وهكذا، تحوَّل اتِّفاق الأنصار مع النبيِّ في العقبة الثانية إلى غايتِهِ المُضمَرة،
وأدرك
الأنصار أنه قد آنَ أوانُ الإفصاح عن كامل بنود ذلك الحِلف، التي وَعَوها مُبكرًا في
قولهم
للنبي آنداك: «إن شئتَ لنَميلَنَّ غدًا على أهل مِنى بأسيافنا.» فأجَّلَ النبيُّ الإمالة
بالسيف
إلى فيما بَعد، وقد جاء أوانُ المابَعدُ. الذي طوَّر البنود المُعلنة، من مِيثاق دفاعي
لتُسفِر
عن البند المُرْجأ الذي يجعل المِيثاق حلفًا هجوميًّا مُحاربًا، فتحوَّلت عناصر الجماعة
الإسلامية كلها، مُهاجرين وأنصارًا، إلى دولةٍ مُحارِبة هجومية، دولة عسكر ومَغانم مُتكامِلة،
مقاتلة كالقبيلة تمامًا، وبذات منطِقها، لكن بعدَ أن تحوَّل الولاء عن القبيلة وسلفِها
المعبود إلى الدولة مُمثَّلة في الله ورسوله، وإلى المصالِح المادية المُباشرة الجامعة
لأعضاء الدولة مُمثَّلة في المغانم. وجاء دَور رجال الحرب والدَّم والحلقة، الذين تحوَّلوا
عن
الإجارة إلى الإغارة.
وهنا نقطة التحوُّل المادية الخطيرة، التي لعِبَت دورًا عظيمًا في جذب الأتباع من
مُستضعفي
القبائل ومُحاربيهم، بعد أن ظلَّ النبيُّ في مكةَ ثلاثة عشر عامًا يدعو دون إجابة العدد
الكافي من المُستضعَفين إلى دعوته، حيث كانت الدعوة تؤجل الوعد بالنعمة والرفاه إلى الآجِل
في رغدِ جنَّة الخُلد، وهو ما ظهَر كما لو كان تأجيلًا ميتافيزيقيًّا لحلِّ قضيَّتهم،
وإرجاء رفْع
الشَّقاء المادي عن حياتهم الآنِية، في مُجتمع تجاري مادي بحْت؛ ولهذا عندما تمَّ الإعلان
عن
مغانِم أحلَّها الله لرسوله والمؤمنين من أموال المُشركين، أصبحَ الحلُّ حقيقةً مادية
دُنيوية
مَلموسة، ومكاسِبَ عينيَّةً ماثِلة أمام المُستضعفين، تدعوهم إلى دخول جيش الدولة الجديدة،
وهو
الهدَف الذي سيُفصِح عن نفسه عمليًّا في المكاسب التي ستحقِّقُها الغزوة البدْرية لجماعة
المُسلمين، لتُحوِّل حالهم الشظف إلى حالٍ آخَر، وفي تَحالُف القبائل المُحيطة بالمدينة
مع القوة
الإسلامية.
(١) خطَّة المعركة
مع التجوال المُتأني بين دفَّتي كتابات السِّيَر والأخبار الإسلامية، يجِد القارئ
نفسه
مع النبي
ﷺ، إزاء قائدٍ عسكري، يبدأ بضمان ولاء رِجاله، ثُمَّ يُخطط
للمعركة، فيُرسِل العُيون لتأخُذ له بالأخبار عن عدوِّه، فيعلم بتمكُّن القافِلة من الهرَب،
وبخروج قُريش إلى بدْر لتحتفِل بنجاةِ تجارتها، ونشْر مَهابتِها بين العرَب، وأن العِير
وإن
ذهبَتْ فقد جاءت قُريش، وهي إحدى الطائفتَين المَوعُودتَين، فيخرُج القائد برجاله من
موضعٍ
إلى آخَرَ مُسرعًا، يختَصِر طرقًا ويضرِب في أخرى،
٤ عامدًا إلى التخفِّي وسَتْر أمر مَسيره وعدَم إفشاء خَطوِه، فيأمُر بقطْع الأجراس
من أعناق الإبل،
٥ والسَّير الصامت.
ثُمَّ يُقسِّم النبي
ﷺ رجاله إلى ألْوِية، لكلِّ لواءٍ رايتُه التي يعرفُه
بها أصحابه، فيحمِل لواء المُهاجرين «علي بن أبي طالب»، ويحمِل لواء الخزرج «الحُباب
بن
المُنذر»، بينما يحمِل لواء الأوس «سعد بن مُعاذ».
٦ ويجعل لرجاله شعارات شَفْريَّة يَعرِفون بها بعضهم بعضًا، وهُم تحت الدُّروع
والخُوذ، فكان شِعار الخزرج يا بني عبد الله، وشعار الأوس يا بني عُبيد الله، وشعار
المُهاجرين يا بني عبد الرحمن، أما شعار الجميع فهو: يا منصور أمِت، أما الخيل
جميعًا فكانت خَيل الله.
٧
وعند التعبئة تقرَّر أن يُحارب المسلمون بنظام الصفوف المُتحركة، من «النبَّالة»
حمَلَة
النِّبال، و«السيَّافة» حمَلَة السيوف … إلخ. وفي ذلك يقول ابن كثير، «وقد صفَّ رسول
الله
ﷺ أصحابه، وعبَّأهم أحسنَ تعبئة. وعن أبي أيوب يقول: صفَّنا رسول
الله يومَ بدر، فبدَرَتْ منِّي بادِرة أمام الصف، فنظر إليهم وقال: معي معي … وكان في
يدِه
قدَحٌ يُعدِّل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزيَّة وهو مُستنتِل «مُتقدِّم» من الصف، فطعَنَ
في بطنِهِ
بالقدَح وقال: استوِ يا سواد.»
٨
ولم يترُك القائد شيئًا للصُّدفة، فأي خطأ — مع الفارق العدَدي — يمكن أن يؤدِّي إلى
كارثة، ومن ثَمَّ، وقبل أن يصِل بدرًا، أمرَ رجاله فتوقَّفوا صامِتِين، ثم ركِبَ ومعه
أبو بكر
ليتسقَّط بنفسه أخبار عدُوِّه.
حتى وقف على شيخ من العرَب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، ما بلَغَهُ عنهم، فقال
الشيخ: لا أخبركما حتى تُخبراني ممَّن أنتُما؟ فقال رسول الله
ﷺ: إذا أخبرْتَنا
أخبرْناك. قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم. قال الشيخ: فإنه بلغَني أنَّ محمدًا وأصحابه خرَجوا
يوم كذا وكذا، فإذا كان الذي أخبَرَني صدَقَني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا. المكان الذي
به رجال رسول الله
ﷺ، وبلَغَني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي
أخبرَني صدَقَني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا. للمكان الذي فيه قريش. فلمَّا فرَغَ من خبره
قال: مِمَّن أنتما؟
فقال رسول الله
ﷺ: نحن من ماء.
وفي «الإمتاع» أنَّهُ قال: «نحن من ماءٍ وأشار بيدِه إلى العراق.» ثُمَّ يتَّفِق
رواةُ السيرة
على ردِّ الشيخ المُندهِش على نفسه — وهو يُغمغِم: «ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!»
٩
وينزعِج «الحلبي» راوي السيرة من ردِّ النبي
ﷺ، ولا يُدرك الحذَر
المُفترَض في قائدٍ عسكري مُقبلٍ على معركة، ولا يرى في ذلك القائد سوى الجانِبِ النبوي
المُتعالي، وأن للنُّبوَّة صفاتٍ تتناقَض مع ردِّ الرسول على الأعرابي، فيقول في تساؤلٍ
استنكاري، أو في استنكارٍ مُتسائل:
وقد تقدَّم في أوائل الهجرة، أنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكذِب، ولو صورة، ومنه
التورية.
ومن ثمَّ يبحث الحلبيُّ عمَّا يُطمئِنُ قلبه، فيكتشِفُ أنه لا بأس من كَذِب النبي،
ليس لضروراتٍ
يقتضيها الظرف الموضوعي، ولكن لأنه وَجَد في كلام القاضي البيضاوي حديثًا عن النبي
ﷺ، أنَّ النبيَّ إبراهيم سبَقَ وكذب ثلاثَ كذبات،
١٠ ويقصِد الحلبي هنا الحديث: «كذب إبراهيم ثلاثَ كذباتٍ كلها في الله؛ قوله:
إني سقيم، وقوله: فعَلَه كبيرُهم هذا، وقوله للرجل الذي عرَض لسارة: إنها أُختي.» وهنا
يَطمَئنُّ الحلبي ويكتفي بذلك تبريرًا لنفسه وتطمينًا لها، إزاء ردِّ قول النبي للشيخ
الأعرابي، ولم يرَ إطلاقًا في ذلك الرد، غرضًا عسكريًّا حذِرًا مُباحًا، يَصرِف البدوي
عن معرفة قائد المُسلمين، ويُشكِّكه في معلوماته عن موقع الجيش الإسلامي، ويَصرِفُه عن
تقصِّي أمرهم، احتياطًا لسِرِّيَّة وأمان مَسِيره.
ولمزيدٍ من التقصِّي، وتدقيق المعلومات عن العدو، وأحواله، وعددِ رجاله، وعدَّته،
يعود
القائد لإرسال عليِّ بن أبي طالب، والزُّبير بن العوام، وسعد بن أبي وقَّاص، مع نَفَرٍ
آخَرَ
من المُسلمين «يلتَمِسون له الخَبر» بتعبير ابن كثير،
١١ فيُصيبون غُلامَين من عبيد قُرَيش كانا قد تطرَّفا عن ركبها، ويبدأ الحوار بين
النبي
ﷺ وبين الغلامين:
قال: أخبراني عن قريش.
قالا: وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعُدوة القصوى.
قال: كم القوم؟ وما عدَّتُهم؟
قالا: لا ندري.
قال: كم ينحرَون كلَّ يوم؟
قالا: يومًا تِسعًا، ويومًا عشرًا.
قال: القوم ما بَين التسعمائة إلى الألف، فمن فيهما من أشراف قُريش؟
قالا: عتبة بن ربيعة، وشَيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن خزام،
ونوفل بن خُويلد، والحارِث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي، والنَّضر بن الحارث، وزمعة
بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأميَّة بن خلف، ونَبيه ومُنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن
عمرو، وعمرو بن عبدود.
فأقبل الرسول
ﷺ على الناس فقال:
هذه مكة قد ألقتْ إليكم أفلاذ كبدها.
١٢
وهو التعبير الأمثل عن القوم الواردة أسماؤهم، فهم من قريش القلبُ والرءوس
والأشراف والسَّادة، هُم الملأ والأرستقراطية.
ويرتحِل المُسلمون إلى «عرق الظبية»، وهناك «لقوا رجُلًا من الأعراب فسألوه عن
الناس، فلم يجِدوا عنده خبرًا، فقال له الناس: سلِّم على رسول الله. قال: أوَفيكم رسولُ
الله؟!
قالوا: نعم.
قال: لئن كنتَ رسول الله، فأخبِرْني عمَّا في بطنِ ناقتي تلك؟
فقال له سلمة بن سلامة: لا تسأل رسول الله، وأقبِل عليَّ فأنا أُخبرك عن ذلك، نزوتَ
عليها ففي بطنِها منك سَخْلة.
فقال رسول الله: مه، أفحشتَ على الرجل.»
١٣
هكذا كان القائد الإنسان، يُخطط كما يُخطِّط البشر، ويتقصَّى الأخبار كما يتقصَّى
البشر،
ويُرسِل الجواسيس والعيون ليأخُذ الأخبار عن عدوه، ثم وهو بسبيل ذلك يتعرَّض لسخرية بدويٍّ
أحمق يُؤذيه بقارِص الكلم، فلا يردُّ عليه الإيذاء بإيذاء، إنما يلُوم صاحِبَه على فُحشِ
قوله للرجل، تَحوُّطًا لخبَرٍ قد يحمِله البدوي المُرتحِل لأعدائه. أما السماء، فكانت
أمرًا
أكثرَ منها خبرًا، حيث كان الوحي يتحوَّل بالأمر من الصبر الجميل، والدِّفاع الهادئ،
إلى
الهُجوم والقتال بعد أن أتى الله بأمره:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ (الأنفال: ٦٥) … عن عبد الله بن عبَّاس قال: لمَّا
نزلت هذه الآية اشتدَّ على المسلمين، وأعظموا أن يُقاتل عشرون مائتين، ومائة
ألفًا، فخفَّف الله عليهم، فنَسَخها بالآية الأخرى:
الْآنَ
خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (الأنفال: ٦٦).
١٤
ولو أخذْنا الأمر بظاهره، لكان المعنى أن الله جل وعلا لم يكن يعلَم بضعفِ المسلمين،
ثمَّ علِمه مُتأخِّرًا «الآن … علم أنَّ فيكم ضعفًا»، وحاشا لله أن يقصُر عِلمه عمَّا
يليق
بكماله، ومن ثمَّ لا يكون هناك معنًى لنسْخ الآية الأولى بالثانية، سوى تفاعُل الوحي
الكريم مع ظرف الواقع، حيث تتناسَب الآية الأولى مع خبرٍ أول بعدَدِ أفراد قريش، وهو
ما
كان يُعادل عشرة إلى واحد بالنسبة إلى عدد المسلمين، بينما تتناسَب الآية الثانية مع
الخبر التالي الذي جاء يَحمِل نسبةً أخرى هي اثنين إلى واحد، وهو ما يُطابق العدد
المقبول لقريش بالنسبة لعدد المسلمين، بعد انخزال بني زهرة عنها بثُلث الناس، وكذب
سُراقة بن مالك أو إبليس بشأن مَجيء كنانة مع قريش، فكان النَّسخ، وجاء صِدق الوحي
مُطابقًا للواقع، وإعلامًا للمسلمين المُحاربين بعدد عدوِّهم النهائي.
وإعمالًا لكلِّ ما تمَّ الحصول عليه من معلومات استخبارية، تقرَّر أن يسبِق المسلمون
قُريشًا إلى بدر، فيروي ابن كثير:
فخرج رسول الله
ﷺ يُبادِرهم إلى الماء، حتى جاء أدنى ماءٍ من بدر
فنزل به، فذكروا أن الحُباب بن المنذر بن الجموح — مُحارب أنصاري — قال: يا رسول الله؛
أرأيتَ هذا المنزل؛ أمنزل أنزلَكَه الله ليس لنا أن نتقدَّمَهُ ولا نتأخَّر عنه؟ أم هو
الرأي
والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس
بمنزل، فامضِ حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله، ثم نُغوِّر ما وراءه من القلب، ثم
نبني عليه حوضًا ونملؤه ماءً ثُمَّ نُقاتل القوم، فنشرَب ولا يَشربون. فقال رسول الله
ﷺ: لقد أشرْتَ بالرأي.
١٥
وهنا يأتي خبر السماء مُصدِّقًا على الخطة البشرية ومشورة الأنصار، ورجلهم المُقاتل
«الحباب» المشهود له بالدُّربة والحِنكة والخبرة القتالية، فيأتي جبريل إلى أخيه
المُصطفى عليهما السلام ليقول:
يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إنَّ الرأي ما أشار به الحُباب.
١٦
والرواية هنا بحاجةٍ إلى بعض التدبُّر، فإذا كان المسلمون سيَبنون حوضًا، حتى يتوفَّر
لهم ماء الشُّرب، ويُغَوِّرون بقِيَّة الآبار حتى لا تشرَبَ قريش، فلا جدال هنا أنَّ
الآبار التي
غُوِّرت، هي تلك — المُفترض أن تكون واقعة — على مَسافةٍ مُتناثِرة بين المسلمين وبين
الجهة
التي ستَصِل إليها قريش، ويكون تعبير «أدنى ماء» هنا بحاجةٍ إلى إعادة فَهْم، فالإشارة
الأولى عن نزول النبي
ﷺ ستعني بذلك أدنى أي أقرَب بئرٍ إلى مدخل
الوادي حيث ستصِل قُريش، وبقيَّة الآبار تكون خلف المُسلمين، أما «أدنى ماء من القوم»
في
مَشورة الحباب، فهي آخِر بئرٍ إلى الخلْف، بعيدًا عن مَوقِع قُريش المُفترَض، مع تغوير
بقِيَّة
الآبار التي ستَقَع بين المسلمين وبين قريش، ولا شكَّ أن التِباس «أدنى ماء» في المرَّتَين
اللتين وردَتا بالرواية، هو ما دَعا «الحلبي» كثير التساؤل ليَقِف مُحاولًا الفهم
مُتسائلًا:
إن ذلك القليب إذا كان وراء ظهورهم، وسائر القُلُب خلفه (وهو ما يُفهم من: أدنى
ماء) فما المعنى في تغويرها؟ إنها إذا لم تُغوَّر يشربون ويشرَب القوم — قريش.
١٧
وهو التساؤل المشروع عقلًا، والذي يجِب أن يكون كما انتهَينا إليه، إلى فهم مؤدَّاه
أنهم بنصيحة «الحُباب» نزلوا أبعدَ بئرٍ عن القوم، وغوَّروا ما هوَ في الطريق بين
الجَيشَين، وبذلك يتمُّ المقصود، فتصِل قريش عطشى ولا تجِد ماء، إلَّا ما هو وراء المسلمين
وفي حِراستِهم، أو في حوضِهم الذي منه يشربون وحدَهم.
(٢) موقع الفريقين
وحتى نتمكَّن من وضع تصوُّر لخريطة المواقع في بدر، وموقع كلٍّ من الطرفين فيها،
نقِف مع
القائد وموقعه بين أتباعِه المسلمين، وهو ما أوضحه قول سعد بن مُعاذ له:
يا نبيَّ الله؛ ألَا نَبني لك عريشًا تكون فيه، ونُعِدُّ عنك ركائبك، ثُمَّ نلقى عدُوَّنا،
فإن
أعزَّنا الله وأظهَرَنا على عَدُوِّنا، كان ذلك ما أحبَبْنا، وإن كانت الأخرى، جلست على
ركائبك، فلحِقْتَ بمن وراءنا من قومنا، فأثنى عليه رسول الله
ﷺ
خيرًا، ودعا له بخَير، ثم بَنى للرسول عريشًا كان فيه.
١٨
وتتَّفِق كلُّ كتبِ السِّيَر على موقع ذلك العريش، بأنه كان «فوق تَلٍّ مُشرفٍ على
المَعركة.»
١٩ وبعد بناء العريش، دخل إليه النبيُّ ومعه أبو بكر، واتَّفق على أن تُحيطه
حِراسة من الأنصار بقيادة سعد بن معاذ.
خوفًا عليه من أن يَدهَمه العدو من المُشركين، والجنائب النَّجائب مُهيَّأة لرسول
الله
ﷺ، إن احتاج رَكِبها ورجَع إلى المدينة.
٢٠
ومرة أخرى وليست أخيرة، نجِد الإعداد الجيد، والتخطيط البشري، والحِرص على حماية
صاحِب الدَّعوة والحفاظ على حياته، بإيقاف الحرَّاس عليه في تلٍّ بعيدٍ عن مُتناول المشركين،
تحت حراسةٍ مُسلحة من رجال الحرب اليثاربة، وركائبه مُعدَّة للعودة السريعة إلى يثرِب
إن
حدثت الهزيمة، هذا رغم حراسة السَّماء لحبيبها ورغم الوعْدِ الإلهيِّ بالمَدَدِ العُلويِّ
من
مُقاتلي الملائكة المُقدَّمين.
وقد جاء الوعد بالملائكة، دافعًا لمزيدٍ من الطمأنينة لصحابة الرسول الأمين،
ومدعاةً لهدوئهم النفسي والعَصَبي، وإخلادِهم للنَّوم في ظلِّ تلك الحراسة السَّماوية،
لأخذ
قسطٍ مُناسب من الراحة، انتظارًا لوصول قُريش في الغدِ عطشى مُجهدةً مُتعبة، وهو ما وعَتْه
كُتب الأخبار والسِّيَر، وساقتْهُ على عُجالة تقول:
وبشرَّهم النبيُّ
ﷺ بنزول الملائكة، فحصل لهم الطمأنينة والسكون،
وقد حصل لهم النُّعاس الذي هو دليلٌ الطمأنينة.
٢١
وفي ذلك المناخ الشتوي، زخَّت السماء المنطقة بمَطرِها، وهو ما جاء في قولة الإمام
علي رضي الله عنه: «أصابَنا في الليل طسٌّ من مطر، فانطلقْنا تحت الشجر والحجف، نستظلُّ
تحتَها من المطر.»
٢٢ في اللحظة التي كانت قريش فيها بالعدوة القصوى من الوادي، بينما كان
المسلمون «في العدوة الدُّنيا من بطن التل»
٢٣ وهو ما يُحدِّد لنا المواقع بدقة، فالمسلمون يُعسكرون فوق التل، انتظارًا
لمقدَمِ قريش من مدخل الوادي في الأسافل، وهو ما يُدعِّمه قول «البيهقي» عن ذلك المطر
الليلي:
وأرسل الله السماء، وكان الوادي دهسًا فأصاب رسول الله وأصحابه، ما لبَّدَ لهم الأرض
ولم يمنعهُم من السَّير، وأصاب قريشًا منها ما لم يَقدروا أن يرتحِلوا معه.
٢٤
وهكذا كان نزول المطر مُساعدًا على حركة المسلمين فوق التل، وعُسر المسير ومَشقَّته
في
الوادي المُوحل، وهو ما يتَّفِق مع حال نزول المطر في منطقةٍ بها مُرتَفع يليه وادٍ،
حيث لا
يثبُت الماء على المُرتفع، إنما ينزلِق إلى المُنحدرات، فيترُك التِّلال رطبةً يابسة
مُتماسكة، ويحول الوادي إلى مُستنقعات مُوحِلة؛ لذلك أكد «مجاهد» أنَّ في أعلى التلِّ
«أنزل
عليهم المطر، فأطفأ به الغُبار، وتلبَّدت الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتَتْ به أقدامهم.»
٢٥ أما الفيصل في هذا الأمر، فهو تقرير الوحي الصادِق لخريطة المعركة
زمانًا ومكانًا، في قول الآيات:
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ (الأنفال: ٤٢).
ومن ثَمَّ فلا مجال هنا لمُجادِل، يُكابر في أنَّ موقع المسلمين في الأعالي، وهبوطهم
مع بدء المعركة على من هم في الأسافل، كان عاملًا هامًّا من عوامل حسم المعركة، وتحديد
نتائجها.
وعند الصباح، عدَّل رسول الله
ﷺ صفوف رجاله، وألْوِيَتهم، ثُمَّ دخل
عريشَه يُناجي ربَّه:
اللهم إنْ تهلِك هذه العصابة اليوم، لا تُعبَد بعدُ في الأرض أبدًا.
٢٦
ثم عاد فخرج إلى رجاله يُحرِّضهم على القتال مُناديًا:
والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يُقاتِلهم اليوم رجل، فيُقتَل صابرًا مُحتسِبًا إلَّا
دخل الجنة.
فقال عوف بن الحارث: يا رسول الله، ما يُضحِكُ الرَّبَّ من عبده. قال: غمسةُ يَدِه
في العدو حاسرًا.
٢٧
أما الجزاء الدُّنيوي لمن سيبقى حيًّا، فهو ما جاء في نداءٍ آخَر، يمنح المُقاتلين
ما
يحصلون عليه من غنائم، ومن فداء أسراهم:
من قتل قتيلًا فلَهُ سلَبُه، ومن أسَرَ أسيرًا فهو له.
٢٨
وفي تلك الهُنيهات الفاصِلة في تاريخ الحِجاز، بل وفي تاريخ الدُّنيا، كانت طلائع
قريش
تهلُّ مُنحدِرة من كثيب العقَنْقل نحوَ الوادي، ومن مَوقعه فوقَ التلِّ وقفَ النبيُّ
يُطالِع
ذرافاتهم وطبولِهم تهبِط الوادي من بعيد، وهو يقول:
اللهم هذه قريش، قد أقبلَتْ بِخُيلائها وفخرها تُحادُّك وتُكذِّب رسولك، اللهم فنَصرُك
الذي وعَدْتَني …
٢٩
وهكذا، جاء الملأ إلى موعِدهم، وأفلاذ كَبِدِ مكة إلى قدَرِهم.