طالوت ومحمد
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ.
(البقرة: ٢٤٧)
والمَثَل المضروب في الآيات هنا، عن أول ملكٍ لبَني إسرائيل، رفاق الحِلف الدِّفاعي
في جماعة
يثرِب التضامُنية، وهو الملك المعروف في العهد القديم من الكتاب المُقدَّس باسم «شاءول»،
والوارد في آيات القرآن الكريم باسم «طالوت»، وقد اختاره لهم في الآيات «نبيُّهم» غفلًا
من أيِّ تعريف، وهي المعرفة التي يُمكن الحصول عليها بالرُّجوع إلى الكتاب المُقدَّس،
حيث يلتقي
ذلك النبيُّ تمامًا ويتطابَقُ مع شخصية القاضي الكاهن «صموئيل». وفي سفرين باسم «صموئيل»
بالكتاب المُقدَّس، يُمكنك العثور على كثيرٍ من التفاصيل بهذا الشأن، حيث تعرَّض الإسرائيليُّون
— تحت حُكم نظام القضاة الكهنة، وهو نظام قبلي يجمع الحُكم الدُّنيوي مع الدِّيني — لعددٍ
من
الهزائم، أمام سُكَّان الساحل الفلسطيني، وكان مَرجِع تلك الهزائم كما هو واضح بتلك الأسفار،
نتيجةَ استمرار النظام القبلي، الذي شتَّت الولاء بين اثنتَي عشرة قبيلة «الأسباط»، وأوقف
تطوُّر المُجتمع القبلي الإسرائيلي نحوَ حكومةٍ مركزية واحدة قوية، وجعل جَيشها مجموعاتٍ
غير
مُنظَّمة ولا مُوحَّدة، تعود بولائها إلى مُتفرِّقات القبائل، التي رُبما تعود — أو لا
تعود — إلى
صِلاتٍ قرابيَّة بعيدة فيما بينها.
هذا بينما كان الفلسطينيُّون، سُكان الساحل، شعبًا مُستقرًّا، ورغم انقسامه بدَورِه
إلى
مجموعة دولٍ مدن، فإنَّ الولاء في الدولة المدينة كان للدولة المركزية، ومركزية المُلك
المُنظَّم. ومن هنا انتهى بنو إسرائيل إلى نتيجة مفادها: أن هزيمتهم تعود بشكلٍ مُباشرٍ
إلى
نظامهم الاجتماعي والسياسي، وبات مَطلوبًا صَهْر تلك القبائل تحت حُكم ملكٍ واحد، ومن
ثَمَّ
كانت مُطالبتُهم العاجِلة والعنيفة، لكاهِنِهم وقاضيهم وحاكمهم القبلي «صموئيل»، باختيار
ملكٍ
لهم جميعًا يُوحِّدهم في دولةٍ واحدة.
وخضع «صموئيل» لضَرورات الظروف، واختار لهم «شاءول» ملكًا، ليصهَر القبائل جميعًا
في
وحدةٍ واحدة، وشعبٍ واحد، بقيادة حكومةٍ واحدة، لها جيش واحد، وبالفعل — حسبما تُخبِرنا
رواية
التوراة — تمكَّن «شاءول» ومن تَبِعه من ملوك مُباشرين «داود وولده سليمان»، من صَهْر
تلك
القبائل المُتفرِّقة في كونفودرالية واحدة، وتمَّت مَرْكزة الحكم، التي انتهت بتفوُّقِهم
على
أصحاب الأرض، وإقامة الدولة المركزية.
١
والمثل المضروب في الآيات القرآنية، يطلُب من المُسلمين استدعاء الدلالات، لقراءة
واقِعٍ
مُماثل لقبائلَ مُتفرِّقة تحت حُكمٍ بدائي، مُمثَّلٍ في حكومة الملأ المكيَّة، التي لم
تتمكَّن من
مركزة الولاء، كنتيجةٍ حتميَّةٍ لتفرُّق التمثيل القبلي بين أعضاء الملأ، الذين كانوا
أثرياء
البُطون القرشية، والذين لم يُمثِّلوا الفئات المُوزَّعة بين القبائل تمثيلًا صادقًا،
والذين
— وهنا المُهمُّ — رفضوا الدَّعوة التوحيدية الطالِعة.
لكن الآيات وهي تَستدعي واقع مكة، لتُلحِقه بالتاريخ الإسرائيلي في المِثال المضروب،
ترحَل
بالتساؤل المكي القرشي من رجال الملأ، ليُصبح تساؤلًا من بني إسرائيل لصموئيل: «أنى يكون
له الملك علينا؟» وهو التساؤل الاستنكاري الذي يحمِل معانيَ جديدة، ومواصفات جديدة، يجِب
أن يتَّصِف بها السيد الزعيم، وهي المعاني والصِّفات التي حمَلَتْها رِياح التَّغيُّر
الاقتصادي إلى
مكة، مع الثراء الفاحِش الذي أصاب البعض دُون الآخر، وبدأ يفعل فِعله في تفجير الأُطُر
القبلية القديمة، ولم تَعُد مواصفات الزعيم كما كانت في الماضي العشائري، من حِكمةٍ تؤهله
كي يكون رأسًا للقبيلة، أو حِنكة، أو شجاعة أحيانًا أخرى حسب ظروف القبيلة إنْ سِلمًا
أو
حربًا، بل تحوَّل الأمر بعد تشكُّل الطبقة الأرستقراطية المُتميِّزة، وتغيُّر المِعيار،
وتبدُّل
أساليب القياس، وهو ما عبَّر عنه استِطراد الآيات «أنى يكون له الملك علينا، ونحن أحقُّ
بالملك منه؟» وهي الأحقيَّة التي يأتي مِعيارها القياسي واضحًا في الإلحاق التوضيحي «ولم
يُؤتَ سَعةً من المال؟»
نعم، رُبما كان النبي
ﷺ قد حاز قدْرًا من المال، تَوفَّر له بعد زَواجِه من
أمِّ المؤمنين خديجة بنت خُويلد رضِيَ الله عنها، لكن ذلك القَدْر من المال ما كان ليسمح
له
— في نظر الملأ ومعاييرهم — بما يدعو إليه، ولا يَفي له بما يُؤهِّله لدخول حكومة الملأ
الأرستقراطية، فما بالُنا وهم يتصوَّرونه يسعى للإمساك بأعِنَّة السُّلطة جميعًا بيديه؟
حيث
المِعيار لم يَعُد مُجرَّد حصولِ فردٍ على بعض المال، حتى يذهب به الطُّموح — كما تَصوَّروا
— إلى
الجموح، فالمُؤهَّل المطلوب قد أصبح «سَعةً من المال».
ومن ثم؛ كانت قراءة الواقع تُشير إلى سَير التطور إلى نتائجه المُحتَّمة والضرورية، والتي
ستُشكِّل في المستقبل المنظور منظومة سياسية مركزية موحدة، تحت قيادة زعيم أوحد. ولم
يكن
ثَمَّة توضيح يُمكن تقديمه لمفاهيم الأرستقراطية القرشية، ولا للمسلمين الأوائل وهم مادة
الدولة الطالعة، سوى إلقاء الحالي في مرآةِ الماضي. لكن الآيات هنا — وهي تُطابِق واقع
جزيرة العرب — تختلف عن رواية التوراة، وهي تُطابق واقِع فلسطين القديم؛ فبينما التوراة
تَحكي عن مُطالَبة الشعب الإسرائيلي نفْسِه للكاهن «صموئيل» بمَلِكٍ يُوحِّدهم ويقود
جيوشهم، فإنَّ
الآيات الكريمة تؤكِّد أنَّ ذلك الملك جاء باصطفاءٍ إلهي، وهو ما يَستدعي على الفور اصطفاء
المصطفى
ﷺ، لكن لتفرِضَ ذلك المَلِك على بني إسرائيل — في الآيات
القرآنية — فرضًا بقرارٍ إلهي، وهو الأمر الذي يُطابق واقِع الحال المكِّي مع الدعوة
الإسلامية، ويُخالف ما جاء في التوراة عن حال التاريخ الإسرائيلي القديم؛ ومن هنا يَتمُّ
تعشيق الماضي مع الحاضر في المِثال المضروب بقرارٍ علوي: إِنَّ اللهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ.
(١) ضرْب طريق الإيلاف
وبينما كان قمْح يثرب يُقطَع عن مكة،
٢ وبينما سَرايا المسلمين تَجُوب طريق الإيلاف التجاري لقطعِهِ على مكة،
وبينما الخَبَر عن قافلة أبي سفيان المُسافرة إلى الشام، يَطير إلى النبي
ﷺ في
يثرِب، كان الوَحيُ يَسترسِل شارحًا لوضع الحاضر مُقارنًا بما حدَث في الماضي، ليُحفِّز
هِمَم
المُسلِمين، فيحكي لهم عن «شاءول-طالوت»، بعد أن استقرَّ له أمر الملك، وبدأ حملاته على
مُدن الساحل الفلسطيني،
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ … قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنُودِهِ … جالوت هنا هو «جوليات» الزعيم الفلسطيني في رواية التوراة، لكن رواية
التوراة تختلِف مرة أخرى عن رواية القرآن الكريم حيث كان ائتلاف القبائل
الإسرائيلية في مَملكةٍ واحدة، تَشكيلًا هائلًا، وتجييشًا لعدَدٍ ضخم من المُقاتِلين،
ومن
ثَمَّ يكون تَطابُق الآيات ليس مع التاريخ التوراتي كما تَرويه التوراة، لكن مع واقِع
المسلمين والمُشركين؛ حيث المُشركون هم الأكثرية، والمؤمنون هُمُ الأقلية، لكن الحضور
الإلهي إلى جانب الحقِّ كان كفيلًا بحسم الموقِف، فالآياتُ تَستطرِد:
قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (البقرة: ٢٤٩).
وإعمالًا لذلك وحتى تتطابَق الروايتان، ويتطابَقَ الواقِعان، ونُبوَّة الحاضر المُنتصِر
بإذن الله، بمُلك الماضي، يَحكي «أبو أيوب الأنصاري» عندما خرجوا إلى بدر «فإذا نحن
ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشَرَ رَجُلًا، فأخبَرْنا النبي
ﷺ بعدَّتِنا، فسُرَّ بذلك
وحمد الله، وقال: «عدَّة أصحاب طالوت».»
٣
وتحكي كتُب السيرة أنَّ النبي — عليه الصلاة والسلام — خرَج يُريد عِير قُريش المُسافرة
إلى
الشام، ولمَّا بلَغَ الموقع الذي تمَّت حسابات الوصول إليه من يثرِب، تقاطعًا مع الحسابات
المُتوقَّعة لزمن وصول قافلة أبي سفيان إليه من مكة، وهو «العشيرة»، اكتشف المسلمون
خطأ الحسابات؛ فالحسابات كانت إنسانية صرفًا، تقبل خطأ الإنسان وصوابه، ووجدوا أبا
سفيان قد سبَقَهم بعدَّة أيام، وعليه تحوَّل الموقف إلى مُحاولة تعويض ما فات، بالعودة
إلى
يثرِب، وتربُّص موعِدِ عودة القافلة قافِلةً من الشام.
٤
ولم يَطُلِ انتظارُ المُترقِّبين، فيُخبرنا «ابن هشام» أن أمر القافلة قد بلغ مسامع
النبي
ﷺ، «ولما سمِع النبيُّ بأبي سفيان مُقبلًا من الشام، ندَب المُسلمين
إليه، وقال: هذه عِير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلَّ الله يُنفِلُكُموها. فانتدبَ
الناس، فخفَّ بعضهم، وثَقُل بعضهم.»
٥
وكان الردُّ على تثاقُل بعض المسلمين عن الخروج إلى أموال قريش، عَودة أخرى للقديم،
تذكيرًا، وتنبيهًا، وتحفيزًا، بذاتِ المَثَل الإسرائيلي:
ألم تَرَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى؟
إذ قالوا لنبيٍّ لهم:
ابعَثْ لنا مَلِكًا نقاتلْ في سبيل الله.
(البقرة: ٢٤٦).
وهنا جماعة إسرائيل لا تعترِض على اختيار الملك لعدَم سَعتِهِ من المال، بل هي تطلُبه،
فتتطابَق هنا الرِّوايتان القرآنية والتَّوراتية، لكن الحِكمة تنزِع الماضي من سياقه
لرسْم
صورةِ الحاضر وإتمام صياغة الرسالة، المطلوب من المُسلمين إدراكها، وفهم
دلالاتها:
قال: هل عسَيتُم إن كُتب عليكم القتال
ألا تقاتلوا؟
قالوا: وما لنا ألا نُقاتل في سبيل الله
(البقرة: ٢٤٦).
نعم، القتال في سبيل الله، وهو قتال — في التاريخ التَّوراتي القديم — لهزيمة سُكَّان
الساحل الفلسطيني، وهي الآيات التي تستدعي القديم لحاضِرِ يثرِب، تأجيجًا لنَوازع
نفسيةٍ في المُهاجرين تحديدًا، فتقول:
قالوا: وما لنا ألَّا نُقاتل في سبيل الله
وقد أُخرِجنا من دِيارنا وأبنائنا؟!
(البقرة: ٢٤٦).
إنَّ التوراة لا تقول بخروج بني إسرائيل من دِيارهم وأبنائهم حينذاك، بل كانوا — حسب
رُوايتها — مُهاجمين لا مُدافِعين، مُحتلِّين وغاصِبين، وهذه رُوايتها، وإثمها مَردود
عليها في
المُخالَفة، لكن ما نعلمه يَقينًا، أنَّ الذين أُخرجوا من دِيارهم مُهاجِرين، وتركوا
أبناءهم واللَّوعة من أهل مكة تعتَمِل في نفوسهم، هُم المُسلمون المهاجرون إلى يثرِب،
وبالطبع كان لا بُدَّ أن تفعل تلك الآيات في نفُوسِهم فِعلها وأثَرَها.
(٢) هيبة الملأ
يروي «الطبري» خبَرَ قافلة «أبي سفيان» فيقول:
وكان أبو سفيان حين دنا من الحِجاز يتحسَّس الأخبار … حتى أصاب خبرًا عن بعض الرُّكبان،
أنَّ محمدًا قد استنفَرَ أصحابه لك ولِعِيرك … فاسْتأجَرَ ضمضم بن عمرو الغفاري فبعَثَهُ
إلى
مكة، وأمرَهُ أن يأتي قُريشًا يَستنفِرُهم إلى أموالهم، ويُخبرهم أنَّ محمدًا قد عرَض
لها في
أصحابه، فخرَج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة.
٦
وهكذا حقب الأمر، وبدأت بدايات أفول الأمْنِ القُرشي على طريق الإيلاف الشامي،
فالقافلة الآمِنة، المطمئنة بالإيلاف، تُضطرُّ — في سابقةٍ خطيرة — إلى استِنفار أهل
مكة،
من أصحاب المال. وبينما كانت الأحوال في مكة على وَتيرتِها الرتيبة وهدوئها، وقبل
وصول ضمضم الغفاري، ألقَتْ «عاتكة بنت عبد المُطَّلب» عمَّة النبي، وسليلة البيت الهاشمي،
بما حرَّك ذلك السكون الراكد المُطمئن، برواية عن رُؤيا رأتْها، حمَلَها أخوها «العباس
بن
عبد المطلب» إلى مجلس الملأ، تقول فيها:
والله لقد رأيتُ الليلة رُؤيا أفظعَتْني؛ رأيتُ راكبًا أقبل على بِعيرٍ له حتى وقَفَ
بالأبطح، ثم صرَخَ بأعلى صوته: ألا انفِروا يا آل غَدْرٍ لمَصارعكم في ثلاث، فأرى الناس
اجتمعوا إليه، ثُمَّ دخل المسجد والناس يَتَّبِعونه. فبينما هُمْ حوله، مثَل به بعيره
على ظهْر
الكعبة، ثُم صرَخ بمثلها: ألا انفِروا يا آل غدْرٍ لمَصارِعكم في ثلاث، ثُمَّ مَثَل به
بَعيره
على رأس أبي قُبيس فصرَخ بمِثلها، ثم أخذ صخرةً فأرسلها فأقبَلَتْ تَهوي، حتى إذا كانت
بأسفل الجبل ارفضَّت، فما بقي بيتٌ من بيوت مكة ولا دار، إلَّا دخلَتْها منها
فلقة.
وبلَغَت الرواية أبا الحكم بن هشام، وربما ذهب إلى تصوُّر ترتيبٍ بعَينه بين عاتكة
وابن
أخيها في يثرِب، وذلك في ضوء إيمان عرَب زمانه بالرُّؤيا وذَهابهم في تفسيرها التنبُّؤي
مذاهبَ وقراءاتٍ وعيافةً وفألًا. ثُمَّ لا جِدال أنه عندما تتحدَّث هاشمية عن قوم بأنهم
«آل
غدر»، فإنَّها تقصد لا شكَّ البيت الأموي المُعادي، فكان أنْ قام يُخاطب «العباس» بشأن
رؤيا شقيقته، قائلًا:
يا بني عبد المطلب، متى حدَثَت فيكم تِلك النَّبيَّة؟ … أما رَضيتُم أن يتنبَّأ رِجالُكم،
حتى
تتنبَّأ نساؤكم؟ — أو أمَا رَضِيتم يا بني هاشم بِكَذِب الرِّجال، حتى جِئتُمونا بكَذِب
النساء — قد
زعمت عاتِكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربَّص بكم هذه الثلاث، فإن يكُ
حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تَمضِ الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتُب عليكم كتابًا،
أنكم أكذَبُ أهل بيتٍ في العرَب.
٧
وبينما لم تكن تَموُّجات رواية عاتِكة قد سكنَتْ بعد، على سطح الاستكانة القُرشية
المُترَفة الآمنة، وصل «ضمضم الغفاري» بعد الأيام الثلاثة وهو يَصرُخ ببطن الوادي،
واقفًا على بَعيرٍ له، وقد حوَّل رَحْلَه، وشَقَّ قميصه، وهو يقول:
يا معشر قريش، اللَّطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في
أصحابه، لا أرى أن تُدركوها؟ الغوث، الغوث.
٨
وحدَث بعدَها ما جاء في رُواية البيهقي: «فتجهَّز الناس سراعًا، وقالوا: «أيظنُّ
محمد
وأصحابه أن تكون كعِير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمَنَّ غير ذلك».»
٩
ثُمَّ يُفيدنا أنَّ «أبا سفيان» تمكن من النجاة بالقافلة، بسلوك دَربٍ آخَرَ بقوله:
«وخفض
أبو سفيان فلَصَق بساحل البحر، وخاف الرَّصد، وكتب إلى قُريش حين خالَفَ مَسير رسول الله
ﷺ، ورأى أنه أحرَزَ ما معه، وأمَرَهم أن يرجعوا.»
١٠ أو بتفصيل «الطبري»: «إنكم إنما خرَجْتُم لتمنعوا عِيركم ورجالكم وأموالكم،
فقد نجَّاها الله، فارجعوا.»
١١
لكن «أبا الحكم» (أبا جهل) الذي أدرك — كواحدٍ من رجال الملأ المُقدَّمين — أنَّ
تهديد
طريق الإيلاف، إنما يَعني تَهاوي الهَيْبة القُرشية، مِمَّا قد يدفع القبائل الأخرى إلى
ذات
المُحاولة، وتَهون قُريش بين العُربان، وتضيع المصالح والمكاسب، ثُمَّ ما يَسْتتبِع ذلك
من
فقد قُريش لثقة الإمبراطوريَّتَين الرومانية والفارسية، في القيام على شأن المواد
المطلوبة في مَواقِيتها، في زَمنِ حربٍ حَرِج، يكون فيه أيُّ تأخير عاملًا مؤثرًا وفاعلًا
في
الانتصارات والهزائم. وهو ما قد يدفع إحدى الإمبراطورِيَّتَين إلى ركوب مُغامرة تأمين
الطريق باحتلاله، ورُبما احتلال مكَّة ذاتها، وهو ما يُمكِن أن ينقُل الصراع الإمبراطوري
إلى باطِنِ الجزيرة. فما كان من أبي الحَكَم إلَّا أن نادى بعدَم عودة الرجال إلى مكة،
ودعاهم إلى استعراض هَيْبَتهم أمام القبائل، باحتفالٍ كبير، اختار له أحدَ أسواق العرب
الكبرى، في موقع وادي بدر، حيث الماء والخضرة، لإبلاغ العرَب بدلالاتِ الاحتفال، وأن
قريشًا لم تزلْ قادِرةً على تأمين طريقها، وأنه لم يحدُث شيء يُعكِّر صفو الأمان السائد.
ومن هنا قام يُنادي:
والله لا نَرجِع حتى نَرِد بدرًا … فنُقيم عليه ثلاثًا، ونَنحَرُ الجزور، ونطعم الطعام،
ونسقي الخمور، وتَعزِف علينا القِيان، وتَسمَعُ بنا العرَب، فلا يزالوا يَهابُونَنا بعدها
أبدًا.
١٢
أو برواية أخرى:
والله لا نرجِعُ حتى نَقدُم بدرًا، فنُقيم بها، ونُطعم من حضَرَنا من العرب، فإن لن يَرانا
أحدٌ من العرَب فيُقاتلنا.
١٣
وهكذا عاد الرَّكب مُوجِّهًا نحو بدر ليُقيم سَمَرَه الاحتفالي لليالٍ ثلاث، و«كانوا
خمسين
وتسعمائة، وقيل كانوا ألفًا، وقادوا مائةَ فرَس … معهم القِيان … يضربْنَ بالدُّفوف ويُغنِّين».
١٤
(٣) ضعف الهيبة
وهناك أحداث صغيرة لا تُخطئها العين المُدقِّقة، لعِبت — بعد ذلك — دورًا في حسم
الأحداث، ربما كان أولاها بالمُلاحظة، هو قرار بني زهرة الرُّجوع جميعًا إلى مكة، بعد
أن تأكد لدَيهم سلامة القافلة ومُرافِقيها، فلم يخرُج إلى بدرٍ زهريٌّ واحد.
١٥ ومعلوم أنَّ بني زهرة هم أهل «آمِنة بنت وَهْب» أخوال النبي — عليه الصلاة
والسلام.
والأمر الثاني؛ هو أنَّ بني هاشم عشيرة النبي، تثاقَلوا عن الخروج، وجرَتْ بينهم
وبين
الأُمَويِّين مُجادلة، أرادوا معها الرُّجوع إلى مكة، «فاشتدَّ عليهم أبو جهل بن هشام
وقال:
والله لا تُفارِقنا هذه العصابة حتى نرجِع.»
١٦ ومن ثم كان طبيعيًّا أن تلتفِت إليهم الرءوس الأُموية لتقول
مُحذِّرة:
يا بني هاشم، وإن خرجتُم معنا، فإنَّ هواكم مع محمد!
١٧
ويضاف إلى ذلك أنَّ بعض كبار الملأ، مثل «أمية بن خلف»، قرَّر القُعود وعدَم الخروج،
وهو من تصِفه كتُب التراث الإسلامية بأنه «كان شيخًا جليلًا جسيمًا وثقيلًا.»
١٨ الذي أراد تجنُّب المَشقَّة وهو في هذه السنِّ وذاك الجسم الثقيل، لولا أن
أتاه «عقبة بن أبي معيط» وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومِه، بمجمرةٍ فيها نار
ومَجمَر، حتى وضعها بين يدَيه ثم قال:
يا أبا علي استجمِر، فإنما أنت من النِّساء. فقال: قبَّحك الله وقبَّح ما جئتَ به. ثُمَّ
تجهَّزَ فخرَج مع الناس.
١٩
ثم أمرٌ آخر يُضاف لتلك الأحداث التي تبدو صغيرة هيِّنة، تُظهِر ضَعف تلك الهيبة
القرشية
المزعومة، ومدى تردُّد قريش في الخروج — لمُجرَّد الاحتفال — خشيةَ أن يغشاهُم بعض بني
كنانة
وهم لاهون، لما كان بينَهم وبين بني بكرٍ «بيت كناني» من ثأر. ولم يحسم ذلك التردُّد
سوى مَجيء «سُراقة بن مالك» أحد أشراف كنانة للرَّكْب المكي قائلًا: «أنا لكم جارٌ من
أن
تأتيكم كنانة من خلفِكم بشيءٍ تكرهونه.» لكنَّ الرؤية الراوية لتُراثنا الإسلامي، تنزِع
ذلك عن شخص «سُراقة» وتقول: إنه إبليس قد تلبَّس هيئة سُراقة.
٢٠ ولمزيدٍ من الاطمئنان، خرج معهم «سُراقة» ضيفًا على حفلِهم، مع وعدٍ بمجيء
كنانة جميعًا إلى الحفل ضيوفًا وحُلفاء، لكن ما حدَث عند وقوع الوقعة، هو هرَبُ «سُراقة»
من بين قُريش عائدًا إلى دِياره، وهو ما لم يجِد له أبو الحكم تفسيرًا مُقنعًا، سوى
أنها كانت الحِيلة والخديعة من بني بكر، لاستدراج قُريش إلى بدْر، في ضوء الخلاف
الثأري مع ذلك البيت الكناني، وهو ما عبَّر عنه لسانه وهو يقول:
يا معشر الناس؛ لا يَهولَنَّكم خِذلان سُراقة بن مالك؛ فإنه كان على مِيعاد مع محمد.
٢١
ومثل تلك الأحداث التي أوردَتْها كتب التراث على سُرعة وعُجالة، تُفصِح عن عددِ قُريش
بعد
انخزال بني زهرة عنها بثُلث الناس، وعن ذلك الاحتفال المَهيب، الذي كان يحمِل داخل
مَهابتِه ضعفًا وخوفًا، ثم عدَم تجانُس الفريق المكي، والذي سبَبُه إصرار أبي الحكم على
اصطحاب الهاشميِّين، ليتشفَّى فيهم لفشَل ولدِهِم في الاستيلاء على قافلة أبي سفيان،
وربما
لو علِم بما غَيَّبته له الأيام المُقبلة، لتركَهم بمكة غيرَ آسِف. هذا إضافة للتَّثاقُل
الواضح الذي ألمَّ بالركب بأكمله، والذي كان لا يَجِد في ذلك الخروج إلَّا عبئًا في بَرْد
يَناير وقارس شِتائه، وهو ما يُشير إليه عزْم كِبار الملأ على القعود، ثُمَّ الخوف القُرشي
من بيتٍ كنانيٍّ واحد، لولا إجارة سُراقة، أو إبليس، مِمَّا يرسُم صورةً واضحة للحال
المُتشرذِم المُتردِّد، غير المُتجانِس أو المُؤتلِف، للرَّكْب المكي.
ويبدو أن ثَمَّة أخبارًا غير قاطعة، قد وصلَتِ الركب المكي، عن تحرُّك المسلمين نحو
بدر،
ممَّا حوَّل أملَهم في سمَرٍ طروب، إلى فزعٍ بدَّد فرحَهم، وكانت العودة مستحيلة، بل
وكارثة
لتلك الهَيبة المزعومة. وعندما مرَّ الركب على مضارِب «غِفار» أرسل لهم زعيم غِفار ولَدَه
بجزائر أهداها لهم طعامًا، مع رسالة تقول: «إن أحبَبْتُم أن نَمُدَّكم بسلاحٍ ورجال فَعَلْنا.»
فأرَسَلُوا إليه مع ابنه:
إن وصلتك رحم، قد قضَيْتَ الذي عليك، فلعمري لئن كُنَّا نُقاتل الناس، فما بنا من ضعفٍ
عنهم، ولئن كُنَّا نقاتل الله كما يزعُم محمد، فما لأحدٍ بالله من طاقة.
٢٢
هذا بينما كان «جهيم بن الصَّلت» سليل عبد المُطلِّب الهاشمي، يروي لهم وهم يُنيخُون
بالجحفة رؤيا جديدة، فيقول: «إني رأيتُ فيما يرى النائم … إذ نظرتُ إلى رجلٍ أقبلَ على
فرس، حتى وقفَ مع بعيرٍ له، ثُمَّ قال: قُتِل عتبة بن ربيعة، وشَيبةُ بنُ ربيعة، وأبو
الحَكَم
بن هشام، وأُمَيَّة بن خَلَف، وفُلان، وفلان.» فما كان من «أبي الحكم» إلَّا أن قام يُخفِّف
عن
الناس الأثرَ النفسي للرواية، في وسطٍ عربي ثقافي عادةً ما كان يُصدِّق الرؤيا، بقوله
الساخر المُتحدِّي:
وهذا نَبيٌّ آخر من بني عبد المُطَّلِب سيعلم غدًا من المَقتول إن نحن التَقَيْنا.
٢٣
وما كان تعبير أبي الحكم «إن نحن التقينا» إلا شكًّا في الأخبار التي وصَلَت عن
النبي وأصحابه، وعدَم يقين بوقوع الوَقْعة المُرتَقَبة.