المُزايدات في قصة بدر
أما لكم في اللَّبَن من حاجة؟!
نداء قرشي في وقعة بدر
عن «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه — في وقعة بدر — قال: «حمَلَني الرسول على فرسةٍ
فجمزَتْ
بي، فوقعتُ على عَقِبي، فدعوتُ الله، فأمسكت، فلَمَّا استويتُ عليها، طعَنْتُ بيدي هذه
في القوم
حتى اختَضَب هذا، وأشار إلى إبطه.»
١ مُحقِّقًا لنفسه بذلك ضحِك الله من عبدٍ يغمِس يدَه في العدو.
وهو الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول رواية كُتُب السِّيَر والأخبار، عن كراهة «سعد
بن
مُعاذ» لرؤية ما يصنَعُ المسلمون بالمشركين، وعن كون تلك الكراهة ناتِجة عن أخذ المَكِيِّين
أسرى، بدلًا من قتلِهم، والتساؤل مع اختِضاب إبط «علي» بالدَّم: هل كان المُتفشِّي في
بدرٍ هو
القتل أم الأسْر؟ وأيُّهما كان غرَض المعركة الأساسي؟
إن تعادَلَ عددُ القتلى والأسرى ربما يُغني عن طرح السؤال، لكن في واقِع ما حدَث تحت
غبار
وقعة بدر، ما يُشير إلى رغبةٍ مُتأجِّجة في الثأر من صناديد الملأ القرشي، الذين سبق
أن
أخرجوا المُسلمين من دِيارهم وأبنائهم، فهناك وقائع لها نفس دلالات قول الإمام علي كرَّم
الله وجهه، أعطاها مشروعيَّتَها دعوةُ الآيات:
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ
بَنَانٍ (الأنفال: ١٢).
والأمر على الترتيب في الوحي هو:
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ
الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً (محمد: ٤).
فأولًا: ضرْب الأعناق، وفصْل الرقاب، وكل بنان، ثم بعد ذلك: شدُّ الوثاق طلبًا للفداء،
دعمًا ماديًّا للمُسلمين، أو المنَّ على البعض الآخر، رغْم شركِهم وعدم إيمانهم، كما
سنرى له
أمثلة الآن.
وقد أفاضت كُتب السيرة بشأن مَقتلةِ عددٍ من الرءوس القرشية، منهم «أبي البختري بن
هشام»،
وكان مُفترَضًا عدَم قتلِه بأمرٍ من الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم عدَم إيمانه بدعوَتِه
الدِّينية، فلم يُعقَد أمره حول الإيمان من عدَمه، إنما لأسبابٍ أخرى تقول:
نهى رسول الله
ﷺ، عن قتْل أبي البختري؛ لأنه كان أكفَّ القومِ عن رسول الله وهو
بمكة، وكان لا يُؤذِيَه، ولا يبلُغُه عنه شيئًا يكرهه، وكان مِمَّن قام في نقضِ الصحيفة،
التي
كتبَتْ قريش على بني هاشم وبني عبد المُطَّلِب.
٢
كذلك كان النبيُّ بوفاءٍ رحمي، قد نهى أيضًا عن قتل عمِّه «العبَّاس بن عبد المُطَّلِب»،
ومن
تواجَدَ من بني هاشم في بدر، رغم عدَم إيمانهم بدعوته الدِّينية.
وقُرب انتهاء وقعة بدر، بينما الناس يَهرُبون أو يتخفَّون، لقي «المُجذَّر بن زياد
البلوي»
أبا البختري، ومع «أبي البختري» صديق له خرَج معه من مكة، هو «جُنادة بن مليحة»، فقال
له
«المجذَّر»، وردَّ عليه «أبو البختري»، في حوارٍ له أهمية:
المجذَّر
:
إن رسول الله قد نهانا عن قتلك.
أبو البختري
:
وزميلي؟
المجذَّر
:
لا والله، ما نحنُ بتاركي زميلك، ما أمرَنا رسول الله إلا بك وحدَك.
أبو البختري
:
لا والله إذن، لأمُوتَنَّ أنا وهو جميعًا، ولا تتحدَّث عنِّي نساء مكة، أني تركتُ
زميلي.
فقتَلَه المُجذَّر، ثم أتى رسول الله فقال: «والذي بعثك بالحق، لقد جهدتُ عليه أن
يستأسِر
فآتِيك به، فأبى إلَّا أن يُقاتِلني، فقتلتُه.»
٣
والشاهد هنا، أنَّ الرَّجُل المُسلِم طلَب من «أبي البختري» الاستِسلام للأسْر، فأبى
«أبو البختري»، إن كان في ذلك إنقاذُ حياتِه، وتركُ زميله يُقتَل، بإباءٍ عربيٍّ يُثير
الإعجاب وفيه
إجابة أولى عن السؤال المطروح.
أما الشاهد الثاني ففي رواية «عبد الرحمن بن عوف» عن مَقتلِ «أميَّةَ بن خلف»، حيث
قال
«عبد الرحمن»: «كان أميَّةُ صديقًا لي بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسمَّيتُ حين أسلمتُ
عبد
الرحمن ونحن بمكَّة، فكان يَلقاني إذ نحنُ بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبتَ عن اسمٍ سمَّاكَهُ
أبواك؟ فأقول: نعم. فيقول: فإني لا أعرِف الرَّحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به،
أمَّا
أنتَ فلا تُجيبُني باسمك الأول، وأمَّا أنا فلا أدعوك بما لا أعرِف. قال: فكان إذا دعاني
يا
عبد عمرو، لم أُجِبْه. قال: فقلتُ له: يا أبا علي اجعل ما شئت. قال: فأنت عبدُ الإله.
فقلت:
نعم. فكنتُ إذا مررتُ به قال: يا عبد الإله. فأجيبُهُ وأتحدَّثُ معه، حتى إذا كان يومُ
بدرٍ مررتُ
به، وهو واقفٌ مع ابنه عليِّ بن أمية، أخذ بيدِه، ومعي أدراع قد استلبتُها فأنا أحمِلُها.
فلمَّا
رآني قال لي: يا عبد عمرو. فلم أُجِبْه، فقال: يا عبد الإله. قلتُ: نعم. قال: هل لك فيَّ
فأنا خيرٌ لك من هذه الأدراع التي مَعك. قلتُ: نعم، ها لله ذا. فطرحتُ الأدراع من يدي،
وأخذتُ بيدِه ويدِ ابنه وهو يقول:
ما رأيتُ كاليوم قط، أما لكم في اللَّبَن من حاجة؟
ثم خرجتُ أمشي بهما. قال ابن هشام: يريد باللَّبن،
أنه من أسَرَني افتديتُ منه بإبلٍ كثيرة اللَّبَن.
فوالله إني لا أقودهما، إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يُعذِّب بلالًا بمكة ليَترُك
الإسلام، فلمَّا رآه قال:
رأسُ الكفر أميَّة بن خلف، لا نجَوتُ إن نجا.
ثم صرخ بأعلى صوته:
يا أنصار الله، رأسُ الكُفر أميَّة بن خلف، لا نجوتُ إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلُونا في مِثل المسكة، وأنا أذبُّ عنه.»
٤
فهنا رجل تأبى عليه عِزَّتُه الهرَب مع من هرَب، فيقِف في الميدان مُستمدًّا الشجاعة
والدفء من
الإمساك بيد ولدِه علي، حتى إذا لقِيَ صديقَهُ المُسلِم ناداه طالبًا منه أسْرَهُ مع
ولدِه، ليضمَنَ
مُعاملةً أفضل وهو في الأسر، كما يضمَنُ لصديقه أقصى انتفاعٍ متى حانَ وقتُ الفداء، ثُمَّ
هو يُبدي
دهشتَهُ لكثرة القتل، بينما بالعقليَّة التجارية يكون الأسْرُ أكثرَ نفعًا لعائديَّتِهِ
بإبلٍ ولبَنٍ
ومالٍ وذهب. واختتم ابن كثير مَقتلةَ أميَّة وولده علي، برواية عبد الرحمن بن عوف: «فلمَّا
خشيتُ أن يلحقُونا، خلَّفتُ لهم ابنَهُ لأشغلَهم، فقتلُوه، ثُمَّ أتوا حتى تَبِعونا،
وكان رجلًا
ثقيلًا، فلمَّا أدركُونا قلتُ له: ابرُك، فبرَك فألقيتُ نفسي عليه لأمنَعَه، فتخلَّلوه
بالسيوف من تحتي.»
٥ أو بتعبير ابن هشام:
هبَّروه بأسيافهم، من الهبرة، وهي القطعة العظيمة من اللحم، أي قطَّعوه.
٦
وعن مقتلة «أبي جهل»، تروي كُتب السِّيَر: «وكان أول من لقيَ أبا جهل «مُعاذ بن عمرو
بن
الجَموح»، قال: سمعتُ القوم وأبو جهل في مِثل الحرَجَة (الشجر المُلتَف) وهم يقولون:
أبو
الحكَم لا يُخلَص إليه … فصمَدْتُ نحوَه، فلَمَّا أمْكَنَني حملتُ عليه فضربتُه ضربةً
أطنَّتْ قدَمَه بنِصفِ
ساقه، وضرَبَني ابنه عكرمة على عاتقي فطُرحَت يدي، فتعلَّقَتْ بجلدةٍ من جنبي، وأجهَضَني
القتال
عنه، فلقد قاتلتُ عامَّةَ يَومي، وإني لأسحَبُها خلفي، فلمَّا آذتْني وضعتُ عليها قدَمي
ثُمَّ تمطَّيتُ
حتى طرحتُها.»
٧
وهكذا كانت الإصابة الأولى لأبي الحَكَم بن هشام، فقطع «مُعاذ بن عمرو بن الجموح»
ساقه،
وتركه عقيرًا بين الأحراش بعد أن قام ابنه «عكرمة» يذبُّ عنه، وظلَّ على حاله بينما
انشغل
«عكرمة» في القتال، ثُمَّ في الهرَب، حتى مرَّ به «مُعوَّذ بن عفراء» فناوَشَه وهو يُدافِع
عن نفسه،
حتى ناله «مُعوَّذ» بضربةٍ أخرى أثبتَتْه عن الحركة،
٨ حتى مرَّ عليه «عبد الله بن مسعود»، الذي يروي فيقول: وجدتُه بآخِر رمَق،
فعرفتُه، فوضعتُ رِجلي على عُنقِه، فقال لي أبو جهل:
لقد ارتقيتَ يا رُويعِيَ الغنَم مُرتقًى صعبًا.
٩
أما «ابن مسعود» فيسُوق لنا تدقيقه في الرواية، حتى ما مرَّ بذاكِرتِهِ من ذكرى طافَتْ
به وهو
يقِفُ على رأس عَدُوِّه، إذ يقول:
وقد كان ضبثَ بي مرَّةً بمكة، فآذاني ولكَزَني.
١٠
ثُمَّ يسوق ذكرى أخرى في روايتِه بدلائل البيهقي:
وانتهيتُ إلى أبي جهل وهو صريع، ومعه سيف جيد ومعي سيف رث، فجعلتُ أنقفُ رأسه بسَيفي،
وأذكُر نقفًا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعُفَتْ يدي.
١١
ويستمر «ابن مسعود» لينقُل عنه «الحلبي» في سيرته، قوله:
فبصَقَ في وجهي وقال: خُذ سيفي واحتزَّ به رأسي من عرشِه، ليكونَ أنهى للرَّقَبة،
ففعلتُ ذلك ثم جئتُ به إلى رسول الله
ﷺ، فقلتُ هذا رأس عدو الله أبي جهل،
فقال رسول الله: ألله الذي لا إله غيره، وردَّدها ثلاثًا.
وروى الطبراني: ألله قتلتَ أبا جهل؟ قلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيتُ
رأسَه
بين يدَي رسول الله، فحمد الله تعالى. ويُقال إنه سجد خمسَ سجداتٍ شكرًا.
١٢
أما «نوفل بن خويلد» الذي كان يَصيح في بداية الوقْعة «يا مَعْشر قريش؛ إنَّ هذا
اليومَ يومُ
العُلا والرِّفْعة.» فقد انتهى إلى نداءٍ آخَرَ مُرتعِشٍ يُنادي المسلمين:
ما حاجتُكُم إلى دمائنا؟ أما تَرَون ما تقتُلون؟
أما لكم في اللَّبَن من حاجة؟
«فأسَرَه جبَّار بن صخْر، فهو يَسوقه أمامَه، فجعل نوفل يقول لجبَّار — وقد رأى عليًّا
مُقبلًا
نحوَه: يا أخا الأنصار؛ من هذا؟ واللات والعُزَّى إني لأرى الرجُلَ يُريدُني؟ قال: هذا
عليُّ بن
أبي طالب. قال: ما رأيتُ كاليوم رجلًا أسرع في قومِه منه، فيصمدُ له عليٌّ، فيضرِبُه،
فنشِبَ
سيفه في جحفَتِهِ ساعة، ثم نزَعَه، فضرَب ساقيه ودرعه مُشمَّرة، فقطعَها، ثُمَّ أجهز
عليه فقتَلَه.»
١٣ ومهما بُحِث عن سرٍّ وراء قتْل ذلك الأسير — غير عدَم إيمانه بالدَّعوة — فلن تجِد سوى
أنه كان أحدَ رءوس قريش.
(١) الأسرى
وكان في الأسرى «النضرُ بن الحارث» ربيب مدرسة جُند يسابور، الذي تعلَّم هناك عُلوم
الحضارات، بما فيها أخبار الأقدَمين، في بعْثِ أثرياء مكة أبناءهم لمدارس الحضارات.
وكان يقعُد مع زميله «عُقبة بن أبي معيط» للنبيِّ بمكة مَقْعَدَ رصْد، ليَتوَجَّهوا له
باستفساراتٍ كثيرةٍ بقصد الإحراج والإيذاء، وعادةً ما كانوا يُعقِّبون بقولهم للناس:
تعالوا؛ نقول لكم أفضلَ مِمَّا قال. وللصُّدفة العجيبة أن يقع مع «النضر» في الأسر، رفيقه
المُثقَّف «عقبة بن أبي معيط»، ليسيرا في ركاب الركب المُنتصِر مُقيَّدَين.
وقد وقع «النضر» أسيرًا بيد «المِقداد»، وتم ربطه مع بقيَّةِ الأسرى الذين أخذوا
يَمرُّون أمام رسول الله
ﷺ، ومن ثم «نظر إلى النَّضْر وهو أسير، فقال
النَّضْر للأسير الذي بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليَّ بِعينَين فيهما الموت.
فقال له: والله ما هذا منك إلَّا رُعب. وقال النضر لمُصعَب بن عُمير: يا مُصعب أنت أقرب
من
هذا إليَّ رحمًا، فكلِّم صاحبك أن يجعلني كرجلٍ من أصحابي — يَعني المأسورين — هو والله
قاتلي. فقال مصعب: إنك كنتَ تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا …»
١٤ وفي أسباب النزول للسيوطي كان المِقداد آسِر النَّضر، وما إن أناخ الركبُ
المُنتصِر بالصَّفراء، حتى أمَرَ النبيُّ بقتْلِ النَّضْر، فقال المقداد: يا رسول الله
أسيري.
فقال له رسول الله: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول.
١٥
وبعد ذلك بزمن، يوم فتْح المُسلمين لمكَّة، أنشدَتْ شقيقتُه النبي شِعرًا يقول:
أمحمدٌ لأنت ضِنءُ نجيبةٍ
في قومها، والفحل فحلٌ مُعرِق
ما كان ضرَّك لو منَنْتَ ورُبَّما
مَنَّ الفتى وهو المغيظ المُحنق
وهنا عقب النبي بحُنُوِّه: «لو بلَغَني هذا الشِّعرُ قبل قتلِهِ لمننتُ عليه.»
١٦ أي لأطلَقَه، رغْمَ ما قال في كتاب الله وما فعل برسول الله، ومع عدم
الإيمان بدعوة الإسلام (؟!).
وبعد مرحلةٍ من الطريق، أناخ الرَّكبُ بعِرق الظبية، وأمرَ النبيُّ «عاصم بن ثابت»
بقتْل
رفيق «النضر» وزميل تلمذتِهِ «عُقبة بن أبي مَعيط». ولمَّا أقبلَ إليه «عاصم بن ثابت»،
دارت
بينهما المُحاوَرة التالية:
عقبة
:
يا معشرَ قُريش، علامَ أُقتَل من بين من هنا؟
عاصم
:
على عداوتك لله ورسوله.
عقبة
:
أتقتُلُني يا محمد من بين قريش؟
النبي
:
نعم، أتدْرون ما صنَعَ بي هذا؟ جاء وأنا ساجِدٌ خلْفَ المقام، فوضَعَ رجلَه على عُنقي
وغمزَها، فما رفَعَها حتى ظننتُ أن عينيَّ ستنداران، وجاء مرَّةً أخرى بِسَلا شاةٍ فألقاها
على
رأسي وأنا ساجِد، فجاءت فاطمة فغسلَتْهُ عن رأسي.١٧
وهكذا أدرك «عقبة» مصيره جزاء ما قدَّمت يداه، حتى لو كان أسيرًا، بعد أن كان بمكة
سيِّدًا مُترفًا، فكان أنْ تهاوَتِ الكرامة والعزَّة، وتنازل عن كبريائه وصرَخ مُسترحمًا
في
استغاثةٍ أخيرة، يُذكِّر النبيَّ بما لدَيهِ من أطفال مُناديًا:
فجاءه ردُّ رسول الله
ﷺ وهو في دمائه يتخبَّط: النار.
١٨
ووصَلَ المُسلمون ببقيَّةِ الأسرى إلى يثرِب، بينما كانت «سَودة بنتُ زمعة» زَوج
النبي عند
آل عفراء، تُشاركهم مُصابهم في مناحَتِهم على ولدَيهم «عوذ» و«مُعوَّذ» اللذَين استُشهِدا
ببدر، حيث رَوت «سودة» رضي الله عنها: «والله إني لعِندَهم إذ أُتِينا، فقيل هؤلاء
الأُسارى قد أُتِي بهم، فرجعتُ إلى بيتي ورسول الله فيه، وإذا أبو زيد بن سهيل بن عمرو
في ناحية الحُجرة، مجموعةٌ يداه إلى عُنُقه بحبل، فلا والله ما ملكتُ نفسي حين رأيتُ
أبا يزيد كذلك، أن قلت:
أي أبا يزيد؛ أعطيتُم بأيديكم، ألا مُتُّم كرامًا؟
فوالله ما نبَّهَني إلَّا قول رسول الله
ﷺ من البيت:
يا سودة؛ أعلى الله ورسوله تُحرِّضين؟
قلت: يا رسولَ الله؛ والذي بعثكَ بالحق، ما ملكتُ نفسي حين رأيتُ أبا يزيد مجموعةً
يداه
إلى عُنقه، إلَّا أن قلتُ ما قلت.»
١٩
وتروي السِّيَر «وجاء مُطعَم بن مُطعَم وهو كافر إلى المدينة، يسأل النبيَّ في أسارى
بدر،
فقال له النبي
ﷺ: لو كان شيخُك — أو لو كان الشيخ أبوك — حيًّا،
فأتانا فيهم لشفَّعناه. وفي رواية: لو كان مُطعَم حيًّا وكلَّمَني في هؤلاء النَّفَر.
وفي
رواية: في هؤلاء النَّتنى، لتركتُهم له.»
أما تبرير مُمكِنات إطلاق مُشركين لم يؤمنوا، بشفاعة المُطعم، والاستجابة لإجارته،
فلأنَّ «المُطعم كان قد أجار النبيَّ لمَّا قدِم الطائف، وكان من سعى في نقضِ الصحيفة.»
٢٠
وفي السيرة أنَّ «أبا عزَّة بن عبد الله» كان في الأسْر، فقام يتزلَّفُ النبيَّ بمديحه
شِعرًا، ثُمَّ طلَبَ منه أن يَمُنَّ عليه ويُطلِقُه، لأنه صاحِب حاجةٍ وذو بنات، فأفرج
عنه، فلمَّا
ذهب إلى مكة قال: سحرتُ محمدًا وعاد يَهجوه، حتى وقَعَ بعد ذلك أسيرًا يومَ أُحد، وكان
الأسير الوحيد في تلك الوقعة، فعاد للمديح وطلب العفو والمَن، فأجابه النبي «لا أدعكَ
تمسح عارِضَيك وتقول: خدعتُ محمدًا مَرَّتَين، ثُمَّ أمر به فضُربَتْ عُنُقه. ويُقال
إن فيه قال
رسول الله: لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرَّتَين.»
٢١
(٢) مُزايدات
وعليه، يُمكن بالقراءة الموضوعية، أن يستكشِف المُتابع ظروفًا أدَّت إلى وقعة بدر،
وصاغَت دقائقَ أحداثها، وحتَّمتْ نتائجها، وأن يقرأ دَور الجُهدِ البشري في توجيه مجموعة
العناصِر المُكوِّنة للمُقدِّمات والنتائج، ودَورها الجَدَلي مع قواعد التطوُّر الاقتصادي
ومن
ثَمَّ المُجتمعي، كما يُمكنه ببساطةٍ وإنصاف، أن يقرأ دَور التنظيم والتخطيط الواعي من
قِبَل
البشر لدفْع ذلك التطوُّر نحوَ غايته، والوقعة البدريَّة نحوَ نتائجها. وأثناء ذلك سيلمَحُ
لونًا من المُزايَدَة التي ترقى بالحدَث المَوضوعي من مُستوى الواقع إلى فضاء الأسطورة،
أو هي على الأصحِّ تهبِط بالأسطورة لتَغطيةِ أرض الواقع، أو هي على التدقيق تُفلِتُ بحدَث
الواقع خارج دائرة الفعل الطبيعي والقُدرات البشرية. وهي المُزايدات التي ربما كانت
إسهامًا أسهمَ به الرُّواةُ زمن الحدَث، كلٌّ حسبَ مُمكناتِه، وربَّما كانت إسهامات إضافية
أُضيفَتْ زمن تدوين كُتب السِّيَر والأخبار، وربما كانت مُزايدات من أقوامٍ كالمُؤلَّفة
قلوبهم
والطُّلقاء لإثبات خُلوص الإيمان. وقد كان الوعْدُ بنزول الملائكة من وراء الكون المَنظور
إلى بُقعة بدر لنُصرة المُسلمين، أحدَ أهمِّ العوامل التي ساعدَتْ على إعطاء الخيال
الإنساني مساحةً واسعةً للمُزايدة، فإن هبطَت الملائكة، فلا بأس إذن من حدوث أي خارقٍ
آخر.
لقد بدأت الرُّوايات مُلتصِقةً بالمقبول، وبِواقِع الحدَث كما حدَث. وهو ما يُمكنك
تلمِسَه في
تلك الروايات مع بداية قَصِّها للواقِعة البدرية. فهذا — مثلًا — أول شهيدٍ مُسلمٍ مُهاجر
في
بدر «عبيدة بن الحارث»، الذي بارز «عُتبة بن ربيعة»، فحمَلَه رفيقاه «حمزة» و«علي» إلى
رسول الله «واحتملا صاحِبَهما عبيدة، فجاءا به إلى أصحابه، وقد قُطِعَتْ رجلُه فمُخُّها
يسيل. فلمَّا أتَوا بعبيدة إلى رسول الله
ﷺ قال: ألستُ شهيدًا. قال:
بلى. فقال عبيدة: لو كان أبو طالبٍ حيًّا لعلِم أني أحقُّ منه حيث يقول:
ونُسلم حتَّى نصرع حولَه
ونذْهَلُ عن أبنائنا والحلائل
٢٢
وأسلم الرجلُ رُوحَه شهيدًا، ورأسه على فخْذِ رسول الله
ﷺ. والقصة
كما هو واضح، تسير سيرًا طبيعيًّا، يُذكِّر فيها «عبيدة» النبيَّ بأهلِهِ الهاشميِّين
— الذين مَنعوه من الأُمويِّين — على رأسهم «أبو طالب» عمُّ النبي، عندما حقَبَ الأمر
مع
الأُمويِّين وكاد يُفضي إلى حربٍ بين أبناء العمومة، فأرسل «أبو طالب» شِعرَه يؤكِّد
لهم
أنهم لن يَنالوا من ولدِه «محمد»، حتى يفنى ويُصرَع حوله بنو هاشم وهم يُدافعون عنه،
بعصبية القبيلة ورَحِم العشيرة. ويتميَّز هنا «عبيدة» في قوله: إنه أحقُّ من أبي طالبٍ
بذلك الشِّعر، أنَّهُ مات بالفِعل دفاعًا عن رسول الله
ﷺ، ودفاعًا عن
دعوته، بل ومؤمنًا بهذه الدَّعوة، وأنَّ أعضاء الجماعة الإسلامية، الذين هجَروا القبيلة
إلى الأُمَمِيَّة، هُم الأحقُّ بالشهادة، وأحقُّ بالقول من «أبي طالب».
ثم نرحَل إلى القصَّة التالية، وهي عن «مُعاذ بن عمرو بن الجموح»، الذي ضرَب ساق
«أبي
الحكم»، فنالَ منه «عكرمة بن أبي الحكَم» بضربةٍ أطاحت ذِراعه «وضرَبَني ابنُه عكرمة
بن
أبي الحكَم على عاتِقي، فطرَح يدي، فتعلَّقَتْ بجلدةٍ من جَنبي … وإني لأسحَبُها خلفي،
فلمَّا
آذتْني وضعْتُ عليها قدَمي ثم تمطَّيتُ حتى طرحتُها.»
٢٣ ومن ثم بدَتِ الرواية قادرةً على الإبهار، لمدى الصلابة والجلَد عند ذلك
البطل اليَثربي، ولكن الأمر يبدأ هنا بالانتقال إلى فضاء الأسطورة، بمُزايداتٍ لحَظْنا
أنها تبدأ عادةً غير مُحدَّدة المصدر، بالقول: «وفي رواية»، وهي بذلك رواية مجهولة
السَّنَد، وهو ما بدأتْ به المُزايدة في قصَّة البطل «معاذ»، في القول: «وفي رواية: أنه
جاء بها إلى الرسول
ﷺ، فبصَقَ عليها، ولصَقَها، فلصقتْ!»
٢٤
وهو ما نجد له شبيهًا في رواياتٍ صِيغَت حول «أبي جهل-أبي الحكم»، الذي كان له شأن
أجلُّ من أن يُمَرَّ بمقتلِه في بدر ببساطة وينتهي الأمر، رغم مَيتَتِه البائسة التي
سقاه
إياها ثلاثةٌ من المُسلمين على التَّوالي، لأنه كان عدوَّ رسول الله الألد، ومن ثَمَّ
كانت
مَقتلةً غَير شافيةٍ للنفوس، فيَصِل الأمر إلى حدِّ قول «الشعبي»، دون سندٍ واضحٍ لروايتِهِ
عن
قائلٍ بِعَينِهِ مُحدَّد الاسم، فيقول:
إنَّ رجلًا قال للنبي
ﷺ: إني مَررتُ ببدرٍ فرأيتُ رجلًا يخرُج من
الأرض، فيضرِبُه رجلٌ بمقمعةٍ معه حتى يَغيب في باطنِ الأرض، ثم يخرُج، فيفعل به مِثل
ذلك،
قال ذلك مرارًا، فقال رسول الله: ذاك أبو جهل بن هشام، يُضرَب إلى يوم القيامة.
٢٥
أما النبي الذي أجمَعَتِ الروايات الصادِقة على أنه كان بعريشِهِ فوق التلِّ طول
المعركة،
يدعو ربَّهُ ويُصلي طالبًا الأزرَ والنُّصرة، فإنَّ روايات أخرى تضَعُهُ في مقدِّمة الصفوف
مُحاربًا، فيما نُسب إلى «حارثة بن مضرب» وهو يقول:
لما كان يوم بدر، اتَّقَينا المشركين برسول الله
ﷺ، وكان أشدَّ الناس
بأسًا.
وهو ما أخرجه «الإمام أحمد» في مسنده (١: ٢١٦): «وحدَّثَنا إسرائيل بنحوِه، وزاد:
ما
كان أحدٌ أقرَبَ إلى المُشركين منه.»
٢٦
وعن «قتادة بن النُّعمان» يُروى «أنه أُصيبَتْ عينُه يومَ بدر، فسالت حدَقتُه على
وجنتِه،
فأرادوا أن يَقطعُوها، فسألوا رسول الله
ﷺ، فقال: لا. فدَعاه، فغمز
حدَقتَهُ براحته، فكان لا يدري أي عينَيه أُصيب، وفي رواية: فكانت أحسَنَ عينَيه. وعن
رافع
بن مالك: رُمِيتُ يوم بدرٍ بسَهم، ففُقئت عيني، فبصقَ فيها رسول الله ودعا لي، فما آذاني
منها شيء.»
٢٧
ويُروى أن «خبيب بن عدي» ضُرِب يوم بدر «فمال شِقُّه، فتفَلَ عليه رسول الله
ﷺ، ولأَمَه، وردَّه، فانطبَق.» ثُمَّ يتقدَّم صاحِب «دلائل النبوة» بمجموعة من
الروايات يراها من تلك الدلائل، ومنها «عكاشة بن مُحصن قاتلَ بسيفه يومَ بدر حتى انقطع
في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جذلًا من حطبٍ وقال: قاتِل بها يا عُكاشة، فلمَّا أخذه
من
يدِ رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا، طويلَ القامة، شديد المَتْن، أبيضَ الحديدة، فقاتَلَ
به حتَّى
فتح الله تعالى على رسول الله، ثم لم يزَلْ عنده يشهَدُ به المَشاهد … وكان ذلك السيف
يُسمَّى القوي … وانكسر سيفُ سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر، فبقي أعزلَ لا سلاح معه،
فأعطاه رسول الله قَضيبًا كان في يدِه، من عَراجين بن طاب، فقال: اضرِب به، فإذا هو سَيف
جيِّد، فلم يزَلْ عندَه حتى قُتل يومَ جِسر أبي عبيدة.»
٢٨
وهكذا احتشدَت كُتب السِّيَر والأخبار بالمُزايدات، والرِّوايات التي تنزِع نحو الأسطورة،
بمجرَّد أن فُتِح لها الباب، وبات بالإمكان سلْخ أي حدَثٍ عن واقعِه، ونقلِه إلى مُستوًى
آخر،
يكسِر الواقع ويُدعِّم الأسطورة بالشهادات. وهو ما تمثَّل في قصَّةٍ حدثت عند بدءٍ وقعةِ
بدر،
عندما أمسك النبيُّ عليه الصلاة والسلام بحفنةٍ من الحصْباء، ورَمى بها قُريشًا ثُمَّ
قال:
شدُّوا.
ولأنَّ إلقاء الحصْباء على العدو لا يحمِل أية دلالةٍ عسكرية بعينها، ولأنَّ ذلك
التصرُّف
النبوي لا بدَّ له معنى محدَّد يؤدِّي دوره في المعركة، فقد انتقلَت المزايدة بإلقاء
الحصْباء إلى المُستوى السِّحري، لتؤدِّيَ دورًا عسكريًّا كاملًا. وكثيرًا ما وردتْ تلك
المُزايدات على لِسان مُشركين أسلَمُوا مُتأخِّرين، ومنهم الطُّلَقاء الذين أرادوا التَّحبُّب
للإسلام والمسلمين ونبي الإسلام، ببعض المُجاملات والمُلاطفات، ومنهم المؤلَّفة قلوبهم
بالطبع الذين أرادوا أن يَردُّوا التحيَّة بأحسنَ منها، ومن تلك المُزايدات رواية تقول:
«سمعتُ نوفل بن معاوية الديلي يقول: انهزمْنا يوم بدر، ونحن نسمَعُ صوتًا كوقْع الحَصى
في
الطاس في أفئدتِنا، ومن خلفِنا، فكان ذلك من أشدِّ الرُّعب علينا.»
٢٩
ومثله قول «حكيم بن حزام»: «التقَينا فاقتتلْنا، فسمعتُ صوتًا وقَعَ من السماء إلى
الأرض، مثل وقْع الحصى في الطست، وقبضَ النبيُّ القبضةَ فرمى بها، فانهزمنا، وسمِعْنا
صوتًا من السماء وقَعَ إلى الأرض كأنه صوت حصاةٍ في طست، فرَمى رسول الله تلك الحصاة
يوم بدر، فما بقِيَ منَّا أحد.»
٣٠
الحصوات هنا لم تَعُد قبضةً من حصى تلِّ بدر، إنما حصوات سَماوية تقوم بفعل عسكري،
لكنه
إعجازي، ما إن رمى بها النبيُّ المُشركين حتى قتلَهُم جميعًا، أما دور تلك الحصى كإحدى
أدوات الجيش الإسلامي، بل وأكثر الأدوات فاعلية، فهو ما تُوضِّحه رواية لا تخرج عن
الاعتقاد في الأثر السِّحري للفعل النَّبوي، فتقول: «لم يبقَ من المُشركين رجل إلَّا
ملأتْ عينَيه.»
٣١
وإذا كان يوم بدر، هو يومُ هبوط الملأ الأعلى من الملائكة على خُيولها، تحمِل
سيوفَها، فلا بأس على مؤمنٍ إن زاد فقال: «ويُقال: إنه كان مع المُسلمين يومَ بدرٍ من
مُؤمِني الجنِّ سبعون.» وحتى يحبُك الراوي روايته التي تفرَّد بها يَستدرِك قائلًا: «لكن
لم
يثبُت أنهم قاتلوا، فكانوا مُجرَّدَ مدَد.»
٣٢
(٣) ملائكة بدر
في أول مشهدٍ تُقدِّمه كُتب السِّيَر لمَقدِم الملأ السَّماوي إلى بدر، يروي ابن
إسحق:
وقد خفقَ رسولُ الله خفقةً وهو في العريش، ثُمَّ انتبَهَ فقال: أبشِر يا أبا بكر، أتاك
نصر الله، هذا جبريل آخِذٌ بعنان فرسِهِ يقوده، على ثناياه النَّقْع.
٣٣
وفي رواية أخرى، قال رسول الله
ﷺ:
أبشِر يا أبا بكر، هذا جبريل معتَجِر بعمامةٍ صفراء، آخِذٌ بعنان فرسِهِ بين السماء
والأرض، فلمَّا نزل إلى الأرض تغيَّبَ عنِّي ساعة، ثم طلَعَ على ثناياه النَّقْع يقول:
أتاك نصر
الله إذ دعوتَهُ.
٣٤
ثم تتوالى الروايات، عن بعض رجالٍ من بني مازنٍ لا نعرِفُ من هُم تحديدًا. عن أبي
داود
المازني، أنه قال:
إني لأتبَعُ رجلًا من المُشركين يومَ بدر لأضرِبَه، إذ وقَعَ رأسُه قبل أن يصِل إليه
سيفي،
فعرفتُ أنه قد قتَلَهُ غَيري.
٣٥
فهذا رجل يُقتَل في المعمعة، وسط سيوفٍ عديدة مُتشابِكة ورماح تطير ونبالٍ تئزُّ
وغُبار
وسنابك خُيول، ورءوس تُغطِّيها الخُوذ، وأجساد مُدرَّعة بالدُّروع، ويقول المازني أنَّ
غيرَه قد
قتلَ القتيل، لكن هذا الغَير «القاتل» بمجهوليَّتِهِ في المعمعة يتمُّ التقاطه ليُصبِح
أحد
الملائكة، ليؤكده قول أبي إمامة لولده:
يا بني، لقد رأيتنا يومَ بدر، وإنَّ أحدَنا يُشير بسيفه إلى المُشرك، فيقَعُ رأسه
عن جسدِه قبل أن يصِل إليه السيف.
٣٦
وتتتالى الروايات التي عادةً ما يُشار إلى روايتها بالقول: قال رجل كذا وكذا، أو
عن
رجلٍ من بني كذا، ومِثلها قول ابن عباس:
بينما رجل من المسلمين يومئذ، يشتدُّ في إثر رجُلٍ
من المُشركين أمامه، إذ سمِع ضربةً بالسَّوط فوقَه، وصوتُ الفارس يقول: أقدِم حيزوم (وحيزوم
هو فرَس الملاك جبريل)، إذ نظَرَ المُشرك أمامه فخرَّ مُستلقيًا، فنظرنا إليه فإذا هو
خُطِم
من أنفه، وشُقَّ وجهُه كضربةِ السَّوط، فاخضر ذلك جميعًا، فجاء الأنصاري فحدَّث ذلك رسول
الله
ﷺ، فقال: صدقت، ذلك مدَدٌ من السَّماء الثالثة.
٣٧
ويروي بعضُ بني ساعدة، عن «أُسيد مالك بن ربيعة»، بعد أن ذهب بصرُه، «لو كنت اليوم
معي ببدْر، ومعي بصَري، لأريتُكم الشِّعب الذي خرجَتْ منه الملائكة، لا أشكُّ فيه ولا
أتمارى.»
٣٨ وهكذا، فالرجل الوحيد الذي رأى الملائكة رؤى العَين، ورأى الشِّعب الذي
انسلَّت منه صفُوفهم إلى جبال بدر وواديه، قد ذهبَ بصرُه، حتى لا يتمكَّن من تحديد المكان،
ويظلُّ القصُّ هُلاميًّا، وقفًا على رواية عن بعض بني ساعدة.
ومثل تلك الروايات، روايات أخرى، منها رواية «أبي بُردة بن نيار» حيث قال: «جئتُ
يوم بدرٍ بثلاثةِ رءوس، فوضعتُها بين يَدَي النبي
ﷺ، فقلت: يا رسول
الله، أمَّا رأسان فقتلتُهما، أما الثالث فإني رأيتُ رجلًا أبيضَ طويلًا ضرَبه، فأخذتُ
رأسه. فقال رسول الله: ذاك فلان من الملائكة.»
٣٩ أما عن أبي جهل الذي باتَ معلومًا عددُ من اشتركوا في قتلِه بالاسم، فإن
هناك من روى عن النبي قوله: «قتَلَه ابنا عفراء والملائكة، وابن مسعود قد شرَكَ في قتله.»
٤٠
هذا ناهيك عن رواياتٍ أخرى مجهولة المصدر، مثل رواية ابن عباس إذ قال:
حدَّثني رجلٌ من بني غِفار قال: أقبلتُ أنا وابن عمٍّ لي حتى أصعَدْنا في جبلٍ يُشرف
على
بدر، ونحن مُشركان، ننتظر الوقْعة على من تكون الدبرة، فننهَبَ مع من ينتهِب، قال: فبَينا
نحنُ في الجبل إذ دنَتْ منَّا سحابة، فسمِعنا فيها حمحمةَ الخَيل، فسمعتُ قائلًا يقول:
أقدِم
حيزوم. قال: فأما ابنُ عمِّي فانقشَعَ قِناع قلبِهِ فمات مكانه، وأما أنا فكدتُ أهلَكُ
ثُمَّ تماسَكْت.
٤١
أما المشركون (والرُّواة أسلموا بعد ذلك عند الفتح)، فوجَدَ بعضهم — فيما يبدو —
في
هبوط الملائكة، تبريرًا لهزيمتِهم المُخجِلة أمام المسلمين، فحاك بعضهم على ذات النَّول.
فهذا «المُغيرة بن الحارث» يذكُر أنه كان قال زمن بدر لأبي لهب «وأيمُ الله ما لُمتُ
الناس، لَقِينا رجالًا بيضًا على خَيل بُلق، بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئًا،
ولا يقوم لها شيء.»
٤٢
وهكذا تقدَّم الطُّلقاء بدلائهم إلى مائدة المُزايدات، ومنها رواية «ابن حَجَر» في
الإصابة (٢: ٩)، عن «السائب بن أبي حُبيش» الذي أسلم يوم الفتح الإسلامي لمكة، ونال
من الرسول نَصيبَه من الأعطيات، ثلاثين وسقًا في خَيبر، فكان يُحدِّث الناس زمن «عمر
بن
الخطاب» عندما قرَّرَ عُمر قطع أنصبةِ المؤلَّفة قلوبهم عنهم، بقوله:
والله ما أسرني أحدٌ من الناس، فيُقال: فمن؟ فيقول: لمَّا انهزمَتْ قُريش انهزمتُ معها،
فأدَرَكني رجل طويل على فرسٍ أبيض بين السماء والأرض، فأوثَقَني رباطًا، وجاء عبد الرحمن
بن عوف فوجدَني مربوطًا، وكان عبد الرحمن يُنادي في العسكر: من أسَرَ هذا؟ فليس أحدٌ
يزعُم أنه أسَرَني، حتى انتهى بي إلى رسول الله
ﷺ فقال رسول الله: يا
ابن أبي حُبيش، من أسَرَك؟ فقلت: لا أعرفه. وكرهتُ أن أُخبِره بالذي رأيت؛ فقال رسول
الله: أسرَكَ ملك من الملائكة. اذهب يا ابن عوف بأسيرك. فذهب بي عبد الرحمن بن عوف،
فقال السائب: ما زلتُ تلك الكلمات أحفظها، وتأخَّر إسلامي، حتى كان من أمري ما
كان.
أما البيهقي، فيُعقِّب على رواية السائب بقوله الكاشف:
ولا أعلَمُه روى عن النبي
ﷺ شيئًا.
٤٣
ثم يَجِد المُطالع لسيرة ابن هشام، كشفًا رصَدَه راوي السيرة عبر عددٍ من الصفحات
على
استطالتِها، بأسماء قتلى قريش في بدر، وأسماء الذين قتلوهم من المُسلمين، كلُّ قتيل،
وكل قاتل، دون إسقاطٍ لاسم مَقتول أو لاسم قاتلٍ من الطرَفَين.
٤٤
وربما كانت مثل تلك المُزايدات التي أوردناها، مدعاةً لتهكُّم رجلٍ مُلحدٍ مثل ابن
الراوندي وهو يتساءل:
من هؤلاء الملائكة الذين أنزلَهم الله يوم بدْر لنُصرة نبيه؟ إنهم كانوا مَغلولي
الشوكة قليلي البطش، فإنهم على كثرتِهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم، لم
يقتُلوا أكثر من سبعينَ رجلًا؟! وأين كانت الملائكة يومَ أحدٍ حين توارى النبيُّ بين
القتلى ولم ينصُره أحد؟
٤٥
وإذا كنا نورد كلام ذلك المُلحد، فلكي نرى إلى أي حدٍّ يمكن أن تُبلبل تلك الروايات
الفؤاد، ولا شكَّ أن مَوقفه كمُلحد مرفوض بالقطع من جانبنا، لكنَّا ربما تساءَلنا تساؤلًا
مشروعًا من مُسلم يُريد الاطمئنان لطَويَّة فؤاده، حرصًا على صيانة إيمانه ونقائه، مع
تساؤل من سأل «أبي الحسَن السبكي»، وهو يقول:
سُئلتُ عن الحِكمة في قتال الملائكة مع النبي ببدر، مع أن جبريل قادر على أن يدفع
الكفار بريشةٍ من جناحه، فأجبت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفِعل للنبي وأصحابه، وكان
يكفي ملك واحد، فقد أُهلِكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح
بصَيحة.
٤٦
أما الأهمُّ برأينا في خبر الملائكة، فهو أن إعلام النبي للمُسلمين قبل القتال
بالمدَد السماوي، كان كفيلًا بتقوية رُوحهم المعنوية، وإنزال السكينة على قلوبهم، وهو
ما أدَّى بالفعل إلى نومهم ليلة القتال نومًا أخذوا به راحتهم، استعدادًا لاستقبال
قريش في الصباح، كما كان وجود الملائكة — في حالة أخرى — حلًّا مثاليًّا لمشكلة توزيع
الأنفال، عندما اختلف المسلمون حول أنصِبتهم في أنفال بدر، فنُزعت من أيديهم ووُضعت
بيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليُقرِّر ما يراه لشأنها، باعتبار الله وملائكته
هم أصحاب ذلك النصر، وهو ما قالت بشأنه الآيات:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ
وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ
بَيْنِكُمْ (الأنفال: ١).
وهي الآيات التي كان سببها ما يرويه أبو أمامة الباهلي:
سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفْنا في
النفْل وساءت فيه أخلاقُنا، فنزَعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسَّمه رسول الله
ﷺ بين المسلمين عن بواء، أي على السواء.
٤٧
والعجيب بشأن ما رُوي عن الملائكة البدريِّين، قصصٌ أخرى، كان واضحًا أنَّ أصحابها
لم
يجِدوا أية دلائل ظاهرة يُمكن تأويلها ونِسبتها إلى الملائكة، فالتقطَتْ نملَ الوادي
الذي
ربما سالَ من جُحوره بفعل المعركة، وما سُكِب من ماء القُلُب المُغوَّرة، لترى في ذلك
النمل
ملائكة السماء. وهو ما جاء في قول جُبير بن مُطعَم: «رأيتُ قبل هزيمة القوم والناس
يقتتلون، مثل البجاد الأسود أقبلَ من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشكَّ أنها
الملائكة، فلم يكن إلَّا هزيمة القوم. وعن حكيم بن حزام قال: لقد رأيتُنا يوم بدر وقد
وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سدَّ الأفق، وإذا الوادي يسيل نملًا، فوقع في نفسي
أن هذا شيء من السماء أُيَّد به محمد
ﷺ، فما كانت إلا الهزيمة،
وهي الملائكة.»
٤٨ لكنَّ المُلاحظ هنا أن الرواية خرجت بنمل الوادي إلى فضاء الأسطورة، لتضع
جملة تقول: إنه نملٌ سماوي، سقط من السماء على الأرض.
والحاسم في أمر تلك الروايات جميعًا، والذي يضع أمر الملائكة في موضعه الصحيح،
ولا يسمح بسلْب الرواة للعقلانية المعهودة عن دين الإسلام، فهو ما جاء بين الروايات
هادئًا رصينًا يقول:
لولا أنَّ الله تعالى حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر، لمات أهل الأرض
خوفًا من شدَّة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم.
٤٩
أما القاطع في المسألة فهو:
أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه … وكان الملك يتصوَّر في
صورة من يعرفون.
٥٠