الزرادشتيون
وُلِدَت لال شاهرفيني في عشرينيات القرن الماضي في مدينة يزْد، وهي واحةٌ في قلب إيران مُحاطة بتلالٍ منخفضة وجَرداء. وفي الوقت الحاضر، أعلنَت اليونسكو أن مدينة يزد القديمةَ بأكملها موقعٌ تراثي عالَمي. فالجدران المبنية من الطوب اللَّبِن تُحيط بالأزقَّة والشوارع التي لا يمكن للسيارات المرورُ فيها. وتلوح في الأفق أبراجُ الرياح الطويلة، وهي تصميماتٌ بدائية رائعة لمكيِّفات هواء، على شكل مَداخنَ ضخمة، تلتقطُ نَسائم الصيف وتنزلُ بها إلى المنازل شديدةِ الحرارة. وتؤدِّي سلالم غامضةٍ إلى صَهاريج كان الناس يومًا ما يحتمون عندها من الحرارة، والتي يمكن أن تصل في الصيف إلى ٤٥ درجة مئوية. في الميدان الرئيسي توجد عجلةٌ من الخُوص حجمُها أكبر من حجم رَجُل، وهي نسخةٌ طِبق الأصل من قبر الحسين الذي يحمله المسلمون حول المدينة على أكتافهم مرةً كل سنة؛ باعتباره عملًا من أعمال التوبة.
لم تذهب لال مطلقًا لمشاهدة تلك العُروض الإسلامية لإحياء ذِكرى مقتل الحسين، أو للصلاة في المسجد بقِبابه الفيروزية المزخرَفة والمئذنة الطويلة. فهي لم تكن مُسلمة؛ فطائفتها الدينية كانت أصغرَ وأقدَم. وكان لِشعبها أعيادُه واحتفالاته الخاصة، مثل الانقلاب الشمسي الشتوي، عندما يظلُّون مستيقِظين طيلةَ أطوَلِ ليلةٍ في السنة، ويُحضِرون البِطِّيخ والرمَّان من المخازن لتناوُلِهما بينما يحكون القصصَ حتى الفجر. وكان الانقلاب الشمسي الربيعي، عندما يصبح النهار أخيرًا أطول من الليل، أهمَّ عيدٍ في السنة لديهم. وكانت الطهارة أساسية في حياتهم: ولتحقيق ذلك، مارسَت لال طقسًا يتطلب الاستيقاظَ مدة تسع ليالٍ، رَشَّ خلالها أحدُ الكهنة بَول ثَور على جسدها وأعطاها بِضع قطرات منه لتبتلعَها. وأعلنت أنها، بمحض إرادتها، ستنضمُّ إلى «إخوة وأخَوات في الخير».
وبدلًا من كراهية الكلاب، كما كان يفعل مُسلمو يزد، كلَّفَتها عائلتُها بتقديم الطعام لها كلَّ ليلة، قبل أن يكون بوُسعها هي وعائلتها أن يتَناولوا وجبتَهم الخاصة. وبدلًا من الصلاة في مسجد، قدمت عائلتُها ابتهالاتٍ وخشبَ صندلٍ محروقًا أمام نارٍ مقدَّسة في معبد قريب. وكلَّ ليلة كان والدها، الذي كان يعمل كاهنًا، يصعد إلى سطح منزلهم المبنيِّ من الطوب اللبن؛ حيث كانت تراه يقف هناك حاملًا سدسًا وإسطرلابًا، ويُجْري قياساتٍ على النجوم. كانوا يستخدمون في صلوات الأسرة اللغةَ الأفستية، وكان العصر الحديديُّ هو آخِرَ مرةٍ تُستخدَم فيه هذه اللغة في الحديث اليومي. وكانوا يتحدَّثون في المنزل لُغتَهم الخاصة، التي أطلَق عليها الآخَرون بازدراءٍ اسم «جبري»؛ لأنه لم يكن يتحدَّث بها أو يفهمها إلا أولئك الذين كانوا يدينون بدينهم.
كان معظمُ الإيرانيين قبل مجيء الإسلام يُمارسون تقاليدَ التي تتبعها لال. وعندما سافر فُرسان محافظة فارس في القرن السادس قبل الميلاد شمالًا، وشرقًا، وغربًا لغزوِ جيرانهم وبناءِ أكبر إمبراطورية شهدها العالم حتى الآن، والتي أطلَقوا عليها اسم بلاد فارس، كان دين لال هو الدينَ الذي اتبَعوه. وقد وصَل إليهم من آسيا الوسطى، حيث أسَّسه نبيٌّ يدعى زرادَشْت ربما في نحو عام ۱۰۰۰ قبل الميلاد. ويُطلَق على أتباعه في الغرب اسمُ الزرادشتيِّين. ويُطلق عليهم العربُ اسم المجوس، على اسم كهنتهم، «الماجي» (ويُطلق عليهم أيضًا اسم «الموابذة»). يُعرفون في الهند باسم البارسيون، وهو الاسم الذي أُطلق عليهم بعد وصولهم لاجئين من بلادِ فارس بعد مدةٍ وجيزة من الفتح الإسلامي. وغالبًا ما صوَّر المسيحيون الأوائلُ الحكماءَ الثلاثة الذين قيل إنهم زاروا يسوع على أنهم زرادشتيون فارسيُّون: ومع أن هذا لم يُذكَر مطلقًا في سردِ إنجيل متى نفسِه، فإنه كان اختيارًا محظوظًا. فعندما احتلَّت الجيوش الفارسية بيتَ لحم عام ٦۱٤ ميلادية، يُقال إنهم أنقَذوا كنيسة المهد من الدمار الذي ألحَقوه ببقية المدينة؛ لأنهم رأَوا رسمًا لثلاثة كهنة مجوس عند مدخل الكنيسة.
وبحلول الزمن الذي عاشت فيه لال، اضمَحلَّت الديانة الزرادشتية التي كانت يومًا ما الديانةَ المهيمِنة في إيران؛ فمجتمعها، الذي كان من آخِر المجتمعات التي نجَت من قرونٍ من سوء المعاملة، كان يبلغ عددُه خمسةً وثمانين أسرةً فقط تعيش في الحي ذاتِه من المدينة، وهي مجموعةٌ صغيرة حتى أنَّ لال كانت تعرفهم جميعًا. وإجمالًا، يوجد أقلُّ من مائة ألفٍ من الزرادشتيِّين في العالم اليوم. لكن إسهاماتهم في أديان العالم، بما في ذلك ديننا، تجعلهم أكثرَ أهميةً مما يوحي به هذا الرقم. فوفقًا لنيتشه، اخترع زرادَشْت الأخلاق. والأمر الأكثر يقينًا هو أن تعاليم زرادشت كانت تتضمَّن فكرةَ أن العالم تشكَّل من الصراع الدائم بين الخير والشر. وأعلن في الجاثا، وهي قصائدُ تُشكل أقدمَ وأهمَّ جزء من النصوص المقدسة الزرادشتية، الأفستا: «من بين هذين الاثنين، فلْيختَر الحكيمُ الصواب.» فعبَدة الآلهة الباطلة اختاروا الشر، وكان على أتباعه أن يتركوا تلك الآلهة، ويعبدون بدلًا منها الإلهَ الحكيم أهورا مزدا، ويفعلون الخيرَ في خدمته.
في القرون اللاحقة تطوَّر هذا الفكر اللاهوتيُّ ليُصبح تفسيرًا لنقائص العالم. فلماذا يوجد الليل، والشتاء، والمرض، والهَوام الضارَّة؟ أوضح الزرادشتيون أنها من عملِ أنجرا ماينيو، الخَصم، الذي أرسل حيواناتٍ شريرةً لإيذاء الحيوانات الصالحة التي خلَقها أهورا مزدا. أهورا مزدا خلَق النور؛ أما أنجرا ماينيو فَلَوَّثه باختراع الظلام. جلب أهورا مزدا الحياة؛ لكن أنجرا ماينيو أفسدَها جُزئيًّا بإدخالِ المرض. جسَّد أهورا مزدا الخصوبة؛ بينما جلب أنجرا ماينيو الصحراء. كان الفرح الأبديُّ يعمُّ مملكةَ أهورا مزدا؛ بينما كان العذاب يعمُّ مملكة أنجرا ماينيو. وعلى الرغم من أن الزرادشتيِّين كانوا يتطلَّعون إلى النصر النهائي للخير على الشر، كان عليهم المساعدةُ في تحقيقه.
اشتملَت الحيوانات الصالحة على الحِصان، والثور، والكلب. أما خدم أنجرا ماينيو في مملكة الحيوانات، ويُسمَّون «كرافستراس»، فيشملون الذباب، والنمل، والثعابين، والضفادع، والقطط. أدان إمبراطورٌ فارسي زرادشتي يُدعى شابور المسيحيِّين لأنهم «ينسبون أصل الثعابين والأشياء الزاحفة إلى إلهٍ صالح». فبالنسبة إليه، لا يمكن أن تكون مثلُ هذه الأشياء إلا مِن صُنع خالقٍ خبيث منفصل. وتبدأ الملحَمة الوطنية الفارسية العظيمة «شاهنامه» بجيش عظيم من الجنيات والحيوانات التي انحازت إلى الخير على حساب الشر، منطلِقةً إلى معركة مع أنجرا ماينيو. (إذا كان هذا يبدو مثل رواية «سجلات نارنيا» لسي إس لويس؛ فذلك لأنه كان من أشدِّ المعجَبين «بالشاهنامه»، ووصف الزرادشتية بأنها ديانته «الوثنية» المفضلة.)
كانت المعركة بين الخير والشر هي المعركةَ التي يمكن للبشر أن يُشاركوا فيها إذا اختاروا ذلك. ويتَّسم مفهومُ حرية الاختيار بأهميةٍ خاصة في الزرادشتية، التي ترى أنه حتى أنجرا ماينيو سيِّئ باختياره. (وهذا هو السبب في أن قصة خلق أنجرا ماينيو للطاووس تُسرَد فقط لإظهار قدرتِه على صُنع أشياءَ جميلةٍ بدلًا من الأشياء القبيحة إذا رغب في ذلك.) كانت الأفعال الفاضلة مثلُ قول الحقيقة وسيلةً لهزيمة أنجرا ماينيو — فقُوى الظلام في الأفستا تُسمى «الكذبة» — ويخبرنا المؤرخ اليونانيُّ هيرودوت، الذي درَس الفُرس في القرن الخامس قبل الميلاد، أنهم نشَئوا على «ركوب الخيل، والأمانة في التعامل، وقول الحقيقة». ولكن كانت توجد أيضًا معاركُ فِعلية يجب خوضُها مع خدَم أنجرا ماينيو. فيُخبرنا هيرودوت أن «المجوس يقتلون بأيديهم جميعَ المخلوقات فيما عدا الكلاب والبشر، بل إنهم يجعلون هذا هدفًا رائعًا يضعونه نُصبَ أعينهم، مثل قتل كلٍّ من النمل والأفاعي وجميع الأشياء الأخرى الزاحفة والطائرة.» وحتى في ستينيات القرن الماضي، كان الزرادشتيون الإيرانيون يحتفلون بيومٍ في كل عام يقتلون فيه «الكرافستراس»، وخاصة النمل.
في الوقت ذاته، كان حبُّ الكلاب إلزاميًّا. ففي الأفستا، يُقال إن جسر شينفات، الذي يجب أن تمرَّ الروحُ عبره بأمانٍ إذا كانت ستدخل الجنَّة، يحرسه كلبان. وعندما كان كلبٌ يحدق بتركيزٍ في مكانٍ ما، كان يُعتقد أنه يرى أرواحًا شريرة غيرَ مرئية للبشر؛ ولذلك غالبًا ما يتمُّ اختياره للجلوس بجوار فِراش شخصٍ يُحتضَر. وفي المقابل، عندما يموت مثلُ هذا الكلب، يُمنَح طقوسًا جنائزية خاصة، كما وصفَتها العالمة ماري بويس في رصدِها للحياة الزرادشتية التقليدية في ستينيات القرن الماضي. ويُعلن عن موت الكلب هكذا: «بدأت الروحُ رحلتها.» كانوا يُلبسون الكلب ملابسَ مثل تلك الخاصةِ بالزرادشتيِّين — حزامًا يُسمى «الكوشتي» وسترة من نسيجٍ قُطني رقيق تُسمى «السِّدرة»، اللذَين كان يرتديهما دائمًا المؤمنون (الأول حول الخصر والثانية فوق الكتفَين) — وتُعامَل جثتُه مثل جثة رجلٍ أو امرأة زرادشتية لَقِيا حتفَهما: حيث يتركونها مكشوفةً في مكان مهجور لتأكلها الطيور. ولمدة ثلاثة أيام بعد موته، كان طعامُه المفضَّل يُوضَع بالخارج لتستمتع به روحُ الكلب.
يحظر الأفستا إساءة معاملة الكلاب. و«عند المرور إلى العالم الآخَر»، فإن روح الشخص الذي ضرَب كلبًا «ستطير وهي تعوي بصوتٍ أعلى وأكثرَ حزنًا من الأغنام في الغابة العاليةِ الأشجار عندما يتجوَّل الذئب.» ويشترط الأفستا على الرجل الذي يقتل كلبًا أن يُنفذ قائمةً من أعمال التكفير عن الذنب يبلغ طولها ثمانيةَ عشر سطرًا. من هذه الأعمال قتلُ عشَرة آلاف قطة. ونظرًا إلى أن المسلمين فضَّلوا القطط على الكلاب، التي يحسبون أنها نجسة، فإن الخلافات حول مُعاملة الكلاب غالبًا ما أدَّت إلى صراعاتٍ بين الزرادشتيين والمسلمين.
إن المنافسة بين تفضيل الكلاب والقطط لم تصل إلى هذا الحدِّ في الغرب. ولكن بطريقةٍ مختلفة، وجَد التقسيمُ الزرادشتي لحيوانات الأرض طريقَه إلى الثقافة الأوروبية. فكلمة «ماجيك (أي سحر بالإنجليزية)» تأتي من اسم الكهنة الزرادشتيِّين، الماجي (أي المجوس)؛ والتمايز بين السحر الأسود والأبيض (واحد شرير والآخَر صالح) يُوازي الاختلاف بين أنجرا ماينيو وأهورا مزدا؛ والحيوانات التي تُصاحب مُمارس السحر الأسود، مثل الثعابين، والضفادع، وبالطبع القطط، كلها مخلوقاتٌ من صُنع أنجرا ماينيو.
ترَك لنا الزرادشتيون إرثًا أكثرَ تأثيرًا أيضًا. فقد كانوا يعتقدون أن أولئك الذين كانوا يُقاتلون إلى جانب الخير يمكن أن يأمُلوا بعد الموت في أن يدخلوا بيتَ الأغاني، الذي أطلقوا عليه أيضًا اسم دار النور. صوَّرَت اللوحات الجدارية المصريةُ حياةً أخرى رائعة، ولكن فقط للفرعون وربما خدَمه. لم يأمُل الإغريقُ الذين قاتَلوا في حصار طروادة شيئًا بعد وفاتهم سِوى الشهرة: أن يبقى ظِلُّهم في العالم السُّفلي، هاديس، لكن ذلك كان في أحسن الأحوال وجودًا مبهَمًا. قال زرادشت في تعاليمه إن أيَّ شخص يتبع مجموعةً معيَّنة من قواعد السلوك على الأرض يمكن أن يعيش إلى الأبد، وإن الروح مهمَّة، وإن الإله الصالح يُمارس سُلطته على العالم. وعلى النقيض، فأولئك الذين خدَموا أنجرا ماينيو سيُعاقَبون بالبؤس والظلام. أثبتَت هذه المفاهيم عن الخير والشر، وعن الجنة والنار، أنها مؤثرة جدًّا.
على سبيل المثال، في الكتب المقدسة اليهودية الأولى (البانتاتيك، الأسفار الخمسة الأولى من التوراة)، لا توجد إشارة إلى الشيطان. وبدلًا من ذلك يُمثَّل الشرُّ على هيئة أفعى في الجنة. وبعد الموت، تذهب كلُّ الأرواح، دون تفريق، إلى مكانٍ يُدعى شيول؛ لم يكن هناك جنةٌ ولا نار. وعندما تحرَّر اليهود من بابل على يد الملك الفارسيِّ كورش سنة ٥۳۹ قبل الميلاد، تغيَّر هذا الأمر. ففي سِفر أيوب، الذي ربما كُتب في ذلك الوقت، كان الشيطان كائنًا قويًّا، قادرًا على التدخُّل في شئون العالم، وإصابة رجلٍ بريءٍ بالأوبئة؛ وهو الفعل ذاتُه الذي يضطلِع به أنجرا ماينيو في العقيدة الزرادشتية. وفي القرن الثاني قبل الميلاد ظهرَت الجنةُ والنار في سِفر دانيال: «كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي.»
بعد قُرون، يتشابهُ وصفُ يسوع للشيطان مع أنجرا ماينيو، من حيث إن الإله الصالح يزرع القمح، لكن عدوَّ الإله ينشر الحشائشَ في حقل القمح، وفقط في نهاية الزمان يمكن فصلُ الحشائش عن القمح وحرقُها. وبالمثل، بعد أن تلاقى الإغريقُ مع الفرس، اقترح الفيلسوف اليونانيُّ أفلاطون أن الأرواح تذهب للحصول على الثواب أو العقاب بعد موتها، بحسَب ما فعلَته في حياتها. لقد تغير الدِّين جَذريًّا. ورأى فيلسوفُ القرن التاسعَ عشر الألمانيُّ نيتشه، بالنظر إلى هذه الأحداث، أن «زرادشت ابتدَع الخطأَ الأشنع على الإطلاق؛ وهو الأخلاق.» (لذا، كتب كتابًا يعود فيه زرادشت ويُلغي القانون الأخلاقي. أعجب ريتشارد شتراوس جدًّا بالكتاب، لدرجة أنه أطلَق على إحدى مقطوعاته الموسيقية الاسمَ ذاتَه: وبهذه الطريقة غير المباشرة يعيش اسمُ زرادشت في قاعات الحفلات الموسيقية في جميع أنحاء العالم.)
عرَفَت لال ورِفاقُها الزرادشتيُّون أن مجتمعهم كان صغيرًا وضعيفًا. ومن وقتٍ لآخر، عانَوا من عدم الاحترام والعداوة من جيرانهم؛ حيث تعرَّض مرةً شقيقُ لال لهجوم مِن قِبَل أولادٍ كانوا يقذفون الحجارةَ ويصرخون بكلمة «جبر»، وهي كلمة مُهينة للزرادشتيِّين. لكن كان عَزاؤهم أن يعرفوا أن أفكارهم قد شكَّلَت طريقةَ تفكير هؤلاء الجيران.
لقد شهدوا أيضًا بعضَ الإنجازات الملموسة للغاية التي خلَّفها الزرادشتيُّون منذ مدةٍ طويلة. فبرسبوليس هي مدينةٌ من الرُّخام الأبيض في قلبِها قصرٌ ملَكي، على بُعد مائتي ميل جنوب غرب يزد، بُنِيَت في القرن السادس قبل الميلاد عندما امتدَّت الإمبراطورية الفارسية من الساحل الغربي لتركيا إلى صَحاري كازاخستان. ومن المفترض أن الإمبراطور خشايارشا أعطى الأمرَ بغزو اليونان أثناء وجوده في القصر، وعندما غزا الإسكندرُ الأكبر الإمبراطوريةَ الفارسية سنة ۳۳۰ قبل الميلاد، دمَّره وهو مخمورٌ في نوبةٍ من الصخب والانتقام. الآن، تتناثر حول الدُّرج الرخاميِّ بقايا من أعمدة، وجُدران مدمَّرة جزئيًّا، ومنحوتات رائعة متفرقة نجت من الحريق لأنها كانت مُخزَّنةً في ذلك الوقت. وكما تساءل نقشٌ كتَبَه زائر من العصور الوسطى على أحد أعمدتها، «كم مدينةً بُنيت بين الآفاق، صارت خرابًا في المساء، بينما أقام سكَّانها في دار الموت؟» حتى يومنا هذا، لم يُغفَر للإسكندر أبدًا. ويعتبر الاسم سِكَنْدَر شائعًا بين المسلمين في كشمير، وفي العالم العربي يُذكر الإسكندرُ باسم ذي القرنَين، وهو شخصية بُطولية مذكورةٌ في القرآن. ولكن الأمر ليس كذلك في إيران، حيث لا يزال الزرادشتيُّون يُطلِقون عليه لقب «الإسكندر الملعون».
وحتى في حالتها المدمَّرة الحالية، تتمتَّع برسبوليس بالقدرة على التأثير، باعتبارها نُصبًا تذكاريًّا للقوة السابقة للإمبراطورية الفارسية. فقد كانت، وَفقًا للمؤرخ الصقلِّي ديودوروس، «أغنى مدينةٍ تحت الشمس». وتنتشر في أطلالها رموزُ الزرادشتية وشعاراتُهم، ولا سيما فِكرة الرجل-الطائر، «فارافاهار». وأعلن نقشٌ ترَكَه خشايارشا في أعلى الدَّرَج ما يلي: «كل شيء بنَيناه ويبدو جميلًا شيدناه بفضل أهورا مزدا.» عندما زرت هذا القصر في عام ۲۰۰٦، لم تمنع هذه الرموزُ الزرادشتيةُ مُرشدتِي السياحية، وهي امرأة إيرانية شابةٌ ترتدي الحجاب، من إبداء فخرٍ واضح بالإمبراطورية التي بنَته. واستمتَعَت استمتاعًا خاصًّا بشرح المغزى من الدرج الكبير، وهو تحفة نحتية مكوَّنة من ثلاثة وعشرين لوحًا، يمثل كلٌّ منها واحدةً من الدول الخاضعة للإمبراطورية. قالت: «ثلاثة وعشرون شعبًا. انظر، ها هم العرب … الأرمن … السكيثيون …» كان لكلِّ وفد صفةٌ مميزة؛ فالعرب يجلبون جملًا، والأرمن يجلبون النبيذ، والسكيثيون يجلبون خيلًا. جميعهم كانوا يُقدمون الجِزْية لبرسبوليس علامةً على قَبولهم الهيمنةَ الفارسية. وخلال العقود القليلة التي سبَقَت صُنع هذه الألواح، غزَت الجيوش الفارسية ممالك العالم المعروف العظيمة — بابل، وليديا، ومصر.
أشرف محمد رضا شاه، وهو الشاه البهلوي الثاني والأخير الذي حكَم إيران في القرن العشرين، في عام ۱۹٧۱ على احتفالٍ فخم في برسبوليس بمناسبة مرور ۲٥۰۰ عام من الحضارة الإيرانية. واحتفى بملوك، ورؤساء، وإمبراطور بتقديم ۲٥۰۰ زجاجةٍ من النبيذ، و۹۲ طاووسًا إمبراطوريًّا، ومواكب من جنودٍ يرتدون زيًّا تاريخيًّا، ونام الضيوف في ٥۲ خيمةً مبطَّنة بالحرير ومكيَّفة الهواء ومزوَّدة بحمامات داخلية من الرخام، بُنيت خُصوصًا لهذه المناسبة. كان الهدف من الاحتفال تشجيعَ الفخر الوطني الإيراني كبديلٍ للمشاعر الدينية التي استند إليها خصومُ الشاه الإسلاميين، مثل آية الله الخميني، في دعوتهم. كما كان بمنزلة تذكرةٍ للإيرانيين بأنه في أعظم عصورهم كان يحكمهم ملوك. أسهَم الإسرافُ المطلَق في الاحتفال في استياء الجماهير وسقوط الشاه في الثورة الإسلامية عام ۱۹٧۹. ومع ذلك، حتى في ظلِّ حكم آيات الله، لم تنسَ إيران إمبراطوريتَها السابقة. وعندما أنتج وارنر براذرز فيلم «۳۰۰» (ثري هندريد)، الذي يُمجِّد المقاومة الإغريقية للجيوش الإمبراطورية الفارسية في ثيرموبيلاي سنة ٤۸۰ قبل الميلاد، اشتدَّ غضبُ الإيرانيين. وأعلن عنوان رئيسي لإحدى الصحف الإيرانية في ذلك الوقت: «ثلاثمائة في مواجهة سبعين مليونًا!»؛ أي سبعين مليون مواطن إيراني، جميعهم تقريبًا مسلمون، متَّحدون في غضبٍ قومي بسبب إهانةِ أسلافهم الزرادشتيِّين.
•••
في أعقاب حرب العراق عام ۲۰۰۳ أُرسِلتُ إلى البصرة في جنوب العراق. وأثناء القيادة على طول الطريق الساحلي جنوبَ مدينة البصرة، على امتداد شطِّ العرب — المصب الواسع حيث تلتقي أنهارُ العراق قبل أن تتدفَّق إلى الخليج — وجدتُ أن الطريق كان مُزينًا بمئات التماثيل لرجالٍ يُشيرون بأصابع الاتهام عبر المياه تجاه إيران. أدَّى نزاعٌ إقليمي حول مياه المصبِّ إلى شِبه حالةِ حرب بين العراق وإيران في سبعينيات القرن الماضي، وعندما أُطيح بحاكم إيران العلماني، الشاه، وتولَّى آية الله الخميني السلطة، تطوَّر النزاعُ إلى حربٍ أفْضَت إلى وفاة مليون شخص. شيَّد صدام التماثيلَ بعد الحرب لتشجيع الناس على رؤية إيران، وليس حكومتها، باعتبارها العدو. وصُمِّم كلُّ تمثال على مثال جنديٍّ عراقي مات في الحرب.
كنتُ أعرف أنه لن يكون من السهل زيارةُ الجانب الآخر من ذلك المصَب. فمَثلما كان الفُرس، عندما كانوا زرادشتيِّين، يلعنون أنجرا ماينيو، الخالق الخارقَ للطبيعة لكلِّ ما هو شرير، نظمت حاليًّا الحكومة الإسلامية الإيرانية مظاهراتٍ ردَّد فيها المتظاهرون: «الموت لأمريكا! الموت لبريطانيا!» فبالنسبة إلى الثوار الإيرانيِّين، الذين أطاحوا بالنظام الملكي المدعوم من الغرب عام ۱۹٧۹، كانت أمريكا هي «الشيطان الأكبر» وكانت بريطانيا هي «الشيطان الأصغر». ومع ذلك، فإن مكانة بريطانيا في الشيطنة كانت أقدمَ من مكانة أمريكا أو إسرائيل في ذلك الشأن. ويُصور كتابٌ إيراني محبوبٌ بشدة، اسمه «خالي العزيز نابليون»، جُنديًّا مُسنًّا غريبَ الأطوار يرى مؤامراتٍ بريطانية في كل مكان. كُتب هذا الكتاب في أربعينيات القرن الماضي، ويعود زمنُ جنون الارتياب لدى الجنديِّ المسن إلى أحداثٍ في بداية القرن العشرين، عندما أقامت روسيا وبريطانيا مناطقَ نفوذٍ في إيران وسيطرَت على اقتصادها. وعندما جاءت الثورة الإسلامية في عام ۱۹٧۹، ألقى آية الله الخميني باللَّوم على البريطانيين لكونهم داعمين لعدوِّه الشاه؛ مع أن النظام الملكي كان قد سبَق وألقى باللَّوم بالفعل على البريطانيِّين لكونهم القوةَ المحرِّكة وراء آية الله. (فقد قال شاه إيران: «إذا رفعتَ لِحيةَ الملَّا، فستجد على ذقنه ختم «صُنع في بريطانيا».»)
في عام ۲۰۰٦، عندما كنتُ أعمل في بغداد، ظننت أنه قد تكون لديَّ فرصة. والتقيتُ السفير الإيراني في حفل استقبالٍ أقامه رئيسُ العراق، وعرَّفتُ نفسي بلغةٍ فارسية سيِّئة نوعًا ما قبل أن أنتقل بعد وقتٍ وجيز إلى التحدث باللغة العربية. فظنَّ أنني عراقي، وانخرط في محادثةٍ وُدية. لكن بعد ذلك سألني أين أعمل؛ وعندما أخبرتُه في السفارة البريطانية، تجهَّم وجهه كأنني كنتُ مصابًا بمرضٍ مُعْدٍ. وتراجع. فربما يكون قد شوهد وهو يتحدث معي؛ وقد يعود التقرير إلى طهران ويُدمِّر مسيرته المهنية. خمَّنتُ أنه لم يكن الوقتَ المناسب لأطلبَ منه تأشيرة. وبدلًا من ذلك تقدَّمتُ بطلبٍ في السفارة الإيرانية في لندن (كانت توجد سفارةٌ في ذلك الوقت)، حيث أجريتُ مقابلةً قاسية إلى حدٍّ ما، وما أدهشني، أنني حصَلتُ على تأشيرة دخول. لا بد أن التهدئة المؤقَّتة في العلاقات البريطانية الإيرانية قد ساعدَت؛ فالإصلاحيُّون كانوا نظَريًّا لا يزالون في السلطة في إيران، في عهد الرئيس خاتمي. ومع ذلك، عندما زرتُ إيران، توقَّعتُ أن يتْبعَني في كل مكان عملاءُ استخبارات إيرانيُّون متطفلون وميليشيا الباسيج سيئةُ السمعة.
تمتدُّ الحدود بين العراق وإيران على امتدادِ مصبِّ شط العرب شمالًا، عبر الأهوار العراقية، ثم بحِذاء السلسلة الغربية لجبال زاجروس. لأنها تتماشى مع هذه الحواجز الطبيعية للحركة؛ فقد كانت دائمًا علامةً على انقسامٍ بين الثقافات؛ ففي الناحية الشرقية، عاشت في الغالب شعوبٌ هندية أوروبية مدةَ ثلاثةِ آلاف عام على الأقل، وفي الناحية الغربية، كان الناس ولا يزالون في الغالب ساميِّين. وفي وقتنا الحاليِّ لا تزال إيران تتحدث الفارسية، بينما يتحدَّث العراقيون العربية. ولا يزال مصطلح «أعجمي»، الذي يعني «فارسيًّا»، مصطلحًا مُهينًا في أجزاءٍ من العراق، كما أنه ليس من الصعب العثورُ على إيرانيِّين يحتقرون جيرانَهم العرب. ومما يزيد الطين بلةً حقيقةُ أن الجانبين خاضا حربًا مروعة في الثمانينيات قُتِل فيها مليون شخص.
في التراث الزرادشتي، يتَّسم التاريخُ البشري بأنه دوري؛ أي تتكرَّر أحداثُ حقبةٍ ما بشكل من الأشكال في الحقبة التالية. وبالتأكيد كانت الحدودُ الإيرانية العراقية محورًا للصراع منذ مدةٍ طويلة قبل الثمانينيات. فقد عبَرَها الفرس غربًا في القرن السادس قبل الميلاد، بقيادة ملكٍ يُدعى كورش، لتحطيم مملكتَي بابل والأناضول وبناءِ أكبر إمبراطورية عرَفها العالم حتى الآن. وسار عبرها الجيشُ الضخم، بقيادة خشايارشا حفيدِ كورش، الذي قاتل الإغريق في ثيرموبيلاي. ولم تأتِ عبرها جيوشٌ من جهة الشرق لاحتلال إيران سوى مرتَين فقط. الجيش الأول كان بقيادة الإسكندر الأكبر عام ۳۳۱ قبل الميلاد؛ والثاني أرسله الخليفةُ المسلم عُمر في عام ٦٤۲ ميلادية، وانتهى إلى إخضاع بلاد فارس بالكامل وتمهيدِ الطريق لاعتناقها الإسلام. (في الحقيقة، يكره الإيرانيون اليوم كِلا الرجُلَين؛ واحتمال أن يُسمى مسلمٌ إيراني باسم كورش أرجحُ من احتمال أن يُسمى باسم عُمر.) لم ينجح الرومان خلال سبعمائة عام من الحرب مع الفُرس ولا مع الأتراك الذين حاربوهم أكثرَ من ثلاثمائة عام في الاستيلاء على أيِّ جزء من إيران الحالية. ونهَب الأتراكُ مدينةً إيرانية مرةً ثم انسحَبوا، في حين أن أقصى مكانٍ شرقًا وصَل إليه الرُّومان كان مِيناءً بالقرب من البصرة، حيث وقَف الإمبراطور تراجان يُراقب بحزنٍ السفن المليئةَ بالتوابل الهندية وهي ترسو مُتمنِّيًا أن يُبحِر شرقًا على إحداها، للوصول إلى الهند عن طريق البحر؛ لأنه كان يعلم أن الطريق برًّا عبر بلاد فارس كان لا يمكن اجتيازُه. ودائمًا ما كانت الحدود أكثرَ من مجرد خط على خريطة.
لم أرغب في مجرد التحليق فوق هذه الحدود التاريخية؛ لذا شقَقتُ طريقي إلى شرق تركيا واستعدَدتُ للعبور إلى إيران سَيرًا على الأقدام. وقبل المعبر الحدوديِّ مباشرةً، استبدلتُ الريالات الإيرانية بدولاراتي. فداخل إيران ذاتَها، كانت العقوبات الدولية تعني أنني لن أتمكنَ من الوصول إلى حسابي المصرفي، وأن بطاقات الائتمان الخاصةَ بي ستكون عديمةَ الفائدة؛ لذلك كان عليَّ أن آخذَ معي كل الأموال التي قد أحتاج إليها. وكانت أكبرُ ورقة نقدية إيرانية تمكَّنوا من إعطائها لي تساوي دولارًا؛ ولذا انتهى بي الحال أحمل حقيبةً بلاستيكيةً مليئةً بالنقود. مشيتُ إلى الحدود الإيرانية، حاملًا هذه الحقيبة في يدٍ واحدة وحقيبةَ ظهرٍ على ظهري. وكان توجد لافتةٌ ضخمة معلَّقة عليها صورةُ آية الله الخميني وخليفته خامنئي ينظران بوجهٍ عابس لمن يسيرون تحتها، وكأنهما يقولان لمن يدخل من تركيا الليبرالية: «هنا تترك العلمانية وراءك.»
بمجرد أن وطِئَت قدمي الأراضيَ الإيرانية قال صوتٌ: «أهلا بك!» بدا أنَّ رجلًا مُسنًّا جالسًا على كرسيٍّ هو القوة الحدودية الوحيدة المنتشرة هنا. بدا مسرورًا لرؤيةِ أجنبي بين الحشد الصغير من السكان المحليِّين. تساءلتُ عمَّا إذا كان يعلم أنني أتيت من «الشيطان الأصغر». أشرتُ إلى جواز سفري البريطاني بتوتُّر بينما كنتُ أتقدَّم نحو طابور الجمارك. كنتُ على يقين من أن الموظفين هنا، بعد رؤية جواز سفري، سوف يستدعون الشرطة السرِّية، التي ستتَعقَّبُني حينها على نحوٍ لافتٍ للانتباه أينما ذهبت. لكن شُرطي الجمارك لوَّح لي بأن أمرَّ، وعلى الجانب الآخر لم يكن يوجد أيُّ حرسٍ أشرار. في الواقع، وجدتُ نفسي في ساحة انتظار أخذَت تخلو ولا توجد بها أيُّ وسيلة مواصَلات. بدا أنني كنتُ أدنى مِن أن أسترعيَ انتباه الجمهورية الإسلامية.
سِرت من المحطة على الطريق. مرَّ سائقٌ وصاح قائلًا لي: «عشرة إمام!» أصابتني الحيرة. كانت كلمة «إمام» اسمًا لآية الله الخميني. لكن بعد ذلك أوقف الرجلُ سيارته وأخذ ورقة نقدية من محفظته بقيمة ۱۰ آلاف ريال. كان عليها صورة الخميني. وقال: «عشرة مِن هذه لأُقِلَّك إلى المدينة.» طلبتُ منه بدلًا من ذلك أن يوصلني إلى منزلٍ قديم قريب، أصبح الآن مُتحفًا، كان في السابق مِلكًا لأرستقراطي كردي وزُينَت غُرف الاستقبال به بأفضلِ طراز إيراني من أوائل القرن العشرين، وبمصاريعَ زرقاءَ زاهيةٍ وجدران مُغطَّاة بزجاج عاكس لامع. كان قد بُني عام ۱۹۱۲. وكانت إيران في ذلك الوقت تمرُّ بتغيُّر اجتماعي سريع، كما يتَّضح من لوحتين على سقف غرفة الطعام. في إحداها، يأكل بطرِيَرك ذو عمامةٍ بيدَيه من وعاءٍ بينما يُحيط به رجالٌ ذَوو شَوارب، ولِحًى، و«طرابيش» سوداء ويفعلون مثله، أو يشربون الشاي. وفي الأخرى، رجل حَليق الذقن يرتدي سترةً يرفع كأسًا من النبيذ، بينما تفعل زوجته التي تجلس بجانبه الشيءَ ذاته. وضيوفهم رجالٌ ونساء يرتدون أزياءً أوروبيةً أنيقة. وتظهر إحدى النساء وهي تنظر بقلقٍ إلى مُرتدي الطربوش في اللوحة الأخرى.
كان المقصود من الصورتين الاحتفاءَ بالتغيير من القديم إلى الجديد. وباستيعابِ ما حدث في السابق، يمكن فهمهما فهمًا مختلفًا: كان من حكمة النُّخبة المتأثرة بالغرب أنها كانت تتخوَّف من المتمسِّكين بالتقاليد؛ لأن البطاركة المعمَّمين سينتقمون في النهاية. ففي يناير ۱۹٧۹، استسلم حاكمُ إيران العلماني، محمد رضا شاه، لمطالبِ الثوار ورحل إلى منفًى طوعي. وفي الشهر التالي، عاد مُعارضه القديم روح الله الخميني من المنفى إلى طهران، واتخذ خُطواتٍ حثيثةً لتولِّي السلطة. وبصفتِه آية الله — أي رجل دين شيعي بارز — ادَّعى سُلطةً إلهيةً للحكومة الجديدة التي شكَّلَها. وأعلن أن: «وصايا الفقيه الحاكم»؛ أي وصاياه، «مثل وصايا الله.» كان شاها القصر البهلوي قد قدَّما الكثيرَ لمساعدة الزرادشتيين؛ لكن في ظل حكم آية الله، أصبحَت السلطات أكثرَ عَداءً لغير المسلمين، وتغيرت القوانين بطرق أضرَّت بهم.
عندما وصلتُ إلى أقرب بلدة ذهبتُ لتناول الطعام في مطعم الكباب بها، وقرَّر اثنان من المسلمين الإيرانيين كانا جالسَين على الطاولة المجاورة أن يعتنيا بي. كانا أخَوَين. قالا: «تعالَ إلى قريتنا»، ووافقت، على أملِ أن أرى الحياة الأسرية الإيرانية. أثناء مُضِيِّنا بالسيارة عبر بساتين الكرز بالقرب من بحيرة أرومية، وستيريو سيارتهما يُصْدِر موسيقى إيرانيةً حزينة جدًّا، علمتُ أن الأخَوَين كانا من الأذر، وهو شعبٌ تركي اندمج في المجتمع الإيراني على مدار السَّبعمائة سنة الماضية. كان أكراد وأرمن ومسيحيون آشوريون يعيشون أيضًا في هذا الجزء من البلاد، وعلى الرغم من أن كل جماعة كانت لها لغتُها الخاصة، كان الغالبيةُ يتحدثون الأذربيجانية. وعند وصولنا إلى القرية، طلب مني مُضيفايَ الجديدان أن أهبط في مقعدي حتى لا يراني أحد؛ لأنه كان ممنوعًا عليهما استضافةُ الأجانب. وقال لي أحدهما: «هذا لأنني أنتمي إلى قوات الباسيج.» وهكذا أدركتُ أنني في قبضة الباسيج؛ وإن لم يكن بالطريقة التي كنتُ أخشاها. قدَّم لي الأخَوان عَشاءً وسريرًا لقضاء الليلة. وقابلتُ زوجتَيهما وأطفالهما الصغارَ الذين أكَلوا معنا.
وفي صباح اليوم التالي، عندما كنتُ جالسًا على السجاد الصوفيِّ الأحمر الذي كان مفروشًا على أرضية غرفة المعيشة أُراجع خريطتي، رأيت أنني كنتُ قريبًا من أحد المعالم الزرادشتية. لذلك بعد أن أوصلَني الأخوان خِلسةً إلى محطةٍ للحافلات (حيث قالا لي: «ابقَ منخفضًا!» عندما مرَّت السيارة بأشخاصٍ في الشارع يعرفُهما الأخَوان)، ركبت حافلةً في رحلة قصيرة خارج البلدة، مرورًا بقِمَم مغطاةٍ بالثلوج، إلى تلةٍ مخروطية الشكل شديدةِ الانحدار ذات جوانبَ غُبارية اللون. وعلى المسار المتعرِّج الذي أدى إلى قمَّتِها، كان يوجد العديدُ من الأزواج الإيرانيِّين، وبعض الأولاد الصغار، ورجل مُسن. تبعتُهم، وفي القمة حدَّقنا جميعًا في فوهة بركانٍ خامد. قالوا لي إن هذا هو «زندان سليمان»، أي سجن سليمان.
•••
للملك اليهودي سليمان مكانةٌ بارزة في القرآن، الذي يذكر أنه كان ذا سلطانٍ على الأرواح غير المرئية التي يُسميها المسلمون «الجن». وفي إحدى أساطير «ألف ليلة وليلة»، يفتح صيادُ سمكٍ زجاجةً عليها خَتْم سليمان على سدادتها، ويخرج جنِّي ويُخبره أن سليمان «ليُعاقبني … أمر بإحضار هذه الزجاجة وسجنَني فيها، وأغلقَها بسدادةٍ من الرصاص، وختم الرصاص باسم الله الأعظم.» يبدو أن التراث المحليَّ كان يعتقد أن سليمان قد فعل شيئًا مشابهًا في زندان سليمان، حيث سجن الأرواح المتمرِّدة داخل فوهة البركان العميقة المنحدرةِ الجوانب.
ربما قاومَت أرواحُ المكان سليمان. وقبل مجيء الإسلام كان هذا البركانُ أحدَ أعظمِ مزارات الزرادشتية وأهمِّها. ربما كان مكانًا لتقديم القرابين؛ إذ يُخبرنا هيرودوت أنه عندما أراد الفُرس تقديمَ قرابينَ لأهورا مزدا، كانوا يصعدون على جبلٍ مرتفع. وأضاف أنهم كانوا حينها أيضًا يُقدمون القرابين «للشمس والقمر والأرض، وللنار والماء والرياح.» تخيَّلتُهم يصعدون بجهدٍ المسارَ ذاتَه الذي أتيتُ منه، مرهَقين من حَمْلِ حَمَلٍ أو عنزةٍ ذبيحة على طريق الصعود بأكمله على سَفْح الجبل. بقيَت ثلاثةٌ من العناصر الأربعة؛ فالرياح ما زالت تعصفُ بالسهل، مما يتسبَّب في بُرودة الجوِّ حتى في فصل الربيع؛ وكانت الأرض هناك بُنيةً وغيرَ خِصبة؛ ومياه البحيرة القريبة كانت لا تزال زرقاء عميقة جميلة. لكن النار قد انطفأت.
يُضيف هيرودوت أن الفُرس رفَضوا الممارسة الشائعة المتمثلة في تصوير الآلهة في هيئةٍ بشرية وعبادتها في المعابد: «ليس لديهم صورٌ للآلهة، ولا معابدُ ولا مذابح، ويعتبرون استخدامها إحدى علامات الحماقة.» ومع ذلك، بَنى الزرادشتيون في زمنٍ لاحق مَعابد، ربما تحت تأثير البابليِّين والشعوب الأخرى التي احتلُّوها، لكنها لم تحتوِ على أي تماثيل للآلهة، وإنما فقط شعلة لا تنطفئ. عندما نظرتُ إلى أسفل من حافة الفوهة، كان بإمكاني رؤيةُ أنقاض أحدِ أعظم هذه المعابد. وقد بُني منذ ما يقرب من ألفَي عام ليكون مَثْوى ما لا بد أنه كان يبدو نارًا خارقة حقًّا للطبيعة؛ فهي شعلة ظلَّت متأجِّجةً باستمرار جراءَ الغاز الطبيعي المتسرِّب من قاعدة البركان. أطلق الزرادشتيون على هذه النار اسمَ غوشناسب واعتبَروها إحدى الثلاث نيران الأقدَس في بلاد فارس.
كانت غوشناسب معروفة بأنها نارُ المحاربين، وكان التقليد الزرادشتيُّ يعتبرها قديمةً قِدَم العالم. كان ملوكُ الفُرس يزورونها لتقديم القرابينِ قبل الخروج في حملاتٍ ضد الرومان، ولاحقًا البيزنطيُّون. وبحلول القرن السابع الميلادي، كانت الحرب المستمرة قد أنهكَت الإمبراطوريةَ الفارسية. وأثبتَت حملةٌ ناجحة وصلَت بالفرس غربًا حتى مصر أنها الرمقُ الأخير لإمبراطوريتهم. وفي سنة ٦۲٧ ميلادية، أتى آخرُ زائر ملَكي إلى نار غوشناسب. كان اسمه خسرو، وقام بزيارته في وقْتٍ كان يشعر فيه باليأس. فقد كان هو وقواته يتقهقرون أمام تقدُّم البيزنطيين، الذين كانوا يستعينون بقبائلَ عربية محليةٍ باعتبارها مرتزقة. وكان البيزنطيون مسيحيين معروفين باحتقارهم للنار المقدَّسة، وبدلًا من تركها تقع في أيديهم، أخرجَها خسرو من المزار المقدس وأخذها معه. وبعد خمسةَ عشر عامًا، سقطَت إمبراطوريته — ليس أمام البيزنطيِّين وإنما أمام العرب، الذين كان الإسلام قد وحَّدَهم حينئذٍ.
لم يرغب العربُ في مواجهة جيوش الفرس، التي كانوا يخشَون من أنها ستربح في أيِّ مواجهة عسكرية. لكن عندما انجرَّ العرب أخيرًا إلى معركةٍ مع جيش الفُرس، نجَحوا في إجبار خُصومهم على التقهقُر إلى مكانٍ يُدعى نهاوند، حيث قرَّر الفرسُ أن يصمدوا. وكما تصف الملحمةُ الفارسية العظيمة «الشاهنامه» المشهد، يأتي رسولٌ عربي يرتدي أسمالًا باليةً لتوجيهِ إنذارٍ نهائي للفرسان الفُرس، الذين كانوا يرتدون كلُّهم دروعًا ذهبية متألقة، دلالةً على مجدهم ونُبل مَحْتِدِهم. كان رُستم، ابن الملك الفارسي، يقرأ النجوم ويرى المستقبل: «النجوم تفرض علينا الهزيمة والهروب. ستمرُّ أربَعُمائة عام سيكون فيها اسمُنا، مَنسيًّا ومجردًا من الشهرة.» بعد هزيمتهم، هرب بالفعل الإمبراطور وما تبقَّى من بلاطه شرقًا إلى آسيا الوسطى، آخِذين معهم دينهم. وبقي هناك باعتباره العقيدةَ السائدة لجيلٍ آخر أو نحوِ ذلك. ومن نهاوند فصاعدًا، أصبح الإسلامُ دينَ الدولة في إيران. ولم توقد مرةً أخرى أبدًا نارُ غوشناسب.
تتباين الآراء حول مدى سرعةِ تخلِّي الإيرانيين عن الزرادشتية، لكن يبدو أن بعض أفراد العائلة المالكة أصبحوا مسلمين في وقتٍ مبكر. وقد وجد معتنِقو الإسلام أن بعض جوانب الدِّين الجديد تنسجم جيدًا مع العادات الزرادشتية. فكِلتا الديانتَين تطلب من أتباعها الصلاةَ عدة مراتٍ في اليوم (الزرادشتيون ثلاث مرات، والمسلمون خمس مرات)، وتقدَّس النظافة، وتستند إلى مجموعةٍ من الكتب المقدسة الإلهية. وقَدَّم الإسلامُ مهربًا من النظام الطبقي الدينيِّ الزرادشتي، الذي كان فيه الكهنةُ والمحاربون في القمة؛ ولم تُلقَّن الطبقاتُ الدنيا الكثيرَ عن الدين وكانت أسرعَ في التخلي عنه، كما يتضح من النسبة العالية للعائلات الكهنوتية بين أولئك الذين بَقُوا على اعتناقهم للديانة الزرادشتية. واستطاع مَن بدَّلوا دينهم أن يجمعوا بين كِلا الأمرين، حيث انتهَجوا الممارساتِ الإسلاميةَ ولكن حافظوا أيضًا على بعض التقاليد الأكثر شعبيةً في الزرادشتية، مثل الاحتفال بالعام الجديد (النيروز)، الذي لا يزال عيدًا رئيسيًّا مدةَ أسبوعين في إيران. وخلال زيارتي، شاهدتُ العديد من العائلات الإيرانية جالسةً تتناول الطعام في الهواء الطلْق احتفالًا بسيزده بدر، آخر يومٍ من أيام النيروز.
وسواءٌ كان الإيرانيون قد اعتنقوا الإسلام بسرعة أو ببطء، فمِن الواضح أنهم لم يقبلوا بسهولة أن يحكُمَهم العرب. ففي البلدان الواقعةِ غربًا، بَدَّل الغزوُ العربي الثقافةَ الكاملة للشعوب المهزومة، التي بدأت شعوبٌ كثيرة منها في نهاية المطاف تُطلِق على أنفسها لقبَ «عرب» ونسيَت هُوياتها ولغاتها السابقة. ومن المرجَّح أن يكون قد ساعد في ذلك أن الشعوبَ المهزومة كانت أيضًا شعوبًا سامية، تتحدث لغاتٍ تُشبه العربية، ناهيك عن أن أفرادها كانوا بالفعل رَعايا للإمبراطورية البيزنطية، ومع الفتح العربي، كانوا فقط يستبدلون مجموعةً من الحكام بأخرى.
كانت فارس مختلفة. وكان الشعب الإمبراطوري حينئذٍ خاضعًا. ويُعطينا الشاعر العربيُّ الجعدي صورةً مؤثرة عن أقدارهم التي تبدَّلَت: «يا أيها الناسُ، هل ترَون إلى … فارسَ بادَتْ وخدُّها رغِمَا؟ أمسَوْا عبيدًا يرعَون شاءَكمُ … كأنما كان مُلكُهم حُلُمَا.» وكانت أسوأ إهانةٍ يمكن أن يرميَ بها الكهنةُ الزرادشتيون شخصًا ترك دينَه وصار مسلمًا هي أنه «لم يعد إيرانيًّا». والعرب بدورهم نظَروا إلى الزرادشتية برِيبة، وكثيرًا ما أدانوها بأنها عبادةٌ للنار وتردَّدوا في منحِ أتباعها المستوى ذاتَه من التسامُح الذي منَحوه للمسيحيين واليهود.
وكما حذَّر أحدُ الحكام العرب الأوائل في إيران إخوانَه المسلمين بعد الفتح بوقتٍ قصير قائلًا عن الفُرس: «مَن كانَ يسألُني عن أصلِ دِينِهِمُ … فإنَّ دِينَهُمُ أن يُقتَلَ العَرَبُ.» ففي بُخارى حاول العربُ نشر الإسلام من خلال تقديم المال لِمن يأتون للصلاة، وتوطينَ العرب قسرًا بين السكَّان؛ ومع ذلك، تمرَّدَت المدينة مِرارًا وتَكرارًا، وارتدَّ أولئك الذين اعتنَقوا الإسلام. واغْتِيل الرجل الذي كان خليفةَ الإسلام وقتَ غزو إيران، عُمر بن الخطاب، على يدِ عبدٍ إيراني. وحتى في القرون اللاحقة، يبدو أن روح التمرُّد استمرَّت، خاصة في الملاذات التي أمكن لحركات التمرد أن تعثر عليها في الجبال الإيرانية. وبعد قرنَين من الغزو العربي، عملت جماعةٌ تُسمى الخُرَّمية وقائدُها بابَك، في شمال ماكو، ودَعَت إلى إعادة توزيع الممتلَكات، وحريةِ ممارسة العلاقات الجنسية دون التقيُّد بالزواج، وشنِّ الحرب على الحكومة. ثم في القرن الثاني عشَر، عملت سُلالةٌ حاكمة زعمَت أنها من نسل النبي محمدٍ من قلعة تسمى الموت على قمة صخرية هائلة تقع أعلى وادٍ ناءٍ. وأرسلت من حِصنها الجبلي أتباعَها، المعروفين باسم الحشَّاشين، لقتل شخصياتٍ بارزة في الحكومة التي حكَمَت إيران في ذلك الوقت. وأعلن أحدُ المنتمين إلى تلك السلالة الحاكمة إلغاءَ جميع التشريعات الدينية؛ حيث قال: «ما كان مُحرمًا أصبح مشروعًا الآن، وما كان مشروعًا أصبح محرمًا الآن.»
كانت أغلبية إيران في تلك الأيام سُنِّية وليست شيعية. ولم تصبح الغالبية شيعيةً إلا في القرن السادس عشر. ومع ذلك، يبدو أكثرَ من مجرد صدفةٍ أن هذه الإمبراطورية المنهارة انتهى بها المطافُ بنسخةٍ من الإسلام رسَّخَت في داخلها إحساسًا بأن كل شيء ليس على ما يُرام مع العالم؛ أن الترتيب الصحيح للأمور قد انقلب. بدأ الإسلام الشيعيُّ باثنَي عشَر إمامًا، كان من المفترض أن يكونوا خلفاءَ النبيِّ محمد (الذين انحدروا جميعًا من آلِه؛ فمن النقاط التي يُصر الشيعةُ عليها أن حكام الإسلام يجب أن يكونوا من آل النبي). لم يقبل غالبيةُ المسلمين سوى أوائلِ أئمة الشيعة هؤلاء، وتُوفِّي الكثير منهم وسط اتهامات بالخيانة. رسَّخ هذا في عقيدة الشيعة ازدراءً للحكومات الدنيوية وأملًا وَرِعًا في أن آخِرَ الأئمة الاثنَي عشر سيعود يومًا ما في صورة المهديِّ — وهو المعادل للمَسِيَّا اليهودي والمسيحي — علامةً على آخِر الزمان. حتى أن حكَّام العصور الوسطى في إيران كان لديهم حِصانٌ جاهز دائمًا في إسطبلهم ليركبَه المهدي، إن عاد.
وبالتفكير في هذا الاعتقاد الخاصِّ بالشيعة، كنتُ أميل إلى مقارنته بموسيقى على سُلَّم صغير، مثل الأغنية الإيرانية الحزينة التي كنتُ قد سمعتُها في وقتٍ سابق من ذلك اليوم في ستيريو السيارة. ربما كانت نغماتُ اللحن الرثائي للإمام الثاني عشَر مألوفةً لأي زرادشتي، يتوق إلى استعادة النظام القديم. والمهدي، وَفقًا للأسطورة، سينحدر من أباطرةِ بلاد فارس القُدامى. وذلك لأنه قيل إن شهربانو، ابنةَ آخرِ إمبراطور لبلاد فارس المستقلَّة قبل أن تصبح مسلمة، تزوجَّت الحسين، حفيدَ النبي محمد: ولو كان هذا صحيحًا، لكان جميعُ الأئمة اللاحقين ينحدرون من نسل النبي ونسلِ العائلة المالكة الفارسية أيضًا. وربما ساعدَت هذه القصة في دعم تأييد الإسلام بين الإيرانيين الذين اشتاقوا إلى النظام القديم.
تنبَّأ الأفِستا أيضًا بالمَسِيَّا؛ السوشيانت، المخلِّص الذي سيقود جيوشَ الخير في معركتها الأخيرة، التي ستحدثُ بعدها نهاية العالم وإقامة الأموات. ويبدو أن هذا المفهوم الزرادشتي، الذي يتناسبُ تمامًا مع إيمانهم بأن العالم ساحةُ معركة بين قُوى الخير والشر، قد سبق الإيمانُ اليهودي بالمسيا وكذلك الإيمان الإسلامي بالمهدي؛ ويعتقد بعضُ العلماء أنه كان مصدرَ الإلهام لكِلَيهما، على الرغم من أن فكرة عودة شخصيةٍ تاريخية من الموت لإنقاذ شعبه هي في الحقيقة فكرةٌ قد تروق لأيِّ مجتمع كان ماضيه أعظمَ من حاضره. وفي أسطورةٍ لاحقة، قيل إن بُحيرة كبيرة في جنوب شرق إيران تحتوي على بذرة زرادشت، القادرة على منح العالم سبعةَ أنبياء آخَرين مِثله لإيصال العالم إلى مستوًى جديدٍ من الحكمة في كل مرة. وقد تبنَّت بعضُ الجماعات الإسلامية هذا المفهوم، وأشارت أحيانًا إلى أن محمدًا كان النبيَّ السابع. وزعمت الجماعات المنشقَّة عن الإسلام أن محمدًا كان الخامسَ أو السادس فقط، وأن مؤسسها هو السابع.
وفي القرنَين التاسع والعاشر، ضعُفَت قبضةُ الإمبراطورية العباسية العربية على إيران وسيطرَت سُلالات محلية حاكمةٌ على أجزاء من البلاد. وموَّلَت إحدى هذه السلالات الحاكمة، وتُسمى السامانيِّين، على كتابة الملحمة الوطنية الإيرانية، «الشاهنامه». وكان الكاتب، الفردوسي، مُسلمًا من الناحية الرسمية، لكن القصيدة مشبعةٌ بالأفكار الزرادشتية. فعلى سبيل المثال، يبدأ التاريخ الذي ترويه عن الشعب الإيراني بمعركةٍ ضد أنجرا ماينيو. وربما يكون الشاعر أيضًا قد ساعد في الحفاظ على اللغة الفارسية باستخدامها في كتابة الملحمة. فإيران لم تعتمد اللغة العربية مطلقًا في المحادثات اليومية وتواصل بفخرٍ الاستمتاعَ بأدبها المنفصل تمامًا، وخاصة مجموعة ثرية من الشعراء.
•••
توجَّهتُ من زندان سليمان إلى مدينةٍ تُمثل أكثر من غيرها الجانبَ الإسلامي الشيعيَّ في إيران. فمدينةُ قُم هي موطن الضريح الرئيسي والمدرسة الدينية الرئيسية في البلاد، حيث يُدرَّب رجال الدين المسلمون. بُني الضَّريح في المدينة حول قبرِ أخت الإمام الثامن، فاطمة المعصومة. وهو موقعٌ ليس بأهميةِ مدينتَي النجَف وكربلاء في العراق، حيث دُفِنَ عليٌّ صِهر النبي وحفيدُه الحُسين. ومع ذلك، كان الوصول إلى قُم في كثيرٍ من الأحيان أسهلَ على الحُجَّاج الإيرانيين؛ ولذلك أصبحَت ذاتَ شعبية كبيرة. أضاءت الأضواءُ الخضراء للضريح ساحةَ انتظار السيارات حيث توقَّفنا، وكان بإمكاني أن أرى المكان الذي نصَب فيه الحُجَّاج الورعون خيامًا بين السيارات الواقفة، للاقتراب قدر الإمكان من الضريح. وفي فندقٍ يُطل على الميدان، حيث كنتُ آمُل أن أجد غرفة، قال لي موظفُ الاستقبال — بعد أن أراني غرفتي — ألَّا أبقى هناك. أسَرَّني قولًا: «الأجرة باهظةٌ للغاية هنا؛ ينبغي أن تُقيم مع صديقي السيد جهانجير بدلًا من ذلك. إنه يحبُّ مقابلة الزوار!» وأجرى مكالمةً وأكد أن السيد جهانجير الغامضَ يمكنه أن يمنحَني سريرًا لهذه الليلة، ثم أخبرني كيف أعثر عليه. تجولت في سلسلةٍ من الطرق الصغيرة والأزقَّة حتى عثرتُ على شقة السيد جهانجير الواقعةِ تحت الأرض.
وتبيَّن أن السيد جهانجير كان رجلَ دينٍ شيعيًّا حديثَ العهد، رغم أنه لم يكن يرتدي ملابسَ رجال الدين. وبعد أن أدخلني إلى بيته، عرَّفني بثلاثةٍ من أصدقائه الذين كانوا يجلسون جميعًا على الأرض (وكانت زوجته، التي كانت ترتدي نقابًا أبيضَ اللون، تجلس على استحياءٍ في الخلف، لكن طفلته الصغيرة كانت أقلَّ تحفظًا). كانوا جميعًا في مراحلَ مختلفة من الدراسة الدينية في إحدى مدارس مدينةِ قم الدينية، وقد كان أكبرهم وأظهر لي بفخرٍ صورةً له مرتديًا عمامة «الشيخ» البيضاء، وهو لقبٌ يُمنح للرجل الذي بلغ مستوًى معينًا من التعلُّم الديني ولكن ليس لديه التمييزُ الإضافي المتمثل في كونه «سيدًا» بعمامة سوداء، من نَسل النبي. سألني رجالُ الدين ساعاتٍ عن بريطانيا؛ ولكن معظم الأسئلة كان يتعلَّق بالمجتمع وكيفيةِ الحصول على التأشيرة أكثرَ من السياسة. لم ننتهِ إلا في نحو الساعة الواحدة صباحًا، وحتى بعد ذلك ظلُّوا ينقرون بأصابعهم على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم مدةَ ساعةٍ أخرى بينما كنتُ مستلقيًا على مرتبةٍ قريبة أحاول النوم. في الخامسة صباحًا قاموا للصلاة. كان عليَّ أن أستيقظ معهم واستعدَدتُ — بعينين غير قادرتين على الرؤية بوضوحٍ ولكن مسرورًا لإتاحة هذه الفرصة — لأن يصطحبَني طلابُ أفضلِ مدرسة دينية في إيران في جولةٍ فيها.
في البداية أعطَوني جولةً في الضريح، حيث كانت قِبابُه الذهبيةُ وبلاطُ السيراميك الأزرق الجديد اللامع علاماتٍ واضحةً على مقدارِ الدعم والتمويل الذي تلقَّاه. لم يكن يُسمَح لغير المسلمين بالدخول، لكن رفاقي أدخَلوني. ذهَبوا للصلاة؛ ووقفتُ في انتظارهم بينما كان حشدُ المصلين يتدفَّق أمامي. عندما عادوا، قالوا إن لديهم مكانًا آخر يريدون أن يُطلِعوني عليه. خرَجنا من المسجد وسِرنا في شارع تصطفُّ على جانبَيه الأشجارُ إلى مدرسة دينية كبيرة. كانت هذه المدرسة مميزة؛ فقد كانت التي درَس فيها آية الله الخميني يومًا ما. تعلو صورةُ آية الله الرِّواقَ المُعمَّدَ المكونَ من طابَقَين، الذي يُحيط بساحتها الواسعة المليئة بالأشجار. أرشدَني أصدقائي الجددُ إلى الغرفة التي كانت يومًا ما غرفةَ الخميني الصغيرةَ للنوم والمذاكرة، ووقَفوا أمامها كما يفعل الغربيون عندما يُعزف نشيدُهم الوطني، ينظرون بتبجيلٍ إلى الأثاث البسيط وصورة آية الله على الحائط. تملمَلتُ بارتباك. بمقاومة إغراءات الثروة والسلطة بوصفه حاكمًا مطلقًا، أظهر الخميني قوةَ شخصيةٍ كبيرة. ومع ذلك، لم يكن صديقًا للزرادشتيين في إيران، الذين كانوا قد عاشوا حياةً مزدهرةً في ظل النظام الملَكي العَلماني الذي أطاح به.
جلسنا في ساحة المدرسة الدينية بعضَ الوقت؛ ومر بجانبنا «سيد» يرتدي ملابسَ سوداء وقطةً سوداء يمشيان ببُطء، كما لو كانا في موكبٍ مَهيب. أخبرني أحدُ أصدقاء السيد جهانجير أنه يأمُل في أن يدرس في المدرسة الدينية. كان عليه أولًا أن يجتازَ امتحانات القَبول؛ وكانت فلسفةُ أفلاطون واحدةً من الموضوعات الأساسية التي سيُختبَر فيها. وكان سيدرس في المدرسة الدينية كتاباتِ أرسطو، من خلال حضور دروسٍ خاصة يتعلم فيها من خلال إجراءِ مناظَرات مع زملائه الطلاب (وهي تقنية تُشبه في ذاتِها تقنيةَ الفلاسفة الإغريق). لقد مرَّت سنواتٌ منذ أن درَست كتابات أرسطو وأفلاطون، ولم أتوقع أن أجِدَهما مقدمةً مفيدة لزملاء آية الله الخميني، إذ كان قد تبيَّن أن تلك هي حقيقةُ أصدقائي. كان ثمة قَدْرٌ من السخرية التاريخية في الأمر: الفلاسفة الكلاسيكيون، الذين كانوا مصدرَ إلهام لعصر التنوير الأوروبي، كانوا يحظَون بشعبية لدى رجالِ الدين الرجعيِّين في إيران؟ وأفلاطون الأثيني، وأرسطو مُعلِّم الإسكندر، كانا ذائعَي الصيت في بلاد فارس، التي اشتهرَت بأنها عدوةُ أثينا والإسكندر؟
لكن هذا كان جهلًا من جانبي؛ لأنه كما علمت، بالفعل ترك الإسكندرُ الأكبر المكروهُ في بلاد فارس إرثًا من المودَّة للثقافة الإغريقية. وكان حكام إيران الفرثيين في القرن الأول قبل الميلاد عاشقين للمسرح الإغريقي. (عندما قُتِل الجنرال الروماني غير المحظوظ كراسوس في حرَّان، أُحضِر رأسه إلى الإمبراطور واستخدم ديكورًا مسرحيًّا في «باخوسيات» يوربيديس.) وكانت العلوم الإغريقية تحظى باحترامٍ كبير في بلاد فارس لدرجة أنه حتى بعد أن تبنى الغربُ أفكارًا جديدة، استمر الفرس في اتباعِ الإغريق. وحتى القرن التاسع عشر، كان أيُّ شخص يذهب إلى طبيبٍ في بلاد فارس يحصل على تحليلِ سوائله، استنادًا إلى وصفاتِ الطبيب اليوناني من القرن الثاني جالينوس. (لم يعُد أحدٌ الآن في إيران يستخدم «الطب اليوناني» مع أنه ما زال يُمارَس في الهند.) ويعود علمُ الفلك الذي ما زال رجالُ الدين الإيرانيُّون يدْرُسونه في بداية القرن العشرين إلى بطليموس، وهو عالمٌ يوناني من القرن الثاني. يومًا ما درَس رجل يُدعى أحمد كِسْرَوي ليُصبح رجلَ دينٍ ثم انتهى به الأمر إلى أن أصبح أحدَ أهم الكُتَّاب المناهضين لرجال الدِّين في إيران الحديثة؛ ولم يبدأ تحرُّره من أوهام الإسلام الشيعيِّ بالقرآن بل بسبب خطأٍ اكتشفه في كتابات بطليموس.
وبسبب هذا الحماس للعلوم الإغريقية، كان من الطبيعي أنه في القرن السادس الميلادي عندما طرَد الإمبراطور البيزنطي جستينيان آخِرَ الأعضاء الوثنيين في أكاديمية أفلاطون — التي كان مجالُ ممارستها هو تعليمَ الطلاب أولًا فلسفةَ أفلاطون ثم فلسفة أرسطو — وفر لهم الفرسُ مَلجأً. وجرى إيواؤهم في بلدة تُسمَّى جُنْدَيسابور، حيث انضمُّوا إلى علماء من إحدى الأقليات الدينية في الإمبراطورية البيزنطية، الذين كانوا قد طُرِدوا أيضًا؛ وفي السنوات اللاحقة، جلب الفرسُ علماءً صينيِّين وهنودًا للانضمام إليهم. وأصبحَت جُنديسابور جامعةً رائعةً تضمُّ مناهجُها نصوصًا يونانية، وسنسكريتية، وصينية؛ وكان بها مستشفًى كان يُعَدُّ أعظمَ مركز طبي في المنطقة، حتى إن الأطباء كانوا يُجرْون الفحوصات هناك (وهو ابتكارٌ مذهل في ذلك الوقت). فأصبح تعصبُ بيزنطة مكسبًا لبلاد فارس.
كان الخميني قد دَرَسَ فلسفة أفلاطون في المدرسة الدينية. وفي الواقع، لم تكن فكرته القائلة بأن مَن يدير إيران يجب أن يكون «رجل الدِّين الأكثرَ علمًا» تُمثل تغييرًا ملحوظًا فحسبُ عن وجهة نظر الشيعة التقليدية بأن الحكومة شريرةٌ في ذاتِها، لكنها أيضًا لم تكن موجودةً في القرآن. وبدلًا من ذلك، ربما يكون هذا أقربَ مثالٍ على وجه الأرض لرؤية أفلاطون، الموضَّحة في كتابه «الجمهورية»، عن دولةٍ يُديرها «الفيلسوف الأحكم». نفى الخميني دائمًا وجودَ صلة، على الرغم من قَبوله لأفلاطون، وقولِه مرةً إنه يعتبره «حكيمًا».
•••
أخذَتني رحلتي من قُم عبر مدينة أصفهان الرائعة، التي صُمِّمت ساحتُها المركزية لتُستخدَم أيضًا كملعبٍ لممارسة رياضة البولو، والتي تُعد مساجدها المزخرفة بالخزَف الأزرق من أجملِ المباني في العالم، والتي يرسم فنَّانو البازار فيها بعنايةٍ مشاهدَ حبٍّ وصُورًا للشعراء على صناديقَ خزَفيةٍ صغيرة. وإلى الجنوب من أصفهان ذهبتُ إلى شيراز، وهي المدينة التي أعلَن فيها في أربعينيات القرن التاسع عشر «سيد» مسلم محافظ يُدعى علي الشيرازي أنه المهديُّ وتبعه مائة ألف شخص قبل أن تُعدِمَه بوحشية السلطاتُ التي اعتبرَته مُجدِّفًا على الله. وأعلن أتباعُه، الذين كان من بينهم زرادشتيُّون، أنه كان أيضًا السوشيانت. وأطلَقوا على أنفسهم اسمَ البابيِّين؛ لأن الشيرازي كان «الباب»، أي البوابةَ الغامضة إلى الله. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، زار الباحث البريطاني إدوارد براون إيران. تعمَّق الرجل، الذي صار في وقتٍ لاحق أحدَ أعظمِ الخبراء الغربيِّين في البلاد (ولا يزال البريطانيَّ الوحيد الذي سُمي باسمه شارعٌ في طهران الحديثة)، في المجتمع الإيراني وأصبح بارعًا في حلِّ شفرة الرموز السرية التي كان يستخدمها الإيرانيُّون؛ مثل الشفرة التي كان يستخدمها الرجالُ الإيرانيون عند نفث الدُّخان من النرجيلة؛ فكل مجموعة نفثات تُمثل حرفًا. وعلى الرغم من مهارته وتحمُّسه لمقابلة البابيِّين وسؤالِهم عن معتقداتهم، لم يستطع اختراقَ السِّرِّية التي أحاطوا بها أنفسَهم. وفي كل مرة كان يقترب من شخصٍ يبدو مقبولًا، يدَّعي الرجل أنه مسلم تقليدي.
من الواضح أن البابيِّين كانوا يُراقبونه خلال هذا الوقت؛ لأنهم قرَّروا في النهاية أنه يُمكنهم الوثوقُ به. قال له رجلٌ بابيٌّ بعدما كَشَف له عن انتمائه: ««الأصدقاء» في كل مكان، ومع أنك بحثتَ عنهم حتى الآن دون جدوى، ولم تعثر عليهم إلا أخيرًا بما قد يبدو مجردَ صدفة، فالآن بعدما أصبح لديك الدليل، ستلتقيهم أينما ذهَبْت.» تعرفَ على عاداتهم، التي أظهر بعضُها تأثيرات زرادشتية واضحة؛ فالبابيُّون يتزوجون من زوجة واحدة فقط، والبابيات لا يرتدين الحجاب، واتخذ البابيُّون صومًا جديدًا بدلًا من رمضان، يُقام في المدَّة التي تسبق عيدَ النيروز. كانت السرِّية مُبرَّرة؛ فقد ذبَحَت حكومة إيران في القرن التاسع عشر الآلافَ من البابيين واستعبَدَت زوجاتهم. وتحولَت ديانةُ البابيين في النهاية إلى البهائية. وفي السنوات الأخيرة، سُجِن القادةُ البهائيون وتعرض أتباعهم لمضايقاتٍ ممنهجة، واستُبعدوا من الوظائف الحكومية، وفي بعض الأحيان اعتُقلوا على أساس أنهم مرتدُّون عن الإسلام. ومنذ الثورة الإسلامية قُتِل مائتان من البهائيِّين.
يحتفي الشعرُ الإيراني كثيرًا بمدينة شيراز، خاصةً في قصائد حافظ، الشاعر المفضَّل لدى الإيرانيين، الذي كان يعيش في القرن الرابعَ عشر؛ على الرغم من أن أعماله لا تحتفظ برَونقها جيدًا بعد الترجمة. «بينَ جعفرَ آبادَ والمُصلَّى … أقبَلَتْ بالعَبيرِ رِيحُ شَمالِهْ. رُوحُ قُدْسٍ لها بشِيرازَ فيضٌ … وبشِيرازَ حلَّ أهلُ كَمالِهْ. ذاكرُ القَنْد المصري ثَمَّ … الحِسانُ قد تسبَّبنَ في إخجالِهْ.» [من كتاب «مجموع ديوان حافظ الشيرازي»، غَزَل ٢٧٩. ترجمة دكتور علي عباس زليخة. طبعة الهيئة العامة السورية للكتاب.] «ديوان حافظ» هو أحدُ كِتابَين تمتلكهما كلُّ عائلة إيرانية تقليدية، — والكتاب الآخر هو القرآن. قبره في شيراز مَزارٌ يحجُّ إليه الناس. رأيتُ شابًّا راكعًا عنده ومكث هناك وقتًا طويلًا يُصلي في صمت، بينما وقفَت عدة نساء على مقربة، ورءوسُهن مُطأطَأة. ربما لم يكن حافظ فحَسْب هو مَن كرَّموه وتاقُوا إليه، وإنما أيضًا الثقافة المتحررة المفعَمة بالحيوية التي أعلن عنها: «الوردةُ البلبلَ السكرانَ قد قتَلَتْ … صوفيُّ يا عابدَ الخمرِ الصلاةُ حَلَتْ! كصخرةٍ توبتي أحكَمْتُها عجَبًا … بالْجامِ وَهْو زُجاجٌ كيف قد كُسِرَتْ! دارٌ ببابَين عنها أنت مُرتحِلٌ … فأيُّ فرقٍ عَلَتْ سقفًا أم انخفضَتْ.» [من كتاب «مجموع ديوان حافظ الشيرازي»، غَزَل ٢٥. ترجمة دكتور علي عباس زليخة. طبعة الهيئة العامة السورية للكتاب.]
يعجُّ شعر حافظ بإشارات إلى الخمر. وشعَر المتديِّنون بالإحراج من ذلك؛ لأن الخمر حرامٌ في الإسلام، وكان حافظ شاعرَ المسلمين الإيرانيين المفضَّل، وفسَّر الأتقياء هذه الإشارات على أنها استعاراتٌ عن البهجة الروحية. ومن هذا المنطلق كتَب آية الله الخميني قصيدةً قال فيها: «افتحي باب الحانة ودعينا نؤمَّها ليلَ نهار.» ومع ذلك، فإن حانات حافظ كان أصحابها من الكهنة الزرادشتيِّين، المجوس. فكما تقول إحدى قصائده: «عرَضتُ مشكلتي أمسِ أمام شيخ المجوس … الذي يمكنه حلُّها بنظرةٍ من عينيه. رأيته مسرورًا يبتسم وكأسُ الخمر في يده.» ويُبين هذا أن إشارات حافظ للخمر هي إشاراتٌ إلى الاعتقاد الزرادشتي بأن شرب الخمر هو وسيلةٌ للتواصل مع الله. ففي أحد طقوس الصلاة الزرادشتية، تُعَد الخمر من ثمار الخلق السبعة التي تُوضَع أمام الكاهن (الذي يُطلق عليه أحيانًا أيضًا اسمُ المجوسي). وفي التقاليد الزرادشتية، أعطى زرادشت خمرًا للملك القدِّيس فيشتاسبا ليشرَبه، مما جعَله في حالة نشوة. وفي تلك النشوة صعد إلى السماء ولمح مجْدَ الله. قال هيرودوت إن الفُرس لم يكونوا يتَّخذون قرارًا إلا إذا نظَروا فيه مرتين؛ مرةً في حالة اليقظة ومرةً في حالة السُّكْر. لذلك إذا اتخذوا قرارًا وهم متيقِّظون، فسيَسكرون بعد ذلك ويرَون ما إذا كان لا يزال يبدو فكرةً جيدة. وإذا كان كذلك، يمضُون قُدُمًا فيه. عندما قرأتُ هذا أولَ مرة، افترضتُ أنها مزحة، لكنها في الحقيقة تبدو منطقية. فإذا كانت الخمر تُعطي نوعًا خاصًّا من البصيرة الغامضة، فستَبدو فكرةً جيدةً أن يثْمل المرء قبل اتخاذ القرارات. وأيضًا، سيتعلَّم من بعض التجارِب السيئة قيمة التفكير مَليًّا في اتخاذ القرارات عندما يكون متيقظًا.
الأبيات المقتبَسة أعلاه هي مجرد مثالٍ واحد على مدى تغلغُلِ الفكر الزرادشتيِّ بعمقٍ في كتابات حافظ. لا عجب إذن أنَّ زرادشتيًّا يُدعى خسرو أراد تكريم حافظ. وعندما رأى نصبًا تذكاريًّا سابقًا له في حالةٍ رثَّة، حاول بناء نصبٍ جديد حول قبره. كان ذلك سنة ۱۸۹۹، وتبدَّد ذلك الجهد عندما قاد رجلُ دينٍ مسلمٌ محليٌّ حشدًا من الغوغاء لتدمير النصب التذكاري لأن مَن بناه كان زرادشتيًّا. ومنذ ذلك الحين، أعاد المعجَبون المسلمون بالشاعر بناءَ المقبرة بشكل رائع. تساءلتُ في نفسي وأنا أقف بجانب الأعمدة الحجرية لهذا القبر الجديد عن مكان مجوس أشعار حافظ الآن؟ وبينما كنتُ أفكر، مر أمامي درويشٌ رثُّ الثياب وشرَع في الطواف سبع مرات حول النصب التذكاري. إنها عادة زرادشتية قديمة. لكن بالإضافة إلى الجلباب البنيِّ والقبعة الطويلة المستديرة، كان هذا الرجل التقيُّ يضع على كتفه وشاحًا أخضر، وهو اللون الدالُّ على الإسلام. كان مسلمًا وليس زرادشتيًّا؛ فقد تأثرَت إيران تأثرًا عميقًا بالصوفية، ويُبدي بعضُ الصوفيين تبجيلَهم للقِدِّيسين الموتى بالطواف حول قبورهم. بالطبع، ربما كان بعض الزرادشتيين بين الشبَّان والشابات الذين كانوا يُصلون عند القبر أو يجلسون في المقهى الملحق به. لكنني لم أظن ذلك. فمجوس أشعار حافظ قد أغلَقوا حاناتهم منذ زمنٍ طويل.
كان يوجد مكانٌ واحد كنت واثقًا من أنني سأعثر على الزرادشتيين فيه: وهو يزد، حيث وُلِدَتْ لال. امتدَّ الطريق إلى هناك مسافة مائة ميل عبر الصحراء، متجاوزًا جبالًا صخريةً محززةً وحقولًا رملية وترابية، حتى وصل إلى واحة يزد. استقبَلَتني عند وصولي واجهةٌ ضخمة مكسوَّة بالقرميد بها فتحاتٌ بأسقُفٍ مقوَّسة ومدبَّبة، تُسمى التكية، ارتفاعها عدة طوابق؛ وكانت مزينة بخزفٍ إيراني باللونين الأزرق الفاتح والأبيض المائل للصُّفرة، وبجانبها عجَلة من الخوص تسمَّى «النخل». كان كلٌّ منهما يُستخدم في مسرحية الآلام الشيعية السنوية التي تُحيي ذكرى وفاة الحسين بن علي، الذي كان في نظر الشيعة الإمامَ الثالث، والذي سقط في معركةٍ مع خُصومه من المسلمين السنَّة.
جاء براون إلى يزد ووصف سعادته قائلًا: «نجحتُ أخيرًا في عزل نفسي ليس فقط عن أبناء وطني، ولكن عن إخواني في الدين»، وكان يُعتقد خطأً أنه زرادشتي. وذكر أن طائفة الزرادشتيين كانت «أقل عُرضة للمضايقات الآن مما كان عليه في الأوقات السابقة»، على الرغم من أنهم «يواجهون في كثيرٍ من الأحيان سوءَ معاملة وإهانة على أيدي [المسلمين] الأكثر تعصبًا، الذين يعتبرونهم وثنيِّين.» وأضاف أنه عندما يشغل حاكمٌ فاسد مركزَ سلطة، أو عندما لا يوجد أحدٌ مسئولٌ على الإطلاق، فإن معاملتهم تزداد سوءًا.
كان براون يقابل الزرادشتيين في وقتٍ كانت فيه حُظوظهم تتحسَّن. وعلى الرغم من التأثير المتغلغِل لأفكارهم، فقد عُوملوا بقسوة كبيرة خلال العصور الوسطى وما بعدها. كتَب زائر إلى إيران سنة ۱۸٥٤، يُدعى مانكجي لیمجي هاتریا، «وجدتُ الزرادشتيِّين مستنزَفين ومقهورين، لدرجة أنه لا أحد في هذا العالم يمكن أن يكون أكثرَ بؤسًا منهم.» كانت الطائفة حينئذٍ تخضع لضريبة «جِزْية» خاصة، مفروضة على غير المسلمين كلهم. كما حُرِم الزرادشتيون من حق الشهادة على مسلم أمام قاضٍ، مما جعلهم في وضعٍ غير مُواتٍ على الإطلاق في النزاعات على الأرض أو التجارة. بالإضافة إلى ذلك، كانوا يترنَّحون من آثار ما أُطلق عليه «آخر تحويل قسري جماعي للزرادشتيين إلى الإسلام»؛ وهي واقعة شهدَت هجومًا لغوغاء على قريةٍ في خمسينيات القرن التاسع عشر وتهديدَ سكانها بالموت إذا لم يُبدلوا دينهم. كان هاتريا من عائلةٍ من البارسيين، أحفاد اللاجئين الزرادشتيين الذين كانوا قد غادَروا إيران قبل ألفِ عام إلى كجرات في شمال الهند. وكان الجالية البارسية في الأصل تلجأ إلى إيران للحصول على الإرشاد الديني، لكنها كانت قد أصبحَت أكبرَ وأغنى على مَرِّ القرون، ولم يكن هاتريا هناك لتلقِّي المساعدة ولكن لتقديمها. فقد أرسل هو ورفاقه البارسيين الأموال إلى الزرادشتيين الأفقر في إيران، وأسَّسوا مدارسَ حديثة، وساعدوا في إقناع الحكومة الإيرانية بإلغاء «الجزية» سنة ۱۸۸۲.
وسرعان ما تبع ذلك المزيدُ من التحسينات في وضع الزرادشتيين بيزد، وبعد عام ۱۹۰٦، عندما أجبَرَت ثورةٌ دستورية النظامَ الملَكي على قَبول مجموعةٍ من تدابير إزالة القيود المفروضة، بما في ذلك إنشاء برلمان، انتُخب أحدُ الزرادشتيِّين في الهيئة الجديدة. واستعاد النظام الملَكيُّ قوَّتَه بعد ذلك بمدة وجيزة، لكن في النهاية حلَّت محله ديكتاتوريةُ رضا خان، الذي لُقِّب بالشاه وكانت كُنيته بهلوي. وعلى الرغم من هذه التغييرات السياسية، استمرَّت أحوال الطائفة في الازدهار على مدار السبعين عامًا التالية. وانضم الزرادشتيون للحكومة، حتى إن واحدًا منهم، وهو فَرْهَنج مِهر، ارتقى في المناصب حتى أصبح نائبًا لرئيس الوزراء. كانوا ناجحين بخاصةٍ في الأعمال التِّجارية. ونتيجةً لذلك، تناقصَت أعدادُ مَن يسلكون درب الكهنوت، وهي مهنة أجرُها زهيد وتتضمن قضاء الكثير من الوقت في تعلُّم نصوص مكتوبة باللغة الأفستية القديمة (لغة قديمة قد تستغرق وحدها سنواتٍ لتعلُّمِها). طلب والد لال — الكاهن الذي كان يقف على سطح منزله لدراسة النجوم — من إخوتها أن يُصبحوا أطبَّاء، وليس كهنة، إذا أرادوا الهرب من حياة الفقر. ومن الواضح أن الزرادشتيين الآخرين خالجَهم الشعور نفسُه. ففي ثلاثينيات القرن الماضي كان في يزد مائتا كاهن، وبحلول سنة ۱۹٦٤، كانوا أقلَّ من عشرة.
لم يكن والد لال كاهنًا فحسب — حيث كان يتحصل على دخلٍ ضئيل بوصفه واعظًا متجولًا وتاجرًا صغيرًا — لكنه كان أيضًا شاعرًا ومفكرًا متحمسًا للأفكار الجديدة التي كانت تنتشر في ذلك الوقت في إيران. وعندما منَع رضا شاه ارتداء الحجاب في إيران في ثلاثينيات القرن الماضي، أرادت والدة لال منعها من الذَّهاب إلى المدرسة؛ لأنها، على الرغم من أنها لم تكن مسلمة، كانت لديها أفكارُها الصارمة حول ما ينبغي أن تلبَسه الفتيات في الأماكن العامة. وكان والد لال هو مَن أصر على ضرورة عودتها إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما اختارت لال أن تكون قابلة، وهي مهنة تتضمن الاتصالَ الدائم بالدم البشري — وهو من المحرَّمات في ديانة تُضفي قيمةً كبيرة على طقوس النظافة — دعَمَها، كما فعل عندما اختارت زوجها شهريار بعد أن تعرَّفَت عليه عن طريق شقيقها.
كان تودُّدًا تقليديًّا؛ ففي أول لقاءٍ لها مع زوجها المستقبلي، كانت برفقة والدتها وأختها ولم تنظر إلى وجهه. اضطُرَّت أن تسأل أختَها عن شكله. في النهاية، اختلسَت نظرةً سريعةً عليه عندما كانا جالسَين معًا في موعدهما الثالث، في السينما، عندما كانت تأمُل أنه يُركز على الفيلم ولن يُلاحظ نظرتها الخاطفة. أعجَبها ما رأت ووافقَت على الزواج منه. في ذلك الوقت، انتقلت العائلةُ إلى طهران، ولكن بعد زواج لال وشهريار، عادا من حينٍ لآخَر إلى يزد، لزيارةِ منزل صغير كانا يملكانه في الجبال؛ أجَّرا أراضيَه للمزارعين المحليين مقابل أن يُزوِّدوهما سَنويًّا باللوز والفاكهة. كان انتقالهما إلى طهران توجهًا تبعه العديدُ من الزرادشتيين عندما حرَّر شاها البهلوي المجتمعَ الإيراني. ولم يعُد شقيق لال مُضطرًّا إلى سَماع صياح الآخَرين بكلمة «جبر»؛ حيث أصبح طبيبًا في القوات الجوية الإيرانية. وكان شهريار ضابطًا في الجيش، وتقلَّد لاحقًا وِسامَ البسالة. ولأول مرة منذ نهاوند، كان بوُسع الزرادشتيين أن يُقاتلوا من أجل إيران.
لم أرَ كاهنًا على سطح أيِّ منزل يزدي سنة ۲۰۰٦. في البداية بذلتُ جهدًا جهيدًا للعثور على أيِّ أثر للزرادشتيين أيًّا كان. كانت ملصقات النعيِ على أعمدة الإنارة في كل شارع مُعنونٍ بالعبارة الإسلامية العربية «بسم الله» فوق صور المتوفَّيْن حديثًا. لكنني وجدتُ على ناصية شارع إشعارًا بعنوان مختلف. كان نصُّه بالفارسية، «با نام أهورا مزدا» أي: «بسم أهورا مزدا». تحته كان رمز الرجل-الطائر، رجلٌ بقَلَنْسُوة فارسية وأجنحةٍ إلى يسارِه، ويمينِه، وتحتَه. كنت قد رأيت الرمز ذاتَه في برسبوليس. أخيرًا عثرت هنا على الزرادشتيين. كان أحد متاجر البقالة على هذا الطريق مُزينًا بالصور. مثلما يضع مسيحيو الشرق الأوسط صورًا ملصقة للقديس جورج أو مريم العذراء على حوائطهم، ويعرض المسلمون صورًا للحرَم المكِّي أو ضريح الحُسين (في إيران)، كانت هذه الصور لزرادشت وفارافاهار. وقد لُصِقَت على زجاج النَّضَد، وصندوق النقد، وجُدران المتجر. في نهاية الطريق كان يوجد أيضًا متجرٌ لبيع الهدايا التذكارية الزرادشتية. فكَّرت مَليًّا في شراء ساعةٍ مكتوب عليها بالفارسية الشعارُ الزرادشتي «الفكر الجيد، الكلمة الطيبة، العمل الصالح».
في الجهة المقابلة للمتجر، بعيدًا عن الطريق خلف حديقة صغيرة، كان يوجد معبدُ نار. سُمح لي بالدخول، إلى غرفة نظيفة صغيرة، وخلف نافذةٍ زجاجية، رأيتُ شعلةً صغيرة متوهجة. وكانت صورة لزرادشت معلقةً على حائط الغرفة، وبجانبها مقتطفاتٌ مختلفة من الكتب الزرادشتية المقدسة؛ لتذكير الزائر بأن الزرادشتيين أيضًا لديهم كتابٌ مقدَّس، يُعد عادةً، إلى جانب الإيمان بإلهٍ واحد، شرطًا أساسيًّا للتسامح في ظل الإسلام. فالقرآن يُثني على «أهل الكتاب»، وفي إيران يُعد الزرادشتيُّون من بينهم. لكن النظام يهزأ بهم بسبب تبجيلِهم للنيران المقدسة في معابدِ النار خاصتهم، زاعمًا أنهم «يعبدون النار». وهذا شيء يُنكره الزرادشتيون قائلين إنهم لا يعتبرون النار إلهًا، وإنما يعبدون الله بواسطة النار. سألتُ القَيِّم على المعبد عن عدد العائلات الزرادشتية التي بقيَت في يزد. فقال إنه قليلٌ جدًّا. فالحياة صعبة؛ الاقتصاد سيئ والحكومة عدائية. علمتُ لاحقًا أن عدد الزرادشتيين في البلد بأكمله قد انخفض منذ الثورة من ثلاثةٍ وثلاثين ألفًا إلى عشَرة آلاف (هذه تقديرات تقريبية، حيث لا توجد إحصائيات مؤكدة).
ربما كان من المناسب بعد زيارتي لمعبد النار، أن يكون موعدي التالي مع الموتى. فعلى الجانب الآخر من المدينة كانت أبراجٌ مدمَّرة تعلو قمَّتَي تل. أطلق عليها السياحُ اسم «أبراج الصمت»، وعرفها الزرادشتيون باسم «الدخمات». فيما مضى كان الطريق المؤدي إلى هذه التلال، الذي كان يتسابق عليه الشبانُ بسياراتٍ للطرق الوَعْرة، طريقَ مَواكبِ جنازات الزرادشتية. وكانت جثة المتوفَّى تبقى في منزل الأسرة مدةَ ثلاثة أيام، مع وجود كلبٍ بالقرب منها لردع الأرواح الشريرة. ثم يُحمَل الجثمان على سرير حديدي، على يدِ رجال مدرَّبين خصوصًا لهذه المهمة، صعودًا على هذا الطريق وصولًا إلى «الدخمة». وهنا يخاطِب حاملو النعش الميتَ: «لا تخَف ولا ترتجف! هذا هو مكانُ أجدادك، وآبائنا وأمهاتنا، والطاهرين والصالحين، منذ آلاف السنين.»
كتب هيرودوت في روايته عن هذه المراسم: «ما يعقب ذلك لا يُذكر هذا عن موتاهم بوضوحٍ ولكن بوصفه سرًّا غامضًا، وهو أن جثة الرجل الفارسي لا تُدفَن حتى يُمزقها طائرٌ أو كلب.» في الواقع، تظل الجثة مكشوفة حتى تأكلها الطيور أو الكلاب بالكامل. ويمكن للطيور، عادةً الغربان أو النسور، أن تلتهم جثةً في غضون دقائق. توقفَت هذه العادة في إيران منذ عدة عقود، اختياريًّا على ما يبدو، على الرغم من أن البارسيين في الهند ظلُّوا يُمارسونها. وقد تكون هذه الممارسة أقدمَ من الزرادشتيين بقرون. ففي تشاتال هويوك بتركيا، حيث نُقِّب عن مستوطَنة بشرية من الألفية الثامنة قبل الميلاد، توجد بعض الأدلة الأثرية على احتمال أن الجثث كانت تُترَك مكشوفةً في الهواء الطلق قبل الدفن.
تسلَّقتُ الدخمة الأقربَ إلى الطريق، ونظرتُ من جدارها إلى الأسفل لأرى جنازة زرادشتية جاريةً بالأسفل. ونظرًا إلى أن الدخمة كانت حينئذٍ مهجورة، كانت الجنازة تتجه بدلًا منها إلى مقبرةٍ قريبة. وُضعت الجثث هناك في حجَر وخَرسانة؛ لمنعِها من تلويث الأرض. وبعد الجنازة، كان المشاركون يذهبون إلى منازلهم ويغسلون أنفسَهم ببول ثور. (الأمونيا التي يحتويها هذا البول تجعله مُطهرًا جيدًا، ويبدو أنه بعد سنوات من التخزين يفقد رائحته؛ وهو أمرٌ جيد حيث يُتَوَقَّع أحيانًا أن يشربه الزرادشتيون، على سبيل المثال أثناء احتفالات بلوغ سنِّ الرشد، ولكن الأشخاص الذين يصابون بالغثيان أصبحوا الآن يستبدلون عصير الرُّمان بالبول. يشير بلوتارخ، في القرن الأول الميلادي، إلى هذا الاحتفال؛ لذا فهو بالتأكيد قديم جدًّا.)
حاولت تخيُّلَ ماهية ما سيشعر به المرءُ عند رؤية تصادم القُوى الكونية في الحياة اليومية للفرد. أظن أن جميع الناس لديهم فهم نظري لما هو نقي وما هو غير نقي. وقلةٌ من الناس يشعرون بالراحة عند شراء منزل مات فيه شخصٌ ما بطريقة عنيفة، ولن يرغب كثيرون منا في أن يكونوا في رحلةٍ بالطائرة جالسين بجوار جثَّة. اكتشف العلماء أن الفساد الأخلاقي يثير ردودَ فعل جسديةً تُضاهي الاشمئزاز الجسدي؛ وبالفعل، غالبًا ما توصف الخطيئة والفساد الأخلاقي بأنهما دَنَس (فكلمة «طاهر» تعني حرفيًّا «لا تشوبه شائبة»). ويؤمن الزرادشتيون بأن الدَّنَس في العالم قد وضَعَته قوةٌ خارقةٌ للطبيعة نشطة وخبيثة؛ لذا فإن للنظافة قوةً أخلاقية، ويجب أخذ نجاسة المدفن على مَحمل الجِد. فوفاة شخص صالح تُمثل انتصارًا عظيمًا لأنجرا ماينيو وخدَمِه، وتجعل مكانَ الدفن دَنِسًا دناسةً خاصة. فالجثة تجذب شيطانَ الجثث، «الناسو». لذا لن يُفكر الزرادشتيون في قضاء العطلة بالتجول في الدخمة: فهي تُمثل لهم أحدَ أكثر الأماكن قذارةً بشكل خارق للطبيعة على وجه الأرض.
ركبتُ سيارة أجرة من الدخمة عائدًا إلى وسط يزد. قال السائق حسن: «الزرادشتيون أناسٌ طيبون.» كان حسن مسلمًا متدينًا، يرتدي قميصًا أرجوانيًّا لإعلان حقيقة أن اليوم، كما أخبرني، هو ذِكرى شهيدٍ إسلامي. قال: «جاء الإسلام إلى إيران من العرب عن طريق الحرب. قبل ذلك كنا كلُّنا زرادشتيِّين.» كلَّ عام يتذكر أناسٌ مثل حسن تُراثَهم عندما يحتفلون بعيد النيروز، عيد الربيع، عندما يُصبح النهار أطولَ من الليل (في الفكر الزرادشتي، يُمثل هذا انتصارًا للخير على الشر). ويستمر عيد الربيع أسبوعَين في إيران الحديثة، ويحتفل به المسلمون بحماسٍ يفوق الزرادشتيِّين الذين تكون احتفالاتهم هادئةً وذاتَ طابَع ديني. الأمر المشترك بين الجماعتين هو عادة وضع سبعٍ من ثمار الخلق على مائدة، لتناظر سبع فضائل وسبعة كواكب. عند الزرادشتيِّين، يمكن أن تشمل الثمارُ النبيذَ، والحليب، والماء، والحبوب المنبتة، والتوتَ الفِضي، والحلوى؛ ويمكن أيضًا أن تتضمن مِرآةً وعُملات معدنية، حيث تُمثل الأولى المستقبلَ والثانية الازدهار. يميل الإيرانيون المسلمون إلى استخدام القمح، والتفاح، وفاكهة اللوتس، والثوم، وتوابل تسمى «السُّماق»، وحلوى بودنج تسمى «سَمَنو»، والخل. ثمة عيدٌ أصغرُ يُسمى تشهارشنبه-سوري (بالفارسية، الأربعاء القرمزي)، ويأتي قبل عيد النيروز مباشرةً، ويتضمَّن القفز فوق النار. أيضًا يحتفل به المسلمون. وقد حاولَت المؤسسة الدينية الإيرانية أن تثْنيَ الناسَ عن الاحتفال بعيد النيروز، وفي عام ۲۰۱۰ حاول آية الله خامنئي حظر تشهارشنبه-سوري تمامًا على أساس أن الاحتفالات «ليس لها أساسٌ في الإسلام»، لكن حسن والكثير من الإيرانيين الآخَرين في جميع أنحاء البلاد تجاهَلوه على الرغم من شدة تدين العديد منهم. أستطيع فهمَ السبب. فالحدث مُمتع، ومتجذِّر بعمقٍ في المجتمع، وإيراني على نحوٍ مميز؛ فلا تحتفل به أيُّ ثقافة لم تتأثر بإيران.
•••
أُرسل زوج لال، ضابطُ الجيش شهريار، بعد الحرب العالمية الثانية لمحاربة التمرُّد المدعوم من الاتحاد السوفييتي في شمال غرب إيران (المقاطعة التي دخلت منها البلاد لأول مرة، بالقرب من زندان سليمان). أُصيب خلال القتال وتُرِك ليموتَ في ساحة المعركة؛ وعندما تبيَّن أخيرًا أنه على قيد الحياة ونُقل إلى المستشفى، كان قد فقَد بصره. تقلَّدَ وسامًا من الشاه الذي أرسله إلى بريطانيا للعلاج. وتبنَّته جمعيةٌ خيرية للمحاربين القُدامى، وعلَّمَته طريقة برايل في القراءة للمكفوفين، وساعدَته في العثور على وظيفة عامل هاتف. كان يوجد عددٌ قليل من الزرادشتيين في بريطانيا في هذا الوقت؛ فقد نشأت ابنتُهم شاهين وهي تُغني ترانيمَ مسيحية في المدرسة (قالت لي: «أراد والدي أن أندمجَ مع المجتمع»)، وكانت الطريقة الوحيدة التي يمكنها بها أن تشرح لزملائها الحائرين ماهيةَ دينها هي التحدثَ عن الحكماء الثلاثة في الكتاب المقدَّس.
وعلى الرغم من قلة عددهم وأنهم غيرُ معروفين جيدًا، كان الزرادشتيون بالفعل طائفةً مزدهرةً ومؤثِّرة. وكان البريطانيون يُفضلون الزرادشتيين البارسيين على جميع الجماعات الأخرى في إمبراطوريتهم الهندية: حيث كتب أحدُ المعلِّقين على لعبة الكريكيت في القرن التاسع عشر، متأثرًا بزيارة نادي زرادشتي للكريكيت لإنجلترا سنة ۱۸۸٧: «الأكثر ذكاءً، وكذلك الأكثر ولاءً من بين الأعراق المنتشرة في أملاكنا الهندية.» كان لاعبو الكريكيت الزرادشتيون (الذين كان ناديهم قد تشكَّل في عام ۱۸٥۰ في بومباي) انتقاديِّين في ردِّهم. فقد اشتكوا من مدى قذارةِ إنجلترا وكم كان صادمًا رؤية مثلِ هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء: «يعيش الرجال والنساء في حالة هُزال مُزمن، حتى يصبح من الصعب التعرفُ عليهم كبشر.»
ومع ذلك، كانت بريطانيا مكانًا جيدًا لمزاوَلة الأعمال التِّجارية، وكانت أكبرُ العائلات الهندية في مجال التجارة من البارسيين؛ وبدأ بعضٌ منها يُرسخ جذورَه في بريطانيا. في الواقع، كان أول هندي يدخل البرلمان البريطاني بارسيًّا يُسمى دادابهاي ناوردجي. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر كان قد ساعد في تأسيس المؤتمر الوطني الهندي، الذي أصبح في نهاية المطاف الحزب الحاكم في الهند بعد الاستقلال. وكان المهاتما غاندي قد وصفه بأنه «إلهام»؛ وكان ناوردجي قد اتخَذ محمد علي جناح، المؤسِّس المستقبلي لدولة باكستان، مساعدًا له. بعد ذلك، ونظرًا إلى عدم وجود برلمانٍ خاص بالهند، ترشح ناوردجي في البرلمان البريطاني. واختِيرَ بصفته مرشحًا ليبراليًّا لإحدى ضواحي لندن الشمالية التي تُسمى فِنزبري بارك في الانتخابات العامة لعام ۱۸۹۲. لم تكن الفرصُ في صالحه؛ فقد قال رئيس الوزراء المحافظ اللورد سالزبوري عبارتَه الشهيرة إنه يشكُّ في إمكانية انتخاب «رجل أسود» لعضوية البرلمان البريطاني. وهاجمَت إحدى الصحف ديانة ناوردجي، مستنكرةً عبادتَه للنار.
لذلك عندما فاز ناوردجي بأغلبيةٍ ضئيلة، سافر وفدٌ من مؤيديه كلَّ تلك المسافة من الهند لرؤيته وهو يؤدي اليمين. كان هذا، بأي حال، بعدَ سنوات قليلة فقط من موافقة البرلمان على السماح بدخول غير المسيحيين. لذلك في اليوم الذي كان من المقرر أن يؤدِّيَ فيه ناوردجي اليمين، اتخَذ مكانه بصفته الهنديَّ الوحيد في صفٍّ طويل من النبلاء الفيكتوريين ذوي القبعات العالية، المصطفِّين في قاعة مجلس العموم. وكان يحمل نسخة صغيرة من الأفستا الزرادشتية في جيبه، ينوي أن يحلف اليمين عليها بدلًا من الكتاب المقدَّس. وبعد أيام قليلة، وجَد نفسه يتحدث في مناظرةٍ بعد مدةٍ وجيزة من تحدث جلادستون وبلفور، محذرًا بريطانيا من أن الظلم تجاهَ شعب الهند سيُنهي حكمها هناك. وعلى ذِكر «الوضع الغريب» الذي وجد نفسه فيه، فقد بقي في البرلمان مدةَ ثلاث سنوات لكنه لم يشعر قط بأنه في موطنه هناك. وكان إجماليُّ النواب زرادشتيِّين منتخَبين قبل أن تحصل الهند على استقلالها هو ثلاثة (لم يتكرَّر هذا الأمر منذ ذلك الحين؛ على الرغم من أن عضوًا واحدًا في مجلس اللوردات البريطاني حاليًّا بارسيٌّ). لكن الطائفة لم تزدد عددًا مطلقًا إلى ما هو أكبرُ من ذلك. ففي عام ۱۹۸۰ كان عدد أفرادها ألفَيْ شخص.
وفي السنوات الخمسِ والعشرين الماضية، لم يُعاود لال وشهريار زيارةَ يزد أو طهران؛ خوفًا من نظام الحكم الإسلامي الجديد. وبدلًا من ذلك أصبحا مرشدَين لموجةٍ جديدة من الزرادشتيين الإيرانيين الذين كانوا يصلون إلى بريطانيا. وبين عامَي ۱۹۸۰ و۲۰۰۱ تضاعف عدد الزرادشتيين البريطانيين، من ألفين إلى ما يقرب من أربعة آلاف؛ بما في ذلك كلٌّ من البارسيين والإيرانيين. وفي عام ۲۰۰٤، قدَّر الزرادشتيون أنفسُهم عددَهم في الولايات المتحدة بعشرة آلاف وفي كندا بخمسة آلاف. كانت الأرقام في إيران ذاتها قد انخفضَت، على الرغم من أن الإحصاءات الرسمية لا تُظهر هذا؛ لأنه مهما ساءت المعاملة التي يتعرض لها الزرادشتيُّون، فمعاملة البهائيين أسوأُ بكثير، وقد بدأ العديد من البهائيين في تسجيل أنفسهم رسميًّا على أنهم زرادشتيون.
وفي أواخر التسعينيات أجرى البروفيسور جون هينلز، من جامعة ليفربول هوب، مقابَلاتٍ واستطلاعاتِ رأيٍ لمئات من الزرادشتيين في جميع أنحاء العالم من أجل دراسةٍ واسعةِ النطاق لهذا الشتات. ووجد أن الكثيرين منهم شعروا بأنهم عالقون بين الثقافات. قالت له امرأةٌ زرادشتية في بريطانيا: «يخبرني عقلي أنني يجب أن أتصرف مثل امرأة زرادشتية، بينما جسدي يُخبرني أنني غربية.» اشتكَت أخرى، في أمريكا، من أنه «لا يوجد مكان في العالم يُماثل مدى شدة الضغوط الاجتماعية في الولايات المتحدة.» ومع ذلك، ففي الواقع، قال ما يقرب من ثلاثة أرباع الزرادشتيِّين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم يُصلَّون يوميًّا، وقال ما يقرب من نصف أولئك الذين يعيشون في بريطانيا إن الحياة هناك لم يكن لها تأثيرٌ على معتقداتهم. وسجَّل هينلز أيضًا معارضةً شرسة من كبار رجال الدين لفكرة أن أولئك الذين تزوَّجوا خارج الدين يجب أن يُسمَح لهم بالمشاركة في أيٍّ من طقوسه أو تلقِّي دفن زرادشتي. وأضاف رئيس الكهنة في بومباي إن الزواج بين امرأةٍ زرادشتية ورجلٍ غير زرادشتي، «يؤلم أهورا مزدا ويحزنه»؛ لأن النساء اللائي يتزوَّجن من خارج ديانتهن لا يمكنهن التقيدُ بقواعد الطهارة المنصوص عليها في الدين. وأولئك الذين وُلدوا في مِثل هذه الزِّيجات لا يعدُّهم التقليديون زرادشتيين.
تتبَّع شاهين، ابنة لال وشهريار، تفسيرًا أكثرَ تحررًا للزرادشتية. وهي المتحدث الرسمي للمنظمة الزرادشتية العالمية، التي تحتفي بالتراث الزرادشتي وتحاول الحفاظ على بقاء الثقافة والدين. كما أنها تُنظم فعاليات للزرادشتيين الإيرانيين في بريطانيا مثل عيد المياه السنوي، تيرجان، حيث يُشجع الأطفالَ الزرادشتيين على إلقاء دِلاء الماء بعضهم فوق بعض؛ مثلما كان أسلافهم يومًا ما في يزد يتَمازحون بإلقاء الماء من أسطح المنازل على المارَّة. ولأن الماء (أحد العناصر المقدسة الأربعة) نعمة، فلا يستطيع مَن يُلقى عليه أن يشتكي. وتُشكِّل الفعاليات من هذا القبيل وسيلةً للحفاظ على التقاليد في مجتمع يُواجه فيه الزرادشتيون التحدِّيَ الجديد للعلمانية. أخبرتني شاهين عندما التقينا في نادٍ للفنَّانين في إحدى ضواحي لندن العصرية: «إننا نجد الحياة في الغرب مريحة؛ لأن الناس هنا اتبَعوا القيم الإنسانية. وقد اندمجنا مع هذه القيم لأنها تتوافقُ مع ما تعلمناه.» لكن هذه عمليةُ توازن صعبة، كما اعترفَت شاهين: «قد يتمسَّك أطفالنا بثقافةِ عقيدتنا. ولكنهم قد لا يفعلون ذلك.» كانت تبحث عن طريقةٍ لتكييف عقيدتها مع العصر الحديث؛ مُرحِّبةً بالتقدُّم العلمي باعتباره، من منظور الزرادشتية، انتصارًا بطيئًا للفكر الخَيِّر على الشر. حتى إنها توصَّلَت إلى نهج متحرِّر خاص بالموت يجمع بين تفسيرها للمبادئ الزرادشتية والأعراف المعاصرة. «إن ترك الجُثث لجوارحِ الطير يتمحورُ حول أن تكون مفيدًا في موتِك للكائنات الحية.» أخبرتني بمرَح: «شخصيًّا، اخترتُ إعادةَ التدوير؛ فقد عرَضتُ على معهد أبحاثٍ الاستفادةَ من جثتي بعد وفاتي.»
تبادَلْنا القصص عن يزد التي لم تكن قد زارتها منذ الثورة الإسلامية. كانت منخرطةً في جمعيةٍ خيرية هناك، لكن الجمعية كانت في الأغلب مسئولةً بشكل كبير عن تقديم الرعاية لكبار السن؛ ويكاد لم يتبقَّ أيُّ أحد آخرَ هناك. قالت: «عدد المنازل في يزد التي يسكنها الزرادشتيون الآن قليلٌ جدًّا. فمدينة يزد مهجورةٌ إلى حد كبير. لذا نحاول الحفاظ على «الجهامبار» [اجتماعات الصلاة] فيها من أجل ما تبقى من الطائفة. وعندما تنهار الأسطح الطينية، يدفعون مُقابل الإصلاحات.» يتميز الشباب الإيرانيون المسلمون، مثل سائق السيارة الأجرة اليزدي حسن، بأنهم أقلُّ تحاملًا مما كانت عليه الأجيال السابقة؛ لكن الحكومة الإسلامية أدخلت مؤخرًا قوانينَ تمييزية. على سبيل المثال، يمكن للزرادشتيين الذين يعتنقون الإسلام في إيران اليوم أن يأخذوا إرثَهم من آبائهم على حساب إخوانهم وأخَواتهم الذين لم يعتنقوا الإسلام.
•••
ومع ذلك، فإن قصة الزرادشتية اليوم لا تتعلق فقط باضمحلالِ العلمانية وتَناميها. فقد قَبِلت هذه العقيدةُ القديمة في السنوات الأخيرة أولَ معتنِقيها الجدد الأوائل بعد أربعة عشَر قرنًا. وكان كارلوس واحدًا من هؤلاء المعتنقين الجدد، حيث التقيتُ به في حفلٍ للموسيقى الهندية والإيرانية نظَّمَه شبابٌ زرادشتيون موهوبون في لندن. وكنتُ قد التقيت بزرادشتيين اعتنَقوا المسيحية وعزَوا قرارَهم إلى ما اعتبَروه طقوسَ دينهم الأصلي. ما الذي جعل كارلوس، وهو في الأصل كاثوليكيٌّ إسباني غيرُ متدين، يسلك الاتجاه الآخر؟ أوضح كارلوس، وهو يُلقي نظرةً سريعة على زوجته: «أردنا محاربةَ الشر. في ديننا نساعد الربَّ وهو يُساعدنا. نحن لسنا عبيدَه. وهذا العالم ليس اختبارًا، يُقال فيه لنا في النهاية إذا كنا قد نجَحنا أم لا.» كان قد قرأ عن الزرادشتية عندما كان صبيًّا صغيرًا وانجذب إليها، لكنه لم يدرك أنه لا يزال يوجد زرادشتيُّون. وبعد مشاهدة فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حول معبد النار في يزد، بحَث على الإنترنت عن مجتمع قد يُساعده في اعتناق هذه الديانة، واكتشف واحدًا في الدول الإسكندنافية. هناك ارتدى «الكوشتي»، مع مجموعةٍ من المعتنِقين الجدد المذعورين من أفغانستان الذين أرادوا العودة إلى دين أجدادهم ولكنهم كانوا قلقين لأسبابٍ مفهومة بشأن العواقب التي ستقع عليهم عند العودة إلى وطنهم.
لكنني لاحظتُ أن كارلوس وزوجتَه وقفا بمفردهما معظمَ الوقت في تلك الليلة، بينما كان الآخَرون في هذا التجمع يعرف بعضُهم بعضًا منذ الطفولة. ولاحظتُ الشيء ذاتَه عندما قابلت اثنين من الزرادشتيين الذين كانوا قد اعتنقوا الدين من خلفيةٍ إسلامية شكلية (قال كلاهما إن عائلتَيهما لم تكونا متدينتَين): لم يُستبعَدا، لكن لم يبذل الناس قصارى جهدهم لجعلهم يشعرون أنهما مرحَّبٌ بهما. ويعترف بعضُ البارسيين على وجه الخصوص بأنهم جماعة عشائرية، ولا يُحددون هُويتهم دائمًا حسَب الإيمان ولكن أيضًا حسب العِرق، ولا يقبل إلا بعضُ الزرادشتيين الأكثرُ تحررًا المعتنقين الجددَ للزرادشتية.
وعلى الرغم من قلة عدد الزرادشتيين، إلا أن لديهم انقساماتٍ داخلية. فالليبراليون والمحافظون يختلفون حول كيفية التعامل مع الزواج من خارج الديانة (حيث يريد التقليديون استبعادَ أطفالِ هذه الزيجات المختلطة تمامًا، في حين يريد الليبراليون ضمَّهم) وما إذا كان سيُسمَح لغير الزرادشتيين بدخول الأجزاء الأكثر قداسةً من معابد النار، حيث يُحتفَظ بالشعلة التي لا تنطفئ. توجد أيضًا خلافاتٌ حول كيفية تفسير الأفستا. وبشكل عام، من المستبعَد، على سبيل المثال، أن يُشدد الزرادشتيون المعاصرون على القوة المستقلَّة للشر كما كان سيفعل أسلافهم الساسانيُّون. توجد أيضًا اختلافاتٌ ثقافية بين الإيرانيين والبارسيين؛ فالإيرانيون يتحدثون الفارسية ويُفضلون الأطباق الإيرانية، بينما يتحدث البارسيون الكجراتية ويُفضلون الطعام الهندي.
ومع ذلك، ففي معبد النار بلندن، الذي يُعد حلْقةَ الاتصال الاجتماعية والدينية الرئيسية في بريطانيا، بُذِلَ جهدٌ لاستيعابِ جميع أنواع الزرادشتيين. ففي بَهْوِ مدخل المعبد، الذي كان يومًا ما قاعةَ سينما، يُصور بِساطُ حائطٍ إيراني جنودًا إمبراطوريين فارسيين من حقبة داريوس؛ وفي قاعة الصلاة الرئيسية التي كانت في السابق غرفةَ العرض الرئيسية، توجد صورةٌ لداداباي ناوروجي تحتفي بأشهر بارسيٍّ عاش في بريطانيا. وتواجه صورةٌ لزرادشت، على الجدار الأيسر لقاعة الصلاة، صورةً للملكة على الجدار المقابل. ولا يزال أمام خشبة المسرح، حيث كانت الشاشة يومًا ما، عدةُ صفوف من المقاعد المريحة التي تُرِكَت منذ أيام كان المبنى دارَ عرضٍ سينمائية. ويُظهر البيانو على المسرح أن المعبد يُستخدَم للترفيه الدنيوي، وكذلك لاجتماعات الصلاة. ويُعرض فوق المسرح الشعار الزرادشتي المكتوب بأحرفٍ ذهبية مثبَّتة على الحائط: «الفكر الجيد، الكلمة الطيبة، العمل الصالح.»
زرتُ هذا المعبد عندما كنت أحضر حفلَ تأبين لال وشهريار، اللذَين تُوفِّيا بفارقِ أشهر بينهما في عام ۲۰۰٤. (دُفنا في المقبرة الزرادشتية في بروكوود، حيث يُقام اجتماعُ صلاة بانتظام في كنيسةٍ صغيرة. وتحيط بالكنيسة مقابرُ تحظى بعنايةٍ فائقة، وغالبًا ما يُوضع على الأضرحة رسم «فارافاهار»، بينما تُئوي المقابرُ الحجرية الأفخمُ ذات الطراز الفارسي موتى العائلات الأغنى.) في المراسم، ردَّد كاهنٌ — فمُه مُغطًّى بقناعٍ من القماش حتى أسفلِ ذقنه، والغرض من ذلك هو منعُ تلوث النار المقدَّسة بالنَّفَسِ أو اللعاب — بتناغمٍ لمدةِ تسعين دقيقة باللغة الفارسية القديمة، وزوجتُه جالسة بجانبه، تُغطي جزءًا من شعرها بوِشاح. وعلى الطاولة أمامهم كان يوجد نبيذ، وحليب، وماء، وفاكهة، وأزهار بيضاءُ وأرجوانية، حيث استُخدِمَت هذه الأزهارُ رموزًا لأرواح الموتى. كما ظهرت على الطاولة صور لال وشهريار؛ وعُرِضَت صورٌ أخرى تظهر حياتهما في إيران وبريطانيا على شاشةٍ باستخدام جهازِ عرض. كانت أغصانُ خشب الصندل تحترق في كانونٍ صغير، كان يُحمل على أوقاتٍ حول المصلين المجتمعين، الذين كانوا يُلوحون بأذرُعِهم لتوجيه الرائحة نحوَهم. بعد ذلك قُدِّمت مجموعةٌ مختارة من الأطعمة، اشتملت على أطباقٍ هندية وإيرانية.
وبينما كنتُ أتحدث إلى الزرادشتيِّين بعد ذلك ونحن نشرب النبيذ في أكواب بلاستيكية، أدركت أمرًا؛ وهو أنني أخيرًا، في هذه الضاحية الشمالية للندن، في دار السينما المهجورة، كنتُ في حانة المجوس التي تكلمَت عنها أشعارُ حافظ.