وكانت أُحد ابتلاء فرزٍ واختبار وتمحيص للمؤمنين الصادقين، سواء من أخذَهم الرُّعب
فولَّوا
هاربين من حول رسول الله حتى انكشف للمُهاجمين، وهو
ﷺ يُناديهم: أنا
رسول الله، إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، فلم يَثبُتوا وفرُّوا عنه ليعتصِموا بصخرةٍ
في أعلى
الشِّعب، فأنَّبَهم الوحيُ الكريم بقوله:
هذا عمَّن فرُّوا، ثُمَّ هناك ما جاء وحيًا يُحدِّث عمَّن ظنُّوا بالله ظنَّ الجاهلية،
وشكُّوا في
صِدق الرسول بل وفي الدَّعوة برمَّتها، ليردَّ عليهم قائلًا:
ثم يتوجَّه الوحيُ نحو من قالوا: لو سمعوا نُصحنا لهم بالتحصُّن في يثرِب، وعدم الخروج
إلى
المُشركين ما قُتلوا، قائلًا:
أما الذين تساءلوا كيف يُهزمون والله معهم ورسوله؟ فقد جاءهم جواب الوَحي مُفحمًا
يُذكِّرهم
أنهم وإن أُصيبوا في أحد، فقد سبق وأصابوا في بدر، ويقول:
ثُم يُثنِّي الوحي بصِدقه بالقول الفصل، لتأكيد أن ما حدَث كان خطَّةً إلهية مَقدورة
سلفًا، من
الله تعالى، لفرْز المؤمنين الصادِقين عن غيرهم، بقوله:
(١) مواقف من الهزيمة
ونعود إلى عيون التاريخ نقرأ فيها المُفاجأة التي رتَّبتْها قريش للمسلمين، بقرارات
مُقاتلين من جيلٍ جديد، تلتمِع أسماؤهم مع نِصال سيوف شَرذَمَت شملَ المسلمين وصعقَتهم،
مثل
«خالد بن الوليد» و«عكرمة بن أبي الحكم»، حتى صار المسلمون يَضربون بعضهم ويقتلون
بعضهم بعضًا على غَير هُدًى، ولا شِعار. بعد أن أضاعت البهتةُ لُبَّهم فنسُوا شعارهم،
ثم
جاءت صيحة «ابن قَمِئة»: إنَّ محمدًا قد قُتل، لتترك أثرًا أعمقَ في الفارِّين يَحتمون
بالشِّعاب والصخور، فأصحاب الشِّعب يقولون:
إن رسول الله
ﷺ قد قتل، فارجعوا إلى قومكم فيُؤمِّنونكم، قبل أن
يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخِلون البيوت.
١
وقد ذهب هؤلاء تحديدًا إلى رأيٍ يقول:
نُلقي إليهم بأيدينا، فإنهم قومُنا وبنو
عَمِّنا.
ويُعقِّب رُواة السيرة بالقول:
وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الفرقة ليست من الأنصار، بل من المُهاجرين.
٢
هذا؛ بينما كان بعض المُسلمين ينتهز فرصة المعركة، ويُحفِّز الناس للخروج إليها،
من
أجل أخذِ ثأره من مُسلم آخَر في حومَةِ الوَغى دون عيونٍ تراه، مثل «الحارث بن سُويد
بن
الصامت» ابن صاحب صحيفة لُقمان، ذلك المُسلم الذي لم تؤثِّر فيه الأخوة الإسلامية
والأُمميَّة الجديدة، بل ظلَّ أسير الحَمِيَّة القبلية الجاهلية، يُخضِع رغبته الثائرة
على مَضضٍ
ينتهزُ لها فُرصة، يُريد بها «المُجذَّر بن زياد» الذي كان قد قتَلَ أباه «سُويد» في
حرب
الأوس والخزرج. وما إن تبدأ المعركة ويختلط الناس بالناس، حتى يَغمد سيفه في قاتِل
أبيه ليشفي غليلَ ثأره.
٣
ثم موقفٌ ثالث لأصحاب الصخرة الذين فرُّوا من حول النبي، واعتصموا بها يَردُّون عن
أنفسهم في خفائها، وقد رأى هؤلاء رأيًا آخر:
فقال بعض أصحاب الصخرة، ليتَ لنا رسولًا إلى عبد الله بن أُبيٍّ فيأخُذ لنا أمنة من
أبي سفيان، يا قوم، إنَّ محمدًا قد قُتِل فارجعوا إلى قومِكم، قبل أن يأتُوكم فيَقتلونكم.
٤
وقد بلغ الرُّعب بأصحاب الصخرة أنهم كادوا يَقتُلون نبيَّهم وهو يخفُّ إليهم مُتحاملًا
على
مناكِب صاحِبَيه، وهم لا يُميزونه، ورفَعوا عليه نبالَهم ورماحَهم.
فقال رسول الله: أنا رسول الله، ففرِحوا بذلك حين وجَدوا رسول الله
ﷺ، وفرِح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنِع بهم … فقال الله
عزَّ وجلَّ في الذين قالوا: إن محمدًا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ (آل عمران: ١٤٤).
٥
أما الموقف الرابع، فيُمثِّله من جاء ذِكرهم في الواقِدي وهو يقول:
لمَّا صاح إبليس: إنَّ محمدًا قد قُتل، تفرَّق الناس، فمنهم من ورَد المدينة، حتى دخلوا
على نسائهم وجعل النِّساء يَقلنَ: عن رسول الله تفرُّون؟!
٦
وقد عدد «البلاذري» في أنساب الأشراف (١: ٣٢٦ ) أسماء بعض الفارِّين من الميدان
تمامًا — الذين يُمثِّلون موقفًا خامسًا — بعد أن ترَكوا إخوانهم ورسولهم إلى مصيرهم،
وهم عُثمان بن عفَّان، وسَواد بن غُزيَّة، والحارِث بن حاطِب، وسعد بن عثمان، وعُقبة
بن
عثمان، وخارجةَ بن عامر، وأوس بن قَيظي. حتى أبعَدوا عن المدينة بما يصِل إلى ثلاثين
مِيلًا.
٧ ولم يعودوا إلى يثرِب إلَّا بعد أن وصلتْهم الأخبار بعودة النبي إليها مع
من بقيَ من أصحابه، فعادوا إليها من مَهربِهم بعد أيامٍ ثلاثة، فقال لهم رسول الله
ﷺ:
لقد ذهبتُم فيها عريضة، ثم جاء الوحيُ بشأنهم يقول:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ (آل عمران: ١٥٥).
ويقول «ابن حبيب»: «الذين تَولَّوا يوم التقى الجمعان فعفا الله عنهم من المُهاجرين
عثمان بن عفان بن العاص بن أُميَّة، وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، وسعد بن عُثمان من
الخزرج وأخوه عقبة بن عثمان.»
٨ وكان هرَب «عثمان بن عفَّان» من أُحد، مَدعاةً بعد ذلك بسنين في الصِّراع
السافِر الذي قام على السُّلطة في الدولة الإسلامية، للتدليل على أنَّ الموقف العدائي
لبني أُميَّة من الهاشميِّين بل من النبيِّ ودعوته، كان مُتأصِّلًا في نفوسهم. فقد حكى
البُخاري عن عثمان بن وهْب قوله: «جاء رجُلٌ حجَّ البيتَ فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من
هؤلاء القعود؟ قالوا: قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك
عن شيء، أتُحدِّثني؟ أَنشُدك بحُرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فرَّ يوم أُحد؟
قال:
نعم. قال: فتعلَمُه تغيَّب عن بدرٍ فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلَّف عن بيعة
الرضوان فلم يشهَدْها؟ قال: نعم. فكبَّر، فقال ابن عمر: تعالَ لأُخبرك ولأبيِّن لك عما
سألتَني عنه، فأمَّا فراره يومَ أُحد، فأشهَدُ أن الله عفا عنه، وأما تغيُّبه عن بدْر،
فإنه
كان تحتَهُ بنتُ النبيِّ وكانت مريضة، فقال له رسول الله
ﷺ: إنَّ لك أجرَ
رجلٍ ممَّن شهِدَ بدرًا وسَهْمَه. أما تَغيُّبه عن بيعة الرضوان، فإنه لو كان أحدٌ أعزَّ
ببطن مكة
من عُثمان بن عفان لبعَثَهُ مكانه، فبعَث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهبَ عثمان
إلى مكة.»
٩
ثم موقف سادس أعلن تَشكُّكَه في أمر الدعوة بكامِلها، وعلاقة الرسول بالسماء، يُمثِّله
عتَّاب بن قُشير الذي وقف يتطلَّع إلى هزيمة المسلمين وهم يُقتلون في أحد ويقول:
لو كان من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا.
١٠
وجاوبه رجْع الصَّدى ممن هُم على مِثل رأيه:
لو كان نبيًّا ما قُتل، فارجِعوا إلى دِينكم الأول.
١١
وهكذا كان الفرز، وهكذا جاءت أُحد لتُفصِح بوقعَتِها عمَّا بذات الصدور. وتُحدِّد
مواقف،
وتُصنِّف الأتباع تصنيفًا كامل التحديد والوضوح. لأنه مُقابل كلِّ تلك المواقف المُتخاذِلة
والمُؤسِفة، كانت هناك مواقف أخرى وإنْ كانت قليلةً نادرة ضعيفة، لكنَّها دخلت الفرْز
وبرزَتْ كمواقف مَبدئية صارمة لا تقبَل المُساوَمة. فهذا «أنس بن النَّضر» يُنادي «عمر
بن
الخطاب» و«علي بن أبي طالب» و«أبا بكر» وصحبهم من أصحاب الصَّخرة ويقول:
يا قوم؛ إن كان محمد قد قُتل، فإن ربَّ محمدٍ لم يُقتل، فقاتلوا على ما قاتَلَ عليه
محمد، اللهم إني أعتذِر إليك ممَّا يقول هؤلاء، وأبرأ إليك ممَّا جاء به هؤلاء، ثم شدَّ
بسيفه يُقاتِل، حتى قُتِل.
١٢
وهكذا، وبينما المُهاجرون في فزَعِهم، والأنصار يُقتَلون الواحد بعد الآخر دون رسول
الله وهو يصعَد الشِّعب، وبينما المُهاجرون يُفكِّرون في اللَّحاق بقومهم، فإن «رجلًا
من
المهاجرين مرَّ على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، فقال له: يا فلان، أشعرتَ أنَّ
محمدًا قد قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قُتل، فقد بلَّغ، فقاتلوا عن دِينكم.»
١٣
ثم ذلك الأنصاري المُبارز الفارس، «أبو دجانة/سماك بن خرشة»، الذي ترس عن الرسول
يتلقَّى عنه النبل، وظلَّ مُحاربًا يخوض معه المواقع بعدها بذات البطولة. «وقزمان»
الأنصاري، الذي أبلى في أُحُد بلاءً يُعادل في ميزان القتال جيشَ المسلمين جميعًا، فنزل
الحَومة لا يكلُّ ولا يهرُب ولا يتراجَع، يتخطَّف سيفه رءوس المشركين رأسًا في إثر رأس،
ويصُول حتى ينغرِس في عُمق ثلاثة آلاف مُقاتل دون خطوةٍ واحدة للوراء، حتى أعمقَ بينهم،
وحتى عدَّدتْ له كُتب السِّيَر عشرةَ قتلى، من بين اثنين وعشرين قتيلًا مَكيًّا هُم كلُّ
من قتَلَ
المسلمون من قُريش في أُحد، وبينما يُعدِّد «ابن هشام» أسماء المقتولين من قريش،
وقاتليهم من المُسلمين، نقتطِع ما يخصُّ «قزمان» وحده، حيث يقول ابن هشام:
… وكلاب بن طلحة، والحارث بن طلحة، قتلَهُما قزمان … وأبو يزيد ابن عمير … قتله
قزمان، وصؤاب غلام له حبشي قتلَه قزمان … والقاسط بن شُريح … قتله قزمان … وهشام بن
أبي أُميَّة بن المُغيرة قتله قزمان، والوليد بن العاص بن هشام بن المُغيرة، قتله قزمان
… وعبيدة بن جابر وشَيبة بن مالك بن المُضرب، قتلَهُما قزمان، … قال ابن إسحق: فجميع
من
قتل الله تبارك وتعالى من المُشركين يوم أحد، اثنان وعشرون رجلًا.
١٤
ومع ذلك تصرُّ كُتُبنا التُّراثية على وصْم قزمان بأنه كان مُنافقًا، وأنه من أهل
النار،
وأن الله قد ينصُر دِينَهُ على الكافر بالفاجِر (؟!)، حتى إن تلك الكُتب قدَّمَت روايات
تستَجهِل «قزمان»، وتتجاهل معرفتَهُ من بين صحبِهِ وآله من الأنصار، ومن تلك الروايات:
كان فينا رجل أتى لا يُدرى من هو، يُقال له: قزمان، فكان رسول الله يقول إذا ذُكِر:
إنه لمن أهل النار، فلمَّا كان يومُ أُحد قاتل قتالًا شديدًا … وكان ذا بأس، وأثبتَتْه
الجراح، فاحتُمِل إلى دار بني ظفر.
١٥
أما لماذا حُمِل إلى دار بني ظفر بالذات، فإنَّ كُتُب السيرة تروي رُواياتٍ بعد أن
تتذكَّر
معرفتها بالرجل، فنعرِف عند «ابن هشام» أنه «حليف بني ظفر»،
١٦ فهو لم يكن مجهولًا، إنما التجهيل جاء عن عمْد. ورغم نسبة قتلاهُ العشرة
من المُشركين إلى الله جلَّ وعلا، «فجميع من قَتَلَ الله تبارك وتعالى يوم أحد من
المشركين اثنانِ وعشرون رجُلًا.» ضِمنُهم عشرة قتلَهم قزمان وحدَه، دُون أن يفرَّ إلى
شِعبٍ،
ولا أن يلجأ إلى صخرة، ولا أن يهرُب إلى المدينة، ولا أن يُوغِل ثلاثين ميلًا هرَبًا
بعيدًا عن الميدان، لينتظِر هناك أيامًا يَستخبِر على من كانت الكرَّة، ليُحدِّد موقفه.
أما
السرُّ وراء كلِّ هذا التجهيل والتَّبخيس لرجُلٍ هذا بلاؤه، فيرجِع إلى حديثٍ ترويه كُتُب
السيرة عن قزمان وهو جريح في دار بني ظفر:
فجعل رجال من المُسلمين يقولون له: والله لقد أبليتَ اليوم يا قزمان فأبشِر. قال:
بماذا أُبشِر؟ فوالله ما قاتلتُ إلَّا عن أحساب قَومي، ولولا ذلك ما قاتلتُ. فلمَّا اشتدَّتْ
عليه جراحُه، أخذ سَهمًا من كنانتِهِ فقتل به نفسه.
١٧
وموقف قزمان هنا من المواقف العربية موقف راقٍ، دافع فيه عن أهله وأحسابه، أما
قتله نفسه وهو بجراح الموت يتألَّم فهو صِفة معلومة لدى أصحاب المبادئ والإرادة
القوية والشجاعة، فيما يُخبِرنا به علم النفس الحديث.
وهو موقِفٌ يختلِف إلى حدٍّ ما عن موقف «حاطب بن أُميَّة» الذي أُصيب ابنه «يزيد»
في أحد،
فحملوه إلى دار قومِه واجتمع حوله أهله،
فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء، أبشِر يا ابن حاطِب بالجنَّة،
وكان حاطِب شيخًا قد عسا في الجاهلية، فنجم يومئذٍ نفاقُه فقال: «بأيِّ شيءٍ
تُبشِّرونه؟ بجنَّةٍ من حرمل؟ غررتُم والله هذا الغُلام من نفسِه.»
١٨ وفي شرْح السهيلي «الجنَّة من حرمل، يُريد الأرض التي دُفن فيها
وكانت تُنبِتُ الحرمل، أي ليس له جنَّة إلَّا ذاك.»
١٩
(٢) مقتل أسد الله
في يثرب، وبعد العودة من أحد «مرَّ رسول الله
ﷺ، بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر، فسمع البكاء والنُّواح على قتلاهم، فذرفتْ
عينا رسول
الله فبكى ثم قال: لكن حمزة لا بَواكيَ له. فلمَّا رجع سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضير إلى
دار بني عبد الأشهل، أمر نساءَهم أن يتخرَّسْنَ ثم يذهبن فيبكين على عمِّ رسول الله.»
٢٠ وهو ما يُظهِر مدى اللَّوعة التي أصابتْ قلب رسول الله
ﷺ،
على مُصابه في عمِّهِ «حمزة بن عبد المطلب»، الذي قتلَه «وحشيُّ الحبشي» عبد «جُبير بن
مطعم»، انتقامًا لمَقتل عمِّ جبير «طعيمة بن عدي» الذي سبق وقتلَه المسلمون في بدر
الكبرى. مع وعدٍ لوحشيٍّ الحبشي بالعِتق من العبودية إلى الحرية إن فعل، هذا مع وعدٍ
آخر
تلقَّاه الحبشي الوحشي من «هند بنت عتبة» إن قتَل حمزة انتقامًا لأبيها وأخيها وعمِّها،
وكان المُقابل الذي سيناله وحشيٌّ من هند، فهو ما يُعبِّر عنه نداؤها له كلَّما مرَّ
بها في
أحد، أو مرَّت به، وهي تُردِّد بغنج بدلالٍ وترغيب:
ويرسم رواة السيرة، صورةً حية لمقتل حمزة رضي الله عنه، بلسان قاتلِه وحشي، الذي
يروي، أنه بينما كان حمزة يصُول بسيفه «مرَّ به سباع بن عبد العُزَّى الغشاني، وكان يُكنى
أبا نيار، فقال له حمزة: هلمَّ إليَّ يا ابن مُقطِّعة البظور. وكانت أمُّه أم إنمار ختَّانة
بمكة. فلمَّا التقيا فضربه حمزة فقتله.» وهنا عثر حمزة فوقع، فانكشَفَ درعُه الحديدي
عن
بطنه «فهززتُ حربتي حتى إذا رضيتُ منها، دفعتُها عليه، فوقعَتْ في ثنتِهِ حتى خرجَتْ
من بين
رجلَيه، فأقبلَ نحوي، فغلب، فوقَع، وأمهلتُه حتى إذا مات، جئتُ فأخذتُ حربتي ثم تنحَّيتُ
عن
العسكر، ولم تكُن لي بشيء حاجة غيره.»
٢٢
وهنا هرولت «بنت عُتبة» المدلَّلة الثائرة، لتبقُر بطن حمزة رضي الله عنه، وتُخرج
كبِدَه
وتلوك منه قطعةً تشفِّيًا، حتى إذا انتهت المعركة ورحلت قريش، مرَّ رسول الله بعمِّه
وهو
على تلك الحال، فوقف على رأسِهِ وقد أخذ منه الكمَدُ مأخذًا، حتى جعل يقول:
لولا أن تحزَن صفية، ويكون سُنَّة بعدي، لتركتُه حتى يكون في بُطون السباع
وحواصِل الطير، ولئن أظهرَني الله على قريش في موطنٍ من المواطن، لأُمثِّلنَّ
بثلاثين رجُلًا منهم.
٢٣
وقد عقَّب بعض المُفسِّرين بالقول: إنَّ الوحي جاء يردُّ النبي عن ذلك بقوله:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ (النحل: ١٢٦)، لكن ابن كثير
بحصافته، يُدرِك أمرًا فيقول:
قلتُ هذه الآية مكيَّة، وقصَّة أحدٍ بعد الهجرة بثلاث سنين!
فكيف يلتئم هذا؟!
٢٤
أما ابن مسعود فيروي القول عن حال النبي يوم مقتل حمزة:
ما رأينا رسول الله
ﷺ باكيًا، أشدَّ من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعَهُ
في القبلة ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشق، وحتى بلغ به الغَشْي، وهو يقول: يا
حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذاب.
٢٥
أما الأنصار، ورغم مُصابهم في قتلاهم، فإنهم عندما شاهدوا حُزن ابن أختهم على عمِّه
قالوا:
والله لئن ظهَرْنا عليهم يومًا من الدهر، لنُمثِّلنَّ بهم مُثلةً لم يُمثِّلها أحد من
العرب بأحد قط.
٢٦
ومن ثم — وعلى شرط مُسلم — جاءت نساء الأنصار تبكي حمزة وتندبه، لمَّا قال النبي:
لكن
حمزة لا بواكيَ له.
٢٧
وهكذا عادت قريش بعد أن أشفتْ ثأرها، واستشفتْ لقتلاها، تحمِل في ركابها حبلًا طويلا
تجرُّ فيه الأسرى من المُسلمين. تشعُر أنها قد أعادت هيبتَها في عيون الأعراب، وردعَتْ
مَن
فكَّر بموادعة يثرِب على طرُق التجارة الداخلية، وأعادت لطريق الإيلاف أمنَه، مع اعتزازٍ
بنجاحها في إعادة كنانة إلى إيلافها، ومُشاركتها قريشًا في أحد، وهو ما عبَّر عنه شِعر
هبيرة بن أبي وهب وهو يقول:
سُقنا كنانة من أطراف ذي يمنٍ
عرض البلاد على ما كان يُزجيها
قالت كنانة: أنَّى تذهبون بنا؟
قُلنا النَّخيل، فأمُّوها ومن فيها
نحن الفوارس يومَ الجرِّ من أُحد
هابتْ مُعَد، فقُلنا نحن نأتيها
فأجابه شاعر الرسول حسَّان بن ثابت يُذكِّره بانتصار المسلمين السابق في بدر، وهو
يقول:
سقتُم كنانة جهلًا من سفاهتكم
إلى الرسول، فجُند الله مُخزيها
أوردتُمُوها حِياض الموت ضاحية
فالنار مَوعِدها والقتل لاقيها
ألا اعتبرتُم بِخَيل الله إذ قتلَتْ
أهل القليب ومن ألقَينَه فيها
ثم قام «كعب بن مالك» يدعم «ابن ثابت» بالقول:
ونحن أناس لا نرى القتل سُبَّةً
على كلِّ من يَحمي الذِّمار ويمنعُ
جلاد على ريب الحوادث لا نرى
على هالكٍ عينًا لنا الدَّهر تدمعُ
بنو الحرب لا نَعيا بشيء نقوله
ولا نحن ممَّا جرَّتِ الحربُ نجزعُ
وهنا قام «عبد الله بن الزبعري» يردُّ على «حسَّان بن ثابت» مؤكدًا أن النصر كان
حليف قريش، وأنهم مُقابل شيوخ الملأ في بدر، قد قتلوا من سادة يثرِب ومُحاربيها من لا
يقلُّون شرفًا ومَحتِدًا، بل ويزعم أنَّ قريشًا قد قتلت من اليثاربة ضِعف ما قتل المُسلمون
من قُريش في بدر، ويقوم ذلك في قوله:
يا غراب البين؛ أسمعت فقُل
إنما تنطق شيئًا قد فعلْ
أبلغَنْ حسان عنِّي آيةً
فقريضُ الشعر يشفي ذا الغللْ
كم قتلْنا من كريمٍ سيدٍ
ماجد الجدَّينِ مِقدام بطلْ
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزَعَ الخزرج من وقْع الأسلْ
حين حكَّت بقباءٍ بركها
واستحرَّ القتل في عبد الأشلْ
فقَتلْنا الضِّعف من أشرافهم
وعدَّلنا مَيل بدرٍ فاعتدلْ
فأجابه «حسَّان» يردُّ له الصاع صاعَين بقوله:
ذهبَتْ يابن الزَّبعرى وقعةٌ
كان منَّا الفضلُ فيها لو عدَلْ
ولقد نلتُم ونِلْنا مِنكم
وكذاك الحرب أحيانًا دُولْ
نضع الأسياف في أكتافِكم
… … … …
نُخرج الإصبع من إستاهكم
… … … …
وتركنا في قريش عورة
يوم بدر، وأحاديث المثلْ
أما «هند بنت عتبة» فقد كانت تُرسِل شِعرها يُعلن استشفاءها بعد ثأرها من «حمزة»،
وهي تُنادي المسلمين بقولها:
نحن جَزيناكم بيوم بدْرٍ
والحرب بعد الحرْب ذات سعرِ
ما كان لي عن عُتبة من صبر
ولا أخي وعمِّه وبكر
شفيتُ نفسي وقضيتُ نذري
شفيتَ وحشي غليل صدري
هذا، وإن كانت «هند» ترى في نفسها بقيَّة من رغبة لم تتحقَّق، في القضاء على كل
هاشمي وكل أنصاري، فتقول:
رجعت وفي نفسي بلابل رحمة
وقد فاتَني بعض الذي كان مَطلبي
من اصحاب بدرٍ من قريش وغيرهم
بني هاشم منهم ومن أهل يثرِب
ولكنَّني قد نلتُ شيئًا ولم يكن
كما كنتُ أرجو في مَسيري ومركبي
٢٩
فقامت «هند بنت أثاثة بن عبد المُطلب»، سليلة البيت الهاشمي، وقد استنفرها شِعر
«هند بنت عتبة»، لتردَّ عليها قائلة:
خُزيتِ في بدر وبعد بدر
يا بنتَ وقَّاعٍ عظيمِ الكُفر
صبَّحكِ الله غداة الفجر
م الهاشمِيِّين الطوالِ الزُّهر
بكلِّ قطَّاعٍ حُسام يُغري
حمزة ليثي وعليٌّ صَقري
إذا رام شيب وأبوك عُذري
مُخضَّبًا منه ضواحي النَّحْر
ونذرُك السوء فشرُّ نذْرِ
٣٠
واستمرَّ «حسان بن ثابت» يتبع قوافي «هند بنت عتبة»، ليقع بها وقعةً فاحشة، ويرفع
السَّتر عن سِرِّها، ليقول:
لعنَ الإلهُ وزوجَها معها
هند الهنود عظيمةَ البظْرِ
أُخْرِجْتِ مرقصةً إلى أُحدٍ
في القوم، مُقتبة على بكْرِ
بكر ثقال لا حَراك به
لا عن مُعاتبةٍ ولا زجْر
وعصاك إستُك تتَّقين بها
دقي العجاية هند بالفِهرِ
قرحَتْ عجيزتها ومشرجها
من دأبِها نصًّا على القترِ
ونسيتِ فاحشةً أتيتِ بها
يا هند ويحكِ سُبَّةَ الدهرِ
زعم الولائد أنها ولدَتْ
ولدًا صغيرًا كان من عُهرِ
٣١