بينما كان المُسلمون على تلٍّ مُطِلٍّ على وادي بدر يترقَّبون، أقبلت قريش من كثيب
العقَنْقل نحوَ
الوادي، لتحتفِل بنجاةِ أموالها، وتنشُر مَهابَتَها، حفاظًا على أمن طريق الإيلاف، وإرهابًا
لمن يُحاول قطعَهُ من عُربان. ويَحكي الحلبيُّ في سيرته عن الأمين المأمون إنسان العيون
ﷺ، لحظةَ وصول قُريش إلى الوادي يفترشونه، وأمامهم القِيان تُغنِّي وتضرِب
الدفوف: «ولمَّا اطمأنَّ القوم بعَثوا عُمير بن وهب الجُمَحي فقالوا: احزر لنا أصحاب
محمد … فذهب
في الوادي حتى أبعدَ فلم يرَ شيئًا، ثُمَّ رجَع إليهم وقال: ما رأيتُ شيئًا.»
إنه إذن الكمين، وصدق الخبر، وإنها لوقعة، وإنها لمَصرعة، لقد كان محمد
ﷺ يُريد عِيرَهم وتجارتهم، لِحصار مكة اقتصاديًّا، وضرْب إيلافها، فإذا به يُريدهم هُم
أصحاب المال ورءوس الأشراف والسَّادة، بعد أن وصلوا بدرًا عطشى مُتعَبين، دون قيادة مُوحَّدة،
ومن غير تجانُس، فجاءوا معهم بالهاشميِّين إلى جانب الأمويِّين، ليَجدوا الآبار قد غُوِّرت،
ممَّا
كان مَدعاةً أخرى لطلَبِ حِكمةٍ غير حِكمة أبي الحَكَم، التي طوَّحت بهم إلى ذلك الشَّرَك،
بينما نداء
الجمحي يُشير إلى قومٍ يتربَّصُون الثأر من السادة، بعد اضطهادٍ وهجرة، يتلمَّظون تحت
الخُوذ
كالأفاعي، لا تظهَر منهم غير العُيون والألسنة اللاهِثة، المُتلهِّفة على الانقضاض.
(١) الحكمة والتهور
ومن ثم، كان إعمال العقل والتروِّي، والبحث عن رأيٍ سديد، للخروج من الفخِّ بأقل
قدْر
من الخسارة، فكانت حِكمة «حكيم بن حزام» الذي جاء «عُتبة بن ربيعة» أحد كبار أشراف
مكة وسادَة الملأ المُقدَّمين، وكان عُتبة رجلًا جليلًا عجوزًا ثقيلًا، ليقول له:
يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش وسيِّدُها، والمُطاع فيها، هل لك إلى أن لا
تزال تُذكَر فيها بخير إلى آخِر الدهر؟ … هل لك أن تذهب بشرَف هذا اليوم ما
بقيت؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس.
٢
وهكذا سجلت عبارة حكيم لقريش مرةً أخرى حُبَّها للسلم، وسعيها للأمن؛ ذلك الحب
والسعي الذي فرَضه عليها تكوينها النفسي، وفرَضه على نفسها تكوينها الاقتصادي
والاجتماعي، وحِرصها على مصالحها؛ ومن ثم كان من يسعى إلى الحفاظ على تلك المكاسب،
بتحقيق السلم، يظلُّ مذكورًا في شرْعها بالحكمة والسداد والشرف إلى آخر الدهر. ومن هنا
قام «عتبة بن ربيعة» عاملًا بحِكمة «حكيم بن حزام»، يخطُب في أصحابه:
يا معشر قريش؛ إنكم والله ما تصنعون بأن تلقَوا محمدًا وأصحابه شيئًا.
والله لئن أصبتُمُوهم لا يزال الرجل ينظر في وجه رجلٍ يكرَهُ النظر إليه، قتَل
ابن عمِّه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا، وخلُّوا بين محمد وبين
سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتُم، وإن كان غير ذلك ألْفاكُم ولم
تعرضوا منه ما يُريد.
٣
هكذا كان حال قريش، وتلك كانت دَعوتها وحِكمة حكمائها، بينما على الجانب الآخر وراء
السواتر وفوق التل، كان صوت المُصطفى
ﷺ يُجلجِل في أصحابه، حتى لا يَتركوا فرصةً
قد لا يجُود بها الزمان مرةً أخرى للقضاء على رءوس الشرك:
والذي نفس محمدٍ بيده، لا
يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابرًا مُحتسبًا، إلا أدخله الله الجنَّة.
وهذه مكة قد ألقَتْ إليكم أفلاذ كبِدها.
وأن ما يُضحِك الربَّ من عبده غمْسة يدِه في العدو حاسرًا.
ومن قتل قتيلًا فله سلَبُه.
ومن أسَرَ أسيرًا فهو له.
ويا منصور أمِت.
وفي الوادي، ذهب «حكيم» بنداء «عتبة» إلى «أبي الحكم»، فكان ردُّه غير الحكيم:
انتفخ والله سحره حين رأي محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجِع حتى يحكُم
الله بيننا وبين محمد، وما بِعُتبة ما قال، لكنه رأى أن محمدًا وأصحابه
أكَلَة جزور، وفيهم ابنه، فتخوفكم عليه.
٤
وكان أبو الحكم يقصد «أبا حذيفة بن عتبة»، وهو مُهاجر مع أصحاب النبي
ﷺ،
بعد أن فرَّقَت الأُممية الجديدة بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، في ولاءٍ جديد، وإيمانٍ
جديد. ويكفي مثالًا لذلك أن نعلم أن «أم أبان بنت عتبة بن ربيعة»، كان لها أربعة
أخوة وعمَّان، كلٌّ منهم حضَر بدرًا، اثنان من إخوتها مُسلمان، واثنان مُشركان، وواحد
من
عمَّيْها مُسلم، والآخر كافر.
٥
وفي شروح السيرة، نعلم أن عبارة «أبي الحَكَم» بشأن «عتبة»: «انتفخ والله سحره»
تُقال للجبان،
٦ وكان الردُّ الطبيعي من الشيخ الجليل على من اتَّهَمَه بالجُبن: «سيعلم مُصفِّر
استِهِ من انتفخ سحره، أنا أم هو.»
٧ ومُصَفِّر استِهِ هو من يصبغ مؤخرته بالحنَّاء، طلبًا للرجال، وقد «قصد
المُبالغة في الذم»،
٨ ومن ثم «رماه بالأُبنة، بأنه كان يُزعفِر استه».
٩
وقبل الرجل الحكيم أن يُرمى بالجُبن حقنًا للدماء، وحرصًا على المصالح القرشيَّة،
واستمرَّ يُنادي:
يا قوم؛ إني أرى أقوامًا مُستميتين، لا تصَلِون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها
برأسي وقولوا: جبُن عُتبة، وقد تعلمون أني لستُ بأجبنِكم.
١٠
فكان أن قام أبو الحكَم يقول: «والله لو غيرك قال هذا لأعضضته.»
١١ وهو تعبير مُخفَّف، تحاشى فيه «أبو الحكم» الفُحش في القول، لرجُلٍ في سنِّ
«عتبة»، وهو ما تُفسِّره كتُبُنا الإخبارية بأن معناه الصريح «اعضُض على بظْر أُمِّك.»
١٢ أو هو عَضٌّ في مَوضع آخر «اعضُض بأيْر أبيك.»
١٣
والحوار أعلاه يكشِف بصورةٍ واضحة حال الملأ القُرشيِّ من سادة الأشراف، وخلافاتهم
الخطيرة حول مصير نظامهم، بل مصيرهم هم، واتهام بعضهم لبعضٍ بالجُبن، وتبخيس بعضهم
بعضًا بفاحِش القول، وتَفرُّق كلمتِهم بين بطونٍ وولاءاتٍ مُتعدِّدة لسادةٍ مُتنافرين.
هذا
بينما تابع «أبو الحكَم» الإفصاح عما بصدره، وعن رأيه في الدَّعوة التي فرَّقت الأرحام
والعشيرة، في قوله: «اللهمَّ أقطَعَنا الرَّحِم، وأتانا بما لا نعرِف، فاحْنِهِ الغداة.»
١٤ هذا مع تَصوُّره غير الحكيم، وغير الصادق مع الظروف والمُتغيِّرات الجديدة،
مُحتسِبًا أنه وقومه على الحقِّ وعلى الإيمان الصحيح بالله، وهو ما يبدو ظاهرًا في
ندائه السماء:
اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك، فأمطِر علينا حجارةً من السماء أو ائتِنا بعذابٍ
أليم.
١٥
اللهم انصُر أفضل الدِّينَين عندك، وأرضاهما لك.
اللهم انصُر أعلى الجُندَين، وأهدى الفئتَين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدِّينَين.
١٦
وهو الدُّعاء الذي يُعَبِّر عنده، عن كون قُريش هم أهل الله، كما نعتَهم العرب، لأنهم
حُماة بَيته، ورُعاة حُرماته، وهو الاعتقاد الذي دفع قريشًا وهي في طريقها إلى بدر أن
تأتي في رحلِها بأكثر الرايات قُدسية؛ أستار الكعبة!
(٢) الوقعة
ولما أخذ العطَش بالحلوق، خرج «الأسود بن عبد الأسد المخزومي» يركُض مُصعدًا نحو
حوض
المسلمين لا يلوي على شيء، مُقسمًا «أعاهد الله لأشربَنَّ من حوضِهم أو لأهدِمنَّه، أو
لأموت دُونه.» فخرَج له حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضرَبَه حمزة فأطنَّ قدَمَه بنِصف
ساقه وهو دُون الحوض، ووقع على ظهره تشخُب رجلُه دمًا … ثم حبا إلى الحَوض حتى اقتحَم
فيه، واتبعَهُ حمزة فضرَبه حتى قتلَهُ في الحَوض.
١٧
وذاهلةً وقفَتْ قُريش، التي تحوَّل حفلُها من دفُوفٍ وقِيانٍ وخمر وسَمَر، إلى حربٍ
ودم، فأراد
«عتبة» بذاتِ الحِكمة، أن يسلُك سلوك العرب، فيدعو إلى مُبارزةٍ تُنهي الأمر عند حد،
وتُوقِف نهرَ الدم المُوشك على التدفُّق، بهزيمة أحد الطرفين في مُبارزةٍ عادلة، تنتهي
بانسِحاب المَهزوم واعترافه بالهزيمة. فيروي ابن هشام «خرج عُتبة بن ربيعة، بين أخيه
شَيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن شَيبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المُبارزة، فخرَج
إليه فِتيةٌ من الأنصار ثلاثة، وهم عَوف ومُعوَّذ ابنا الحارث، وعبد الله بن رواحة.
فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهْط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى
مُناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومِنا.»
وبهذا النداء كانت قُريشٌ لا تزال تحسب العواقب وتتحاشى مخاطرها؛ لأنَّ مُبارزة بعض
أهلهم، أمر يُمكن بعد ذلك علاجُه بين الأهل وبعضهم، أما مُبارزة الأنصار فهي ثأرٌ باقٍ
بين مدينَتَين، لا يعلم إلَّا الله مُنتهاه، وهو ما قد يقضي تمامًا على طريق الإيلاف
المارِّ قُرب يثرِب؛ واستجاب النبيُّ الكريم لرغبة قريش فقال: «قم يا عُبيدةُ بنَ الحارث،
وقُم يا حمزة، وقُم يا علي.» فلمَّا قاموا دَنَوا منهم، قالوا: «من أنتم؟» قال عبيدة:
«عبيدة.»
وقال حمزة: «حمزة.» وقال علي: «علي.» قالوا: «نعم أكفاء كرام.» فبارَزَ عبيدة وكان أسنَّ
القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبةَ بن ربيعة، وبارَزَ علي الوليد بن عتبة، فأما
حمزة فلم يُمهِل شيبةَ أن قتلَه، وأما علي فلم يُمهِل الوليد أن قتلَه.
١٨
وعقب ابن إسحق وابن كثير على التساؤل القرشي «من أنتم؟» بأنه «دليلٌ على أنهم
كانوا مُلبِسين لا يُعرَفون من السلاح.»
١٩ بالخُوذ الحديدية، التي تُخفي بداخِلها الرءوس والدُّروع التي تُغطِّي
الأجساد.
أما الشيخ ثقيل الجِسم كبير السن «عتبة بن ربيعة» فقد صمَدَ لعُبيدة، وأصاب كلٌّ منهما
الآخر بضربةٍ أثبتَتْه، فما كان من «حمزة» و«علي» إلَّا أن كسَرا قواعد المُبارزة وشروطها،
ونزلا على الشيخ العَجوز بالأسياف فأجهزا عليه، ثم احتَملا زميلَهما «عبيدة» بسرعة،
إلى صفوف أصحابهم.
وهكذا قتل المُسلمون صناديد قريش. أما كسر قواعد المُبارزة فقد حكى عنه بعد ذلك
«علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه، لرفع صِفة المَعابة عنه، حيث تغيَّرت القواعد بتغيُّر
المِعيار، وبقِيَت قاعدةٌ واحدة هي مِعيار كل المعايير، وهي الفيصل والفصل، مُعلَّقَة
برأي
النبي الخاتم
ﷺ، فقال «علي»: «أعنْتُ أنا وحمزة عبيدةَ بن الحارث على
أبي الوليد، فلم يَعِب النبيُّ علينا ذلك.»
٢٠
وقبل أن تفيق قريش من ذُهولها أمام قتْل صناديدها، ومن حَمِيَّتها إزاء كسْر قواعد
المُبارزة، ومقتل شيخِها عُتبة بسيوفٍ ثلاثة تكاثرَت عليه، أخذ النبيُّ حفنةً من الحصباء
استقبَلَ بها قريشًا، ونفَحَها بها قائلًا: شاهَتِ الوجوه، ثم هتَفَ بأصحابه: شدُّوا.
٢١ بينما ثنى نحوَ صفوف النبَّالة التي ثبتَتْ وراء نواتِئ التُّلُول، لتحمِيَ
المسلمين السيَّافة المُنقضِّين على قريش، يقول: «إن دنا القوم منكم فانضَحُوهم بالنبل
واستَبقوا نبلَكُم … ولا تسلُّوا السيوف حتى يغشَوكم.»
٢٢
وهكذا بدأت وقعة بدر الكبرى، وهكذا كان التخطيط الجيد والإعداد الدَّقيق، الذي
تفاعلتْ فيه خطة القائد وعزمه، مع خِبرة أركان حربِهِ من رجال الدم والحرب والحلقة،
صفوف صفوف، منها من يشدُّ على الأعادي ومنها من يَحمي بسهامِهِ المُتقدِّمين، فلم يترُك
شيئًا للصُّدفة، ولا أمرًا للهوى، وهو ما كانت نتيجتُهُ المُحتَّمة، ما سجلَّتْهُ كتب
السِّيَر
والأخبار:
فكانت الهزيمة، فقَتَل الله من قتَل من صناديد قريش، وأسَرَ منهم من أسَر.
٢٣
هذا بينما استكان القائد إلى عريشه مع أبي بكر، وعلى رأس التلِّ وقف سعد بن معاذ
يتأمَّل ما يحدُث تحته في الوادي، ورأى النبيُّ في وجهه شيئًا فقال له: «لكأنَّك يا سعد
تكرَهُ ما يصنع الناس!»
٢٤
وكان حصاد المعركة ما جاء في تقرير «الطبري» «فقُتِل منهم سبعون رجلًا، وأُسِر منهم
سبعون رجلًا.»
٢٥ بينما كان شهداء المُسلمين في تقرير «البيهقي» «من قريش — المهاجرين — ستة
نفر، ومن الأنصار ثمانية نفر.»
٢٦
وبفرار أهل مكَّة فرارًا بلا كرامة، وسقوط بعضهم قتلى أو أسرى، هبط النبيُّ ليأمُر
بإلقاء الجُثث في القليب، ليعتمِل في النفس ما كان يجيش بها، وينطق اللسان النبويُّ
مُناديًا:
يا أهل القليب؛ بئس عشيرة النبي كُنتُم لنبيِّكم؛ كذَّبْتموني وصدَّقَني الناس، وأخرجتُمُوني
وآواني الناس، وقاتلْتُموني ونصَرَني الناس. هل وجدتُم ما وعدَكم ربُّكم حقًّا؟ فإني
وجدتُ
ما وعدَني رَبِّي حقًّا.
٢٧
وبينما المسلمون يسحَبون قتلى المُشركين إلى القليب، وقف «أبو حُذَيفة بن عتبة» يتطلَّع
إلى أبيه وهُم يُجرجِرُونه، وهو من سبَقَ واحتجَّ قبل الوقعة على أمر النبي بعَدَم قتْل
بني هاشم، حيث قال:
أنقتُل آباءنا وإخوانَنا وعشيرَتَنا ونترُك العباس؟ والله لئن لقِيتُه لأُلحِمنَّه السيف.
فبلغَتْ مقالتُه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لعُمر بن الخطاب: يا أبا حفص،
أيُضرَب وجهُ عمِّ رسول الله بالسَّيف؟ فقال عمر: يا رسول الله، ائذَنْ لي فأضرِب عُنقه،
فوالله
لقد نافَق. فكان أبو حذيفة يقول: والله ما أنا بآمِنٍ من تلك الكلمة التي قُلت.
٢٨
ويروي بن هشام مُستكملًا المشهد:
وأُخِذ عُتبة بن ربيعة فسُحِب إلى القليب، فنظر رسول الله
ﷺ في وجه
أبي حذيفة بن عُتبة، فإذا هو كئيبٌ قد تغيَّر، فقال: يا أبا حذيفة، لعلَّك قد دخلَك في
شأن
أبيك شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككتُ في أبي ولا في مصرَعِه، ولكنَّني كنتُ
أعرِف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلًا، فكنتُ أرجو أن يهدِيَه ذلك إلى الإسلام.
٢٩
وهكذا جاءت قريش إلى بدر لتنشُر هيبتَها، فنثرَتْها، وجاء الملأ ليُعلنوا للعرَب أنهم
حُماة بيت الله، وأنهم قادرون على حماية تجارتهم وأمنِها، برعاية ربِّ البيت، لأنهم كما
أسماهم العرَب «أهل الله»، فما عاد الملأ إلى مكة، وذهبوا تحت رمال القليب. وبدلًا
من رسالةٍ أرادُوها مُبلِّغة للإمبراطوريَّتَين، بلغَتْ رسالة أخرى تبرُق بخبرٍ آخَر،
عبَّرَتْ عنه
أشعارٌ تنسِبُها كتُبنا التُّراثية إلى الجن، وهي تقول:
أزار الحنيفيُّون بدرًا وقيعةً
سيُنقَضُ منها ركنُ كسرى وقيصرا
أبادت رجالًا من لؤي وأبرزَتْ
خرائدُ يَضرِبْنَ الترائِبَ حُسَّرا
فيا وَيحَ من أمسى عدوَّ محمدٍ
لقد قار عن قصدِ الهوى وتحيَّرا
٣٠
وانتهى أمر الملأ، وهي النهاية التي جاء أمرُها جليًّا في طريق عودة الرَّكب
المُنتصِر، حيث جاء الناس يُهنِّئون النبي
ﷺ بالنصر، فما كان من «سلمة بن سلامة»
ذَرِب اللسان المُفصِح العَجُول، إلا أن برَزَ برأسه من بين الناس ليقول:
ما الذي تُهنِّئونَنا به؟ فوالله ما لقِينا إلا عجائز صُلعًا كالبُدْن
المُعقلة، فنحرناها. فتبسَّم رسول الله ثم قال: لكن يا ابن أخي، أولئك هم الملأ.
٣١
وهو ذات الإفصاح الذي أفصح عنه لسان «المُغيرة بن الحارث» على الجانب القرشي،
عندما عاد المَهزومون فرارًا إلى مكة، فالتقاهم «أبو لهَب» يُنادي «المُغيرة»: «هلُمَّ
إليَّ فعندك لعمري الخبَر اليقين.» فأجابه «المُغيرة» بخبرِه اليقين، مُوجزًا قصَّة
المُفاجأة في بدر بقوله:
والله ما هو إلا أن لَقِينا القوم، فمَنَحْناهم أكتافَنا يَقتلُونَنا كيف شاءوا،
ويأسِرونَنا كيف شاءوا.
٣٢
وهكذا سقطت الرءوس الأرستقراطية الصُّلبة، وتحقَّق الوعد الإلهي بإحدى الطائفتَين،
العِير أو قريش، فكانت الثانية: قريشًا.
(٣) فداء الأسرى
وكان الأسرى خير عِوَض عن عِير «أبي سفيان»، بما دفعه أهل مكة فيهم لفكِّ أسرِهم،
حتى
«العبَّاس» عم النبي، ورغم حبِّ النبي له ولآل البيت الهاشمي، فقد دفع «العبَّاس» فديتَه،
وكان حبُّ النبي
ﷺ لبيتِهِ الهاشمي مرحمةً ملكتْ عليه فؤادَه الرءوف، فهو
لم ينسَ أنهم كانوا حُماتَهُ ودرْع دعوتِهِ الواقي بمكة، ثم عُيونًا له على المَكيِّين
بعد
هجرته إلى يثرِب، رغم عدَم اتِّباعهم لدعوته، فكانت مِنعتُهم له عصبيةً قبلية ووفاء
عشائريًّا، مع دافعٍ آخَرَ هامٍّ يتمثَّل في صراعهم مع الأُمويِّين بني عبد شمس، وهو
موقفٌ وإن
تعارَضَ مع الدعوة الأُمَمِيَّة الطالِعة، التي تنزِع الولاء عن القبيلة وتضعه بيد العقيدة
ودولتِها الواحدة، فإن تلك النَّزعة العشائرية كانت ذاتَ أثرٍ ودَور عظيم، في حماية صاحب
الدعوة، ومن ثَمَّ دعوته، حتى وصل إلى حِمى أخواله اليثاربة، الذين زادوا على الأزرة
القرابية، الإيمان بدعوته. ومن ثَمَّ كان الوفاء النبوي واضحًا في كُتب السِّيرة، وهي
تروي بلسان ابن عباس:
لمَّا أمسى رسول الله يومَ بدر، والأسارى مَحبوسون بالوثاق، بات الرسول ساهرًا أول
الليل، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام؟ — وقد أَسَرَ العبَّاسَ رجلٌ من
الأنصار — فقال رسول الله
ﷺ: سمعتُ أنين عمِّي العبَّاس في وِثاقِه،
فأطَلَقُوه، فسَكَت، فنام رسول الله.
لكن مثل ذلك الوفاء والحنين، كان ممكنًا أن يُثير تساؤلاتٍ مشروعة في نفوس أتباعٍ
هجروا العشائرية، ومنحوا الولاء كلَّه لدعوة ترفُض الأُطُر القبلية بل تُحطِّمها، ومن
ثم
كان يُمكن لذلك الوفاء النَّبوي أن يُثير اعتراضات، سبق أن رأيْنا لها مثيلًا في موقف
«أبي حذيفة بن عتبة»، ومن هنا كان التوازُن، الذي يظهر في رواية ابن إسحق «وكان أكثر
الأسارى يوم بدْر فداءً العبَّاس بن عبد المطلب، وذلك لأنه كان رجلًا مُوسرًا، فافتدى
نفسه بمائة أوقية ذهب.»
٣٣ ويقول «ابن كثير» إن ذلك الفداء الضخم «كان عن نفسه، وعن ابنَي أخوَيه
عقيل ونوفل، وعن حليفِه عتبة بن عمرو.»
٣٤
ويروي «البيهقي» أنَّ رجالًا مِمَّن أُسِروا ببدرٍ قالوا للنبي: «إنَّا كنَّا مُسلمين،
وإنما
أُخرِجنا كُرهًا، فعلامَ يُؤخَذ منَّا الفداء؟!» فأنزل الله عز وجل:
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنفال: ٧٠).
٣٥ ويذهب «ابن كثير» إلى أنَّ تلك الرواية كانت خاصَّة بالعبَّاس بن عبد المُطَّلِب
ونفَرٍ معه:
حين ادَّعى أنه كان قد أسلم.
٣٦
فأصَرَّ النبيُّ على دفعِهِ الفدية، فتقدَّم آسِرُوه من الأنصار يُجامِلون النبيَّ
برغبَتِهم في
تركه دُون فداء، فكان ردُّ النبي
ﷺ:
لا والله لا تَذَرُون منه دِرهمًا واحدًا.
ورغم إعلان العبَّاس إسلامه، فقد ظلَّ إصرار النبيِّ على دفعِه الفداء، وهو أمر يُمكن
فَهمُه في ضُوء ما يُحقِّق من أغراض؛ فهو التوازُن الذي يحفَظ المُحتوى للدعوة، أو ما
يحفَظ
المُحتوى العشائري داخل النَّسَق الأُمَمي عند صاحِب الدَّعوة، أمام أشخاصٍ مثل «أبي
حذيفة»،
في مرحلةٍ لم تزَل فيها القلاقِل قائمةً أمام استقرار أمرِ الدَّولة الطالِعَة واستقامَتِها،
ونزولًا بمُستوى العبَّاس الطَّبَقي إلى مستوًى يقترِب فيه مع بَقِيَّة المُسلمين، في
ضوء زَعْمِه
الإسلام، وهُم من تقارَبَتْ أوضاعهم الاقتصادية وذابَتْ بينهم الفوارِق في تلك المرحلة،
بتوزيع الأنفال البدريَّة بينهم بالتَّساوي.
ولكن عندما تغيَّرتِ الأحوال بعد ذلك، بعد قيام الدولة وصلابة عُودِها ومِنعتها،
تمَّ
تعويض العبَّاس خيرًا ممَّا أُخِذ منه في فداءِ أسرِه من بدر، وصدق الله وعدَه في الآيات،
وهو ما جاء في رواية أنس:
إن النبي
ﷺ أُتيَ بمالٍ من البحرين، فقال: انثُروه في المسجد. فكان
أكثرَ مالٍ أُتيَ به رسول الله، إذ جاءه العبَّاس فقال: يا رسولَ الله أعطني، فإني فادَيتُ
نفسي وفادَيتُ عقيلًا. فقال: خُذ. فحثا ثَوبَهُ ثم ذهب يقلُّه فلم يستطع، فقال: مُر بعضَهم
برفعِه إليِّ. قال: لا. قال: فارفَعْه أنت عليَّ. قال: لا. فنثَر منه، ثم احتَمَلَه على
كاهِلِه فانطلَق.
٣٧
ويتَّضِح لنا ذلك الصراع بين الأُمميَّة والقبلية، في لحظةٍ العودة من بدر، ومعهم
الأسرى
وفيهم العبَّاس وبعضُ بني هاشم، فاستشار النبيُّ أصحابه بشأنهم، والرواية هنا تُبرِزُ
بوضوحٍ
موقفَ من بدَّل ولاءه تمامًا نحوَ الأممية الجديدة، وهو الموقف المُتناقِض مع موقفٍ آخر
لا زال يستبطِن القبلية وحَمِيَّتها، ثم موقف ثالث هو موقِف النبي عليه الصلاة والسلام،
واصطراع الأمرَين داخل نفسه البشرية، فهذا «عمر بن الخطاب» يتجاوَز كلَّ ألوان الولاء
القبلي بأُمَمِيَّة صارِمة صادقة، إعمالًا لمبادئ الدعوة وتصديقًا لها، فيقول:
يا رسول الله؛ كذَّبوك، وأخرَجوك، وقاتَلوك، أرى أن تُمكِّنني من فُلان فأضرب عُنقَه
(وهو
قريبٌ له)، وتُمكِّن عليًّا من أخيه عقيل فيضرِب عُنقه، وتُمكِّن حمزة من العبَّاس أخيه
فيضرب
عُنقه، حتى يُعلَم أنه ليست في قُلوبِنا مَودَّة للمُشركين.
أما ابن رَواحة فكان رأيُه أشدَّ صرامة، وأكثر رغبة في التشفِّي، فقال:
انظروا واديًا كثيرَ الحطب، فأُضرِمُه عليهم نارًا، فقال العباس — وهو يسمع — ثكِلتْك
رحِمُك.
٣٨
هذا بينما كان أبو بكر في أقصى اليمين يقول بالأخرى:
يا رسول الله؛ نرى أن تعفوَ عنهم، وأن تقبَلَ منهم الفداء، فذهب عن وجهِ رسول الله ما
كان فيه من الغم.
٣٩
أو برواية أخرى:
يا رسول الله؛ أهلك وقومك، هؤلاء بنو العمِّ والعشيرة والإخوان، قد
أعطاك الله الظَّفَر، ونصرَك عليهم، أرى أن تستبقِيَهم وتأخُذ منهم الفداء، فيكون ما
أخذْنا
منهم قوَّةً لنا على الكفار.
٤٠
(٤) القَبليَّة والأُمَمِيَّة
وكان أبلغ المواقف على استبطان النبي
ﷺ للرَّحِم، والعلاقة
العشائرية والأسرية، رغم المُتغيَّر المطلوب، ورغم أُمَمِيَّة الدعوة واستبدالها العلاقات
القديمة بعلاقاتٍ جديدة، وبالولاء القديم ولاءً جديدًا، بعلاقاتٍ إيمانية تُحطِّم القبليَّة،
كان أبلغَ هذه المِواقِف ما جاء في قصة فداء «أبي العاص بن الربيع»، زَوج «زينب» بنت
النبي الكريم
ﷺ.
يروي الطبري:
كان الإسلام قد فرَّق بين زَينب بِنت رسول الله حين أسلَمَت، وبين أبي
العاص بن الربيع، إلَّا أنَّ رسول الله
ﷺ كان لا يَقدِر على أن يُفرِّق
بينهما، فأقامت معه على إسلامها، وهو على شركه … فأُصيبَ في الأسارى يوم بدر.
٤١
ويُكمِل ابن كثير:
عن عائشةَ قالت: لَمَّا بعَثَ أهل مكة في فداء أسراهم، بعَثَتْ زينب بنتُ رسول الله في
فداء
أبى العاص بمال، وبعثَتْ فيه بقلادَةٍ لها، كانت خديجة قد أدخَلَتْها بها على أبي العاص
حين بنى عليها. فلمَّا رآها رسول الله
ﷺ، رقَّ لها رِقَّةً شديدة وقال:
إن رأيتُم أن تُطلِقوا لها أسِيرَها، وترُدُّوا عليها الذي لها.
٤٢
ويُتابِع ابن هشام فيقول: إنَّ النبي
ﷺ أخذ على أبي العاص أن يُخلي
سبيل زينب، ويُرسِلها إلى حيث سيَنتَظِرها أتباع من يثرب على حدود مكة. وعن عبد الله
بن
أبي بكر قال: «حدَّثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهَّزُ بمكَّة للُّحوق بأبي، لقِيتُ
هندًا
بنت عتبة، فقالت: يا بنت مُحمَّد، ألم يَبلُغْني أنكِ تُريدين اللُّحوق بأبيك؟ فقالت:
ما أردتُ
ذلك … فلما فرَغَتْ بنتُ رسول الله من جهازها، قدَّم لها حَمُوها كنانة بن الربيع أخو
زَوجها بَعيرًا فركِبَتْه، وأخذ قَوسَه وكنانَتَهُ وخرج بها يقودها نهارًا وهي في هَودَجٍ
لها،
وتحدَّثَ بذلك رجال من قُريش فخرجوا في طلَبِها، حتى أدرَكُوها بذي طُوى … وبَرَّك حَموها
كنانة
ونثَرَ كنانَتَهُ ثُمَّ قال: والله لا يَدنو مِنِّي رجل إلَّا وضعتُ فيه سهمًا، فتَكَرْكَرَ
الناس عنه،
وأتى أبو سفيان في جلَّةٍ من قريش فقال: أيها الرجل كُفَّ عنا نبلَكَ حتى نُكلِّمك، فكف،
فأقبل
أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تُصِبْ إذ خرجتَ بابنتِهِ علانيةً على رءوس الناس
من
بين أظهُرِنا، إنَّ ذلك عن ذُلٍّ أصابَنا عن مُصيبَتِنا التي كانت، وإن ذلك مِنَّا ضَعفٌ
ووَهَن،
ولعمري ما لنا بها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثورة، ولكن ارجع بالمرأة
حتى إذا هدأتِ الأصوات، وتحدَّثت الناس أنَّنا قد رَدَدْناها، فسُلَّها سرًّا وألْحِقْها
بأبيها، ففعل.»
وفي الروايات، أنَّ الذين طاردوا زينبًا، كانا هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس،
فرَوَّعوها، فأفرَغَتْ بطنَها وكانت حاملًا، ولَمَّا رجع الرَّجُلان إلى مكة، قابَلَتْهما
هند
تَذُمُّهُما وتقول:
أفي السِّلمِ أعيار جفاءً وغلظةً
وفي الحرب أشباهُ النساء العوارك
٤٣
(والنساء العوارك هن الغوانج). أما النبي فكان له مَوقِف آخر من الرَّجُلين، إذ
أمر
ببعْثِ سرية، أمر رجالها أن يَظفروا بهبار ونافع، وأن يَحرقوهما بالنار جزاءَ ما قدَّمَتْ
يداهما في حقِّ ابنته، لكنَّهُ عاد فأرسل لهم قَبْل خروجهم:
إني كنتُ أمرتُكم بتحريق هذَين الرَّجُلين، إن أخذتموهما، ثم رأيتُ أنه لا ينبغي لأحد
أن
يُعذِّب بالنار إلَّا الله، فإن ظفرتُم بهما فاقتلُوهُما.
ويُتابِعُ ابن إسحقٍ راوي السيرة فيقول: «وأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول
الله
ﷺ بالمدينة، حين فرَّق الإسلام بينهما، حتى إذا كان قُبَيل
الفتح، خرَج أبو العاص تاجِرًا إلى الشام — وكان رَجُلًا مأمونًا — بماله وأموال رجالٍ
لقريش أبضَعُوها معه، فلمَّا فرغ من تجارته وأقبل قافلًا، لقِيتَهُ سرية لرسول الله،
فأصابوا ما معه، وأعجزَهُم هاربًا، فلمَّا قدِمَت السرية بما أصابوا من مال، أقبل أبو
العاص تحت الليل، حتى دخل على زينب بنت رسول الله، فلمَّا خرج رسول الله إلى الصُّبح
…
كبَّرَ وكبَّرَ الناس معه، صرَخَتْ زينب من صُفَّةِ النساء: أيُّها الناس إني قد أجرتُ
أبا العاص بن
الربيع، فلَمَّا سلَّم رسول الله من الصلاة أقبل على الناس فقال: أيُّها الناس هل سَمِعْتُم
ما
سمِعتُ؟ قالوا: نعم. قال أما والذي نفس محمد بيده ما علمتُ بشيءٍ من ذلك حتى سمِعتُم
ما
سمِعتُم. إنه يُجير على المسلمين أدناهم.
ثم انصرَفَ فدخَل على ابنته فقال: أي بُنيَّة أكرمي مَثواه، ولا يَخلُصَنَّ إليك
فإنَّك لا
تَحِلِّين له، ثم بعثَ إلى السريَّة الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم: إنَّ هذا الرَّجُل
منَّا حيث قد علِمْتُم، وقد أصبتُم له مالًا، فإن تُحسِنوا تردُّوا عليه الذي له، فإنَّا
نُحبُّ
ذلك، وإن أبيتُم فهو فَيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحقُّ به. فقالوا: يا رسول الله
بل نَرُدُّه عليه، فردُّوه عليه … ثُمَّ احتَمَلَه إلى مكَّة فأدَّى إلى كلِّ ذي مالٍ
مالَهُ من قُريش.»
وعاد بعد ذلك إلى يثرِب مُسلمًا، ويروي ابن عبَّاس أنَّ النبي قد ردَّ عليه زينب على
النِّكاح
الأول. وفي رواية لأبي عبيدة: أنَّ أبا العاص لمَّا قدِمَ من الشام ومعه أموال
المُشركين.
قيل له: هل لك أن تُسلِم وتأخُذ هذه الأموال، فإنها أموال المُشركين.
فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي.
٤٤
وموقف «أبي العاص» هنا يَتَّفق تمامًا ويتطابَق مع الإفراز الحتْمي للظرف التاريخي
والاقتصادي، فأمانة الرجل التي فرضتْ عليه عدَم الاستيلاء على أموال قريش، هي ناتجٌ
طبيعي لظرْف مكة التجاري، الذي أفرز ثِقةً مُتبادَلة بين أصحاب المال، وبين القائم على
الرحلة المُسافِرة، باعتباره أيضًا عضوًا ضِمن الطبقة، ومن ثمَّ فرَض ظرف مكة الجغرافي،
وعدم إمكان خروج كلُّ المُسهِمين مع القافلة، ثقةً وأمانةً على درجةٍ عالية، للحِفاظ
على
سيولة التجارة واستمرارها؛ لأنَّ أيَّ خلافٍ أو اختلاس أو فقْدٍ للثقة، كان كفيلًا بدمار
مصلحة الجميع. وهي الأمانة التي لم تكُن في منطقِهم تتعارَض أبدًا مع سلوكياتٍ أخرى،
كالرِّبا والاحتكار، فهي ألوان من الكسْب المشروع، ولَون من التجارة والرِّبح المُباح.
وقد
أشار النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى الأمانة القرشية، مع ضِيق أفق الرءوس المكية
وقُصُورها، عن إدراك دَور الرأسمالية القرشية في مشروع الوحدة الكبرى، بقوله لأبي
قتادة الأنصاري بعدَ غزوةِ أُحُد، عندما أراد أبو قتادة التَّمثيل بجُثَث القرشيِّين
كما
مثَّلوا بحمزة بن عبد المطلب:
يا أبا قتادة، إن قريشًا أهل أمانة، من بغاهم أكبَّهُ الله تعالى إلى فيه، وعسى إن
طالَتْ بك مُدَّة أن تَحقِر عملك مع أعمالهم، وفِعالك مع فِعالهم، ولولا أن تَبْطُر قريش
لأخبرتُها بما لها عند الله.
٤٥
والقول الشريف هنا يُفصِح عن خبيئة نفس المصطفى
ﷺ لأهله وبلده،
وعن التناقُض الآتي الذي سيُفصِح عن نفسه في أواخر الحياة النَّبوية المُشرَّفة، في فتح
مكة
وتوزيع المكاسب في هباتٍ وإقطاعاتٍ وأُعطياتٍ لأهل قريش من الطُّلَقاء والمُؤلَّفة قلوبهم،
ثم
ما أفصح عنه اجتماع سقيفة بني ساعدة، وانتهى بصبِّ الأمر في النهاية بيدِ قريش. أما
الآن وفي ظرف بدْر الراهن، فإنَّ قطْع المسلمين للطريق التجاري، والاستيلاء على قوافل
مكة، وقتْل رجال حكومة الملأ الصناديد والرءوس والأشراف، كان حلقة — فرَضَها الظرف،
وعدَم وعيِ المكيِّين — في حلقاتِ التطوُّر الحتْمي الآتي، ودفعًا للمَوقِف عبرَ مسيرتِهِ
الضرورية، وإبلاغًا للرُّوم والعجَم، أنَّ الأمر قد صار إلى مدينةٍ أخرى، وإلى يدٍ أخرى،
ونظامٍ آخر.