قراءة أخرى
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ.
والنداء يعكس مدى ثقة «أبي الحكم» في قوة قريش، كما يعكس الرغبة في تأديب الخارجين على الملأ، بأسرِهم ثم أخذِهم إلى مكة لمُحاسبتهم، ليكونوا عبرةً لمن تُساوره أطماعه من الأعراب، بتهديد الطريق التجاري المكي، طريق الإيلاف، وهو — لا شك — النداء الذي حاول المُشركون تنفيذه، بتحاشي القتل طمعًا في الأسر، بينما كان المسلمون يقتلون غير هيَّابين، بأوامر نبيهم وتوجيهات السماء، وهو عامل آخر يضاف إلى رصيد أسباب النصر البدري، فكان نصرُ الله لجُنده، ممَّا عكس توقُّعات «أبي الحكم»، الذي أثبتت وقعة بدر أنَّ حِكمته قد تخلَّت عنه في قراراتٍ عدة، ساعدت على الهزيمة، فاستحقَّ لقب «أبي جهل» عن جدارةٍ واستحقاق.
وإعمالًا للمادة التي رصدتْها كُتُب السير والأخبار الإسلامية عن وقعة بدرٍ الكبرى، يمكن إعادة قراءة واقع الأحداث قراءةً موضوعية، تضع كل حدَثٍ في موضعه الصحيح، لمعرفة دَور كل عنصر في إفراز النتائج التي انتهت إليها الوقعة البدرية، التي شاءت لها الظروف أن تكون ذات دَور بارز في تحديد مسار التاريخ الإنساني بعدها.
(١) وضع المكيين
ثم كان ما كان من تفرق القرار المكي، وفقده الإجماع واتفاق الكلمة، حول الخروج أو القعود، ثم ما كان من شأن بني هاشم، ويقين الأمويين أنَّ هوى بني هاشم مع محمد، وما كان من خروجهم مع الخارجين مُكرهين، بإصرارٍ غير حكيم من «أبي الحكم»، ممَّا جعل الجبهة المكية من البداية، مُتفرقة وغير مُتماسكة، تستبطِن في داخلها صفًّا مُعاديًا لها.
وما بدأت المعركة فعليًّا، إلا وكانت قريش مُحطَّمة معنويًّا بالتمام، بعدما رأت ثلاثة من أشرافها وشيوخها ورجال الملأ المُقدَّمين، يتضرَّجون في دمائهم في مُبارزة سريعة، فقُتل الشيخ الجليل — بتعبير كتُب السير الإسلامية — «عتبة بن ربيعة»، وأخوه «شيبة بن ربيعة»، وابنه «الوليد بن عتبة»، في لحظات، لتبدأ المعركة الساخِنة، مع نداء النبي لرجاله: شدُّوا.
ويبدو أن الكثرة العددية للقرشيِّين، مُقارنة بعدد المسلمين، كانت مدعاةً في نظر البعض لعدَم البحث عن أي ظرفٍ آخر لهزيمة قريش، فهي المُعجزة. ولا جدال عندنا أنها مُعجزة انتهت بانتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله، لكن مع الأخذ في الحُسبان أنَّ تلك الكثرة القرشية، كانت تحتوي على تناقُضٍ صارخ في الأعمار مع القلَّة الإسلامية، حيث كان الجمع القرشي يحوي الأشراف والأجلَّة من شيوخ قريش، مقابل جيش إسلامي يَضمُّ في مُعظمه شبابًا كله فتوَّة، مع رجال يثرِب المُتمرِّسين بالحرب المُتترِّسين بالحلقة.
وهذا بالطبع ما يمكن إضافته جميعًا إلى عدم ثقة قريش في عدالة موقفها، من حيث قياسه على محكِّ العرب في العدل، وإن اتَّفقَ مع مقاييس المصالح، وتثبيت الهَيبة كأغراضٍ أساسية، وهو الأمر الذي كان غير موافق لرغبة جميع القرشيين، فانقسموا حوله في الرأي بعد نجاة تجارتهم. هذا ناهيك عن الخوف القرشي من إصابة أحدٍ من العشيرة، أو سفك دم أحد من بني العمومة أو الإخوة.
ولا نزاع في أنَّ وصول قريش إلى بدر مُتأخرة عن المسلمين بيوم كامل، لم يعطها فرصة اتِّخاذ المواقع الملائمة في الحرب، خاصَّة أنها ما إن دخلت وادي بدر حتى بدأت المعركة، مع الجهد والعطش الذي أخذ بها وهي تحثُّ الخُطى أملًا في مياه بدر التي وصلتْها وقد غُوِّرت، مع تضارُب رأي الرءوس منها نتيجة غياب القائد الواحد، حيث كان «أبو سفيان/صخر بن حرب» صاحب اللواء مُتغيبًا مع قافلته، مما كان سببًا في خُلف عظيم بين الملأ في كلِّ شأنٍ منذ خرجوا من مكة، فحاربوا بدون قائد ولا ترتيبٍ ولا حتى نفوس مُهيأة للمعركة.
(٢) وضع المسلمين
وبمقارنة حال المكيِّين بحال المُسلمين، نجد رصيدًا موضوعيًّا آخر لانتصار المسلمين في بدر على أهل الشرك، لعلَّ أهمَّه هو ثقة شباب الجيش الإسلامي في عدل قضيته، وأن الله يُعطي نصرَه للمظلوم الذي أخرجه الظالمون من أهل بيته وبَنِيه. إضافة بالطبع إلى الأنصار رجال المُجالدة المُتمرِّسين، من حازوا صفة أهل الدم والحرب والحلقة التي ورِثوها كابرًا عن كابر، وهو ما أجَّج معنويات المسلمين وأعلاها، لتطلُب ثأرها أو موتًا بعده جنات خالدة، كناتجٍ ليقين أنهم يُحاربون ومعهم رسول الله، ثم كان أعظم دعم لتلك المعنويات العالية، الوعد بالإمداد السماوي المُحارب. هذا بالطبع مع تحوُّل الولاء عن القبيلة إلى الأخوة الإسلامية، عن العشيرة إلى الله ورسوله، وعن البطون والأفخاذ إلى الأُمَميَّة، مما جعلهم يُحاربون دون أن يُبالوا من يُصيبون من العشيرة أو الأهل، وما إن سقط في المعركة أخ أو ابن أو عمٌّ أو ابنُ عم. أما الدافع المادي المُباشر للمغانم، فكان لا شكَّ صاحب دورٍ عظيم.
ومن ثم؛ حارب المسلمون وهم تحت قيادةٍ مُوحَّدة مُنظَّمة، لقائدٍ أعلى وهيئة أركان حرب يثربية، قسَّمهم إلى ألوية ذات علامات مميزة، وصفوف لكل منها دوره في الرِّماحة أو المُسايفة أو النبَّالة، مع سمات الصوف التي علقوها بخُوذهم ونواصي خيولهم، بعد أن ناداهم النبي «سوِّموا فإن الملائكة قد سوَّموا.» لمزيدٍ من معرفة بعضهم بعضًا في المعركة، ثم الشعارات الشفريَّة ونداءات يعرفون بها بعضهم بعضًا، ويُميزون بها أنفسهم مع اختفاء الرءوس والأجساد تحت الخُوذ والدروع الحديدية، وهو لا شكَّ لونٌ عظيم من الاستعداد، لا شكَّ أدَّى على الجانب الآخر إلى قتل القرشيين بعضهم بعضًا، مع سلامة تامَّة من هذا الأمر على الجانب الإسلامي. كما كان خبر الملائكة مَدعاةً للاطمئنان النفسي، جعلهم يأخذون ليلة المعركة قسطًا طيبًا من الراحة والنوم.
هذا بينما نجد قراءة موضوعية واعيةً للكاتب والمؤرخ الإسلامي «أحمد شلبي»، تُطلِعنا على النبيِّ عليه الصلاة والسلام كقائدٍ عسكري ناجح، يأخذ بأسباب الظرف الواقعي في كلِّ خطوة، فهو — فيما يقول «الدكتور شلبي» — «إذا أراد خَوض معركة، كتم سِرَّ اتجاهه الذي يسعى إليه، حتى عن أقرب الناس إليه، ليُفاجئ الأعداء بهجومه. وقد رُوي عن كعب بن مالك أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يغزو غزوةً ورَّى بغيرها. وعن أنس أن رسول الله قبيل غزوة بدر هتف بأصحابه قائلًا: إنَّ لنا هدفًا، فمن كان ظهرُه حاضرًا فليركَب معنا. وكان إذا عقد اللواء في سَريَّة من السَّرايا لأحد أصحابه، يركز اللواء في فناء المسجد ويَختار بعض الأبطال، ولا يُحدِّد المكان لأمير السَّرية إلا عند التحرُّك، وأحيانًا كان يكتُب له كتابًا ويطويه، ويأمر بالاتجاه نحو الشمال أو نحو الجنوب مثلًا، وألا يفتح الكتاب إلَّا في مكانٍ يُحدِّده، وكل ذلك حتى لا يتسرَّب الخبر للعدو، فيُبادر بالهجوم وتفشل الخطة.
(٣) نتائج بدر الكبرى
ولعلَّ مبلغ ذلك الانتصار البدري، يظهر واضحًا في المدى الذي وصلتْ إليه قوة المسلمين، وتضاءلت بجانبه قوى يثرِب جميعًا، ثم يتَّضح في مقتل «كعب بن الأشرف» بعد ذلك، لمَّا ذلف به لسانه؛ أما مكة فحالها يتَّضِح في خروج «كنانة بن الربيع» يصحب «زينب» بنت رسول الله رضي الله عنها، نهارًا جهارًا أمام أعين قريش، وما دار من حوار بينه وبين «أبي سفيان»، يُبرز مدى هوان قريش وانحطاط هيبتها. ويروي «ابن هشام» أن قُريشًا قامت تنُوح على قتلاها، «ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرَبُ عليكم محمد وأصحابه في الفداء.» وكان الأسود بن عبد المطلب قد أُصيب له ثلاثة من ولده؛ زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يُحِبُّ أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمِع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أُحِلَّ النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلِّي أبكي على أبي حكيمة — يعني زمعة — فإن جَوفي قد احترق. قال: فلمَّا رجع الغلام إليه قال: إنما هي امرأة تبكي على بعيرٍ لها أُضلَّته، فذاك حين يقول الأسود:
وهكذا ذهب سَراة الناس وجدودهم في بدر، وأُلقِيَت أجساد رجال الملأ في القليب، وبقيَّة من كِبرٍ وفخرٍ كاذب تمنع قريشًا من النُّواح على كبارها وأشرافها، بينما لم تجِد امرأة أُضلَّت بعيرها الوحيد حرجًا في العويل والندب، فالفقر له أحكامٌ غير أحكام الغِنى والثراء، ومن ثمَّ ومع اللَّوعة، أخذت قريش تُدمِّر بيدِها هيكلَها الإنتاجي، المُتمثِّل أهم جوانبه في أمن كلِّ من دخل مكة، فتضرب في غضبها أمن كسبِها. في رواية «ابن كثير» عن خروج «سعد بن النعمان» الأنصاري مُعتمرًا إلى مكة، لنرى تلك العُمرة ذات غرَضٍ واضح للجسِّ والاختبار، ومعرفة مدى ما وصلتْ إليه أعصاب قريش، وممَّا ليس له معنى — في رأينا — أن ينزل أنصاري إلى مكة، وأفلاذ كبِد مكة لم تزلْ دماؤها ليِّنة طرِيَّة على أرض بدر، لولا غرض واحدٌ يستحقُّ ذلك. فيقول ابن كثير: «خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بني عمرو بن عوف مُعتمرًا، وكان شيخًا مُسلمًا في غنَمٍ له بالبقيع، فخرج من هنالك مُعتمرًا، وقد كان عهد قريشٍ أنَّ قريشًا لا يَعرضون لأحدٍ جاء حاجًّا أو مُعتمرًا إلَّا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حربٍ بمكَّة فحبسه بابنه عمرو، وقال في ذلك:
أما المصطفى ﷺ، الذي اصطفاه ربه، فقد جاءت بشأنه الآيات الكريمة — بعد ذهاب الملأ — تقول:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ (النساء: ٦٤).
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ (النساء: ٨٠).
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (النور: ٥١).
أما الأكثر بلاغةً وتبليغًا، وفيصلًا قاطعًا، فهو ما سجَّلتْه الآيات الكريمة بقولها:
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ (آل عمران: ٢٦).
ولعلَّ العنصر اليهودي في المدينة، قد أدرك بما عهد به من حصافة، مغزى «الآخرين» في الآية الكريمة:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ (الأنفال: ٦٠).
وهو البيان الذي ستنبني به الأحداث اللاحقة، والمُتلاحِقة على صفحات تُراثِنا الإسلامي.
هذا مع نتائج أخطر على مستوى شكل الدولة الاجتماعي المُقبل، كناتج لتعزيز سُلطة النبيِّ الحاكمة، وهو الأمر الذي أدَّى إلى تراجُعات عن الأُمَميَّة المُطلقة، والأخوة المُطلقة «المُؤاخاة» التي كادت تكون مَشاعًا، وإلغاء نظام المؤاخاة، بعد ما حاز المُهاجرون من نفلٍ طيب، وأموال من فكِّ الأسرى، لتطفُر الدعوات الأولى للامتلاك والتبرجُز، والتي بدأت ترغيبًا في امتلاك كنوز كسرى وقيصر. كذلك سنرى فيما بعد، أن المُشاركة في بدر كانت أساسًا في الحصول على الهبات، ومقياسًا للأعطيات، بعد أن اعتلى المُحاربون السابقون مكانهم المُتميِّز في الدولة، وبينما كان الباقون منهم على قيد الحياة يتحوَّلون نحوَ الثراء والامتلاك، كان يتمُّ استحضار رُوح الآيات المكية الأولى، التي كرَّست الملكية الفردية، وقدَّمت عقلنةً واضحة للتفاوت الطبقي، من قبيل:
وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ (النحل: ٧١).
ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل: ٧٥).
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام: ١٦٥).
لتبدأ مرحلة جديدة على الخط الاستراتيجي، مُتجاوزة المرحلة التكتيكية المُتحالفة مع المُستضعَفين، تستكمل خطَّها الأصلي، لكنها وهي بسبيل ذلك تُشكِّل تراجعًا محسوبًا عن الأُمميَّة المُطلقة، فتأخُذ السمتَ الوسطي بين الأُمميَّة وبين الدعوة إلى الحفاظ على العلاقات العشائرية، والتوصية بذوي الأرحام، في طورٍ مُتوازن عبَّرت عنه الآيات الكريمة بقولها:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (البقرة: ١٤٣).
ثم لنلحظ أنَّ «حاطبًا» نفسه، هو من استمرَّ في مُعاملة عبيده بالقسوة، وشدَّد عليهم النكير، وضيَّق عليهم إلى حدِّ المَسغبة، ممَّا دفعهم — عام الرَّمادة زمن خلافة عمر بن الخطاب — إلى السطو على بعيرٍ له والتهامه، وهو ما دفع عمر، صاحب الانتماء القوي إلى المَنزع الأُممي، إلى تعنيف «حاطبًا» تعنيفًا شديدًا، مع إيقاف تطبيق حدِّ السرقة على عبيده.
ومن ثم فإن قراءة نتائج غزوة بدر، تُلاحظ بداية الأسلوب الوسطي المُتوازن للدولة بين النقائض، فتدعو لتَوحُّدٍ أُمَمي تحت راية واحدة، وسيادة دولة مُوحَّدة، وتحت إمرة سُلطة نبويَّة واحدة، لكنها تضمُّ في شكلها الاقتصادي لونًا طبقيًّا لا نزاع فيه، وتحوي في شكلها الاجتماعي قبائل مُتوحِّدة، لكنه تَوحُّدٍ غير مُنفرِط إلى فردية مُطلقة، إنما ترابُط لأضمومات قبلية في هيئة حزَمٍ مُوثَّقة بوثاقٍ واحد في إطار الدولة، وهو ما تلحظه القراءة المُدقِّقة لنزول المسلمين إلى بدر تحت راية واحدة للرسول، وشعار واحد هو «يا منصور أمِت.» لكنها انقسمت إلى راياتٍ ثلاثٍ تسير تحت ظلِّ راية الرسول، وتنادت بثلاثة شعارات، تحت الشعار المُوحَّد، فكان للخزرج رايتُهم، وللأوس رايتُهم، وللمُهاجرين رايتُهم، وكان لكلٍّ من الحُزَم الثلاث، نداءات شِعاريه ثلاثة.
هذا بينما تمَّ الإبقاء على الفردية والولاء الفردي والمسئولية الفردية، ولكن في عالم الفكرة، عالم السماوات الإلهي، العالم الآخر، في علاقة المُسلم بربه، فتمَّ تأجيل الفردية المُطلَقة بمسئولية الفرد الكاملة والذاتية إلى فيما بعد؛ لأنَّ تلك المسئولية المُطلَقة إنما تعني أيضًا حُريَّةً مُطلَقة، وهو ما يتصادَم مع الصرامة المُطلَقة المطلوبة للسُّلطة النبوية لإقامة الدولة دون مُعوِّقات، وهو ما يُفسِّر لنا تجاور الآيات التي تؤكد مسئولية الفرد عن أفعاله أمام الله، والآيات التي تؤكد من جانبٍ آخَر الجبرية والحدَّ من تلك الحرية المُطلَقة، وتقييد تلك الحُريَّات بالمشيئة الإلهية والإرادة القدَرية، ومن ثم فقد تأجَّل تفجير الأطُر القبلية تفجيرًا كاملًا إلى مرحلةٍ مُجتمعية أعلى، لكن مُجرَّد وجود الفكرة عن الفردية المُطلَقة والمساواة المُطلَقة والمسئولية الفردية المُطلَقة أمام الإله في عالمه السماوي القادم فيما بعد، في الآخرة بعد البعث، إنما يُشير بالتأكيد إلى تواتُر الفكرة في المجتمع المدني والمكي حينذاك، وربما في عالم جزيرة العرب، بعد تفكيك الطبقية للشكل الجماعي والمسئولية الجماعية القبلية، وأن الواقع قد أفرز الفكرة، وأنها كانت مطروحة بالفعل في زمانها.
وعليه؛ فقد ظهرت الفردية ومسئوليتها بالفعل، ولكن كفكرة، في مجال القوة، وكمُمكِن قادم في عالمَ الفعل، لكن في تطوُّر قادم، وهو ما يظهر المرحلة الآنية كجزء من الحركة الانتقالية، وكدرجةٍ أعلى تمَّ ارتقاؤها داخل المرحلة الانتقالية ذاتها، تتلاءم ومُعطيات مُجمل ظروف الواقع آنذاك، وهو الأمر الذي سيُتيح للنبي التحرُّك داخل ذلك التوازُن بين النقائض دون مشاكل. فجاءت التنظيرة لا تصادم الواقع ولا تفرِض عليه ما لم يتهيَّأ له تمامًا بعد؛ مما سيُمكِّن مؤسَّسة الدولة من استخدام الأُمَميَّة دومًا، والعشائرية أحيانًا، في موضعها المناسب من الظروف المُتغيِّرة، لتحقيق أهدافٍ أكثر نفعًا، حين الحاجة إلى أي منهما وحسب الطارئ وظروفه، وما يستدعيه من حاجة إلى أيٍّ من الطرَفَين النقيضَين.
وتأسيسًا على كلِّ ذلك، فإنَّ غزوة بدر، قد أفضت إلى نتائج هائلة على المستوى النظري والعَمَلي، وحدَّدت مواقف كثيرة، كان الإفصاح عنها مُؤجَّلًا حتى يأتي الله بأمره. وكان أهمَّ ما حقَّقتْه هو وضعُها بداية النهاية لنظام قريش السياسي، في حكومة الملأ شِبه الجمهورية البدائية، بالقضاء على سادَتِها المُترَفين من الملأ والسادة، المُنافس الحقيقي لفكرة الدولة الواحدة، وهو ما سيتمُّ تثبيتُه بعد زمن، بالاعتماد على ذلك التوازُن بين النقائض، في مملكةٍ وراثية كُبرى، ستُمسك بأعنَّتها قبيلة قريش، قبيلة النبي، والأرستقراطيون فيها تحديدًا من البيت الأموي، وهي العودة التي ما كانت لتتمَّ لولا العودة إلى الرَّحِم وصلات العشيرة، التي صبَّت الأمر بيد الطبقة التي سيتطوَّر شأنها ويتمُّ دعمُها بالتدريج خلال حياة الرسول نفسه، وهو ما أدى إلى وضع الشروط السياسية للسُّلطة المُتوازنة للدولة التي انتهت لمركزيةٍ مُتوارثة صارمة.
وبسبيل حدوث ذلك، ستبدأ الدولة تُفصِح تدريجيًّا عن وجهها الطبقي دون مُواربة، ليهدأ تنديد الآيات بالثروة وأصحابها، مع خفوتٍ مُتساوقٍ في حديثها عن المُستضعفين في الأرض، ولكن ليظلَّ التوازُن بين النقيضَين وعدم حسمِهِ وسيلةً بيد المُستضعَفين، عندما يرتدي الصراع الطبقي زِيَّه العشائري، في صراع علي بن أبي طالبٍ ومُعاوية بن أبي سفيان، وفي عددٍ آخر من ثورات المُستضعَفين ضدَّ الدولة، والذي ارتدى عادة زِيَّه الفاطمي والهاشمي والعباسي، العشائري أيضًا.