وبأُحد تبدأ المرحلة الرابعة من مراحل تطوُّر الدولة الإسلامية، التي تنتهي عند صُلح
الحُديبية، ويَروي لنا «ابن كثير» كيف بدأت حربُ أحد بين المسلمين والمُشركين في قوله:
«لمَّا
أُصيب يومَ بدرٍ من كفار قريش أصحابُ القليب، ورجعَ فلُّهم إلى مكة … مشى … رجال من قريش
مِمَّن
أُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلَّموا أبا سُفيان ومن كانت له في تلك العِير
من
قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا
المال على حربه، لعلَّنا نُدرك منه ثأرًا. ففعلوا. قال ابن إسحق: ففيهم … أنزل الله
تعالى:
ومع ذلك، ظلَّ الراغِبون من المُتحفِّزين للنَّفْل، أو للِقاء الله، على حَميَّتِهم
للخروج إلى قريش،
وظلُّوا بالنبي يُحفِّزونه حتى قام فلبِسَ لباس الحرب، فوضع البيضةَ على رأسه وتدرَّع
بدرعَين،
وكان ذلك يوم الجمعة من شوال، من السنة الثالثة للهجرة.
ورجع «ابن سلول» بمن تَبِعه من قومه «من أهل النفاق والرَّيب، وكانوا ثُلث الناس،
حوالي
ثلاثمائة رجل.»
٨ مِمَّا يُشير إلى أنَّ مجموع المُسلمين الذين خرَجوا إلى أُحدٍ كان تسعمائة مُقاتل،
مُقابل ما تُخبِرنا به كُتب الأخبار عن عدد مُقاتلي مكة الذين زادوا عن الثلاثة آلاف.
وهو
موقف بالمقاييس العسكرية وحدَها، كان يُفسَّر — بعقلية عسكرية كعقلية «ابن سلول» — بأنه
لون من
الانتِحار المؤكَّد، وأتى واضحًا في قوله: «علام نَقتُل أنفسنا ها هنا؟» ومن ثم نَستطلِع
وضع
الجيشَين في كُتُب الأخبار فتقول: «حتى إذا كان رسول الله
ﷺ بالشوط من
الجبَّانة، انخزل عبد الله بن أُبي بقريبٍ من ثُلث الجيش، ومضى النبيُّ وأصحابه وهم في
سبعمائة، وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس، جنَّبوها. وجعلوا على مَيمنةِ
الخيل
خالد بن الوليد، وعلى مَيسرتها عكرمة بن أبي جهل، فكان أصحاب رسول الله فِرقتَين؛ فرقة
تقول: نُقاتِلهم. وفرقة تقول: لا نقاتلهم.»
٩
وهكذا تمَّ وصف ثُلث المقاتلين المسلمين أنصار رسول الله وأخواله، بأنهم مُنافقون،
يَرتابون في نصر الله لنبيه. وربما كان ذلك الوصف الذي دُمغ به ثلث المسلمين، راجعًا
لكون
«ابن سلول» وأتباعه لم يأخذوا في اعتبارهم إلَّا معطيات الواقع الأرضي فقط، دون ما أنزل
الله تعالى
وتبارَكَ من وعدٍ وبُشرى حيث يقول:
ومن ثم؛ فإن موقف «ابن سلول» إنما يعني عدم أخْذه الوعد الإلهي مأخَذَ الجد، واعتماده
مُعطَيات الواقع فقط في اتخاذ القرار، ممَّا يُشير إلى عدم إيمانٍ حقيقي. لكن الواجب
هنا
التنبيه إلى أن «ابن سلول» وهو يدعو إلى عدم الخروج من يثرب، وإشارته إلى أنه ما هاجمها
أحد وانتصر، إنما يعني اعتمادًا واثقًا على حصانة يثرب، وما بها من حصون وآطام. كما
يعني أن الرجل يُغامر بمدينته وأهله بالكامل في حال انتصار المُهاجمين، وهو احتمال وارد
أمام العدد الهائل لجيش قريش، وإن كان ضعيفًا. وهي مُغامرة قبِلَها على بلده وأهله، مع
خيار النَّصر المُحتمل في ردِّ المُهاجمين، مُفضِّلًا ذلك على أن تنزل بالمسلمين إذا
خرجوا هزيمة
مُحقَّقة، قد يفنى فيها الرجال جميعًا. وهو نُصح لو أخذناه بإنصافٍ لأنصفنا الصِّدقَ
والحقَّ على
الأقل؛ خاصَّة أنَّ ما حدث في وقعة أُحد بعد ذلك، كان هزيمةً حقيقية للمسلمين على مُستوياتٍ
عدة.
(١) وقائع أحد
وتُجمِع كلُّ كُتب السِّيَر والأخبار، أنَّ رسول الله
ﷺ، كان يكره الخروج
إلى أحد، لكنه خرج لرغبةِ أصحابه. ولمَّا لبس لامَتَه، جاءه الذين استكرهوه على الخروج
يُراجِعون موقفهم ويَعتذرون، فكان ردُّ النبي: ما كان لنبيٍّ إذا لبِسَ لامته أن يضَعَها
حتى
يُحارب. وجعل النبيُّ لأصحابه في ذلك اليوم شعارًا يُشبِهُ شِعار بدر، مع اختلافٍ بسيط،
فقد
أسقط من شِعار بدر «يا منصور»، ليُصبح بدلًا من «يا منصور أمِت» كلمة واحدة تقول:
«أمِتْ، أمِتْ».
١٢
وعند خروج النبي إلى أُحد قال له الأنصار:
يا رسول الله، ألا نستعين بحُلفائنا من يهود؟
فقال: لا حاجة لنا فيهم.
١٣
ولمَّا سار بجَيشِه ووصل رأس الثنية، «وجد كتيبةً كبيرة فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء
حُلفاء عبد الله بن أُبي من يهود. فقال:
إنا لا ننتَصِر بأهل الكُفر على أهل الشرك.»
١٤
ويبدو لنا أن تلك الكتيبة كانت من قبيلة بني قُريظة، خرجَتْ إعمالًا لبنود الصحيفة،
وانتصارًا لحليفتِها الخزرج، لكن الواضح أن رسول الله
ﷺ لم يكن على
ثقةٍ كافية بهم. ومرة أخرى عرَض الأوس على النبي بعد رجوع «ابن سلول»، الاستعانة
بحُلفائهم من يهود بني النضير، حُلفاء «سعد بن معاذ»، ومرَّةً أخرى رفَض النبي.
١٥ ومع ذلك فقد أصرَّ «مُخيريق» اليهودي على الخروج إلى أُحد، وهو على دِينه،
وأوصى بماله للنبيِّ إن هو قُتل. وبالفعل قاتل الرجل حتى قُتل، وآل ما يَملِكه إلى رسول
الله، وفيه قال النبي الكريم «مخيريق خير يهود.»
١٦
ولما كانوا بالقُرب من أحد — حيث بدَت لهم صفوف الثلاثة آلاف مكي تنتشِر بدرُوعها
وقضِّها وقضيضها، قد اتَّخذوا مواقِعَهم حسب خُطَّتِهم في بقاع أحد — استرسل الوَحيُ
يحمل إلى
قريش برقيَّةً تقول:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ (الأنفال: ٣٨).
والبرقية هنا رغبةٌ في السلم، لكنها رغبةُ المقتدِر؛ لذلك فهي نصيحةٌ أكثر منها رغبة،
فإن تنتَهوا وتَعودوا إلى مكة، يَغفِر الله لكم ما قد سلف، وبمعنًى مَوضوعي تُوقِف ما
جرَّتْه
الأحداث الماضية على مكة. لكنَّ النصَّ هنا جاء مصحوبًا بذِكر الملأ القُرَشي الذين أُهيل
عليهم تُراب القليب البدري، «فقد مضتْ سنَّةُ الأولين.» أي مضى الأشياخ
ومضَتْ معهم سُنَّتُهم ونهجهم، ولا معنى للاعتراك على ثأرٍ لقوم ذَهبوا. لكن ذلك التذكير
كان كفيلًا بتأجيج لهيب الذِّكرى وحَمِيَّة الرغبة في الثأر، بضربِ تلك القوة اليَثربيَّة
التي إن بقِيتْ فستقضي تمامًا على قُريشٍ وتجارتها. وحتى يتمَّ تأمين طريق الإيلاف مرةً
أخرى، بعد أن أشرفتْ مكة على الهلاك بحِصارها الاقتصادي.
ووقف «أبو سفيان» (صخر بن حرب) يؤكد أن سُنَّة الأولين باقية، بتصرُّفه تصرُّف «عتبة
بن
ربيعة» في بدر، فقال ينادي أهل يثرب بعدَم رغبة مكة في قتال يثرِب، ويُعلِنهم أنهم
يُريدون فقط غرَضًا مُحدَّدًا، يتَّضِح في قوله:
يا معشر الأوس والخزرج، خلُّوا بيننا وبين بَني عَمِّنا، وننصرِف عنكم.
لكن الرجل «بسُنَّة الأولين أيضًا»، وكرأسٍ من رءوس قريش، لم يعِ حتى الآن ما تمخَّضَتْ
عنه ظروف التطوُّر، ولم يُدرِك ما جدَّ في وجدان الأنصار ووعيِهم، وأنهم قد أدركوا
مُمكناتهم ومُستقبلهم، وأنهم قد أصبحوا المُنافِس الحقيقيَّ لمكة، ليس فقط على الطريق
التجاري، إنما أيضًا على من بالحِجاز جميعًا، فكان ردُّهم أقبحَ الشتائم بأقذعِ اللَّعنات
لأبي سُفيان ورهطِه.
١٧
وهنا قامت «هند بنت عتبة» مع نساء مكة وصباياها الغِيد، اللائي تَرفُلنَ في النعمة،
فمَشَقوا القد، وحازوا الحُسن واللطافة، يضربنَ الدفوف يُحرِّضنَ رجال مكة ويُغنِّين،
مُستخدِمين
أفصحَ فحيحٍ أنثوي للإغراء، بنداء الوِصال «وي-ها»:
ويها بني عبد الدار
ويها حماة الأديار
ضربًا بكلِّ بتَّار
إن تُقبلوا نُعانِق
ونفرِشُ النَّمارق
وعلى الجانب الإسلامي، ركَّز النبي خطَّتَهُ على حماية رجاله السيَّافة، بالرجال
النبَّالة، فأنزل الرُّماة في مواقع تُواجِهُ خَيل العدو، وأمَّر عليهم نبَّالًا مشهودًا
له، هو «عبد الله بن جُبير». وأمرهم بعدَم ترك مواقعِهم حتى يأتيَهم منه الأمر بذلك،
مهما حدَث، فقط كان مَطلبُه منهم الذي أكده لهم «اكفوني الخيل.»
١٩
أما قريش فكانت البادئة بتسخين أُحد، فخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمُه
عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، وطلَبَ طلحة المُبارزة مرارًا، فلم يخرُج إليه أحد،
فقال:
يا أصحاب محمد؛ زعمتُم أنَّ قتلاكم في الجنَّة، وأن قتلانا إلى النار، فهل أحدٌ منكم
يُعجِلني بسيفه إلى النار، أو أُعجِله بِسَيفي إلى الجنَّة؟
فلمَّا لم يخرُج إليه أحد، من بين المُسلمين، نادى يقول:
كذبتُم واللاتِ والعزَّى، لو تعلمون ذلك حقًّا، لخرَج إليَّ بعضكم.
فخرج إليه عليُّ بن أبي طالب، فالتقيا بين الصَّفَّين، فبدَرَه عليٌّ فصرَعه؛ أي
قطع رجلَه،
ووقع على الأرض وبدَتْ عَورَتُه، فقال: يا ابن عم، أنشدك الله والرَّحِم. فرجَع عنه ولم
يُجهِز
عليه، فقال له رسول الله
ﷺ: ما منعك أن تُجهِز عليه؟ فقال ناشدَني
الله والرَّحِم. فقال: «اقتُله، اقتله.»
٢٠
وهكذا، بدا تردُّد المُسلمين واضحًا لأهل مكة، فخرَج رجلٌ ثانٍ من صفوف المُشركين
يدعو
للمُبارزة، «فأحجَمَ عنه الناس حتى دعا ثلاثًا، فقام إليه الزُّبير بن العوَّام، فوثَبَ
حتى
استوى معه على البَعير، فعانَقَه، فاقتَتلا فوق البعير. فقال رسول الله
ﷺ: الذي
يلي حضيضَ الأرض مَقتول، فوقع المُشرك فوقَع عليه الزُّبير، فذَبَحه.»
٢١
وارتفعت معنويات المُسلمين بهذَين القتيلَين، وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر من صفوف
المُشركين، فقال: من يُبارز؟ فنهض إليه أبوه أبو بكر شاهرًا سيفه، فقال له رسول الله
ﷺ: «شم سيفك، وارجِعْ إلى مكانك، ومَتِّعنا نفسك.»
٢٢ أما أبو دجانة «سمَّاك بن خرشة» الأنصاري، ذو الخبرة الحربية، والشجاعة
المُتفرِّدة بين أقرانه، فقد نهض يتناوَل من يدِ رسول الله سيفًا. ورجل مثل أبي دجانة
إن
قام للقِتال، كان ذلك تحفيزًا لنفوس من يعرفون قدرَه. ويقول ابن هشام في أمر أبي
دجانة:
وكان أبو دجانة رجلًا شجاعًا يختال عند الحرب إذ كانت، وكان إذا أعلمَ بعصابةٍ
حمراء فاعتصبَ بها، علِم الناس أنه سيُقاتل، فلمَّا أخذ السيف من رسول الله
ﷺ، أخرج عصابتَهُ تلك فعصَبَ بها رأسه، وجعل يتبخْتَر بين الصفوف، فقالت الأنصار:
أخرجَ أبو دجانة عصابةَ الموت. فقال رسول الله حين رأى أبا دجانة يتبخْتَر: إنها لمشيةٌ
يبغَضُها الله إلَّا في مثل هذا المَوطِن.
٢٣
ثم بدأت الوقعة فعليًّا عندما هتَفَ النبي
ﷺ برجاله: أمِت، أمِت، وبدأت وقعةُ أُحد بداية
مُتميزة، فقد صرَع المُسلمون أصحاب اللواء من بيتِ عبد الدار، «ثُمَّ انتشر النبيُّ وأصحابه،
وصاروا كتائب مُتفرِّقة، فجاسُوا في العدو ضربًا حتى أجهضوهم عن أثقالِهم، وحملتْ خَيل
المُشركين على المُسلمين ثلاثَ مرَّات، كلُّ ذلك تُنضَح بالنبل فترجِع مغلولة. وحمل المسلمون
عليهم فنهكوهم قتلًا.»
٢٤
ولاحتْ بوادر النصر، وتقهقر المُشركون وهم يُلقون بدروعهم وجحفِهم وتروسِهم، تخفُّفًا
للهرب، بينما علا صراخ نساء قريش المُنعَّمات وهنَّ يُولوِلنَ، يُبرِز صراخُهنَّ الخائف
مفاتنَ
أنوثتِهن، وأخذنَ يَهرُبنَ أمام أعين المسلمين.
وقصدنَ الجبل، كاشِفاتٍ عن سيقانهن، يرفعْنَ الثياب، وتبع المسلمون المُشركين يضعُون
فيهم السِّلاح، وينتهِبون الغنائم.
٢٥
بينما يصِف «عبد الله بن الزبير» الموقِف بقوله:
والله لقد رأيتُني أنظُر إلى هند بنت
عتبة وصواحِباتها، مُشمِّراتٍ هاربات، ما دون أخذِهنَّ قليلٌ ولا كثير.
٢٦
بينما يقول آخر:
والله لقد رأيتُ النساء يَشتددْنَ على الجبل، قد بدَتْ خلاخيلهنَّ
وسُوقُهن، رافعاتٍ ثيابَهن، فقال أصحاب عبد الله بن جُبير — الرماة: الغنيمة، الغنيمة.
٢٧
وهكذا نزل الرُّماة يلهثون وراء الغنمية، وهو ما يُصوِّره قول أحدهم: «والله ما نجلس
هنا لشيء، قد أهلك الله العدو، فتركوا منازلهم التي عهِدَ إليهم النبيُّ ألا يتركوها.»
٢٨ «ونهاهم أميرُهم عبد الله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما
مُقامنا ها هنا؟ وانطلَقوا ينتهِبون وثبتَ عبد الله بن جُبير، وثبتَ معه دون العشرة.»
٢٩
لكنها لقارئ مُدقِّق، كانت الخطَّة والتكتيك. فقد تقهقر قلبُ جيش المُشركين، وشمَّرت
النساء عن سُوقهِنَّ يصعدْنَ الجبل في المُعتلِيات، وانطلق المسلمون خلفهنَّ وترك الرُّماة
مواقعهم. بينما كانت مَيمنة «خالد بن الوليد» في مكانها لا تتزحْزَح، كذلك مَيسرة
«عكرمة بن أبي جهل»، ظلَّت ثابتةً دون حَراك، حتى إذا ما نزل الرُّماة، أطبقَت الأجنحةُ
على
الوسط. وثبت القلب المُتقهقر ليعاود الهجوم، في هجمةٍ مُرتدَّة سريعة، ثم ثنى «خالد»
و«عكرمة» على الرُّماة، فحملوا على من بقي منهم فقتلوهم مع أميرهم ابن جُبير.
وأحاطوا بالمسلمين، فبينما المُسلمون قد شُغلوا بالنهب والسلب، إذ دخلت خيول
المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعُزَّى، يا لهُبل، ووضعوا السيوف في المسلمين
وهم آمنون. واختلط المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضًا من غير شِعار، وهو أمِت، أمِت،
مما أصابهم من الدَّهش والحيرة.
٣٠
أما الأخطر من نِسيان المسلمين لشعارهم، نتيجة الدهشة والذُّهول، وقتلهم بعضهم
بعضًا، هو تمكُّن المشركين من الانغِراس في العمق إلى نهايته، والوصول إلى موقع رسول
الله
ﷺ، لتأخُذ منه ثأرها، وتنالَ منه فيخمد الجسد الإسلامي
ويستسلم. وهو ما خرجَتْ من أجله، لإيقاف نهر الدم، وإنقاذ ما بَقِيَ من مصالحها، بقتل
النبي
ﷺ بالذات وبالتحديد.
(٢) صرخة الشيطان
وعندما وصل المشركون إلى رسول الله
ﷺ، هرَب أصحابه من حوله، حتى صار ينادي:
إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، أنا رسول الله، فما يعرُج إليه أحد، والنبل
يأتي إليه من كلِّ ناحية.
٣١
ويروي «الطبري» إنه عند الهجوم على النبي، تفرَّق عنه أصحابه، فهرَب بعضهم وعاد إلى
المدينة لا يلوي على شيء، بينما صعد البعض الآخر إلى صخرةٍ فوق الجبل، بينما استمرَّ
النبي يُنادي:
إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله.
٣٢
واستطاع «عتبة بن أبي وقَّاص» أن يصِل إلى النبي، ويُهشِّم بيضته فوق رأسه، بينما
تمكَّن
«عبد الله بن شهاب» من أن يشُجَّه في جبهته، ثم كرَّ عليه «ابن قَمِئة الحارثي»، فكسَرَ
أنفَهُ
ورباعيَّتَه، وضربه بالمِغفَر فدخلت حلقتان من حلقات المِغفر في وجنتِه الشريفة. كل هذا
والرسول يُنادي أصحابه.
٣٣ ثم وقع رسول الله
ﷺ، في حفرة، عندما هاجَمَه ابن قَمِئة
في كرَّةٍ ثانية، فضرَبه على عاتقه ضربةً شديدة، لكن الدَّرعَين كانا وقاء له، لكن عزم
الضربة جعل رسول الله يشكو من عاتِقِه بعدَها شهرًا أو أكثر.
٣٤
وهنا لمح المُحارب الصُّلب «أبو دجانة» رسول الله وهو على حاله هذه، فانطلق إليه
ليرتمي فوقَه يَحمِيه، والنبل يتساقط عليه بغزارة حتى ملأ ظهره وهو لا يتحرَّك، في الوقت
الذي أخذ فيه المُهاجِمون دَورتَهم الواسعة في كرَّةٍ جديدة، انطلق أثناءها إلى النبي
عدد
من أصحابه، فأنهضوه من الحُفرة، وأسرعوا به يصعدون شِعب الجبل نحوَ صخرة منيعة، في
اللحظة التي عادت فيها كرَّة المُهاجمين، «فقال النبي
ﷺ: ألا أحد
لهؤلاء؟ فقال طلحة: أنا لهم يا رسول الله. فقال: كما أنت يا طلحة. فقال رجل من
الأنصار: فأنا يا رسول الله. فقاتل عنه. وصعد رسول الله ومن بقي معه، فلحقوه، فقال:
ألا أحد لهؤلاء؟ فقال له طلحة مثل قوله، فقال رسول الله
ﷺ مثل
قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فأذِن له، فقاتل مثل قِتاله وقتال
أصحابه، ورسول الله وأصحابه يصعدون، ثم قُتِل، فلحقوه. فلم يزل رسول الله
ﷺ يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول الله، فيحبِسُه، فيستأذنه رجل
من الأنصار للقتال فيأذن له، حتى لم يبقَ معه إلَّا طلحة، فقال رسول الله: من لهؤلاء؟
فقال طلحة: أنا.»
٣٥
وتصِف كُتب السِّير أبا طلحة بأنه «كان رجلًا راميًا شديد الرَّمي.» فنثَر نبله،
وأخذ
يرمي والرسول يجلس خلفَه مُحتميًا به،
٣٦ بينما كان النبي يُرسِل قوله الآسِف على هرَب أصحابه المُهاجرين عنه: «ما
أنصَفَنا أصحابنا.» ويشرح البيهقي «معناه ما أنصفت قُريش «المُهاجرين» الأنصار، لكون
القرشيين لم يخرُجوا للقتال دفاعًا عن النبي، بل خرجت الأنصار واحدًا بعد واحد.»
٣٧
وظلَّ «أبو طلحة» يرمي دفاعًا عن النبي يومذاك، ويترس دونه، حتى كسر ثلاثة أقواس.
وكان المُسلم يفلُّ هاربًا فيمرُّ عليهما فيُناديه رسول الله
ﷺ: انثُر
نبلك لأبي طلحة،
٣٨ حتى وترَه رامٍ أصابَ يدَه في أوتارها فشُلَّت من فَورها فصرخ مُتألمًا: حس،
فقال له النبي؛ لو قلتَ باسم الله لرفعَتْك الملائكة، والناس ينظُرون إليك، حتى تلِجَ
بك
في جوِّ السماء.
٣٩
وفي كرَّةٍ رابعة، عادت مَوجةٌ مُهاجمة إلى المكان الذي فيه رسول الله
ﷺ، بينما كان النبي قد تقهقَرَ من مكانه مُصعدًا في الشعب. وخرج لهم «مُصعَب بن عمير»
دون رسول الله، فوجَد «ابن قَمِئة» مُصعبًا في دروعه وخوذته في مكان رسول الله، فشدَّ
عليه شدَّةً قتله بها، وهو يظنُّ أنه محمدًا، ثم أكمل دورة فرسِهِ نحوَ المشركين وهو
يصيح
مُهللًا: قتلتُ محمدًا.
٤٠ في اللحظة التي كان فيها الرسول يُتابِع صعوده في شِعب الجبل مُتحاملًا على
طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، الذي هُرع إلى طلحة يُساعده في حمل رسول الله.
٤١
وإذ يقول زعيم طبقة المُفسرين ورُواة السِّيَر والأخبار الحافظ ابن كثير أنَّ صيحة
ابن
قمئة: قتلتُ محمدًا، قد أدَّت إلى بهتةٍ عظيمة بين المُسلمين،
٤٢ فإنها على الفور أوقفت — لا جدال — يدَ القتل المكيَّة عن استمرار القتل
والقتال، فهذا ما جاءوا من أجله وقد تحقَّق، ولم تعُد ثمَّة ضرورة لاستمرار القتل.
وبالفعل هدأ الميدان تمامًا بعد صيحة ابن قَمِئة. تلك الصيحة التي تُصرُّ كُتُبنا التراثية
على القول إنها صيحة الشيطان، لا لشيء إلَّا لأنها قالت مَكروهًا بحقِّ النبي، رغم أن
المُتأمِّل بقليلٍ من النزاهة، يُمكنه أن يراها صيحة جاءت في موعدها تمامًا، وكانت صيحة
الإنقاذ لرقاب المُسلمين، ولنَبيِّهم.
هذا بينما يرى آخرون — بتغافُل حقائق عدَّة — أن تلك الصيحة كانت السبب في هزيمة
المُسلمين، ومن ثَمَّ لا شكَّ أنها كانت صيحة الشيطان الذي يَعنيه هزيمة حزب الله. وذلك
بالتأثير الذي فعلَتْه الصيحة بنفوس المسلمين، وخوار عزيمتهم وفزَعِهم لمَّا علِموا أن
نبيَّهم قد قُتل، وهو المُعلَّق به مصيرهم ومصير دولتهم. ولكن دقائق الحدَث لا تترُك
لأصحاب ذلك الرأي ما يتمحَّلون به، لأنَّ الهزيمة كانت قد حلَّت بالفعل قبل تلك الصيحة،
وكانت يدُ القتل القرشية قد بدأت تفعَل فِعلها فيمن بقي من المسلمين، ووصل المُشركون
إلى النبي وفرَّ أصحابه عنه، حتى أُصيب إصاباتٍ شديدة، وكانت الصيحة مُتأخِّرة إلى حدٍّ
بعيد عن الهزيمة التي تمَّتْ قبلها بوقت، عندما ضرب ابن قَمِئة مُصعبًا وهو يحسَبُه محمدًا.
وما كان مُمكنًا أن يصِل إلى الرسول
ﷺ في مُؤخِّرة جيشه، إلَّا إذا كان
ذلك الجيش قد تهاوى وتشرذَم، ولم يعُد هناك حائلٌ بين المُشركين وبين النبي. لكن هؤلاء
يُصرُّون، مُستنِدين إلى رواياتٍ مثل رواية «الزُّبير بن العوام»:
وصرخ صارخ: «ألا إنَّ محمدًا قد قُتل.»
فانكفأنا، وانكفأ القوم علينا.
٤٣
هذا بينما أصحاب تلك الرؤية، وفي روايتهم أنفسهم عمَّا حدث، يظهَر واضحًا أن
«الزبير» كان يصعَد مع «طلحة» يُساعدان نَبيِّهم الجريح على ارتقاء الشِّعب، بعد أن خلا
الميدان حولَهم من أصحابهم، وبقية الصحابة إلى فرار. ومن بقيَ منهم أخذوا يضربون
بعضهم بعضًا من البهتة. أما «البيهقي» فيقول:
وصاح الشيطان: قُتِل محمد.
٤٤
ويقول «ابن هشام»:
الصارخ: إزب العقبة، يعني الشيطان.
٤٥
أما من هو «إزب العقبة»، فهو ما يأتي في حديثٍ منسوب لعبد الله بن الزبير «أنه رأى
رجلًا طولُه شبران على رحلِه، فقال: من أنت؟ قال: إزب. قال: ما إزب؟ قال: رجل من
الجن.» أما «الحلبي» الذي اعتدناه يقِف مع ما لا يجِده مُتَّسقًا ومُتوافقًا، يتساءل
أحيانًا، ويُبرِّر أخرى، فقد حاول تقديم تبريرٍ لتضارُب الروايات حول صاحب الصرخة، فقال:
«ويجوز أن يكون قد صدَر عن الثلاثة: ابن قمِئة، وإبليس، وإزب العقبة.»
٤٦
وعليه، فإن تلك الصرخة المُنقِذة التي أطلقَها «ابن قمِئة»، كانت سببًا في تراخي
أيدي
قريش عن القتل، بينما النبيُّ وطلحة والزبير يَتسلَّلون مُتخفِّين في الشِّعب، يريدون
صخرةً
عالية، تصادَف أنها كانت الصخرة التي فرَّ إليها بعضُ المسلمين الفارِّين، ولجئوا إليها
لمِنعتِها. فكان أن رآه «كعب بن مالك» من أعلى الشِّعب وهو قادم مع صاحِبَيه،
ويروي:
قد عرفتُ عينَيه الشريفتين تُزهِران تحت المِغفر، فناديتُ بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين
أبشِروا، هذا رسول الله، فأشار إليَّ: أنصت، فلمَّا عرف
المسلمون رسول الله نهَضوا، ونهض معهم نحو الشِّعب علي بن أبي طالب، وأبو
بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، في نفر من المسلمين.
٤٧
لكن ليلمحهم «أُبيُّ بن خلف» وهم يَخفُّون إلى النبي يُساعدونه على الصعود، وقد تطرَّف
«أُبي» عن قومه، فسمِع صيحة «كعب بن مالك»، فعلِم أنَّ الرسول ما زال حيًّا. وبينما
النبي يُسنِد رأسه تعبًا في الشعب، كرَّ «أبي بن خلف» بفرسه وهو يهتِف مُتسائلًا: «أي
محمد
(؟!) لا نَجوتُ إن نجا. فقال القوم: يا رسول الله أيعطِفُ عليه رجل منَّا؟ فقال رسول
الله: لا، دعوه. فلمَّا دنا تناول رسول الله الحربَةَ من الحارث بن الصُّمَّة، وانتفض
بها
انتفاضةً تطايرْنا عنه تطايُر الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعَنَه في
عُنقه، طعنةً تدأدأ منها عن فرسِهِ مرارًا،
٤٨ وجعل يَخُور كما يَخُور الثَّور إذا ذُبح.»
٤٩
ولمزيدٍ من المِنعة، بعيدًا عن مُتناوَل قريش «نهض النبي
ﷺ إلى صخرة
في الجبل ليَعلوها، وقد كان بدَن رسول الله بين درعين، فلمَّا ذهب لينهض لم يستطِع، فجلس
تحته طلحة بن عبيدة، فنهض به حتى استوى عليها.»
٥٠ وهكذا نال الإجهاد من النبيِّ كلَّ منال، وأخذ منه الألم كلَّ مأخَذ، حتى إنه
بعد العودة «ذكر عمرو مولى عفرة أنَّ رسول الله
ﷺ، صلَّى الظهر يوم
أُحد قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المُسلمون خلفَه قعودًا.»
٥١
وبعد أن امتنع المسلمون الذين بقُوا مع نبيهم على الصخرة المنيعة — التي ما كان
لأحد أن يصعد عليها إلا ويُصاب برماح وسهام المُمتنِعين فوقَها — ومعهم سيوفهم، لا مجال
لأخذهم، تقدَّم أبو سفيان حتى اقترب من سفح الصخرة ثم نادى: «أفي القوم محمد؟ أفي
القوم محمد؟ ثلاثًا، فنهاهم رسول الله
ﷺ أن يُجيبوه.» وهكذا كانت
حصافة القائد تُملي على رجاله رغم الامتناع فوق الصخرة، أن يترُكوا قريشًا تتوهَّم
قتله، حتى لا يُحاولوا الكرَّ عليهم مرة أخرى، كما سبق وأمر «كعب بن مالك» بعدَم
الإعلان عنه وأمرَه بالصَّمت، لكن «أبو سفيان» استمرَّ يُنادي «أفي القوم ابن أبي قحافة؟
أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على
أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتلوا وقد كُفيتمُوهم. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبتَ
والله يا عدوَّ الله، إنَّ الذين عددتَ لأحياءٌ كلُّهم، وقد بقي لك ما يَسوءُك».
٥٢ فكان أن ردَّ عليه «أبو سفيان» ومن معه يُنادون شامِتين مُتوعِّدين:
يومًا بيوم بدر، إنْ موعدَكم بدر للعام القابل.
«فقال رسول الله لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد … ثم بعث رسول الله
علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظُر ماذا يصنعون؟ فإن كانوا قد جنَّبوا
الخيل وامتطَوا الإبل، فإنهم يُريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم
يُريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأناجِزهم. قال
علي: فخرجتُ في آثارهم أنظُر ماذا يصنعون؟ فجنَّبوا الخيل وامتطَوا الإبل، ووجَّهوا إلى
مكة.»
٥٣
وهكذا، انتهت غزوة أُحد بثأر قريش، الذي أعملت له حسابات دقيقة، وهم تجَّار أصحاب
حسابات، يُدقِّقون فيما لهم وفيما عليهم، تحدُوهم المصلحة والمكاسب في الأول وفي الآخر.
فتؤكد كُتُب الأخبار أنهم قَتلوا على التدقيق سبعين مُسلمًا، بسبعين مُشركًا يوم بدْر،
وأسَروا سبعين مُسلمًا بسبعين مُشركًا يوم بدر، وهو ما يُردِفه المُفسِّرون بالآية الكريمة:
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
٥٤
(آل عمران: ١٦٥).
(ومثلَيها هنا تعني الأمرَين، السبعين قتيلًا، والسبعين أسيرًا)، وهو ما عبَّر عنه
منطق التاجِر الأُموي، أبي سفيان صخْر بن حرب، وهو يُنادي المُعتصِمين بالصَّخرة، مُقدِّمًا
كشف حسابٍ تجاري دقيق، يقول:
يومًا بيوم بدر، وإنَّ موعدكم بدر للعام القابل.
وهو ما عقَّب عليه الطبري في حديثه عن أُحد مُقارنًا ببدر، إذ يقول:
فلمَّا كان العام القابل في أحد، عُوقِبوا بما صنعوا، قُتل من أصحاب رسول الله
ﷺ سبعُون، وأُسِر سبعون، وكُسِرت رباعيَّتُه، وهُشِّمت البيضة على رأسه، وسال الدم
على وجهه، وفرَّ أصحاب النبيِّ وصعدوا الجبل.
٥٥