وعليه، فإن السياسة العسكرية الواضحة، تُشير إلى أنه بعد قطع الرءوس من شيوخ قريش
وسَراتها، اتَّجَه الجيش الإسلامي نحوَ القبائل الكُبرى في باطن الجزيرة لإخضاعها لدولته،
وإرهابها لتئوب إلى حِلف يثرِب، إمعانًا في تقطيع أوصال الإيلاف القُرَشي لصالح الدولة
الجديدة. أما حديث «الواقدي» هنا، فيُشير إلى الأثر العظيم لوقعة بدر في نفوس أعراب بني
سليم، تلك القبيلة التي لا يُستهان بها، إلى الحدِّ الذي هربوا فيه من مَضاربهم لمُجرَّد
سماعهم بمَقدِم المسلمين، وتركوا دِيارهم وأنعامهم، ليُقيم المُسلمون على مياههم وحِياضهم
ومضاربهم أيامًا ثلاثة، يعودون بعدها إلى يثرِب بغنيمتِهم آمِنين.
وتخميس الغنائم هنا يعود إلى أمر الوحي:
هذا بينما كان الحال في مكة غير الحال في يثرِب، فكانت مكَّة مَوتورة بقتلاها، حائرة
في
أمرها وأمر مَهابتها وتجارتها وهو ما يَعني كلَّ مصيرها، ولمَّا وصل «أبو سفيان» بقافلته،
التي كانت سبب بدر الكُبرى، ورأى قريشًا تعود فلولًا مُنهزمة وهو لا يستطيع شيئًا، وهو
صاحب اللواء والعسكر، نذَر بيمينٍ مُغلَّظ إزاء ما رأى من هوان، ألَّا يمسَّ رأسه من
جنابةٍ حتى
يغزو يثرِب. ومعلوم في تُراثِنا، أنَّ الغُسل من الجنابة كان مِيراثًا في تقليد العرَب
من قديم،
مِثله مثل الصَّلاة على المَوتى، ومثل الحجِّ وشعائره،
٤ وكذلك القسَم باليمين، كان واجِبَ الوفاء.
(١) تناقُضات يثرِب
وهكذا بات غير خافٍ عن الأعراب، أن أحوال المسلمين قد تبدَّلت، وصاروا يَخرُجون
ذرافاتٍ في سَرايا لا تنقطع لقطْع طريق الإيلاف، وطرق التجارة الداخلية، وللإغارة على
القبائل في مواطنها لإرهابها لقطْع مُوالاتها لمكَّة، وإخضاعها للدولة الإسلامية. لكن
رغم كلِّ هذا، فإن يثرِب من الداخل لم تكُن خالصةً تمامًا لصاحب الدعوة، وكان كلُّ ما
حدَث
من قبل، وبخاصَّة الصحيفة، مجرَّد تسكينٍ مؤقت للأوضاع حتى يأتي الله بأمره. وبعد بدر
بدأ الظرْف يتغيَّر، وفُقدت المصلحة المُشتركة بين اليهود والمُسلمين، وأخذت السياسة
طريقًا جديدًا. فالسلاح قد فاض بعد بدرٍ ولم تعُد الحاجة مُلحَّة لسلاح اليهود، والمال
قد جاء من فداء الأسرى المكيِّين، والأُمميَّة إلى تضخُّمٍ يضيق بالإطار القديم ويتناقَض
معه. وتحويل يثرِب إلى دولة تُناوئ دولة مكة، كان لا بدَّ أن يَسبقه إزالة التناقُضات
الداخلية، بجمع شمل المدينة جميعًا، ونقلها عن كونفودرالية تَحالُفية، إلى مؤسَّسة
سياسية مركزية واحدة جامعة، تتجاوَز القبائل المُتحالِفة إلى الدولة الموحَّدة.
ولما كان التناقُض في يثرِب يتجاوز القبلية إلى العنصرية الدِّينية، فقد كان لا بدَّ
من
حسْمٍ في الموقف السياسي نحو توحيدٍ لكل العناصر، أو تخليص يثرب من العناصر المُناقِضة
للتطوُّر الجديد. ومن ثمَّ كان لا بدَّ من موقفٍ باتر لكل لونٍ من المُعارضة الداخلية
كخطوةٍ
إجرائية أساسية، خاصَّة إذا جاءت تلك المُعارَضة من الجانب الذي يُمثِّل اختلافًا
أيديولوجيًّا غير مَرجُو الانضواء للدولة. وهنا نقرأ ما حدَثَ بعد إصابة الملأ المكي
في
بدر، والفزَع الذي أصاب يهود النضير مصحوبًا بالحُزن والأسى، مُمثَّلًا في قول «كعب بن
الأشرف»:
أترَون مُحمدًا قتل هؤلاء؟ فهؤلاء أشرافُ العرب ومُلوك الناس! والله لئن كان محمد
قد أصاب هؤلاء القوم، لبَطنُ الأرض خير من ظاهرها.
ثم أخذ يُرسِل نحيبَهُ الباكي شِعرًا يَرثي صرعى القليب ويقول:
طحَنَتْ رحى بدرٍ لمَهلِك أهله
ولمِثل بدرٍ تستهلُّ وتدمعُ
قتلتْ سَراة الناس حول حياضِهم
لا تبعدوا؛ إنَّ الملوك تُصرَّعُ
كم ذا أُصيب به من ابيض ماجدٍ
ذي بهجةٍ يأوي إليه الضُّيَّعُ
صدقوا؛ فليتَ الأرض ساعة قُتِّلوا
ظلَّتْ تسوخ بأهلها، وتصدَّعُ
وهنا قام شاعر الرسول «حسان بن ثابت» يكيل لكعب بن الأشرف الردَّ قائلًا:
فابكي، فقد أبكيتَ عبدًا راضعًا
شبهَ الكُليبِ إلى الكُليبةِ يتبَعُ
ولو شفى الرحمن منَّا سيِّدًا
وأهان قومًا قاتَلوه وصُرِّعوا
فرد كعب مرة أخرى يُنادي المسلمين أن يردُّوا حسانًا عن الشَّتْم والإيذاء بقارِص
الكلم، وأنه ما بكى بشِعره القوم إلَّا لودٍّ كان بينهم في قوله:
ألا فازجروا منكم سفيهًا لتسلَمُوا
عن القول بأني غير مُقاربِ
أتَشُقُّني إن كنتُ أبكي بعبرةٍ
لقوم أتاني ودُّهم غير كاذبِ
فإني لباكٍ ما بقيتُ وذاكرٌ
مآثِرَ قومٍ مجدُهم بالجباجبِ.
٨
وهنا يروي ابن كثير أنَّ النبي
ﷺ قد هتف قائلًا:
فنهض محمد بن مُسلمة يقول:
أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله.
٩
ويَحكي البيهقي مُفصِّلًا «إن رسول الله
ﷺ قال: اللهم اكفِني ابن الأشرف.
فقال له محمد بن مُسلمة: أنا يا رسول الله أقتُله، فقام محمد بن مُسلمة مُنقلبًا
إلى أهله، فلقي سلْكان بن سلامة، فقال له محمد بن مُسلمة: إن رسول الله قد أمرَني
بقتْل ابن الأشرَف، وأنت نديمه في الجاهلية، ولم يأمَن غيرَك، فأخرِجه إليَّ
لأقتله. فخرج سلْكان ومحمد بن مُسلمة وعبَّاد بن بِشر وسلمة بن ثابت وأبو عيسى بن
جبر (ومشى معهم رسول الله إلى بقيع الغرقد ثُمَّ وجَّههم وقال انطلقوا على اسم
الله، اللهم أعنهم)، حتى أتوه في ليلةٍ مُقمِرة، فتوارَوا في ظلال جذوع النخيل.
وخرج سلكان فصرخ: يا كعب. فقال له كعب: من هذا؟ فقال له سلكان: هذا أبو ليلى يا أبا
نائلة (وكان كعب يُكنى أبا نائلة) فقالت امرأتُه: لا تنزِل يا أبا نائلة، إنه
قاتِلُك. فقال: ما كان أخي ليأتِيَني إلَّا بخير، ولو يُدعى الفتى لطعنة لأجاب.
وأدخل سلكان يدَه في رأس كعب وشمَّها فقال: ما أطيبَ عبيركم هذا! ثم صنع ذلك مرة أو
مرتين حتى أمِنَه، ثُمَّ أخذ سلكان برأسه أخذةً نَصَلَه منها، فجأر عدو الله جأرة
رفيعة، وصاحت امرأته وقالت: يا صاحِباه! فعانَقه سلكان وقال: اقتُلوني واقتُلوا
عدوَّ الله. فلم يزالوا يتخلَّصون بأسيافهم حتى طعنَهُ أحدُهم في بطنه طعنة بالسيف،
خرج منها مصرانه، وخلصوا إليه فضربوه بأسيافهم. فقتل الله عزَّ وجلَّ ابن الأشرف.»
١٠
وزعم الواقِدي أنهم جاءوا برأس كعْبٍ بن الأشرف إلى رسول الله
ﷺ،
وفي ذلك يقول كعب بن مالك:
فغُودر منهمُ كعبٌ صريعًا
فذلَّت بعد مصرعه النَّضير
على الكفَّين ثُمَّ وقد علَتْهُ
بأيدينا مُشهَّرة ذكور
بأمر محمدٍ إذ دسَّ ليلًا
إلى كعبٍ أخا كعبٍ يَسيرُ
فماكَرَهُ فأنزله بمكرٍ
ومحمود أخو ثقةٍ جَسُورُ
١١
(ويقول البيهقي إنَّ كعبًا في كلام له كان قد شبَّب بنساء المُسلمين!)
١٢ ولكن شِعر «ابن مالك» هنا يصِل إلى غاية المراد في تأكيده (فذلَّت بعد
مصرعه النَّضير)، أحد أهم قبائل يهود يثرب، بمَوت سيِّدها. ومن الجدير بالذكر أنه في
زمن
خلافة مُعاوية بن أبي سفيان، ذُكِر قتْل «كعب بن الأشرف» عنده، فقال «ابن يامين» وكان
يهوديًّا أسلم في غزو النبي للنضير: لقد كان قتلُه غدْرًا. وسكت مُعاوية ولم يُعقِّب
كما
لو كان راضيًا عمَّا يُقال، أو سامعًا للقصَّة كما تُروى بموضوعية لا مجال فيها للمُجاملة،
وكان «محمد بن مُسلمة» قاتل «كعب» حاضرًا رواية «ابن يامين» لمُعاوية، فنهضَ ثائرًا
يقول: يا مُعاوية، أيُغدَّر عندك رسول الله ثُمَّ لا تُنكِر، والله لا يُظلُّني وإياك
سقفُ بيتٍ
أبدًا، ولا يَخلو لي دمُ هذا إلا قتلتُه.
١٣
وبعد مَقتل «كعب»، وعودة الرجال، قام النبي يُنادي ورجع الصَّدى منه يَسري مُجلجِلًا:
من ظفِرتُم به من رجال يهودٍ فاقتُلوه.
ومن ثم يروي ابن هشام:
فوثب مُحيصة بن مسعود من الخزرج، على ابن سنينة، رجل من تجَّار يهود، كان يُلابِسُهم
ويُبايعهم، فقتَلَه. كان حويصة بن مسعود «أخو مُحيصة» إذ ذاك لم يُسلم، وكان أسنَّ من
مُحيصة، فلمَّا قتله جعل حُويصة يضرِبُه ويقول: أي عدو الله قتلتَه، أما والله لرُبَّ
شَحْم في
بطنك من ماله. قال مُحيصة: والله لقد أمرَني بقتله، من لو أمرَني بقتلِك، لضربتُ عُنقك.
قال أوالله لو أمرك محمد بقتلي لقتلْتَني؟ قال نعم. فأسلم حُويصة.
١٤
وعليه؛ آذَنَ فجر الأيام البدرية، بمغرِب مرحلةٍ آن غروبها، وأخذت آياتُ القرآن تتتالى
تحمِل رُوح السياسة الجديدة، تنسَخُ ما قد سلَفَ من آيات المرحلة السابقة، بآياتٍ تُنبئ
بما
هو آتٍ، تَوطئةً لخلاص يثرِب الكامل لسادَتِها الجُدُد.
نعم، قالت الآيات في المرحلة السابقة يقينًا:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(االبقرة: ٦٢).
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ (المائدة: ٤٤).
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا
حُكْمُ اللهِ (المائدة: ٤٣).
لكن السياسة الجديدة، جاءت بقراراتٍ جديدة وحاسِمة تقول:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل
عمران: ١٩).
أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (آل عمران: ٨٣).
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ (آل عمران: ٨٥).
وهي السياسة التي ابتغَت انضواء اليهود الكامل، السياسي، والعقَدي، بحيث لا يكونون
أحلافًا على ذاتِ القدْر من النِّدِّيَّة السياسية والدِّينية. أو العمل على إجلائهم
عن يثرِب،
أو استئصال شأفتِهم. وهو الأمر الذي سيتمُّ تحقيقه بإصرارٍ ودون هوادَة، والذي كان سببُه
الوضع الخاصُّ لليهود كأصحاب كتابٍ سماوي، ودستور عقَدي، وهو ما جعلهم المُنكِرَ السماوي
الحيَّ لنبوَّةِ النبيِّ العربي، وهو ما كان يُشكِّل خطرًا دائمًا وحقيقيًّا على الدولة
وأيديولوجيَّتِها.
وهنا تروي لنا كُتُب السِّيَر قصَّة غزوة «بني قينقاع»، تلك القبيلة اليهودية التي
يصِف
المُؤرِّخُون المُسلمون رجالها بأنهم «كانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حُلفاء عبادة
بن الصامت، وعبد الله ابن أبي بن سلول.»
١٥
(٢) غزوة قينقاع
عن ابن عباس قال:
لما أصاب رسول الله
ﷺ قريشًا يومَ بدر، فقدِم المدينة، جمع يهود في
سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود، أسلِموا قبل أن يُصيبَكم بمِثل ما أصاب قُريشًا.
١٦
فكان ردُّ قينقاع المُتحدِّي:
يا محمد إنك تَرانا كقومِك؟! لا يَغُرنَّك أنك لقيتَ قومًا لا
عِلم لهم بالحرْب، فأصبتَ منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمَنَّ أنَّا نحن الناس.
١٧
وهنا يُعلن «الواقدي» ما كان مَقدور الحُدوث في باطن الأيام بقوله: «فحاصَرَهم رسول
الله خمس عشرة ليلة، لا يطلع فيهم أحد، ثم نزلوا على حُكم رسول الله
ﷺ، فكتفوا وهو يُريد قتلهم.»
١٨
ويتقدَّم رواة السِّيَر المسلمون بتقديم التبرير الذي رأوه مُناسبًا لنقض الصحيفة،
والسير إلى قينقاع وأسْرِهم. بحكايةٍ عن امرأة عربية، ذهبَتْ تبتضِع في سوق قينقاع،
فتلاعَبَ بها شبابُ اليهود، بأن ربَطوا ذيلَ ثوبِها بظهرها، فلمَّا قامت انكشفَتْ سوءتُها
فضحِكوا منها، فوثَبَ رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتَلَه، فشدَّ اليهود على
المُسلم فقتلوه.
١٩
ومثل تلك القصة التبريرية واضحة الضَّعف والوَهَن، فالمرأة العربية التي سبَّبت تلك
الوقعة الهامَّة في تاريخ الدولة الإسلامية، لا ذِكر لاسمها، ولا لقبيلتِها، ولا ما إذا
كانت مُسلمة أم لا؟ ولا نعرِف اسم الصائغ اليهودي، ولا من هؤلاء الذين تلاعَبوا بها،
بل والأخطر لا نعلَم اسم ذلك المُسلم الذي استُشهِد وهو يُدافع عن المرأة، ولا إلى أي
قبيلةٍ ينتمي، ولم تزعُم قبيلة أنه قد حدَثَ مثل ذلك لأحدٍ من رجالها. وهو الأمر الذي
يُخالف ما ألِفْناه مع المُتَّفَق عليه بكتُب الأخبار والسِّير. والقصَّة بكاملها — في
رأينا —
مُختلَقَة، صِيغت على مِثال نموذجٍ قديم حدَث زمن حرب الفجَّار الأولى وكان سببًا لها.
وقد
لاحظ الحلَبيُّ راوي السيرة ذلك التشابُهَ بين الحادِثتَين، فتطوَّع بتذكير القارئ الفطِن
بقوله: «وقد تقدَّم وقوع مثل ذلك وأنه كان سببًا لوقوع حرب الفُجَّار الأولى.»
٢٠
وربَّما وافَقَنا قارئ حصيف في رفْضِنا للقصة أعلاه، إذا ما أحطْناه عِلمًا بالتبرير
الحقيقي لِما حدَث، وهو ما جاء مَرويًّا عن «الزُّهري» عن «عُروة»:
نزل جبريل على رسول الله
ﷺ بهذه الآية:
وَإِمَّا
تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ
اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (الأنفال: ٥٨). فقال رسول الله
ﷺ: أنا أخاف من بني قينقاع فسار إليهم، ولواؤه بيدِ حمزة.
٢١
ولما كان يهود قينقاع، حُلفاء للخزرج وسيدهم عبد الله ابن أبي بن سلول، فقد قام
عبد الله وهو يرى حُلفاءه يُساقون إلى الذَّبح مُكتفين، بعد أن استسلموا، ليُخاطبَ النبيَّ
ويقول: يا محمد أحسِن في مَواليِّي. فلم يرُدَّ عليه النبي. فقام يُكرِّر: يا محمد أحسِن
في
مواليِّي. ومرَّة أخرى يُعرِض عنه النبي. فيأخُذ الغضب بعبد الله حتى يُدخِل يدَه في
جيب
درْع الرسول يُمسكه من لحمِهِ الشريف وهو يقول: يا محمد أحسِن في مواليِّي. حتى غضِبَ
النبيُّ غضبًا شديدًا، ورُؤي لوجهه ظلل وهو يقول لعبد الله: ويحك، أرسِلْني، أرسلْني.
بينما ابن سلول لا زال مُمسِكًا به ويقول: لا والله لا أُرسلك حتى تُحسِن في مَواليِّي،
أربعمائة حاسِر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود من الناس، تحصُدُهم في
غداةٍ واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر! وهنا قال له النبي: هُم لك.»
٢٢
وهكذا أُلغي الأمر النبوي بقتْل بني قينقاع، لكن شرَطَ جلاءهم من المدينة خلال أيامٍ
ثلاثةٍ لا تزيد. وبالفعل لم تَمضِ الأيام الثلاثة حتى كان بنو قينقاع يَحملون مَتاعهم
راحِلين، تارِكين مزارعهم وحصونهم وما لم يقدِروا على حمله، مُتَّجهين إلى أذرعات ببلاد
الشام. وبذلك كان أول صِدام بين النبي وبين يهود المدينة، وأول قرارٍ يصدُر يؤكد سيادة
الرسول ويَعني قيام حاكمٍ واحدٍ لدولة المدينة، وهو القرار الذي أدَّى دورًا عظيمًا في
انكِماش بقيَّة المُعارضين في يثرِب لسُلطان الدولة الجديدة، كما أدَّى من جانبٍ آخَرَ
إلى
تقليم أظافر «ابن سلول» وإضعاف مركزِه، بهجرة حُلفائه الذين كانوا حمايةً له من الأحمر
والأسود من الناس، أي من اليهود والعرَب. ويكفي أن نعلم مدى ذلك الأثَر على «ابن
أُبي»، في فارق الساعات ما بين إمساكه بلَحْم جنب النبي الشريف، وإصراره على مَطلبه،
وبين مُغادرتِهم يثرِب بقرارٍ آخر، ما إن سمِعَه «ابن أُبي» حتى عاد مُسرعًا إلى النبيِّ
ليسألَه بقاء قينقاع في يثرب، فحال بينه وبين الدُّخول إلى النبيِّ جماعة من الصحابة،
فلمَّا حاول الدخول دفعوه إلى الحائط فشُجَّ وجهه، بينما قينقاع ينظُرون ينتظِرون آمِلين
في
نتيجة المُحاولة. فلمَّا ضُرب «ابن أُبي» بالحائط وشُج، ذهبت قينقاع في طريقها وهي تقول:
والله لا نمكُثُ في بلدٍ يُفعل فيه ذلك بأبي الحباب، ولا نستطيع أن ننتَصِر له. وغادروا
يثرِب، بل والجزيرة جميعًا إلى الشام.
٢٣
وقد عقَّبت الآيات على موقف «ابن سلول» بقولها: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ
أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ
نَادِمِينَ (المائدة: ٥١، ٥٢).
أما «الحلبي» كاتِب السيرة، فلم يرضَ — فيما يبدو — بخروج قينقاع سالِمين من يثرِب،
والرجوع عن قتلِهم، فقال إنَّ النبي دعا عليهم بالهلاك، فما بلغوا أذرعات الشام، حتى
هلَكوا جميعًا بتلك الدَّعوة.
٢٤
وهكذا ذلَّت النَّضير بمقتل «كعب بن الأشرف»، وغادرت قينقاع، وقُلِّمت أظافر «ابن
سلول»
وشُجَّ وجهه أمام حُلفائه وأهله. في الوقت الذي استمرَّت فيه السياسة العسكرية على طريق
الإيلاف، حتى جاءت سَريَّة ذي قرد، لتكشِف المدى الذي وصلتْ إليه قريش من هوان. ويروي
لنا الطبري أنها كانت في جمادى الآخر عام ثلاثة للهجرة، عند مياه في نجِد تُدعى ماء
القردة من بطن عالِج. والقصة «أن قريشًا خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام،
فسلَكوا طريق العراق، فخرَج منهم تجَّار فيهم أبو سفيان بن حرب ومعه فضَّة كثيرة، وبعث
رسول الله
ﷺ زيدًا بن حارثة، فلقِيَهم على ذلك الماء، فأصاب تلك
العِير وما فيها، وأعجَزَه الرجال، فقدِم بها على رسول الله، فكان الخُمس عِشرين ألفًا،
فأخذه رسول الله
ﷺ، وقسَّم الأربعة أخماس على السَّريَّة.»
٢٥
وهنا قام حسان بن ثابت ينادي العرب، يُخبرهم بشأن قريش وجُبنها، ساخرًا من خَوفها
ورُعبها قائلًا:
فلجأت الشام قد حال دُونها
جِلادٌ كأفواهِ المخاض الأواركِ
بأيدي رجالٍ هاجَروا نحوَ ربِّهم
وأنصاره حقًّا وأيدي الملائكِ
إذ سلكت الغَور من بطن عالجٍ
فقولا لها ليس الطريق هنا لك.
٢٦
وكانت السُّبَّة عظيمة، والخسارة أعظم، ومُجريات الأحداث التي تجري مع سرايا يثرِب
تحمل لقريش خرابًا تامًّا مُقبلًا، وما كان الانتظار بعد ذلك مُمكنًا، فقامت قريش
تتهيَّأ لحماية تجارتها ومصيرها، وتثأر لكرامتها المهدورة، تُريد ضرب المدينة والقضاء
على هؤلاء الذين خرَجوا منها مُتسلِّلين، لتقوى شوكتُهم حتى درجة القضاء على السادة،
وطريق التجارة العالمي، وذلك في الغزوة الكبرى المعروفة باسم غزوة أحد.