتل رجل السِّنين والطوال والحِكمة «أبي عفك»،
كان لا بدَّ أن يُدوِّي الصدَّى ليُرجِّع الأمر ترجيعًا بين النفوس الجازِعة.
ولم تتمكَّن «عصماء بنت مروان» من الإمساك على إسلامها، فأرسلتْ عبراتِها شُجونًا،
تعُول وتبكي وتهجُو وتُحرِّض، ليَسري شِعرُها بين الناس مُرجِّعًا لوعتَها وهي
تقول:
باستِ بني مالكٍ والنبيتِ
وعوف، وباستِ بني الخزرجِ
أطعتُم أتاوى من غيركم
فلا من مُراد ولا مذحَجِ
تُرجُّونه بعد قتلِ الرءوس
كما يُرتجى مرقُ المُنضجِ
ألا أنف يُبتغى غيرُه
فيقطع من أمل المُرتجي؟
ومن ثم لا يجد «ابن هشام» من أمر عبراتها إلا نفاقًا، بقوله:
فلمَّا قُتل أبو عفك نافَقَت.
وهو النفاق الباكي الذي استحقَّتْ عليه ما جاء ذِكره «عند ابن
هشام» في قول النبي بين أصحابه هاتفًا:
ألا آخِذ لي من ابنةِ مروان؟
فسرى إليها ليلًا واحدٌ من بني عشيرتها، هو «عُمير بن عدي» فكلاهما من بني خطمة،
فأعمل سيفَهُ في أحشائها وهي مُستسلِمة لنومِها في فراشها، «ثم أصبح مع رسول الله
فقال: يا رسول الله إني قتلتُها. فقال: نصرْتَ الله ورسوله يا عُمير.»
أما النتيجة التي ترتَّبتْ على قتل عقيلة بني خطمة، فهي هرَعُ من لم يُسلم منهم
إلى إعلان إسلامه، «فذلك اليوم أول ما عزَّ الإسلام في دار بني خطمة … فأسلم، يوم
قُتلَت ابنةُ مروان، رجال من بني خطمة لِما رأوا من عزِّ الإسلام.»
٢٢
ويستمرُّ راوي السيرة «ابن هشام» في سرْد ما سقط من أحداثٍ في سيرة «ابن إسحق»،
ليُضيف إلى مقتل «أبي رافع» و«أبي عفك» و«عصماء بنت مروان»، عددًا من السَّرايا
لعلَّ أهمها سَرية «عبد الله بن أنيس» لقتْل سيَّدِ هُذَيل «خالد بن سُفيان
الهَّذْلي» وسَريَّة «زيد بن حارثة» إلى بني فزارة.
ويَروي «الطبري» قصَّة سرية «عبد الله بن أنيس» فيقول: إنَّ النبي عليه الصلاة
والسلام بعَثَ إلى «عبد الله بن أنيس» وقال له: «بلَغَني أن خالد بن سُفيان بن
نُبيح الهذلي يجمع لي الناس ليَغزو لي، وهو بنخلة — أو بعرنة — فأتِهِ فاقْتُله.»
وذهب «ابن أنيس» حتى التقى بالرجل، وأخذَه في مسيره شوطًا بعيدًا عن أصحابه وهو
يَحكي له عن رغبتِهِ في الالتحاق به، حتى وجَدَ منه فرصةً بعيدة عن الأعيُن فقتلَه،
وعاد إلى يثرِب ليَحكي لنا «فلمَّا قدمتُ على رسول الله وسلَّمتُ عليه ورآني قال:
أفلحَ الوجه.»
٢٣
أما سرية «زيد بن حارثة» إلى بني فزارة بوادي القرى، فكانت إلى «فاطمة بنت ربيعة»
المعروفة بأم قرفة، وكانت عجوزًا كبيرة تجاوزَتْ من عُمرها قرنًا، وكانت مُطاعة في
قومها، ذات مِنعةٍ وشرَف وسيادة، بلَغ صِيتُها كلَّ العُربان، وضرَبوا بِعزِّها
الأمثال، وبقِيَ من الأمثال التي تتعلَّق بأم قرفة مَثَلان على الأقل، وهُما
«أمنَعُ من أم قرفة»، و«لو كنتَ أعزَّ من أم قرفة ما زدت.»
٢٤ وهي كلُّها أسباب تكشِف عن ملامح غزوة «زيد بن حارثة» وغرضِها الذي
تمَّ بهبوطه عليها على غِرَّة، فأعملَ السيوف في الفزاريِّين، ثُم أسَرَ أم قرفة
وابنتَها هندًا. وبينما أبقى على «هند» سَبيَّة، فقد أمرَ بقتْل أم قرفة قتلًا
ذَكَر «ابن هشام» أنه كان عنيفًا.
٢٥ وهو ما جاء تفصيلُه في «الطبري» شارحًا: أنه تمَّ ربطُ رجليها بحبلَين،
ثم رُبِط الحبلان ببعيرَين مُتعاكِسَين، ثم ضُرِب البعيران فانطلقا، فشقَّاها شقًّا.
٢٦
وهكذا جاء مُسلسل الاغتيال والعُنف والتصفية الجسدية، لإعادة تثبيت هَيبة الدولة
التي ترنَّحَت في أُحد، ولإعلان الإصرار الذي لا يتزحزَح على استدامة الدولة
وسيادتها والحفاظ على مُستقبلِها، ولو مع التضحية بأرواحٍ كثيرة.
ومن ثَمَّ كان ضروريًّا أن تهدأ المدينة، بعد قبْر الأصوات المُعارضة، لكن بعد أن
أصَّلَت غزوة أحد الثَّارات بين اليَثاربة وبين المَكيِّين نارًا. كما تركتْ سَرايا
الاغتيال بدَورها أحقادًا ثأرية في نفوس قبائل قطَعَ السيفُ الإسلامي رءوس سادتِها
وأشرافها. وهو الأمر الذي ظلَّ قائمًا ومُحركًا لأحداثٍ سيتناولها الجُزء الثاني من
القِسم الثاني من هذا الكتاب.