الأقباط
التاريخ: يوم الجمعة العظيمة عام ۱٧۲٧ للشهداء. وافق ذلك شهرَ برمودة، عندما تهبُّ الرياح الترابية الموسمية على طول وادي النيل، حيث يحينُ وقتُ حصاد القمح وتجنب ارتفاع حرارة الشمس. في مِثل هذا الوقت من العام، لآلافِ السِّنين، صلى المِصريُّون من أجل ارتفاع منسوب مياه النيل وريِّ حقولهم بالمياه الغنية بالطَّمْي في أرضٍ كانت واحدةً من أكثر الأماكن جفافًا على وجه الأرض. لذا كانوا يُصلُّون الآن، وهم متجمِّعون حولي، من أجل «ارتفاع منسوب مياه الأنهار». لو أغمَضتُ عيني في لحظات معينة، لتخيَّلتُ نفسي في مِصر القديمة. ولكن في التقويم الغربي، كان العام هو ۲۰۱۱، وكان أقرب نهر هو نهرَ التايمز؛ وبعينَين مفتوحتين، كان بإمكاني رؤيةُ الواجهة الجميلة لشُرفات لندن من خلال النوافذ ذاتِ الزجاج الملوَّن.
إن كنيسة القديس مرقس، بكنسينجتون، مكرَّسةٌ لمبشِّر القرن الأول الإنجيلي الذي، وفقًا للتقاليد، جلَب المسيحية لأول مرة إلى مصر. وأولئك المصريون الذين ظلُّوا مسيحيين يُعرَفون بالأقباط. تتباينُ تقديراتُ أعدادهم تباينًا كبيرًا، من أربعة ملايين إلى اثنَي عشر مليونًا، بالإضافة إلى الجاليات في السودان، وليبيا، والغرب. وبسبب انقسام الكنيسة المسيحية في القرن الخامس حول طبيعة المسيح، طوَّر الأقباطُ منذ ذلك الحين شكلَهم المتمايزَ من المسيحية، المتمثِّل في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تحت قيادة بطريَرْك الإسكندرية. وانتشر هذا النهجُ القِبطي من المسيحية جنوبًا من مصر إلى إريتريا وإثيوبيا؛ وربما سافر يومًا ما إلى الشمال أيضًا. وعندما كرس الزعيم القبطي (الذي يُطلَق عليه هو الآخَر لقَب «البابا») شنودة الثالث، بطريرك الإسكندرية رقم ۱۱٧، كنيسة القديس مرقس في عام ۱۹٧۹، كانت حينئذٍ الكنيسةَ القبطية الوحيدة في أوروبا. لكن هذا لم يكن أمرًا جديدًا بقدرِ ما كان عودةً إلى أمرٍ قديم. إذ يُشير كتابٌ أيرلندي من القرن الثامن عن الشهداء إلى «الرهبان المصريين السبعة المقدَّسين الذين يرقدون في صحراء أولاه». وربما كان للرهبان الأقباط، مثلِ أولئك الذين استقروا في أيرلندا، دورٌ ما في تشكيل الكنيسة الأيرلندية الأولى؛ التي شاركَت الأقباطَ تركيزهم على الرهبنة، وتقشُّفهم.
ويوجد فرقٌ آخرُ بين المسيحيِّين المصريين والأوروبيِّين وهو أن الأقباط احتفَظوا بالعديد من القواعد التي خفَّفها المسيحيُّون الأوروبيون، أو حتى شدَّدوها. فقد تحمَّلَت أبرشيةُ كنيسة القديس مرقس أكثرَ من خمسين يومًا من الصوم القِبطي الكبير القاسي، يمتنعون خلالها تمامًا عن جميع أنواع الأسماك، واللحوم، والمنتَجات الحيوانية مثل الحليب والجُبن. وفي يوم الجمعة العظيمة (التي تُسمى «جود فرايداي» (أي الجمعة الطيبة) في بريطانيا وأمريكا) لا يأكلون شيئًا حتى غروبِ الشمس، ويُصلون طوال اليوم: حيث كانت الصلاةُ في كنيسة القديس مرقس قد بدأت عند الفجر، عندما وُضِع صليبٌ في ممرِّ الكنيسة وزُيِّن بالشموع والورود. اشتملَت إحدى الصلوات على أربَعِمائة إيماءةِ تبجيل (ومع أن التبجيل، عند البعض، كان يعني مجردَ انحناءةٍ للرأس، نزل رجلٌ على الأرض ليسجد). ومع أنهم كانوا يعيشون على بُعد آلاف الأميال من وطنهم، فإن حماسَ الأقباط لإيمانهم لم يضعف.
يرجع تاريخُ الكثير من الأشياء التي استطعتُ رؤيتها أمامي — كان ستارٌ مليء بالتفاصيل يفصل المذبحَ عن المصلين، وأيقونات للقديس مرقس ومريم العذراء — إلى القرون الأولى بعد الميلاد، عندما حلَّت المسيحيةُ محلَّ تعدُّد الآلهة في مصر القديمة. لكن في الكتب الموضوعة لإفادة الآخرين في الممرات بوصفها كتبًا إرشادية للصلاة، رأيتُ أن الكنيسة لم تستخدم التقويمَ الغربي ولا الإسلامي الموجود أحيانًا في العالم العربي. وبدلًا من ذلك، استخدَمَت التقويم الذي عرَفه الفراعنة، حيث تُسمَّى الشهور برمودة وكِيَهْك («الشهر الذي تتجمَّع فيه الأرواح») وتوت (الذي سُمي تيمنًا بالإله تحوت الذي يُرسم عادةً برأسِ قرد بابون). وفيما يخصُّ ذلك، كان تأريخُ العام على أساس عصر الشهداء الذي يبدأ في العام الغربي ۲۸٤. كان هذا عندما ذبَح الإمبراطور دقلديانوس المسيحيِّين؛ وهو اضطهادٌ لا يزال يتذكَّره الأقباط.
إن أسلوب الترانيم في كنيسة القديس مرقس في ذلك اليوم كان يمكن أن يكون مألوفًا لسياسيٍّ وعالم يوناني يُدعى ديميتريوس الفالرومي، الذي عاش في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد. فقد كتَب: «في مصر، عندما يُغنِّي الكهنة ترانيمَ لمدح الآلهة، يستخدمون الحروف المتحركةَ السبعة التي يُنشدونها بترتيبٍ معيَّن؛ والموسيقى الصادرة عن هذه الحروف تبدو جيدة جدًّا لدرجة أن الرجال يُفضلونها على الناي والقيثارة.» وهكذا يفعلون الآن. فقد غنى الكاهن والشماسون «أوه-أوه-أوه»، وهم يتنقلون بين مجموعةٍ من النغمات، ثم «إيه» و«آه»، وبصعوبة شديدة كان يمكن سماعُ الحروف الساكنة للكلمات. كانت هذه ترنيمةَ «بيك اثرونوس» [أي «عرشك يا الله»]. فهي تتحول من الحزن إلى الفرح بفكرة القيامة، مثلما فعلَت الأغنية القديمة التي استَندَت إليها حيث نَعَتِ الفرعون الذي مات واحتفلَت بتولِّي خليفته. كنت أسمع موسيقى الفراعنة الجنائزيةَ في أكثرِ شوارع لندن اخضرارًا. ويدور هذا الفصلُ حول كيفية وصولها إلى هناك، وما يعنيه ذلك للمسيحية في مصر.
•••
كان أول تعيين لي خارج البلاد بالقاهرة في عام ۱۹۹٧. كنتُ حينها دبلوماسيًّا مبتدئًا قادمًا مباشرةً من لندن لدراسة اللغة العربية. قال السفير: «مرحبًا بك في السفارة، وآمُل ألا تُسيء فهمي إذا قلتُ لك إننا لا نريد رؤيتك هنا مرةً أخرى. اخرُج واقضِ وقتك مع المصريين.» لم تكن مجموعتُنا الصغيرة من الطلاب بحاجةٍ إلى المزيد من النصائح. فقد كانت المدينة مصدرًا للإلهام. لقد كانت تجمعًا كبيرًا للبشرية، ربما ثمانية عشر مليون شخص، مع وصول المزيد كلَّ يوم؛ تاركين وراءهم الحياةَ في القُرى الواقعةِ على امتداد نهر النيل ويتدفَّقون إلى العاصمة بالقطار، أو بالحافلة، أو سيرًا على الأقدام، أو في عربات، ليستقرُّوا في أحياءٍ فقيرة عشوائية، على حافَة المدينة القائمة، حيث الفقرُ والغنى جنبًا إلى جنب. اعتدتُ أن أسيرَ من الشارع الذي تصطفُّ على جانبَيه الأشجار إلى الأحياء الفقيرة وأشاهد المتلاعبين بالسكاكين وتجَّار الشوارع يقفون وسطَ مياه الصرف الصحي التي كانت تتدفَّق عبر الأزقَّة الترابية.
كانت المدينة أيضًا مهرجانَ ضوضاءٍ بهيجًا، فوضويًّا، مربكًا، وغامرًا. عشتُ في المهندسين، وهي ضاحيةٌ عصرية مليئة بالأشجار. ولكن حتى هناك كنت أسمع بائعَ النَّعناع يُنادي خارج نافذتي بحِصانه وعربته في الساعة الخامسة صباحًا، ومكبرات الصوت في المسجد وقتَ الظهيرة، ثم دويَّ أبواق السيارات في وقتٍ متأخر من الليل. كنتُ أدرس في المجلس الثقافي البريطاني على ضِفاف النيل، التي أصبحَت أقلَّ رومانسية بسبب أبخِرةِ مَحرقة جُثث كانت تنفثُ الرماد عبر الشُّرفة التي كنتُ أجلس عليها لتناول الغداء. لكن كان بإمكاني تحمُّلُ ذلك، وكل المضايقات الأخرى لتلك المدينة الملوثة والمزدحمة؛ لأنني كنتُ مُغرَمًا. ليس بشخص، ليس في ذلك الحين. لكنني كنت مغرمًا باللغة العربية. كانت مِفتاحي لعالمٍ خفيٍّ لكنه على مرأًى من الجميع. فقد أتاحت لي دخولَ أماكن لم يكن بمقدوري دخولُها لولاها، وجعلتني أقرأُ كتبًا وشعرًا يعود تاريخُه إلى أكثرَ من ألف عام؛ لأنها لم تكن قد تغيرَت كثيرًا خلال ذلك الوقت، لكونها لغةَ القرآن المقدَّسة؛ وفتحَت لي المجالَ لإجراء محادثات كان من المستحيل أن أُجرِيَها من دونها. وكان للُّغة أيضًا نظامٌ استثنائي في تصميمِه. فيُمكنك تكوينُ جَذْرٍ من ثلاثةِ أحرف. مثل الموتيفة الموسيقية، يمكن التعاملُ مع ذلك الجذر باثنتَي عشْرة طريقةً مختلفة، كلُّ واحدة تُغير معناه تغييرًا دقيقًا. وكانت النتيجةُ لغةً دقيقة بعُذوبة مثل واحدةٍ من مقطوعات باخ.
عند معظم الغربيِّين، تُعتبَر اللغة العربية هي لغةَ الإسلام. لكنني وجدتُ أن عدد المسيحيين في كنائسِ مصر الناطقةِ بالعربية في أيام الأحد يفوق عددَ المسيحيين في كنائس إنجلترا. وقد انضممتُ إليهم؛ فكل أسبوع كنتُ أستقلُّ سيارة أجرة أو المترو، الذي بناه اليابانيون ويتحرك بسلاسةٍ ويتمتع بنظافةٍ كبيرة، وصولًا إلى ضاحية شَبْرا غيرِ المميزة، والمتهالكة إلى حدٍّ ما. لذا لم يكن يوجد مكانٌ أفضل منها للهروب من حياة المغتربين. كانت تقريبًا مركزَ ثِقَلِ مصر، بتعريفها للطبقة الوسطى بمتاجرها الصغيرة، ومطعمها الوحيد المشهور، وشوارعها المرصوفة. كانت الأرضُ مغطَّاةً بالحصى، والضوضاء تنبعث من كل مكان، وكانت لا تزال توجد الرائحةُ النفَّاذة الكريهة للهواء الملوَّث؛ لكن لم يبدُ أن هذه الأشياء كانت تُزعج أصدقائي المصريِّين بقدرِ ما كانت تُزعجني. لا توجد في قُرى مصر أماكنُ يختار الأثرياءُ العيشَ فيها، وكانت الشقق الأفضل (كما أخبرني أصدقائي) هي التي تُطلُّ على الشارع الرئيسي الصاخب، وليس على الطرق الترابية الخلفية الهادئة. عندما زارتني إحدى صديقاتي في لندن، اشتكَت من الهدوء الذي منَعَها من النوم.
وحتى يومِنا هذا، لم تكن شبرا مقصدًا للسيَّاح. ومع ذلك فهم مُخطئون إن كانوا يظنون أنها لا تتمتعُ بأي مميزات. فلديها شيءٌ واحد على الأقل لن يجدوه في أيِّ مكان آخر في الشرق الأوسط: محطة سُمِّيت تيمنًا باسم قدِّيسة أوروبية. عندما ركبتُ المترو في وسط القاهرة، مررتُ بمحطاتٍ سُمِّيت على أسماء رؤساءَ مصريين، ناصر، السادات، مبارك؛ ومررتُ بمحطةٍ اسمها على اسم الفرعون رمسيس؛ ثم وصلتُ إلى محطة تُسمى سانت تريزا.
كيف أصبحَت القديسة تيريز دو ليزيو، وردةُ المسيح الصغيرة، على خريطة القاهرة؟ يُمكن العثورُ على الجواب قبالةَ شارع شبرا الرئيسي في كنيسةٍ في غاية الروعة. تحمل الكنيسةُ اسم القديسة تريزا لأنها تأسسَت على يد الكرمليين الفرنسيِّين، ومن أسباب روعتِها رِواقُ الكنيسة المغطَّى من أعلى إلى أسفلَ بلوحاتٍ جِدارية نذرية باللغات الإنجليزية والفرنسية، والعبرية والعربية، تركها يهودٌ، ومسلمون، ومسيحيون لتكون شاهدةً على معجزات القديسة. لا تزال الكنيسة تجتذب بعضَ الزوار المسلمين الذين يأتون لإشعال الشموع في الخلف، وحتى عندما جاء إسلاميٌّ مسلَّح لتخريب الكنيسة منذ عدة سنوات، هاجم الصليبَ لكنه ترك صورَ القديسة وشأنَها.
وفي يومٍ دخلتُ إلى ساحة الكنيسة الصغيرة المرصوفة بالأسفلت والتقيتُ بما كان سيُصبح مجتمعي في مصر مدةَ عام. كان يوجد رجلٌ ضخم يُدعى عاطف، كان يبدو مثل حارسِ ملهًى ليلي لكنه أراد أن يُصبح راهبًا؛ وماجي، التي كانت تتدرَّب بجِد لتُصبح مهندسة معمارية؛ وسميح، المهندس الواثق من نفسه. لاحظتُ بين رعية الكنيسة علاماتٍ تدل على ماضيها الفرعوني، فقد كانت توجد أسماءٌ مثل رمسيس ونفرتيتي. وزعَم رجل يُدعى وائل، الذي كان يطمح إلى أن يُصبح عارضَ أزياء، أن ملامحه كانت تُشبه بالضبط ملامحَ الفراعنة. وكان يترأَّس الجميعَ بشكلٍ ملَكيٍّ الأبُ بولس، وهو كاهنٌ من عائلةٍ قبطية كاثوليكية. (في القرن التاسع عشر، أنشأت الكنيسةُ الكاثوليكية كنيسةً بابَوية في مصر، يمكن لأعضائها الأقباط الحفاظُ على تقاليدهم الخاصة مع قَبول سلطة أسقفِّ روما. تضمُّ هذه الكنيسة البابوية اليوم أكثرَ من ۱٦۰ ألفَ عضو.) كان يُمثل لي نموذجًا يستحق الدراسة في الكياسة المصرية. وهي بقدرٍ كبير على طرَف نقيض من كياسة الإنجليز الباردة التي لا تُصرح بالكثير؛ لذا وجدتُ نفسي أتنقَّل بين المجاملات المبالَغ فيها، والدعوات غير المقصودة، وكرم الضيافة الهائل. لخَّصَت لي كلَّ ذلك مناقشةٌ بين الكاهن وبائعِ ورد. وبعد مفاوضات مطوَّلة حول السعر، أكَّد بائعُ الورد: «بالطبع، أودُّك أن تحصل عليها مجَّانًا.» وردًّا على ذلك بفِطنة تفوق ما يمكن أن أتمتَّع به يومًا ما، أجاب الكاهنُ بمجاملةٍ جاهزة بالقَدْر نفسِه من عدم الصدق: «كما تعلم، لم آتِ إلى هنا إلا لأُمتِّع نظري برؤيتك.»
كان الكاهن بالِغَ الكرم في مُساعدتي لمعرفة أهم الخصائص المميزة للقاهرة، وكان مُراوغًا بلا هوادة عندما حاولتُ ردَّ كرَمِ ضيافته. في المرة الوحيدة التي جاء فيها إلى شقتي، شرب كوبًا واحدًا من الماء، وعندما حاولت إقناعه بالبقاء مدةً أطول، قال: «لا: لقد شرَّفتُك بما فيه الكفاية.» ومع ذلك، فإنَّ لطف أصدقائي الأقباط معي لم ينضب أبدًا. فقد كانت الكنيسة أكثرَ من مجرد كنيسة. وكان رعية الأبرَشية يأخذون إجازاتهم معًا، ويتحدَّث بعضهم مع بعض ساعاتٍ في الساحة، ويجتمعون بشكلٍ متكرر خلال الأسبوع. وعلَّموني الرقص المصري ودعَوني مرةً للانضمام إليهم في الزيارات الخيرية لفقراء القاهرة، وهُم أناسٌ يعيشون في أكواخ مؤقَّتة على أسطُح المباني السكَنية العالية. كما كان أصدقائي الجدد يوبِّخونني بانتظام على تراخي المسيحية البريطانية. ولا عجَب في ذلك. فالقبطي المتدين ينبغي أن يُصليَ سبع مرات في اليوم، ويتجنَّب شرب الكحوليات، ولا يدخن السجائر أبدًا. ويصوم الأقباط ليس فقط أثناء الصوم الكبير ولكن أيضًا في صوم الميلاد وفي أوقاتٍ أخرى من العام؛ ۲۱۰ يومًا في السنة إجمالًا. ومع أنهم مُلزمون بالتخلِّي عن اللحوم ومنتجات الألبان خلال هذه الأوقات (والأسماك أثناء الصوم الكبير)، فإن البعض يذهب إلى أبعدَ من ذلك بتناوُل الفاكهة فقط، أو الفول المطهي. والبعض لا يأكل أيَّ شيء على الإطلاق من منتصف ليل وغروب شمس كلِّ يوم من أيام الصوم الكبير. وهذا أكثرُ صعوبةً من صيام المسلمين في رمضان. اعترَتْني رغبةٌ في تكرار الحكم الذي أصدرَه هيرودوت، الذي ذُهل قبل خمسةٍ وعشرين قرنًا عند زيارته لأحد المعابد المصرية العظيمة، الذي زادت ثرواتُه في وقتٍ ما بسبب التبرعات، لدرجة أنه امتلك ثلثَ أراضي البلاد الخِصبة: «المصريون متديِّنون بإفراطٍ أكثرَ من أي دولة أخرى في العالم.» (في استطلاعات الرأي الأخيرة، اتفق المصريون مع هيرودوت؛ فهم يعتقدون أنهم أكثرُ الشعوب تدينًا في العالم.)
لم يكن هذا هو تصوُّري بشأن الأقباط فقط، ولكن أيضًا عندما سمعتُ خُطَبَ يوم الجمعة في المساجد المحلية المزوَّدة بمكبِّرات الصوت. وبدا أن كلَّ سائق تاكسي يُشغل القرآن على مشغل الكاسيت الخاص به، وأحيانًا يُعلق، وكأنه خبير، على جودة صوتِ القارئ. في حفلٍ موسيقي صوفي، أثار المغنِّي الرئيسي، الذي تختفي عيناه خلف نظاراتٍ داكنة، تصفيقًا حارًّا، ودخل بعضُ مستمعيه في حالةِ نشوة. كان هذا التغلغلُ للدين يعني أن الاختلافاتِ الدينيةَ كانت، أيضًا، واضحة. وفي مراتٍ عديدة عندما كنتُ أسير في شوارع القاهرة، كان الناس يأتون إليَّ ويسألونني عن فريق كرة القدم الذي أشجِّعه. وفي بِضع مرات كانوا بدلًا من ذلك يسألون — بالقَدْر نفسِه من الحماس على ما يبدو — إن كنتُ مسلمًا أو مسيحيًّا. أخبرتني مُعلمتي للُّغة العربية أن الناس كانوا يسألونها السؤالَ نفسَه، ولكن بطريقةٍ غير مباشرة. كانوا يسألونها عن اسمها، ثم اسم والدها. (وبوصفها مسلمةً ليبرالية، كانت تمشِّيًا مع مَبادئها الشخصية تتهرَّب من أسئلتهم؛ إذ كانت تشعر بأنه ينبغي أن يكون للناس الحقُّ في الحفاظ على خصوصية دينهم.) وكان للأقباط طريقتُهم الخاصة في طرح السؤال ذاتِه. ففي مرةٍ في متجر محلِّي كبير، كشف الصرَّاف عن مِعصمه خِلسةً لي، وأظهر وشمًا على شكل صليب.
كانت تلك الاختلافاتُ تُعبر عن نفسها بعنفٍ من وقتٍ لآخر أثناء إقامتي في مصر. منعَتني السفارةُ من زيارة أجزاء من جنوب مصر، وخاصة مدينة المنيا، بسبب الجماعات الإرهابية الإسلامية التي كانت تُهاجم قوات الأمن والمسيحيين المحليِّين هناك. في سبتمبر من سنة ۱۹۹٧، عندما كنتُ في الإسكندرية مع أصدقاء من كنيسة سانت تريزا، رأيتُ على شاشة التلفزيون مقتلَ سائحَين ألمانيَّين رميًا بالرَّصاص في ميدان التحرير. كانت أول مواجهةٍ لي مع الإرهاب. قال سميح: «لا تخَف يا جيرارد. إنه القدَر. لا بد أن نموت جميعًا في يومنا الموعود.» لكنني لم أشعر بالارتياح. وبعد شهرين قُتِلَ اثنان وستون شخصًا في مذبحةٍ في الأقصر نفَّذَها إرهابيون مسلَّحون بالبنادق والسكاكين. وكان من بين الضحايا طفلٌ عمره خمس سنوات. وعُثر لاحقًا على ملاحظةٍ تمدح الإسلام في جسدٍ منزوعِ الأحشاء لأحد الضحايا.
ومع ذلك، تخلَّلَت هذه الأحداثَ الرهيبةَ رسائلُ تذكيرٍ عرَضيةٌ عن نهجٍ من التعايش يتميز بمزيدٍ من الإنسانية. منها، على سبيل المثال، الهجوم الذي حدَث في ميدان التحرير، والذي جعلَني أشعر بخوف شديد عندما رأيته في الأخبار في الإسكندرية. فقد هرب الرجال الذين نفَّذوه بعد ذلك، أو هكذا قرأت، إلى منطقةٍ مجاورة تُسمى بولاق أبو العلا. ووفَّر أهالي المنطقة الحمايةَ للقتَلة. وتصادف أنني كنتُ أعرف هذا المكان. كان من المناطق المفضلة لديَّ للسير فيها، حيث تُضيء مشاعلُ الماغنيسيوم التي يستخدمها اللحَّامون المبانيَ ذاتَ الطراز الاستعماري التي كانت فخمةً يومًا ما، وغبارُ وأوساخُ الطرق المهمَلة فيما بينها. لكن كاهن هذه المنطقة، وهو رجلٌ ضخم في كنيسةٍ إيطالية ضخمة، أخبرني أن المسلمين هناك كانوا إخوته، وقال إنه لم يكن لديه أيُّ مشكلة معهم. وكان الأقباط يتردَّدون على الكنيسة دون أن يتعرَّضوا لأي مضايقات على الإطلاق. وأثناء خروجي من الحي، مررتُ بسوقٍ شعبي لبيع الملابس. هنا كان يوجد أناسٌ من كل الأنواع: رجال يعتمِرون العمائم، ورجالٌ يرتدون سترات، وجينز، وأرديةَ عملٍ سابغة؛ نساء محجَّبات، ونساء غير محجبات، وامرأةٌ فقيرة للغاية حتى إنها لم تكن تستطيع تحمُّل ثمن الحجاب، وضعَت صُندوقًا من الكرتون حول رأسها ليقيَها من الشمس، وفتاةٌ ذات شعر طويل مضفَّر تُعَلِّم أخاها الصغير كيفية رشم الصليب.
غادرتُ مصر عام ۱۹۹۸ ولم أعد إلا نادرًا ولأوقاتٍ وجيزة. ثم في عام ۲۰۱۱ رأيتُ ميدان التحرير في الأخبار مرةً أخرى. كان الشعب المصري قد احتشَد هناك لإسقاط الرئيس. ووقف المسيحيُّون والأصوليون الإسلاميون متكاتفين. واعتدَت على المتظاهرين عصاباتٌ مأجورة. وتنحى الرئيس حسني مبارك. وتولى المجلسُ العسكري الحكم. واندلعَت مواجهات بين مسيحيِّين ومسلمين. وتعرَّضَت بعضُ الكنائس للهجوم. وقُتِل عديدٌ من المسيحيين. كنت قد خطَّطت للذَّهاب إلى مصر على أي حال، من أجل هذا الكتاب، وبدا أن القيام بالرحلة في ذلك الوقت أنسبُ من أي وقت آخر.
•••
عندما هبطَت الطائرة في القاهرة في مارس ۲۰۱۱، تطلعتُ إلى مدينة أتذكرها جيدًا. كان بإمكاني رؤيةُ قصور الأغنياء في ضاحية مصر الجديدة الشمالية الهادئة، واستطعتُ أن أرى أفقرَ فقراء القاهرة، سكان نهر النيل الذين لا يملكون بيوتًا إلا زوارقَهم الصغيرة المكشوفة، وهم يتأرجحون فيها كلَّ مساء بسبب ارتداد الماء عن القوارب السياحية الفاخرة. مررتُ في الطريق من المطار بثكنات عسكرية ضخمة عليها جدارياتٌ تُظهِر انتصاراتِ الجيوش الفرعونية المصرية؛ ثم تحول الطريقُ إلى جسر عملاق، ومررتُ بسرعة فوق الصروح القاتمة للدولة، ووزاراتها، ومحطة القطار الرئيسية. ثم مررتُ بقِبابِ الكاتدرائية القبطية وبجانبها مسجد، وتساءلت: هل كان هذا تضامنًا، أم تنافسًا؟
كان فندقي، الواقعُ على جزيرةٍ في النيل تُسمى الزمالك، أثرًا مهترئًا من ماضي القاهرة البهيِّ ولكنه كان مريحًا. وكان مهندسٌ مِعماري متقاعد يجلس بطريقةٍ غريبة على كرسيٍّ باهت في الردهة وبدا أنه يُملي رسائلَ مختلفة، عادةً رسائل شكوى، على موظفٍ خَدوم. خارج الفندق، كان مجموعةٌ من الشابات المحجبات يرسمن على الجدران لوحةً تُمثل سلطة الشعب. وبينما كنتُ أسير في الشارع لاحظتُ اللافتات على المحلات والجدران. أعلنَت إحداها باللغة الإنجليزية عن العُملة الليبية بسعرها المنخفض الجديد بينما كان الحلفاء الغربيون والعرب يُهددون بشنِّ حرب: «الدينار الليبي سعر البيع ۲، سعر الشراء ٣,٦٥.» وعلى لافتةٍ أخرى كان مكتوبًا باللغة العربية: «بسم الله: يوجد الكثيرُ من رجال الشرطة الشرفاء. دعونا نَحْتَفِ بشُرطتنا.» وكانت لافتة ثالثة، على بابِ متجر، أكثرَ وضوحًا، وتحتوي على كلمة واحدة فقط بأحرفٍ لامعة: «فياجرا».
ظهرَت جزيرةُ الزمالك على نهر النيل منذ ما يزيد قليلًا عن قرنٍ من الزمان، وقد تكوَّنَت من الطَّمْي الذي كان يجرفُه ماءُ النهر عامًا بعد عام، والذي كان سببًا في خُصوبة وادي النيل. (بعد بناء السد على النيل عام ۱۹٧۰، توقف الطميُ عن التدفق. وكذلك انتهى «ارتفاع منسوب المياه» — أي الانحسار والفيضان السنويُّ للنهر.) استقطبَت الزمالكُ الطبقاتِ العُليا التي بنَت عليها القصورَ والحدائق التي أصبحت الآن هشَّةً وباهتة. ركبتُ سيارة أجرة لعبور الكوبري متجهًا إلى المناطقِ الأقدم في القاهرة، التي تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل. أثناء عبورنا النيل، أشار السائقُ بفخرٍ إلى الهيكل المحترق لمقرِّ الحزب الحاكم السابق، القابع على حافة النهر. وصرَّح مقدمُ برامِجَ في الإذاعة: «يمكننا الآن التحدثُ عن الفساد في المجتمع بحرِّية!»
كنتُ متوجهًا إلى المتحف المصري، وهو مبنًى مُتواضع مغطًّى بِجصٍّ وردي وعالقٌ بين جسرٍ خَرساني متعدد الأدوار وميدان التحرير الفسيح. يزور هذا المتحفَ كلَّ يوم الآلافُ من الناس لمشاهدة ۱٦٥ ألف قطعة أثرية ما بين تماثيل كبيرة وصغيرة، وتوابيت، ومومياوات. وفَّرَت السياحة في عام ۲۰۰۹ فرصَ عمل لما يصل إلى اثني عشر بالمائة من القوة العاملة المصرية، لكن المتحفَ المصري كان دائمًا أكثرَ من مجردِ مصدرٍ للمال. إنه نصبٌ تذكاري للهُوية المصرية. ويوجد على جداره الأمامي رمزٌ آخر؛ قائمة طويلة من الأسرات التي حكمَت مصر، وكأنها تقول للمصريين: «كان يحكمكم الملوكُ دائمًا.» وفي مصر الثورية عام ۲۰۱۱، كان المتحف هو المكانَ الوحيد الذي ما زال يحظى فيه الحكامُ المستبدون بشعبيةٍ كبيرة، على الرغم من أنهم موتى ومحنَّطون.
وبدلًا من اللعَنات والفخاخ المعقَّدة لدرء المتسلِّلين، كان طارق العوضي، مدير المتحف، وصيًّا على المومياوات. وجدتُه في مكتبه في قبوِ المتحف. كان مكتبه مُحاطًا بمجموعةٍ من الساعات المذْهَبة المزخرَفة، وكلٌّ منها يُظهِر وقتًا مختلفًا. كنتُ قد جئتُ لأسأله عن التاريخ. قال العوضي: «المصريون منفصلون عن ماضيهم. ويشعرون أنه ليس لديهم أيُّ شيء مشترك معه.» وأوضح أن المنهج الدراسيَّ قسَّم التاريخ إلى عصور: الفِرعوني، والقِبطي، والإسلامي. وقد حَظِيَ العصر الإسلامي بأكبرِ قدرٍ من الاهتمام. لكن العوضي كان يرى أن معرفة المزيد عن العصور السابقة يمكن أن يساعد في تعزيز وَحدة المصريين كشعب. وبوصفِه مسلمًا، شعَر أن الماضيَ القديم للبلاد كان تراثًا مشتركًا بين المسيحيِّين والمسلمين: «المجتمع في بلدنا متماسكٌ وإن كان فيه أكثرُ من دين، والعادات واللغة وحتى بعضُ التقاليد الدينية متماثلةٌ عند جميع المصريين، ومختلفة عنها عند العرب.» لكن لعقودٍ عديدة، قيل للمصريِّين إنهم عرب. ولذلك، على حد قول العوضي: «يتساءل المصريون: مَن نحن؟ هل نحن عربٌ أم مِصريون؟»
بعد مقابلتي مع العوضي، تجوَّلت في قاعات المتحف، وألقيتُ نظرةً على دُمًى ونماذجَ لسُفنِ وتماثيلِ الأوشابتي (الجنائزية) الصغيرة التي بدَت كأنها قد صُنِعَت أمسِ، حيث كانت محفوظةً بشكلٍ مثالي. ومنَحَني هذا شعورًا غريبًا؛ كما لو أن ستار الزمن قد صار رقيقًا بطريقةٍ ما، وقد يخطو الفراعنةُ المحنَّطون من خلاله ويعودون للحياة في العصر الحديث. من المؤكَّد أن المِصريين كانوا يتوقَّعون أن تعود أجسادُهم إلى الحياة مرةً أخرى، وهو أمر لم يتنبَّأ بحدوثه معظمُ الشعوب القديمة الأخرى. على سبيل المثال، عندما ينزل جلجامش الملكُ في الملحَمة العِراقية تحت الأرض للبحث عن صديقه الميت إنكيدو، يلتقي ظِلالًا، لا أشخاصًا من لحم ودم. أو كما يقول: «تحول إنكيدو إلى صلصال!»
لكن سكَّان وادي النيل كانوا مُحاطين برِمال أكثرَ جفافًا بمائة مرة من الصحراء العراقية؛ صحراء جافة جدًّا لدرجة أنه اكتُشِفَت قِطَع من الورق مدفونةٌ فيها منذ ألفَيْ عام ولا تزال الكتابة عليها واضحة. دَفَن قدماء المصريين موتاهم في هذه الرمال، وحتى من دون العملية التي ابتُكِرَت لاحقًا المتمثِّلة في إزالة أعضاء الجسم وحشوِ الجثة بملح النطرون للحفاظ عليها، غالبًا ما كانت الجثث تُحنَّط بشكل طبيعي بسبب جفاف الرمال والحرارة. وعند اكتشافها بعد سنواتٍ عديدة، كان لا يزال من الممكن التعرفُ عليها. ومن الممكن تخيلُ الروح (كا) وهي تدخل فيها مرةً أخرى وتُعيدها إلى الحياة. يقول نقشٌ مِصري من القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد: «لينهض الذين في قبورهم؛ فليفكُّوا أربطتَهم. انفُضوا الرمال من على وجوهكم» (وهنا يبدو أنه يُخاطب الموتى أنفُسَهم)، «اتَّكئوا على جانبكم الأيمن، وانهضوا بجانبكم الأيسر.»
لو عاد الفراعنة بالفعل إلى الحياة اليوم، ونهضوا من توابيتهم المذْهَبة، فسيجدون أن بلادهم قد تغيرَت تغيرًا يستحيل معه التعرفُ عليها. فقط في الريف يمكنهم رؤيةُ مشاهدَ مألوفة؛ حيث تغتسل العائلاتُ في نهر النيل وتغسل أوانيَها، وتوجد أشجار النخيل الخضراء وأكوامُ القمح المدروس التي تتخلَّل الحقول، ويتجوَّل الجاموس بجانب الجداول. وبخلاف ذلك سيندهشون من الأدخِنة الخانقة والمباني السكَنية المكتظَّة بالقاهرة، التي تُعد الآن إحدى أكبرِ مدن العالم، ومن زيادة عدد السكان في مصر الآن، أكثرَ عشرين مرةً مما كانوا عليه في العصور القديمة، ومن حقيقة أن الأمة، التي كانت يومًا ما سلةَ غِلال الإمبراطورية الرومانية، تستورد الآن أربعين بالمائة من طعامها. وسيكتشفون أن ديانتهم المتمثلة في آلهة برءوسِ حيوانات، التي كانت يومًا ما تُسيطر بقوةٍ على المجتمع المصري، قد اختفت.
أو ربما لم تختفِ تمامًا، كما اتَّضح بعد ذلك. كان لديَّ موعدٌ في فندق بالقرب من ميدان التحرير مع زوجَين أطلقا على نفسيهما اسم أوزوريتس؛ وهما مِصريان مُعاصران يعبدان الإلهَ المصري القديم أوزوريس. بدا الزوج، حمدي (اسم مستعار)، مِثل تمثال الكاتب المصريِّ القديم، سَمين ومرح. قُدِّمَت على مائدتنا زجاجاتُ بيرة سقارة، التي سُمِّيت على اسم أقدمِ أهرامات. وراء الأرائك ذاتِ القماش القُطني المنقوش والنوافذ الزجاجية، كان نهر النيل يتدفَّق، خالدًا بلونه البُني. وَفقًا للأسطورة المصرية، فقد طاف أوزوريس، إلهُ العالم السُّفلي، مع مجرى النهر في نعشٍ بعدما خدَعه أخوه الشرير ست. وأنقذَته أختُه إيزيس، لكن ست وجده مرةً أخرى وقطعه إلى أشلاء. عثرَت إيزيس على كل القطع باستثناء قضيبِ أخيها الذي أعادت بِناءه له من الذهب. ثم أحيَتْه بطريقةٍ سحرية. وأصبح إلهَ البعث، وكان يُعتقَد أنه يتحكَّم في انحسارِ وفيضان النيل، وهما رمزان للموت والبعث.
أخبرني الزوجان أن أوزوريس، وإيزيس، وست — وآلهةً مصرية أخرى مثل آمون — كانوا مجردَ إلهٍ واحد. وأضافا أنه كان من الخطأ الحديث عن قدماء المصريِّين بوصفهم مُشرِكين أو «كفارًا»، كما فعل بعضُ المسلمين. فقد قدَّموا للعالم معظم أفكاره الدينية المعاصرة، بما في ذلك كلمة «آمين».
أوضح حمدي: «عندما يقول الآخَرون: «آمين»، أقول: «آمون»!»
وأضافت زوجتُه: «نحن مَن اخترعنا يوم الراحة المقدَّس. وكتب الفرعونُ أخناتون مزاميرَ داود. انظر إلى الترانيم التي كتبَها لآتون، وسترى أنها هي نفسُها المزامير.»
وأخبرَتني عن عيدٍ مِصري حديث يمكن أن يعود مصدره إلى عيد قديم. فقبل ألفَي عام كان يُشار إليه باسم «قدوم أوزوريس إلى القمر»؛ ويُسمى الآن شمَّ النَّسيم، لكنهم ما زالوا يحتفلون به في الاعتدال الربيعي. «يتمتَّع هذا اليوم بقداسةٍ خاصة. إنه اليوم الوحيد الذي يتوقف فيه كلُّ شيء.» لا يوجد أيُّ عيد آخر في مصر الحديثة يحتفل به المسيحيون والمسلمون. «يأكل الناس الأشياءَ الخضراء، والأسماكَ والخسَّ، ويجلسون على العُشب، ويُلونون البيض الذي يأكلونه.» (يوجد طعام هو اختصاص مِصري يأكلونه في شم النسيم، وهو الفَسيخ، وهو نوعٌ من الأسماك المحفوظة يقول الأكاديميون إن تاريخه يعود إلى آلافِ السنين. لقد تذوَّقتُه مرةً ووجدتُه لاذعًا بشكل صادم. لكن بعض المصريين يُحبونه.) وأصرَّت على أن هذا العيد المصري القديم كان أصلَ عيد الفِصح.
وبفخرٍ قومي عميق، سرَدَت العادات والأفكارَ الدينية العديدة والمنتشرة التي نشأتْ في مصر القديمة: عادات الحجِّ والصلاة، والصوم، ومفهوم المسيا، وأشجار عيد الميلاد، وتسمية عيد الميلاد، وإضاءة الشموع في الكنائس، والمزيد. قال حمدي: «إن العلَم المصري عمره أربعةَ عشَر ألف سنة. ودائمًا ما كانت تُمثل ألوانُه الأحمر، والأبيض، والأسود، الفخر الوطني. والنسر في وسطه هو رمزٌ لحورس.» استطعتُ أن أرى أن هذين الزوجين، أيضًا، كانا يبحثان عن هُويةٍ من شأنها أن تكون مِلكًا لجميع المصريين. ومع أنني وجدتُ صعوبةً في تخيُّل أنه سيكون هناك العديدُ من الأشخاص الذين سينضمُّون إليهما في عبادة أوزوريس، فقد صرَّحا بكل جُرأةٍ في نهاية حديثنا بأن: «الديانة المصرية ستعود!» بعد عام، عندما كان الإخوان المسلمون يحكمون مصر، قابلتُ هذين الزوجين مرة أخرى، لكنهما تحدثا بشكلٍ مختلف وأكثرَ حذرًا. وقالا إنهما كانا مهتمَّين بثقافة مصر القديمة، وليس بالدين.
ومع ذلك، كانا مُحقَّين في أن المصريين القدماء كان لهم تأثيرٌ على الأديان اللاحقة. ولم يقتصر الأمرُ على أن المصريين كانوا أولَ مَن آمن ببعث الجسد، ولكن الفرعون أخناتون، والد توت عنخ آمون، كان أولَ موحِّد معروف في التاريخ. وألغى جميعَ الآلهة باستثناءِ محبوبه آتون، إله الشمس، وبنى تماثيلَ مخنَّثة ترمز إلى اتحاد الذكَر والأنثى. وعُثِر على ترنيمةٍ لآتون، ربما كتبها الفرعون نفسُه: «تسطع الأرض عندما ترتفع في الأفق الشرقيِّ وتتألَّق في هيئة آتون في وقت النهار، يا لتنوُّع أعمالك! إنها محجوبةٌ عن أعين الناس، أيها الرب الواحد، لا يوجد لك مثيل!» يتشارك اليهودُ الذين عاشوا في مصر في بعض عاداتهم مع الفراعنة؛ فقد تجنب اليهود والمصريون أكل لحم الخنزير وسمك السلور، واشترَكا في ممارسة عادة خِتان الذكور. ومقارنةً بعدد التقاليد القديمة التي لاحظتُ بقاءها واستمرارها في العراق، لم يستمرَّ سوى القليلِ في مصر. فلم يكن في البلاد طوائفُ مثل المندائيين أو الزرادشتيِّين التي حافظَت على بقاء تقاليدِ ما قبل المسيحية إلى العصر الحديث. والعادات الشعبية في مصر، على الرغم من تعدُّدها وتنوعها، هي في الغالب من العصور الوسطى. ولم أعثر إلا على ثلاثِ عادات فقط تعود إلى العصور الفرعونية.
إحداها هي العادة التي يُميز بها المصريُّون الموت. ففي مقبرةٍ في القاهرة تعود إلى القرون الوسطى، تجمَّعَت مجموعةٌ من المساكن المصغَّرة في صفٍّ صامت على طول الطرق الترابية المستقيمة الفارغة بالقرب من الجامع الأزهر. وعلى الرغم من أن هذه المساكنَ يسكنها في الواقع في معظم أوقات العام واضِعو اليد، فإنها مبنية فوق القبور وموجودةٌ لممارسة عادة مصرية خاصة: فبعد أربعين يومًا من وفاة أحدِ الأقارب، وفي كل ذِكرى سنويةٍ للوفاة، يتجمع العديدُ من العائلات المصرية في هذه المساكن الصغيرة لتناول وجبة هناك. وقد جاء أسلافهم، بالطريقة ذاتِها، ليأكلوا بالقرب من قبور أحبَّائهم، ويُقدِّموا الطعام لأرواحهم. أخبرَني طبيبٌ قابلتُه كيف استمرَّت في جنوب مصر العادةُ القديمة المتمثلة في استئجار الندَّابات في الجنازات، وأنه لمدة أسبوع بعد الوفاة، تُئوي الأسرةُ الثَّكلى الزوارَ وتُطعِمهم. وقد صادف الطبيبُ نفسُه مرةً ندَّاباتٍ ارتجَلْن هتافات أثناء إجرائه عمليةً جراحية. ووقَفْن، يرتدين في الغالب زيَّ الحِداد الأسود، حول طاولة العمليات وارتجلنَ لحنًا حزينًا لهذه المناسبة؛ وذلك لأنهنَّ كن يرفضهن قَبول إمكانيةِ بقاء المريضة على قيد الحياة. «آه، أيتها المرأة المسكينة التي قُطع لحمُكِ وأنتِ ما زلتِ على قيد الحياة!»
وتوجد عادةٌ أخرى أقلُّ جاذبيةً تعود حتمًا إلى العصور الفرعونية. كتب هيرودوت أن المصريين «يُمارسون الختان بغرَض النظافة»، وتشير برديةٌ من القرن الثاني قبل الميلاد إلى أن هذه الممارسة كانت تُطبَّق على الفتيات والفِتيان على حدٍّ سواء. ولا تزال كذلك. فقد وجدتُ دراسة استقصائية مدعومةً من الأمم المتحدة في عام ۲۰۰۸ بشكل صادم أن أكثر من تسعين بالمائة من النساء المصريات اللائي شَمِلَهن الاستطلاع قد تعرَّضن لهذه الممارسة؛ مع أنها غيرُ شائعة بين المصريين الأفضل تعليمًا. وتُعرف أيضًا باسم تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، حيث تتضمَّن قطع البظر وأحيانًا الشفرَيْن أيضًا بسكِّين. حظَرَت حكومةُ مبارك هذه الممارسة في عام ۲۰۰٧ بعد وفاة فتاةٍ أثناء الجراحة. ومع أن أصلها ليس إسلاميًّا (حيث يُمارسها بعض المسيحيين وكذلك المسلمون)؛ فقد استمرَّت هذه العادة المصرية القديمة الأبشع على الإطلاق أكثرَ من أي عادة أخرى، وعلى عكس تلك العادات الأخرى، تجتذب دعمَ الإسلاميين الأصوليين وليس عَداءهم.
وتوجد علامةٌ أخرى من مصر القديمة تُحدق في وجوه معظم الزوار في وقتٍ أو آخر. وهي «يد فاطمة» ذات اللون الأزرق التي تتدلَّى من الكثير من مرايا السيارات في القاهرة، والتي يُعتقَد اليوم أنها تمنع العينَ الشريرة، والحسدَ الذي يجتذبه الناسُ من خلال حظِّهم الطيب. في العصور القديمة كانت «يد حورس»، التي غالبًا ما كانت تُصنَع من اللازَوَرْدِ الأزرق، تؤدِّي الغرض ذاتَه. وفي القرن التاسع عشر، بذل المصريون قُصارى جهدهم لتجنُّب العين الشريرة؛ حيث كانوا يُلبِسون الأولاد ملابسَ الفتيات، ويُلطخون وجوهَ الفتيات الجميلات لإخفاء حُسنِهن، ويُطلقون على أنفسهم أسماءً بغيضة مثل «العِفِش» أو «عصفورة» أو «الجحش».
تفهم قلةٌ قليلة من المصريين المغزى الحقيقيَّ لهذه العادات، مثلما يُفكر معظمُ الإنجليز في الإله تيو عندما يلمسون الخشَب من أجل الحظ. لكن السلطات الدينية المسيحية والإسلامية تريد من أتباعها التخلِّيَ عن هذه التقاليد. ويُدينها تيارُ الإسلام السلَفي بوجهٍ خاص. في عام ۲۰۱۲ دعا السياسيُّ الأصولي الإسلامي مرجان الجوهري إلى تدمير أبي الهول والأهرامات. وتُقاطع الجماعاتُ السلفية في مصر الاحتفالَ بشمِّ النسيم وطالبَت بإيقافه. ولا تزال كلمة «فرعون»، أيضًا، كلمةً بذيئة عند الإسلاميِّين. وعندما أراد الإخوان المسلمون في عام ۲۰۱۱ الترويجَ لدستورٍ جديد كان سيجري التصويتُ عليه بنعم أو لا، ابتكَروا شعار: «صوِّتْ بلا، ليحكم فرعونُ البلاد!»
•••
لقد ضَعُف الدين الأصليُّ لمصر بسبب قرونٍ من الحكم الأجنبي — من قِبَل الفُرس، والإغريق، والرومان — بدءًا من القرن الرابع قبل الميلاد. كليوباترا نفسُها كانت من أصلٍ إغريقي وفارسي، مع أن أسرتها حاولَت اتباعَ العادات المصرية (أحد هذه التقاليد التي لم تكن مقبولةً اجتماعيًّا كان زواجَ الفراعنة من أخَواتهم؛ فكليوباترا كانت تنحدرُ من عدة أجيال من زواج المَحارم). وصار المصريون الأصليون يحملون تسميةً خاصة؛ لتمييزهم عن المستوطنين الإغريق الذين امتلكوا معظم الأرض وتولَّوا أمورَ الإدارة. فأُطلِق عليهم اسم «إيجيبتيي»؛ الذي اشتُقَّ منه كُلٌّ من كلمة «إيجيبت» (مصر) و«كوبت» (قبطي). وبحلول القرن الثالث الميلادي، استطاع واعظٌ مسيحي أن يدَّعيَ أن الدين القديم كان يُهيمن عليه اليونانيون، وأن المسيحية هي دين الأقباط.
لم يُقتلَع الإغريقُ بالحكم الروماني، الذي دخل مصر بعد مصرع كليوباترا، لكنه أدَّى إلى إلغاء دور الفرعون؛ وهو ما أدَّى بدوره إلى تقويض المعابد، التي كانت تعتمد على الدعم الماليِّ من الفراعنة ولعبَت دورًا مهمًّا في الحفاظ على استمرارية الثقافة القديمة. في القرن الثاني الميلادي، نرى مثالًا على اضمحلالِ التقاليد في تقرير نقابة نحاتي الكتابة الهيروغليفية في مدينة أوكسيرينخوس؛ حيث بلغ عددُهم خمسةً فقط، كما ذكَرت النقابة، ولم يكن لديهم متدربون لمواصلة هذه المهنة.
بقيَت المعابد عدةَ قرون في ظل حكم الرومان، على الرغم من انخفاض قوَّتها. لكن في القرن الرابع، اعتنقَت الإمبراطورية الرومانية الديانةَ المسيحية وبذلَت جهودًا مُضنية لقمع الدين القديم. وبحماسٍ انضمَّ إليها العديدُ من المصريين، وهاجموا الفلاسفة الوثنيِّين وطمَسوا وجوهَ الآلهة على الجداريات في مَعابدهم حتى تُبطل قوتَهم السحرية. وفي الحدود الضيقة لوادي النيل في مصر، لا يوجد تسجيلٌ لبقاء أي مجتمع غيرِ مسيحي في زمن الفتح الإسلامي. وحتى اللغة المصرية القديمة غُمِرَت بكلمات جديدة أتت بها المسيحية؛ حيث حلَّت الكلمة اليونانية «سايكي»، أي: الروح، محلَّ كلمة «كا» الفرعونية.
وبقيَت بعضُ العادات، كما علمتُ في كنيسة القديس مرقس؛ لأنها اعتُبِرَت جديرةً بأن تنضم إلى الطقوس المسيحية الجديدة. وكان رجال الدين المسيحيُّون في مِصر في كثيرٍ من الحالات المسجَّلة إما كهنة معابد اعتنَقوا المسيحية أو أبناء كهنة معابد. لذا كانت ترنيمةٌ مثل «بيك إثرونوس»، التي سمعتُها في كنيسة القديس مرقس في كنسينجتون، مألوفةً جدًّا لهم. واحتاجت فقط إلى بعض التعديلات حتى تُصبح موجَّهةً إلى يسوع المسيح. وقد كانت الصنوجُ أيضًا مستخدَمةً في عبادة الآلهة القديمة. ولبعض الوقت، حظَرَت الكنيسة المسيحية استخدامَها، لكنها رضَخَت فيما بعد؛ ولا تزال تُستخدَم في الطقوس القبطية اليوم.
إن الإعجاب بالفراعنة ظاهرةٌ حديثة بين كلٍّ من الأقباط والمسلمين. ففي القرآن، يحتل الفرعونُ الذي اشتهر برفضِه السماحَ لموسى واليهودِ بمغادرة مصر موضعًا بارزًا. وقد وُصِف بأنه «من المفسدين»، إذ نصب نفسَه إلهًا، ومجَّد نفسَه، واحتقر الفقراء. ولذلك، على عكس «الصابئة» في حَرَّان، كان الفراعنةُ دائمًا يُعرَّفون بأنهم وثنيُّون وكان يُنظر إلى مواقعهم الدينية بعين الرِّيبة. ويُقال إن أحد الحكام المسلمين الأوائل أراد هدمَ الأهرامات. ووَفقًا لمؤرِّخ القرون الوسطى المقريزي، نجح صوفيٌّ من القرن الرابع عشر في تحطيم أنفِ أبي الهول، ويبدو أنه كان غاضبًا من حقيقةِ أن الفلاحين المحليِّين كانوا يُقدمون القرابينَ له بوصفه إلهًا (إشارة نادرة إلى احتمالية أن الآلهة القديمة كانت لا تزال تُعبد، سرًّا). ولم يكن الشخص العادي الذي يعيش في مصر يرى بالضرورة أن «المصرية» هُوية. وذكر ويليام براون، وهو زائرٌ بريطاني للقاهرة في القرن الثامنَ عشر، أن التجار المحليِّين كانوا يشيرون إلى أنفسهم ببساطةٍ على أنهم عرب. وأصبح في هذه المرحلة مصطلحُ «الأقباط»، الذي كان يُستخدَم في الأصل لوصف المصريين الأصليين، مستخدمًا لوصف المسيحيين فقط.
لكن خلال القرن التاسع عشر، بدأ هذا التوجُّه يتغيَّر. وكان الحافزُ وراء ذلك سلسلةً من الاكتشافات، التي جرَت في البداية على يدِ علماء آثار غربيِّين، وكشفت عن المهارات والإنجازات الفنية للمصريين القدماء. واكتشف علماءُ الآثار معبدَ أبي سمبل، الذي تحرسُه تماثيلُ بارتفاع خمسٍ وستِّين قدمًا للفرعون رمسيس الثاني، في عام ۱۸۱۳. وفي عام ۱۸۱٧، عثَروا على مقبرةِ سيتي في وادي الملوك، بما في ذلك فُرَشُ الرسَّامين التي كانت لا تزال على الأرض تحت الصور اللامعة باللونَين الأزرق والذهبي التي تُظهر مسيرة روح الفرعون في الحياة الأخرى. أسهمَت هذه الاكتشافاتُ وغيرها في ظهور ظاهرة «الهوَس بالحضارة المصرية» في أوروبا وأمريكا؛ التي تتمثَّل في حماس لمحاكاة العمارة المصرية القديمة.
تزامَن ذلك مع حدوثِ تحولات ثقافية وسياسية داخل مصر ذاتِها. ففي القرن التاسع عشر، على الرغم من كون مصر والسودان ولايتَين تابعتَين رسميًّا لإمبراطورية السلطان العثماني في إسطنبول، كانت تحكمهما في واقع الأمر بوصفهما كيانًا منفصلًا أسرةُ محمد علي؛ التي سُمِّيَت على اسم مؤسسها، وهو مغامرٌ ألباني ناجح، أسَّس قاعدةَ سُلطته من خلال دعوة خصومه إلى مأدُبةٍ ثم ذبْحِهم جميعًا عندما همُّوا بالرحيل إلى منازلهم. وعلى الرغم من هذه البداية الدموية، شكَّلَت الأسرةُ الحاكمة قوةً للإصلاح والتحديث في مصر.
وكان إسماعيل، العضوُ الثالث في الأسرة الحاكمة، الذي حكَم من عام ۱۸٦۳ إلى عام ۱۸٧۹، طَموحًا بشكلٍ خاص. فقد حدَّ من تجارة الرقيق، وبنى أكبرَ سكَّة حديديةٍ في أفريقيا، وبدأ حفْرَ قناة السويس. كما افتتح أولَ مُتحفٍ مصري عام ۱۸٦۳، قبل ذلك المتحف الكائنِ في ميدان التحرير. وصُمِّم هذا المُتحف على الطِّراز الفِرعوني. ولطمأنة المسلمين المتديِّنين الذين تردَّدوا في محاكاة الفراعنة المشركين، أكَّد عالمٌ ديني يُدعى طهطاوي أن الفراعنة كانوا في الواقع «صابئةً» يعبدون إلهًا واحدًا في صورٍ مختلفة. وفي عام ۱۸٦٤ كتَب واحدٌ من تلاميذ طهطاوي، واسمه أبو السعود، تأريخًا لمصر القديمةِ داعيًا سكَّانها المعاصرين إلى تقليد أسلافهم «في العمل معًا بوصفهم مِصريين حقيقيِّين وطنيين، من أجل نهضة مصر.» واعتبارًا من عام ۱۸٦٧، ظهرَت الأهراماتُ على طوابع البريد المصرية.
لم تكن هذه مجردَ حركةٍ عاطفية للحنين إلى الماضي. بل كانت لها صلةٌ بمكانة مصر في العالم. فبفضل أمجادِ تاريخ مصر، تمكَّن إسماعيل من مواجهة الحكام الأوروبيِّين بثقة. كما أن تلك الأمجادَ شكَّلَت أساسًا لرؤية مصر ليس باعتبارها ولايةً تابعة للإمبراطورية العثمانية وإنما بوصفها دولةً مستقلَّة كما أراد لها إسماعيل. وأثَّر هذا التركيزُ على هُوية مصر المستقلة على موقف إسماعيل تجاه الدين أيضًا. فقد وبَّخ وزيرًا مسلمًا تحدَّث عن موظفٍ حكومي بازدراء قائلًا «هذا المسئول القِبطي»، والتفتَ إلى الشخص المتكلم وقال: «الجميع مِصريون على حدٍّ سواء.» كان هذا التأكيدُ على المساواة بين المسيحيِّين والمسلمين (بالإضافة إلى الهوية الوطنية الموحَّدة) مُهمًّا؛ فلم يُعْفَ المسيحيون من دفع الجِزْية المفروضة عليهم بصفتهم غيرَ مسلمين إلا عام ۱۸٥٥. ومنح إسماعيل أراضيَ للمدارس القبطية، وجعَل الأقباط يشاركون في برلمانٍ أوَّلي أنشأه، وأطلق عليه اسم مجلس شورى النوَّاب؛ وعيَّن قبطيًّا رئيسًا للصحافة الرسمية للحكومة وآخرَ رئيسًا لوزارة المالية. في نهاية مدة حكمه عيَّن نوبار باشا، المسيحيَّ الأرمني، رئيسًا للوزراء. واستفاد أيضًا اليهودُ الموجودون في البلاد من مُناخِ الانفتاح الديني الجديد؛ حيث شجَّع إسماعيل الكاتبَ المسرحي المصري اليهودي يعقوب صنوع بالإشادة به ووصَفه بأنه «موليير مصر». وسار التحرُّر الديني جنبًا إلى جنب مع الاحتفال بالتراث المصريِّ القديم ومشروع بناء الدولة المصرية.
لا عجب إذن في أن الأقباط المثقَّفين أحبُّوا مصر القديمة، مع أن الكِتاب المقدَّس المسيحي نادرًا ما يتحدث عنها بلطفٍ أكثرَ من القرآن. فأنشَئوا ناديَ رمسيس الاجتماعيَّ وصحيفةً اسمها «فرعون». حتى إنه كانت توجد جهودٌ لإحياء اللغة القبطية بوصفها لغةً للحياة اليومية. إذ كان فانسليب قد كتَب في سبعينيات القرن السابعَ عشر أنه «سَعِد برؤية الرجل الذي ستختفي معه اللغةُ القبطية تمامًا.» وفي بداية القرن العشرين، أصرَّ عالمُ مِصريات قبطيٌّ يُسمى كلوديوس لبيب على أن يتكلم أطفالُه اللغة القبطية في البيت. وافتُتِحَ مُتحفٌ قبطي عام ۱۹۰۸ للاحتفال بالإنجازات الثقافية المصرية في عصرِ ما بعد الفراعنة.
وبحلول عام ۱۹۱۹، كان الأقباطُ ميسوري الحال بقدرِ بني جِلدتهم المسلمين؛ فقد كانوا يمتلكون عشرين بالمائة من الأراضي الزراعية في البلاد؛ وَفقًا لتقديرٍ بريطاني، وقدَّر أيضًا أن هذا كان أعلى بكثيرٍ من نسبتهم من تعْداد السُّكان. وكان رئيس الوزراء في ذلك العام، يوسف وهبة، قبطيًّا (ثالث مسيحي يتولى هذا المنصب). لكن بحلول هذا الوقت، تغير السياقُ السياسي عن أيام إسماعيل. فقد كانت بريطانيا تُسيطر على الحكومة من وراء الستار؛ إذ كانت قد أصبحَت أكبرَ دائنٍ لمصر، ثم تولَّت فعليًّا إدارةَ شئون البلاد، عندما تسبَّبَت خُططُ الإنفاق الطَّموحة التي وضَعها إسماعيل في إغراق بلاده في الديون. وبالإضافة إلى الظهور في الحكومة، كان الأقباطُ نَشِطين أيضًا إلى جانب المسلمين في الحركة المتنامية من أجل استقلالِ مصر عن الهيمنة البريطانية؛ حيث تجمَّع المتظاهرون في ميدان التحرير عام ۱۹۱۹ تحت راية الهلال والصليب الموحَّدَين. وعندما شَكَّل حزبُ الوفد القومي المصري، بقيادة زعيمٍ صاحبِ رؤية يُدعى سعد زغلول، وفدًا من سبعةِ ممثِّلين مِصريين للذَّهاب إلى السفير البريطاني والمطالبةِ بالاستقلال، كان زغلول حريصًا على ضمِّ قبطي. حتى إن كاهنًا مسيحيًّا خطَب من منبرِ أهمِّ جامع في البلاد، الجامع الأزهر، عام ۱۹۱۹، لأول مرة في التاريخ. وأعلن القمص سرجيوس قائلًا: «إذا بقي البريطانيُّون في مصر بحُجة حماية الأقباط، فلْيَمُت كلُّ الأقباط ويحيا المسلمون أحرارًا.»
في القاهرة أثناء زيارتي في عام ۲۰۱۱، كان هناك عواملُ تُحيي ذِكرياتِ ذلك الوقت. فبالقُرب من ميدان التحرير، في الجهة المقابلة لمكتبةٍ للكتب القديمة كانت جُدرانها الخارجية ملطَّخةً ببُقع الدم، كان هناك رجلٌ يرتدي قميصًا مكتوبًا عليه «البنادق لا تقتل. الحكومات تفعل» يبيع قُمصانًا مرسومًا عليها هلالٌ وصليب. ورأيت ذلك الرمزَ مرسومًا على الجدران في جميع أنحاء المدينة. ومن خلال استحضار روح ثورة ۱۹۱۹، كان الأشخاص الذين رسَموه يؤكِّدون على الوَحدة الوطنية في مواجهة أولئك الذين أرادوا إثارةَ الخلافات بين المسيحيين والمسلمين.
ومع ذلك، لم يكن كلُّ السياسيين المصريين الذين طالَبوا بالاستقلال في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؛ متفتِّحي العقل مثل زغلول. ففي عام ۱۹۲۸، توجَّهَت مجموعةٌ من العمال في المعسكر البريطاني في مدينة الإسماعيلية الساحلية للقاءِ حسن البنا، وهو من المعارضين المثقَّفين للعلمانية، وقالوا له: «نحن نرى أن العرب والمسلمين ليس لهم منزلةٌ ولا كرامة. إنهم ليسوا أكثرَ من مجردِ أُجَراء يمتلكُهم الأجانب.» وأقسَموا أن يكونوا جنودًا للإسلام، لكن البنا اختار للجماعة اسمًا أكثرَ براءةً هو: الإخوان المسلمون. كان من بين المطالب الأولى التي قدَّمَها الإخوان للحكومة المِصرية حَظْر الكحول وقَمْع الدَّعارة التي انتشرَت خلال الحرب العالمية الأولى، عندما كان الجنودُ الأجانب متمركِزين في مصر. ودعا الإخوانُ البريطانيِّين إلى الانسحاب من مصر. لكن كان لهم أيضًا طموحاتٌ أكبرُ تتمثل في: توحيد جميع أراضي المسلمين تحت قيادةِ خليفةٍ يفرض شريعةً إسلامية صارمة.
حاول السياسيُّ القبطي وليم مكرم عبيد الوصولَ إلى أرضيةٍ مشتركة مع الإخوان، وكان السياسيَّ الوحيد الذي احتجَّ عندما حلَّت الحكومةُ المصرية الحركةَ عام ۱۹٤۸. كما كان السياسيَّ الوحيد الذي حضَر جنازة حسن البنا بعد مقتل الأخير على يدِ عُملاء حكوميِّين في العام التالي. وبدورهم، زعم الإخوانُ أنه ليس لديهم أيُّ خلاف مع الأقباط. لكن من الناحية العملية، أرادت الحركاتُ الإسلامية الجديدة تقويضَ خُصومها العلمانيين. وقد ساعدَتْهم مهاجمةُ الأقباط، الذين غالبًا ما لعبوا دورًا في الأحزاب العلمانية في البلاد، في هذا المسعى. وفي أربعينيات القرن الماضي، أدَّى الخطابُ الإسلامي إلى حرق الكنائس، والاعتداء على الكهنة، ومهاجمةِ الاحتفالات القبطية. وفي الوقت ذاتِه، أثَّر حتمًا تركيزُ البنا على النِّضال ضد الأجانب المسيحيين في خطاب الإخوان المسلمين حول المسيحية بشكلٍ عام. ولم يُشارك الإخوانُ إسماعيلَ حماسَه لأنْ تكون مصرُ دولةً يتساوى فيها جميع المواطنين. وبدلًا من ذلك، كان البنا فخورًا بمصر بالأساس؛ بسبب دَورها التاريخيِّ في الدفاع عن الإسلام في مواجهة الصليبيين، تلك الرؤية التاريخية التي لم تمنح الكثيرَ من الكرامة الحقيقية للأقباط. فقد قدَّمَت الحركةُ للأقباط موقفَ الدونية السلمية، وليس المساواة التي قدَّمها بعضُ القوميين العلمانيين.
وعندما حدَث الاستقلال فعلًا، لم يصعد إلى السلطة ليبراليُّون على غِرار زغلول ولا إسلاميُّون. ففي عام ۱۹٥۲، أُطيح بفاروق، حفيدِ حفيدِ محمد علي، على يدِ مجموعةٍ من ضباط الجيش الذين لم يكونوا معروفين من قبل. وأصبح أحدُ هؤلاء، وهو محمد نجيب، رئيسًا للبلاد. وبعد ذلك بأربعِ سنوات أطاح به البكباشي جمال عبد الناصر، الذي نجح بعد ذلك في تحقيق انسحابِ جميع القوات البريطانية من البلاد، وحكم مصر من عام ۱۹٥٦ حتى عام ۱۹٧۰. ومع أنه خلَّص مصر من كلِّ سيطرة أجنبية، إلا أن عُنوان سيرته الذاتية ليس «أول المصريين» بل «آخِر العرب». فقد كان المؤلف يُشير إلى حقيقة أن عبد الناصر رأى نفسَه عرَبيًّا وليس مِصريًّا؛ إذ أراد للشعوب الناطقةِ بالعربية، التي تعيش في بلادٍ مختلفة تمتدُّ من مَرَّاكُش إلى بغداد، أن تتَّحد وتثورَ على حكامها الاستعماريين، وتُشكِّل أمة واحدة.
لم يكن عبد الناصر مُهتمًّا جدًّا بمصر على هذا النحو. وبالفعل اختفى اسمُ «مصر» من على الخريطة أكثرَ من عَقْد، حيث غيَّر ناصر اسم الدولة إلى الجمهورية العربية المتَّحدة وسعى إلى توحيدها مع سوريا. كما أعاد توزيعَ أراضي مصر، وسحَق النظام الإقطاعيَّ القديم. أثَّر هذا على مُلَّاك الأراضي المسلمين والأقباط على السواء، ولكن بما أن النخبة القبطية العادية كانت تُبلي بلاءً حسنًا في ظل النظام الملَكي، فقد تأثَّرَت بشدة؛ يشير أحدُ التقديرات إلى أن الأقباط فقَدوا خمسةً وسبعين بالمائة من ثرواتهم وممتلكاتهم. وكان الأقباط العاديُّون من الطبقة العُليا الذين أفقَرَهم هذا الإجراءُ في كثيرٍ من الأحيان من قادة الطائفة السياسيِّين، ومِن ثَم لم تكن الطائفة أفقرَ فحَسْب، بل كانت أيضًا أقلَّ نفوذًا. ولم يضمَّ مجلس قيادة الثورة المؤلَّفُ من ثمانيةَ عشر عضوًا، والذي تولى إدارة مصر بعد الثورة، مسيحيًّا واحدًا. ومع ذلك، لم يسمع أحدٌ تقريبًا بواقعاتِ عنفٍ ضد الأقباط بينما كان عبد الناصر على قيد الحياة. ويرجع ذلك جُزئيًّا إلى أجهزته الأمنية المخيفة، التي قمَعَت الحركاتِ الإسلاميةَ بلا رحمة، وإلى شعبيتِه الكبيرة. لم يُعبِّر ناصر أبدًا عن أي تحيُّز ديني؛ فهناك مكانٌ للمسيحيين وكذلك للمسلمين في القومية العربية (وفي الواقع، كان بعضُ مؤيديها الأوائل من المسيحيين السوريين). وكان ناصر على علاقة وثيقة بالبابا القبطي، وقام بمبادراتٍ جيدة تجاه الأقباط مثل حضور افتتاح كاتدرائيتهم الجديدة في القاهرة.
وفيما يخصُّ طائفةً أخرى، كان صعود ناصر بمنزلة بداية النهاية. ففي عام ۱۹٥٦، بعد أن انضمَّت إسرائيل إلى بريطانيا وفرنسا في مؤامرةٍ سرية لزعزعة استقرار مصر والاستيلاء على قناة السويس، جرَّد ناصر العديدَ من المصريين اليهودِ من جنسيتهم. وعمل على طردِ الآلاف من البلاد، وتأميم — أي: مُصادَرة — أعمالهم التِّجارية. وكانت اليهودية هي الديانةَ الأقدمَ في البلاد؛ حيث كان هناك يهودٌ في مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل. وقال لي طبيبٌ مصري مسيحي يُدعى أمين مكرم عبيد في شقته المطلَّة على النيل: «كان لدينا جيرانٌ يهود عندما كنتُ طفلًا. رجل يُدعى السيد شحيط وعائلته. أخبر والدي أنه وجَد زوجًا لأختي. وبعد ذلك ببِضعة أشهُر اختفى. اختفَوا جميعًا. كنا نشكُّ فيما حدث» — كانوا قد رُحِّلوا — تنهَّد الطبيب قائلًا: «ولكن لم يكن لدى أيٍّ منا الشجاعةُ للسؤال؛ لأننا حينئذٍ كنا سنتورَّط بوصفنا مسيحيِّين. كيف يمكن أن يؤثر إيمانُ شخص ما داخل أربعة جدران على قَبول المجتمع له؟» كان قد علَّق لوحةً لرجل يرتدي شالًا يهوديًّا للصلاة في موضعٍ هو أولُ ما يراه الزائر، على أملِ أن تصدم الناس وتبعد عنهم تحيُّزَهم. لا يزال يوجد كنيسٌ يهودي واحدٌ في القاهرة، ولكن لم يتبقَّ في البلد كلِّه سوى عشَرة يهود.
بعد وفاة عبد الناصر، واجهَ الأقباطُ تحديًا جديدًا. فقد كانت عملياتُ حرق الكنائس نادرةً قبل عبد الناصر ولم يسمع بها أحدٌ خلال مدةِ حكمه. وعندما أصبح أنور السادات رئيسًا عام ۱۹٧۰، تغيَّر هذا الحال. فقد نصب السادات نفسَه على أنه «الرئيس المؤمن»، ولكي يُطَوِّق منتقِديه اليساريِّين، تحالف مع الإسلاميين. ومُنِحَت العصابات المتطرِّفة ترخيصًا واسعَ النطاق للعمل في الجامعات المصرية، حيث هاجموا مُنتقدي السادات اليساريِّين وفرَضوا أيضًا نُسختَهم الخاصة من الشريعة الإسلامية في الجامعات. وفي عام ۱۹٧۲، كان الحرقُ المتعمَّد لإحدى الكنائس القبطية إيذانًا ببدايةِ حقبةٍ جديدة من العنف الطائفي.
في الوقت ذاته، كان نهجُ الحكومة في التعليم يمرُّ بتغييرٍ أوسعَ نطاقًا. تذكَّر يوسف سيدهم، المحرِّر بجريدة «وطني» القبطية، تلك المرحلة عندما تحدَّثَ معي في مكتبه بوسط القاهرة. «بعد أسْلَمة مصر في أواخر السبعينيات، حُذف التاريخ المسيحي من المنهج الدراسي. فقد مورس ضغطٌ من أولئك الذين تولَّوا شئون التعليم. وسُلِب التاريخ القبطي.» وفي الكتب المدرسية الجديدة، خُصصت أربع صفحات فقط من ۲٤۰ صفحة للتحدثِ عن ماضي مصرَ المسيحي. وحلَّ القرآن محلَّ الشعر الدنيوي في فصولِ اللغة العربية، مُهمِّشًا التراثَ الثقافي المشترك بين المسيحيين والمسلمين. وخصَّصَت شبكاتُ التلفزيون الحكومية للبرامج الدينية الإسلامية ثلاثين ساعةً في الأسبوع، بينما خُصِّصت للبرامج المسيحية مساحةٌ زمنية مرةً واحدة فقط في السنة (في عيد الميلاد المجيد). وفي مقالٍ متعمِّق لصحيفة «الأهرام» المصرية في مايو ۲۰۱۳، تذكَّر الخبير التربوي كمال مغيث أنه في الثمانينيات، صرَّح أحدُ كتبه المدرسية بأن الكتاب المقدَّس ملفَّق. وأُجبِر زملاؤه المسيحيون على حفظِ آيات من القرآن.
كذلك أشار لي جورج إسحاق، وهو معارض مُخضرم للحكومة العسكرية المصرية، أن عصر السادات كان هو اللحظةَ المِحورية. وقد ذاع صيتُ إسحاق، وهو رجلٌ في الستينيات من عمره، قبل عشر سنوات بسبب احتجاجاتِه الصريحة على حكم الرئيس حسني مبارك. والتقيتُ به في مقهًى للفنانين يُسمَّى جروبِّي. ومن الواضح أنه كان يحظى بشعبيةٍ بين الزبائن؛ فأثناء حديثنا، كان يُقاطعنا شخصٌ ما كل دقيقتَين ويُصافحه، أو ينهض هو نفسه لتحيةِ شخصٍ ما على طاولة أخرى.
قال إسحاق، بين هذه المقاطعات: «بدأت الطائفيةُ في مصر مع السادات. فعندما قال السادات: «أنا مسلمٌ وهذه دولةٌ مسلمة»، تسبَّب هذا في خوف الناس بما يتجاوز المعنى الحرفيَّ للكلمات. وسواءٌ أكان ذلك من حُسن الطالع أم العكس، فقد كان رئيسُ الكنيسة القبطية في ذلك الوقت رجلًا يُدعى شنودة» — كان يقصد البطريرك شنودة الثالث، الرجل الذي كرَّس كنيسةَ القديس مرقس — «وكان يتمتَّع بشخصيةٍ مؤثرة. وجذب الناسَ إلى الكنيسة، وأصبحَت حياتهم كلُّها داخل الكنيسة.» أومأتُ برأسي موافقًا. فقد رأيتُ آثار ذلك في الكنيسة في شبرا، التي كانت أكثرَ بكثير من مجرد مكانٍ للصلاة. لقد أصلح شنودة الكنيسةَ القبطية، مانحًا القوةَ لجيل جديد من رجال الدين المتعلمين والمتَّسِمين بالحيوية؛ فقد كان هو ومعاصروه مصدرَ الإلهام لحدوث طفرةٍ في أعمال الرهبنة.
«ثم بدأ التوتُّر. وتظاهَر الكهنة عندما مُنِعوا من بناء الكنائس.» فقد اشترط قانونٌ مصري قديم على الأقباط الحصولَ على تصريح قبل بناءِ كنيسة جديدة، أو حتى تجديد كنيسة قائمة. وكانت حكومة السادات بطيئةً في منح هذه التصاريح؛ مما تسبَّب في حالةٍ من الإحباط وسط الأقباط. وفي عام ۱۹۸۱، أدى خلافٌ حول خُطة لبناء كنيسة قبطية إلى اشتباكاتٍ دامية في ضاحيةٍ فقيرة ومكتظَّة بالقاهرة؛ حيث قُتل سبعةَ عشر شخصًا في أسوأ حادثٍ على الإطلاق من أعمال العنف بين الأقباط والمسلمين. وقاد البطريرك شنودة الثالث احتجاجًا سلميًّا على ما اعتبره إخفاقًا حكوميًّا في حماية الأقباط، واتهم الإسلاميُّون شنودة بالسعي لإقامة دولة قبطية، وقالوا إن الدولة الإسلامية وحدها هي التي ستوقفُ العُدوان القبطي، ودعَوْا إلى فرض حظرٍ كامل على الكنائس الجديدة. واستجاب السادات لذلك الأمرِ بوضع شنودة وعددٍ من رجال الدين المسلمين قيد الإقامة الجبرية. لكن في وقتٍ لاحق من ذلك العام، اغتِيل السادات على أيدي متطرِّفين إسلاميين غاضبين من اتفاق السلام مع إسرائيل. (صاح الرجل الذي أطلق عليه الرصاصاتِ القاتلةَ وهو يفعل ذلك قائلًا: «قتلتُ الفرعون!») حل حسني مبارك محلَّ السادات وبَنى ظاهريًّا علاقةً أفضل بكثير مع الكنيسة القبطية، حيث منح تصاريحَ لبناء الكنائس وجعل عيدَ الميلاد القبطيَّ عطلةً رسمية. لكن إسحاق رأى الأمور بشكلٍ مختلف. وتابع قائلًا: «لقد وجد مبارك أن بإمكانه استخدامَ هذه القضية لتشتيتِ الانتباه. وقامت القوات الأمنية بتحالفات تكتيكيةٍ مع السلفيين.» كان السلفيون إسلاميِّين مثل الإخوان المسلمين لكنهم عزَفوا عن السياسة.
وزاد عددُ قوات الأمن زيادةً كبيرة في مواجهة خطر الإرهاب. فبين عامَي ۱۹٧٤ و۲۰۰٤، ومع تزايُد الاعتداءات على الأقباط والشرطةِ نفسِها، زاد عددُ أفراد الشرطة المصرية من ۱٥۰ ألفًا إلى ١,٧ مليون. ومع ذلك، ظل الأقباطُ محرومين من المساواة. فلا يوجد رؤساءُ جامعات أو رؤساء شركات حكوميةٍ أقباطٌ. وأخبرني موظفُ بنكٍ مصري، مسلم، أن الموقف تجاه الأقباط يُشبه الموقف الذي «قد تتَّخذه تجاه أخٍ أصغر؛ غير شقيق، في الواقع. شخص تعرف أنه موجود، لكنك تُفضل حقًّا عدمَ وجوده.» ولم توفر حكومةُ مبارك الحمايةَ الكاملة للأقباط. فعلى سبيل المثال، في شهر يناير من عام ۲۰۰۰، قُتل ستةَ عشر مسيحيًّا في قرية الكشح. وكانت أطولُ عقوبة أُصدِرَت في جرائم القتل عامَين، على الرغم من أن رجلًا حُكِم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات إضافية لحيازته سلاحًا ناريًّا غيرَ مرخَّص.
ومع ذلك، لم تواجه الكنيسةُ القبطية مبارك أبدًا بالطريقة التي واجهَت بها السادات لمدةٍ وجيزة. كما أنها لم تُطالب بالديمقراطية في مصر، أو وافقَت على مشاركة الأقباط في مظاهرات ميدان التحرير عام ۲۰۱۱. ويبدو أنها شعَرَت أن البديل لمبارك — وهو الإخوان المسلمون — سيكونُ أسوأ. ولم تفعل جماعة الإخوان شيئًا يُذكَر لتهدئة مخاوفِ الأقباط عندما دعَت في التسعينيات إلى إقصاء الأقباط من المناصب العُليا في الجيش أو في عام ۲۰۰٧ عندما نصَّ الدستور المصري على أن المسلم وحده هو الذي يمكن أن يكون رئيسًا. وفي عام ۲۰۰٦، نُقل عن المرشد الأعلى لجماعة الإخوان، مهدي عاكف، قولُه: «طز في مصر»، التي تعني تقريبًا «فلتذهب مصرُ إلى الجحيم» — وذلك على ما يبدو لأنه، بصفته إسلاميًّا، كان ينبذ الدولةَ الوطنية لصالح استعادة الخلافة الإسلامية.
وكان الحلُّ، لبعض الأقباط، هو الهجرة، التي كانت أسهلَ عليهم بسبب مستويات تعليمهم المرتفعة نسبيًّا والموقف الإيجابي من جانب الحكومات الغربية. وبين عامَي ۱۹۹۳ و۱۹۹٧، قدَّم الأقباط ستةً وسبعين بالمائة من طلبات المصريين للهجرة الدائمة إلى الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا. وانغمس آخَرون أكثر في الكنيسة، واستثمَروا طاقتهم في جعلِها مجتمعًا داخليًّا أكثر شمولًا وفاعلية. التقيتُ قِبطيًّا أُصيب بجروحٍ في احتجاج على حرق الكنيسة، ألقى خلالَه الأقباطُ الحجارة وأطلقت قواتُ الأمن النار. وعلى الرغم من أن ساقه لم تُشفَ بعد، قال: «ما دُمتَ تشعر بالتهديد من الآخرين، فستكون هُويَّتُك قوية.» كما أن المسيحيين ليسوا وحدَهم مَن يُفضلون المؤسساتِ الدينيةَ على المؤسسات العلمانية. فقد ذكَرَت مؤسسةُ جالوب في عام ۲۰۱۳ أن اثنين وتسعين بالمائة من جميع المصريين، مسلمين ومسيحيين، يثِقون في مؤسساتهم الدينية. ولم تقترب أيُّ مؤسسة أخرى من هذه النِّسبة. وببساطةٍ، فإن البطريرك شنودة ومَن يُكافئه من المسلمين، بسبب فطنتهم وتفانيهم، اكتسَبوا قدرًا كبيرًا من التأثير. وقد أساء بعضُ رجال الدين المتشدِّدون استخدامَ هذا الأمر. وكانت المحصلة الإجمالية هي أن الأشياء التي كانت توحِّد المسلمين والمسيحيين أخذَت تقلُّ شيئًا فشيئًا.
عرَفتُ كل هذه المعلومات في القاهرة. لكنني كنتُ أعلم أنه إذا أردت أن أفهم مصر، وخاصةً أن أفهم المسيحيِّين في مصر وطبيعةَ علاقتهم بجيرانهم المسلمين، فعندئذٍ سيتعيَّن عليَّ الذَّهابُ إلى المكان الذي جاء منه معظمُ أقباط مصر: جنوب القاهرة، حيث يمتدُّ وادي النيل مئاتِ الأميال من الصحراء التي لا نهاية لها. كان سكان هذه المنطقة (التي تُسمَّى الصَّعيد، أو مِصْر العليا — وهو الاسم ذاتُه الذي كانت تحمله في العصور القديمة) أبطأ في اعتناق الإسلام، وفي أواخِر عشرينيات القرن الماضي، كان ثمانون بالمائة من مسيحيي مصر يعيشون في الصعيد.
وعلى الرغم من هجرة أعدادٍ كبيرة من الأقباط نحو الشمال منذ ذلك الحين — حيث قال لي أحد العلماء إن أكثرَ من نصف الأقباط يعيشون الآن في القاهرة والمدن الشمالية الأخرى — فإن الصعيد لا يزال مَعقِلَهم. وما لا يقلُّ عن رُبع سكان مدينة المنيا، على سبيل المثال، التي تقع على بُعد ۱٤۰ ميلًا جنوبَ القاهرة، هم من الأقباط؛ وهي أكبرُ نسبة للأقباط في أي مدينةٍ في مصر. لكن هذه المحافظة تُعاني الفقر، حيث يزيد معدَّل البطالة فيها عن ثمانين بالمائة؛ وأكثر من ثلث سكان المحافظة أمِّيُّون (وإن كانت الأرقام أفضلَ في المدينة). وقد وقع في هذه المحافظة أكبرُ عددٍ من الاشتباكات بين المسيحيين والمسلمين؛ فربما يكون ما يصل إلى خمسةٍ وستين بالمائة من العنف الطائفيِّ في مصر قد حدث هناك. لذا قرَّرتُ أنه لكي أفهم الأقباط — تاريخَهم، ومعتقداتهم، ومستقبلَهم — كنتُ بحاجةٍ إلى فهم المكان بشكلٍ أفضل. وفعلتُ ذلك في عام ۲۰۱۲، بينما كانت أولُ انتخابات ديمقراطية في مصر تنتقل إلى جولتها الثانية. وبعد مدةٍ وجيزة من زيارتي، كان المصريون سيختارون بين المرشَّحَين المتبقِّيَين: أحمد شفيق، وهو مسلمٌ تلقَّى تعليمه في مدرسةٍ للرهبان اليسوعيين، وكان قد عَمِل في الحكومة في ظلِّ حكم الرئيس مبارك، ومحمد مرسي، من جماعة الإخوان المسلمين. (كانت المنيا واحدةً من أكثر المناطق المؤيدة لمرسي في مصر، حيث أعطَتْه أربعةً وستين بالمائة من الأصوات، وحصل شفيق على ستةٍ وثلاثين بالمائة.)
بُنيت محطةُ القطار الرئيسية في القاهرة — التي تُسمى محطة رمسيس؛ لأن تمثال رمسيس كان هناك يومًا ما — لأول مرة في خمسينيات القرن التاسعَ عشر، عندما أمر إسماعيل ببناءِ أول خطِّ سكةٍ حديديةٍ في أفريقيا لنقل القُطن من القاهرة إلى الإسكندرية؛ لتصديره عن طريق البحر. وفي هذا المكان، أيضًا، خلَعَت الناشطة النسائية المصرية هدى شعراوي حِجابها في عام ۱۹۲۳، بعد عودتها من مؤتمرٍ في أوروبا، على مرأًى من الجماهير المذهولة التي جاءت لتستقبلَها؛ وهي خطوةٌ كانت مصدرَ إلهام للأجيال اللاحقة من النِّسويات العربيات. أسرَعتُ عبر الأقواس المغاربية التي تأخذ شكلَ حدوة الحصان والجدران المكسوَّة بالبلاط الخزَفي؛ لشراء تذكرتي. وجدتُ أنه يوجد رصيفٌ خاص للصعيد، وأعدادٌ متناثرة من الناس تنتظر هناك للصعود على متن القطار. وفي مكتبةٍ صغيرة على رصيف القطار كانت توجد كتبٌ معروضة، أعلن العديدُ منها بصور بها نيرانٌ متوهجة عن موضوعها: الحيل التي يستخدمها ممارسو السحر الأسود وكيفية مقاومتها. وتذكَّرتُ الصِّبية السلفيين الذين تصوَّروا أنهم عثَروا على أدوات لإلقاء التعاويذ في قبوِ الكنيسة المحروقة.
سرعان ما بدأتْ عجَلات القطار في الدوران ببطءٍ نحو الجنوب، عبر ضواحي القاهرة ذاتِ المباني السكَنية الرخيصة المبنية من الطوب. في محطةٍ تصطفُّ على جانبَيها الأشجارُ في واحدةٍ من أفقر ضواحي القاهرة، دخل صِبيةٌ القطارَ لبيع المناديل المعطَّرة والحلوى الرخيصة. وبعد نحو نصف ساعة من الرحلة، انضمَّت إلى مسار القطار قناةٌ ضيقةٌ مسدودةٌ تمضي بمحاذاته. في النهاية غادرنا المدينةَ وتوجَّهنا إلى حقول وادي النيل الخضراء، وتكرَّر توقفُنا في بلدةٍ صغيرة تلو الأخرى. وطوال الوقت كانت القناةُ تمضي بمحاذاة السكة الحديدية. ورأيتُ أناسًا يغسلون فيها الصحونَ وملابسَهم. في المساء، وصلنا إلى المنيا. عندما خرجتُ إلى الرصيف، انتزع حمَّالٌ مُسنٌّ حقيبتي بسرعة، وعلى الرغم من اعتراضاتي، تمسَّك بها بتجهُّم وحملها عبر جسر السكة الحديدية.
كان يوجد فندقٌ رئيسي وحيد في المدينة، وهو عبارة عن مبنًى خَرساني ضخم يُسمى أخناتون، وفيه سجَّلتُ دخولي وأمضيتُ هذه الليلة. كانت غرفتي تحتوي على تجهيزاتٍ كانت أنيقةً يومًا ما؛ في السبعينيات، حسبما ظننت. لم يكن يوجد سائحون مقيمون هناك. وفي البهو لم يكن يوجد سِوى موظَّفي الفندق يُدخنون السجائر. تحدثتُ معهم بعضَ الوقت، وأوضحوا لي مدى تفوقِ سكان المنيا على سكان المناطق الأخرى. قال لي أحدهم: «لا يمكنك أن تثقَ في سكان القاهرة، فهم ليسوا وَدودين مثلنا. وإذا ذهبتَ جنوبًا من هنا، إلى أسيوط، فستجد الناس هناك سريعي الغضبِ للغاية. لكن هنا في المنيا، الناس بَين بَين. فهم يتميَّزون بالوسطية.»
وجدتُ أثناء تجوُّلي في المدينة أن المنيا كانت بالفعل ودودةً أكثرَ من القاهرة، وجميلة، بطريقتها الخاصة الهادئة، حيث تُطلُّ على نهر النيل والتلال الرملية المنخفِضة خلفه. وكانت حديقةٌ صغيرة على ضفاف النهر مليئة بالعائلات، حيث كان بعض الناس يلعبون كرة القدم، وآخَرون يُدخنون الشيشة. وعلى متن قاربٍ يرسو على جانب النهر، كان حفلُ زفاف يجري على قدمٍ وساق، حيث كان العروس والعريس يرقصان على أنغام أغنيةٍ مصرية شعبية. وامتلأتْ ساحاتُ المدينة بالناس الذين يستمتعون بنسيم المساء، وجلس الرجال والنساء معًا. كانت معظم النساء غيرَ محجَّبات، وهي علامةٌ شبهُ مؤكدة — في هذه المدينة المحافِظة — على أنهنَّ مسيحيات. (في القاهرة تخرج نساءٌ مسلمات دون حجاب؛ ولم أرَ قَط واحدةً منهن في المنيا.) ونظرًا إلى أنه كان مساءَ أحد أيام الأحد، خمَّنتُ أن هؤلاء الأزواج ربما خرَجوا لتوِّهم من الكنائس والمراكز الاجتماعية المسيحية في الشوارع المجاورة. وعندما ذهبتُ إلى كُشْك على جانب الطريق للحصول على كوبٍ من عصير البرتقال، كانت راهبةٌ أمامي في الصف تطلب كوبًا من عصير قصب السكَّر.
مكَّنني أصدقائي في الفندق من التواصل مع سائقٍ محلي ليأخذَني إلى القرى والأديرة في المناطق الريفية. وفي صباح اليوم التالي، أثناء انتظاري له، تجولتُ في الحديقة مرةً أخرى. وعبر النهر رأيتُ ثورًا يجرُّ مِحراثًا في الحقول. وتركَت الاحتفالاتُ الليلية اللطيفة في المدينة الكثيرَ من القمامة في الحديقة، وجاءت شاحنةُ جمع القمامة لجمعِها. وألقت فتاةٌ محجبة — من قرية مجاورة، حسبما خمَّنت — أكياس القمامة في الشاحنة ثم قفزَت وراءها. وأثناء ما كانت الشاحنة تبتعد، كانت تُغني وتضحك واضعةً قدمَيها على الأكياس.
عندما وصل السائقُ كان مسرورًا لسَماع أننا سنرى بعضَ الأديرة القبطية المحلية. كان هو نفسُه قِبطيًّا واسمه جورج. (على الرغم من أن القديس مرقس يعتبر مؤسسَ الكنيسة القبطية، عادةً ما يُسمى الأطفال على اسم مار جرجس — وصورتُه وهو يغرز رمحًا في تنِّين هي صورةٌ شائعة في الكنائس والمنازل، تمامًا مثلما كان يُصور المصريون القدماء الإلهَ حورس وهو يغرز رمحَه في فرَس النهر.) واشتكى قائلًا: «السائحون لا يهتمُّون أبدًا بالمواقع القبطية. فهم لا يريدون إلا رؤيةَ أشياءَ من مصر القديمة. أُخبِرهم عن كنائسنا لكنهم لا يريدون زيارتَها أبدًا.» ومع ذلك، فإن الأديرة تُشبه المعابدَ القديمة في بعض الأمور وتعتبر نُسَخًا معاصرةً منها. وفي السنوات الأولى للمسيحية، كانت الرهبنةُ تعني العُزلة؛ حيث كان الرجال يذهبون إلى مكانٍ بعيد، غالبًا في الصحراء، للصلاة. وفي مصر نحوَ عام ۳۲۰ ميلادية أسَّس القديس باخوميوس أولَ مجتمع للرهبان المسيحيِّين. وخصَّصه لأولئك الذين لا يستطيعون تدبُّرَ مصاعبِ العيش بمفردهم. لكن الأديرة اتَّخذَت نمطًا مألوفًا: مجتمعٌ من الرجال الأتقياء، يعيشون في منطقة محاطة بسور ويزرعون حقولًا مجاوِرة، ويتعبَّدون في كنائسَ صغيرة داخل تلك المنطقة التي يأتي إليها الحجاجُ زوارًا؛ وقد كان مثلَ النظام الذي عمِلَت به المعابدُ المصرية دائمًا. وكان للعديد من الأديرة الأولى أوجُهُ تشابُهٍ مع المعابد في الطريقة التي تنحدر بها جُدرانها العالية إلى الداخل، وفي النقوش على مداخلها.
أراني جورج صورًا لأديرةٍ محلية. لفتَت انتباهي صورةٌ معينة. كانت لصناديق زجاجية بها جثثٌ محنَّطة جُزئيًّا، وتحمل الصناديقُ بطاقاتٍ لإظهار أنها تحتوي على جثث الشهداء المسيحيِّين الذين تنَيَّحوا في عهد دقلديانوس. كانت هذه الجثث، بأسنانٍ تبرز من خلال لحمٍ أسود ملتوٍ بعنف، مكسوَّة بتوقيرٍ بأشرطة فِضية وملابسِ زفاف ترمز إلى السعادة الأبدية التي ظفر بها أصحابُها لتضحياتهم. لأول وهلة، وجدتُ الصورَ صادمة، بل بشعة. لكنها كانت، كما أدركتُ، تعبيرًا عن إيمانٍ عميق لا يتزحزح. فإيمانُ الأقباط بالاستشهاد ساعدَهم على تحمُّل الأوقات العصيبة. مررتُ أنا وجورج بالحقول التي بها أكوامٌ من القمح المحصود وأخرى كان قصبُ السكَّر يقف فيها شامخًا. أشار جورج إلى قصب السكر. وقال: «هذا هو المكان الذي اعتاد المسلَّحون الاختباءَ فيه، فيما مضى عندما حدثَت الاضطراباتُ هنا. كان لديَّ صديق شرطي، وهكذا قُتِل رميًا بالرصاص.» بين عامَي ۱۹۹۲ و۱۹۹۸، عملَت جماعةٌ إسلامية مسلحة تُسمى الجماعة الإسلامية في المنيا وبلداتٍ أخرى في جنوب مصر، وهاجمَت كُلًّا من قوات الأمن والمدنيِّين المسيحيين المحليين. والآن، في عام ۲۰۱۱، شكَّلَت الجماعة حزبًا سياسيًّا وبذَلَت جهدًا لإظهار أنها قد تغيَّرَت؛ حيث أقنَعَت خمسةَ أقباط بالانضمام إليها، ودعَت إلى اقتصاد السوق الحر، وفازت بواحدٍ من المقاعد البرلمانية الستة عشر في المنيا.
قادَتنا الرحلةُ عبر طرقٍ ريفية حيث كانت توجد حركةٌ مرورية قليلة من نوع مختلِف. مرَّ بنا رجلٌ على ظهر حِمار يجر عربةً مليئة بالبرسيم الحجازي؛ وبعد ذلك جاء حفلُ زفاف في حافلة، حيث خرَجَت الموسيقى المفعَمةُ بالحيوية من جهاز استيريو. قال جورج: «إنهم قادمون من الدير»، في إشارة إلى دير أبي فانا، وِجْهتنا الأولى. «ذهبوا ليأخذوا «البرَكة» من الرهبان قبل الزفاف.» وجدتُ نفسي أستخدم كلمة «برَكة» كثيرًا خلال هذه الزيارة إلى المنيا. وعندما وصلنا إلى الدير وجدتُ أن مجرد مقابلةِ كاهن أو راهبٍ كان أيضًا برَكة: «جئتُ لرؤيتك؛ لآخُذَ البرَكة منك»، هكذا كان يقول الشبابُ عند تحية الرهبان بأردِيَتِهم السوداء الطويلة والقبعات السوداء الضيقة المزيَّنة بصُلبان ذهبية. كان الكثير من الشبان يزورون الدير. وكان بعضُهم أكثرَ احترامًا من الآخَر. فقد ذهب أحدهم، عندما حسب أنه غيرُ مراقَب، ليجلس على عرش رئيس الدير في كنيسة الدير؛ حيث أثار اهتمامَه نقشٌ لأسدٍ على ذراعيه، الذي كان يرمز إلى القديس مرقس الإنجيلي.
يقع الدير، الذي في واجهته سورٌ عالٍ وبوابة، على حافَةِ وادي النيل، حيث يلتقي الوادي بالصحراء. ويظنُّ البعض أنه ربما كان يوجد فيما مضى معبدٌ قديم في الموقع، ومن المحتمل أن بلدةَ حور القريبةَ سُميت على اسم الإله حورس. وجاء مصريٌّ يُدعى أبو فانا إلى هذا المكان في القرن الرابع الميلادي، ووزَّع كلَّ أمواله في الطريق إلى هناك. واشتهر بتقشُّفِه (إحدى معجزاته، حسَب التقليد، أنه ظل دون طعامٍ مدةَ سبعةٍ وثلاثين يومًا)، وإحيائه للموتى، وقراءتِه للأفكار، وقضى ثَمانية عشر عامًا على عمود. وبحلول العصور الوسطى، كان الدير قد تعرَّض للإهمال. فقد كان به راهبان فقط، وفقًا للمقريزي، وهو عالمٌ عربي من القرن الخامس عشر.
يوجد الآن أكثرُ من عشرين راهبًا، كثيرٌ منهم من الشباب، وهم نِتاج نهضة الكنيسة القبطية. أخبرَني أحدهم، الذي كان يعتني بمتجر الدير — وكان يبيع الصُّلبان والملصَقات الدينية — أنه كان طالبًا في كلية الطبِّ قبل دخول الدير. ومنحَني برَكةً في شكلِ رغيفِ خبز منقوش عليه بإتقان ثقوبٌ على شكل رموز مقدَّسة وكتابة قبطية (كما نرى في رسومات المقابر، كان المصريُّون في العصور الفرعونية يُزينون أرغفة الخبز أحيانًا بالثقوب). تتألف حياة الراهب القبطيِّ من الصلاة في جماعةٍ لساعات — بما في ذلك الصلاة يوميًّا في الساعة الثالثة صباحًا — والصلاة بمفرده، وفي بعض الأحيان الانخراط في الأعمال اليدوية الشاقة.
قدَّمني جورج إلى رئيس الدير، وجلَسْنا معًا في غرفةٍ حارَّة ومُتْربة نوعًا ما بها العديد من الأرائك. وقدَّموا لي الشايَ وكميةً لا نهائية من المشروبات الغازية الحُلوة المذاق. ولاحقًا خرَجنا إلى ضوء الشمس. قال لي رئيس الدير: «اعتاد الرهبانُ الاختباءَ هناك، في ذلك البُرج، إذا جاء قطَّاع الطرق إلى الدير.» لا تزال تحدث مشاكلُ مماثلة. وجاء راهبٌ إلينا، وبأمرٍ من رئيس الدير، رفع كمَّه على مضض لِيُريَني تقلُّص الجزء العلوي من ذراعه حيث كُسر العظم. فقبل بضع سنوات، أسَرَته مجموعةٌ بدوية تعيش في مكان قريب. وعلى الرغم من أن الاختطاف كان متعلقًا بنزاعٍ على الأرض — حيث أراد الدير أن يبنيَ على أرض يستخدمها البدوُ في الرعي — فقد انقلب طائفيًّا. قال الراهب إن آسِريه طلَبوا منه أن يبصق على الصليب. وعندما رفَض كسَروا ذراعه. قال رئيس الدير: «عندما وجدناه، كان يتضوَّر جوعًا وعطشًا ولم يكن قادرًا على الحركة.» كان هذا الراهبُ بالذات فنانًا موهوبًا رسَم على العديد من جِداريات الدير. واستغرَق شهورًا حتى يتعلم الرسم من جديد.
•••
بالعودة إلى المنيا مساءَ ذلك اليوم، انتقلتُ من فندقي إلى قاربٍ على نهر النيل، وتبيَّن فيما بعدُ أن مجموعة من الأقباط البروتستانت في المدينة هي التي تُديره. (بالإضافة إلى أولئك الأقباط الذين انضمُّوا إلى الكنيسة البابوية الكاثوليكية، كان يوجد آخَرون انضمُّوا إلى مختلِف الطوائف البروتستانتية خلال المائة والخمسين عامًا الماضية، وكانت توجد في العديد من القرى حول المنيا كنائسُ بروتستانتية وكاثوليكية بالإضافة إلى الكنائس القبطية الأرثوذكسية.) كان الماء يرتطمُ طوال الليل بجانبه، على بُعد بوصاتٍ من رأسي. وبعد عام من زيارتي، أحرَقَت مجموعةٌ من الغوغاء الإسلاميين المنزلَ العائم احتجاجًا على الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وفي القارب المجاورِ له، مات رجلان، مسيحيٌّ ومسلم، حرقًا، بينما شكَّل مسلمون آخرون سلاسلَ بشرية لحماية الكنائس المسيحية في المدينة. وكان العقابُ الشائنُ لهذا الشَّغْب هو صدورَ ٥۲۹ حكمًا بالإعدام، ليس عِقابًا على حرق الكنائس وإنما لقتل شرطيٍّ أثناء أعمال الشغب.
كنتُ قد أقنعتُ كاهنًا قبطيًّا بأن يأخذني في جولةٍ ليُرِيَني أبرَشيَّتَه في اليوم التالي. عاش الأب يوأنس في شقةٍ بطابَق عُلوي في مبنًى بسيط يقع على الطريق من كنيسته مباشرةً، في قرية تُسمى قفادة، على بُعد عدة أميال من المنيا. أوصلني جورج بالسيارة لرؤيته. وجلسنا جميعًا في مطبخه، وقضَمتُ قطعةً من كعكة كريمة جافَّة بعضَ الشيء لكنها حلوةٌ جدًّا، كان الكاهن قد اشتراها للاحتفال بهذه المناسبة. اكتشفتُ أن والده وجدَّه تولَّيا منصبَ الكاهن قبله. وكان يتمتع بموهبةٍ طبيعية للتواصل مع الآخرين، وطريقة مصرية مميَّزة في الإطراء. سأل جورج مِن أيِّ مدينة هو، وعندما أجاب جورج بأنه من المنيا، قال القَسُّ ما تبيَّن أنه مجاملته المعتادة: «المنيا؟ أحسَن ناس.»
ومن بينِ أربعين ألفَ نسمة في قفادة، كان أكثرُ من تسعين بالمائة مسلمين. ومع ذلك، كان العمدةُ مسيحيًّا. وكانت عائلتُه تمتلك أرضَ القرية فيما مضى، حتى صادرَت حكومةُ ناصر معظمَها وأعادت توزيعه. وعلى الرغم من أن الأسرة أصبحَت حينها أكثرَ فقرًا، كانت لا تزال تحظى بالاحترام. قال الكاهن: «في عام ۱۹٤۰، جاء جنودٌ من الحكومة ليُخبروا العمدة أنه يتعيَّن عليه معاقبةُ السكان المحليين لأنهم تخلَّفوا عن دفع ضرائبهم. لكن بدلًا من مُعاقبتهم، دفَع ضرائبهم بنفسه.» لم ينسَ أهل القرية الواقعةَ أبدًا وكانوا سُعداء باحتفاظ العائلة بلقَب العمدة؛ مع أن العائلة كانت مسيحيةً وتعيش في الغالب في مكان آخر.
أخبَرنا الكاهن وهو يُقِلُّنا بسيارته في أنحاء المدينة: «لم يعُد أحدٌ منهم يعيش هنا الآن. المنزل القديم يكاد يكون فارغًا. فالعمدة الحاليُّ طبيبُ أسنان في المدينة وشقيقتُه هي التي تسكن في المنزل. ويبيع الجيلُ الأصغر سنًّا أراضيهم.» وأضاف، وهو يُطلق بوقَ سيارته لشخصٍ تعرَّف إليه: «مشكلتنا كمجتمعٍ طائفي هي أننا نُغادر القُرى ولا نعود. فالمسلمون يرحلون للعمل لكنهم يحتفظون بمنازلِهم في القرية. لكنِ المسيحيُّون يذهبون إلى المدن من أجل التعليم العالي ويبقَوْن هناك. انتهى بي الحالُ إلى رؤية أبناء الأبرشية القدامى مرةً واحدة في السنة، في حفلات زفافٍ في القاهرة.»
كان منزل العمدة القديمُ ذو الجدران البيضاءِ يُطلُّ على فِناء صغير غير مرصوف يبعد قليلًا عن الشارع الرئيسي. وكانت كنيسة الأب يوأنس بجوار المنزل، حيث جلستُ على مقعدٍ في الجزء الخلفي من صَحْن الكنيسة بينما كان الأبُ يوأنس يتحدث إلى الأطفال المسيحيين المحليين. جلَسوا منتبهين، والفتياتُ مفصولاتٌ عن الفتيان، عندما كان يُخبرهم عن الرهبان في واحدٍ من أقدم الأديرة في مصر، الذين كانوا مقدَّسين للغاية لدرجة أنهم كانوا يستطيعون الطيَران. وكان يُوجِّه الأطفالَ بشأن كيفية التصرف في الكنيسة. فقال: «ينبغي أن تعلموا أن هذا مكانٌ مقدَّس. فعندما تأتون إلى هنا، تُراقبكم الملائكة. لذا تصرَّفوا باحترام!»
لم يسبق أن شهدَت القرية عنفًا طائفيًّا، واتضح لي أحدُ الأسباب وراء ذلك عندما اصطحبَني الأبُ يوأنس لرؤية صديقه الشيخ حسن، الذي كان يعمل مأذونًا — وهو منصبٌ ذو سُلطةٍ دينية واجتماعية. أوقف الكاهنُ سيارته المتهالكة في ممرِّ منزلٍ كبير حسَنِ التجهيز بجوار سيارة سيدان باهظة الثمن. خرجَت زوجة المالك وحيَّت الكاهنَ بحرارة، ثم أدخلَتنا إلى حجرةٍ صغيرة تُشبه الصوبة الزجاجية. كان المأذون شخصيةً تتمتع بنفوذٍ في القرية: واحترامًا له، أُطلِق عليه لقَب شيخ. وعلى عكس العمدة، كان موجودًا بكثرةٍ في الحياة اليومية للقرية. وكان يحبُّ الأب يوأنس وقد ساعده بطرقٍ مختلفة، كان آخِرَها حمايةُ الكنيسة من عصابةٍ من المجرمين الذين كانوا قد أتَوا لينهَبوها، مستغلِّين انهيارَ القانون والنظام الذي أعقب سقوطَ حكومة مبارك.
وكانت العلاقة الطيبة بين الكاهن المسيحي والمسئول المسلم بالغةَ الأهمية للحفاظ على السلام في القرية. ومع تفشِّي الفقر في الطبقات المسيحية العُليا بسبب الإصلاح الزراعي الذي فرَضه عبد الناصر، ثم رحيلِهم إلى المدن؛ كانت الكنيسةُ القبطية هي المؤسَّسةَ الوحيدة التي يُمكنها التوسطُ نيابةً عن مجتمعهم الطائفي في بلدٍ فيه للقوة والسلطة شأنٌ أكبر من الحقوق القانونية والعدالة. وبالنظر إلى روح دعابةِ الأب يوأنس، وبَساطة حياته، وتواصُله مع شعبه؛ وجدتُ أنه من السهل فَهمُ سبب ثقة الناس به. لكن كلما استثمَر الناسُ في المؤسسات الدينية لتمثيلهم، قلَّ استثمار وقتِهم وأموالهم في المؤسسات الأخرى — الأحزاب السياسية، أو النقابات العمالية، أو الهيئات الاجتماعية العلمانية — المشتركة بين الناس من مختلِف الأديان. وفي الوقت ذاتِه، فضَّلَت الشرطة عدمَ التدخل في النزاعات، حتى العنيفة منها، إذا كان ذلك سيُفقدها شعبيَّتَها. لذلك إذا تمكَّن الزعماء الدينيون من التوسط لتحقيقِ السلام بين المسلمين والمسيحيين؛ يمكن تجنبُ الفتنة الدينية. خلاف ذلك، لم تكن المجتمعات المحليةُ تملك تقريبًا ما من شأنه أن يحول دون تصاعُدِ الأحداث إلى إراقةٍ للدماء.
لاحقًا قال جورج عندما انطلقنا مرةً أخرى في سيارة الأب يوأنس الصغيرة: «نحن في الصعيد تهتاجُ مشاعرنا بسرعة. فالناس يمكن أن يتحوَّلوا من الودِّ إلى العنف خلالَ دقيقة. ولا يتطلب الأمر سِوى شيءٍ صغير لإحداث الفرق.» أعطى الأبُ يوأنس مثالًا لحادثةٍ وقعَت في قرية مجاورة قبل عام أو نحوِ ذلك. حيث زوَّج مسيحيَّان مَحليان ابنتَهما لرجلٍ قبطي مناسب، لكن دون عِلمهما وقعَت في حب رجلٍ مسلم وكانت على علاقة به. وتعاطى كلاهما المخدرات. وأثناء عدم وجود الوالدَين، كانت الابنةُ تستخدم منزلهما للقاءِ عشيقها. وفي إحدى الأمسيات، عاد الوالدان على غيرِ المتوقَّع ووجَدا ابنتهما في السرير مع حبيبها، وكانا في حالةِ ذهول. لم تتردَّد الأم، وخنقَتْهما.
وأمضَت تلك الليلةَ في المطبخ، وهي تقطع جثة القتيل وتضعها في كيسٍ بلاستيكي. وطلبَت من زوجها التخلُّصَ منه في مكانٍ ما في الصحراء. فاختار موقعًا سيئًا، حيث ألقى به في منطقةٍ تبيَّن أنها موقعٌ أثري. ولوحظَت أضواءُ سيارته وجاء الحراس للتحقق من الأمر. وهرب، ولكن عُثِر على الحقيبة واكتُشِفَت محتوياتُها المروعة.
عرَف الوالدان المذنبان أنه لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يتم التعرف عليهما. فقد كانت أسرةُ القتيل تبحث عنه، وابنتهما كانت مختفية؛ وسرعان ما سيفهم الناس ما قد حدث. فهرَبا. وانتقمَت عائلةُ القتيل بالطريقة القديمة. فقُتِل سبعةُ أشخاصٍ من العائلة المذنِبة قبل اعتبار مسألةِ الثأر قد سُوِّيَت. قال الكاهن إنه حينها عاد الزوجان المذنبان. «وأثناء تشييع جُثمان واحدٍ من الأشخاص الذين قُتلوا، جاءت والدةُ الرجل المسلم المقتول. وقالت للزوجَين: «لو كنتما خبَّرتمونا بما فعلتما، لشَكرناكما على قتلِه. كنا سنقتلُه بأنفسِنا لو عَلِمنا بما حدث.» ولكن كان لا بد من الثأر من إهانةِ ترك جثتِه دون دفن.»
بين الحبِّ والموت علاقةٌ طويلة الأمد في مصر. فبالقرب من المنيا رأيتُ مقبرة إيزادورا، ابنةِ كاهنٍ وثني كان يعيش تحت حكم البطالمة، وماتت عندما سبَحَت عبر النيل لتُقابل سرًّا بالليل عشيقَها الذي كان والدها قد منعَها من رؤيته. أصبحَت المقبرة مزارًا للعشَّاق الشباب. لكنهم يُواجهون اليوم عقَبات أكبر؛ فعلاقات الحب بين المسيحيين والمسلمين هي من الأسباب الشائعة للعُنف بين الجماعتين. وفي كثيرٍ من الأحيان لا يملك المصريون حريةَ اختيار مَن يتزوجون، ووَفقًا للإسلام والقانون المصري، فإن الزواج ليس علاقةً تتَّسم بالمساواة. فلا يسمح الإسلامُ للرجل المسيحي بالزواج من مسلمة، وفي القانون المصري، يعتنق أطفالُ الزوجين ديانةَ أبيهم وليس ديانةَ أمهم. لذا فإن النساءَ المسيحيات اللائي يتزوَّجن من رجالٍ مسلمين لن يكون بمقدورهنَّ تربيةُ أطفالهن باعتبارهم مسيحيِّين. ومعظم اللائي يتزوَّجن مسلمين تنبِذُهن عائلاتُهن؛ وتعتنق كثيراتٌ الإسلام. قدَّر أسقفٌّ قبطي في عام ۲۰۰٧ أنَّ هناك ما بين خمسةِ آلاف وعشَرة آلاف قبطي يعتنقون الإسلام سنويًّا، وعلَّق الكهنةُ الأقباط بشكلٍ منفصل بأن الغالبية العُظمى من هؤلاء المعتنقين الجدُد من الفتيات دون سنِّ الخامسة والعشرين. والخوف من فقدان بناتهم أمام الخاطِبين المسلمين سببٌ آخَر للأقباط لبناء شبَكاتٍ اجتماعية لا تتخطَّى حاجزَ التقسيم الديني.
اعتنق آخَرون الإسلام بسبب رفضِ الكنيسة القبطية شبهِ التام للطلاق؛ حيث شدَّد البابا شنودة القواعدَ حتى أصبح الزنى الأساسَ الوحيد لإنهاء الزواج. وعلى الأقباط الذين يريدون ترك أزواجهنَّ أو زوجاتهم لأيِّ سبب آخَر أن يتركوا الكنيسةَ أولًا. لذا ينضمُّ البعض إلى طائفةٍ مسيحية أخرى، ويعتنق آخَرون الإسلام. ويُحاول بعض المنتمين إلى هذه المجموعة الأخيرة بعد ذلك العودةَ إلى الكنيسة القبطية، لكنهم بفِعل ذلك يُخاطرون بإشعال فتيلِ الصراع؛ لأنه لا بد، وَفقًا للشريعة الإسلامية، من قتلِ المرتدِّ عن الإسلام. في مِثل هذه النزاعات، يُصبح الدينُ وسيلةً للأزواج أو الزوجات لحشدِ مجتمعٍ أوسعَ نطاقًا إلى جانبهم. على سبيل المثال، وقَعَت عبير فخري، وهي قبطيةٌ تعيش في المنيا، في حب رجل مسلم وتركَت زوجها من أجله في عام ۲۰۱۱. تعقَّبَتها عائلتُها واحتجزَتها الكنيسةُ القبطية التي حاولت إقناعها بالعودة إلى زوجها. ولكن تردَّدَت شائعاتٌ بأنها قد اعتنقت الإسلامَ بالفعل (وهي شائعةٌ أكَّدَتها هي شخصيًّا لاحقًا)، ومِن ثَم أثار احتجازُها أعمالَ شَغْب وإحراقًا للكنائس على يدِ إسلاميين أصوليين وتبادُلًا لإطلاق النار تسبَّب في مقتل اثنَي عشر شخصًا. وفي أطفيح، إحدى ضواحي القاهرة الكبرى، أشعَلَت علاقةُ حبٍّ بين رجل قبطي وفتاةٍ مسلمة أعمالَ شَغْب أُحرقت فيها أيضًا كنيسة.
قد تؤدي عواملُ خارجية أيضًا إلى نُشوب الصراع. فقبل بضعةِ أشهر، قال الأب يوأنس إن محطةً تلفزيونية يُديرها مِن قبرص قسٌّ قبطي يُدعى زكريا بطرس اشتهرَت بهجومها على الإسلام. وفي ذروة أفعالها الشائنةِ في مصر، واجَهَ الكهنةُ الأقباط عَداءً غير عاديٍّ من المسلمين المحليين. على سبيل المثال، بصَقَت مجموعةٌ من النساء المسلمات على يوأنس. وقال: «الناس الذين يبثُّون كراهيةَ الإسلام، ويسبُّون القرآن، ويحرقون المصاحف، كلُّ هذا له عواقبُ وخيمة ومريرة للغاية علينا.»
•••
سألت الأبَ يوأنس عمَّا إذا كان الأقباطُ قد سبق لهم العيشُ في قُرًى قبطيةٍ بالكامل. أجاب بأنه أمرٌ غير معتاد لأن قلةً من المسيحيين في مصر يُمارسون الزراعة. ومع ذلك، كانت قريتان يعرفهما قبطيتَين بالكامل، ووافق على اصطحابِنا إلى إحداهما، وهي دير الجرنوس. كان جورج مرتابًا بعضَ الشيء. وقال إن سكان دير الجرنوس «صِعاب المِراس». وأضاف: «لا يستطيع أحدٌ أن يُسبب لهم أيَّ مشاكل. في الواقع، كل القرى المجاورة تخشاهم. وعندما يحتشدون ويخرجون من قريتهم، يهرب الجميع.» لكن الأب يوأنس كان يعرف كيفيةَ التعامل معهم. وأثناء دخوله بالسيارة إلى القرية، أنزل زجاج النافذة وألقى المجاملاتِ على كل رجل، وامرأة، وطفلٍ رآه: «كيف حالك يا حُلوَتي؟ كم أنتِ جميلة!» كان أسلوبُه مُبالَغًا فيه؛ وربما أراد أن يتأكدَ من أن الناس سوف ينظرون إليه ويرَون لباسَه الكهنوتي والصليب معلقًا من مِرآة الرؤية الخلفية. فرؤيةُ سياراتٍ تحمل الغرباء لم يكن أمرًا مألوفًا في هذا المكان.
ولم يكن للدولة وجودٌ داخل البلدة. وفي هذا الشأن، كانت دير الجرنوس المعادِلَ المسيحيَّ لبلدات جنوب مصر المسلِمة المسلَّحة التي لا تجرؤ الشرطةُ مطلقًا على دخولها. ومثلما يمكن لتلك البلدات (وأحيانًا ضَواحٍ بالقاهرة) أن تفرض قواعدَها الخاصة دون إبداءِ الكثير من الاهتمام بالقاهرة، كذلك كانت دير الجرنوس تبني كنيسةً ضخمة تجعل المنازلَ المتواضعة المحتشدة حولها تبدو أصغرَ حجمًا. وعلى سطح الكنيسة، كان رجالٌ يرتدون جلابيبَ رمادية يبنون قِبابًا وأبراجًا لجعلِها تبدو أعلى في الأفق. صعدنا لمقابلتهم، وسألهم الأبُ يوأنس من أيِّ مدينة هم. قالوا: أسيوط، وهي مدينة على بُعد ساعةٍ أخرى أو نحوِ ذلك جنوبًا. قال: «آه، أسيوط. أحسن ناس.» نزلنا إلى الأسفل مرةً أخرى وعايَنَّا الكنيسةَ الحجرية القديمة المجاورة. وسحب أحدُ القرويين الغِطاء الخشبي عن بئرٍ داخل باب الكنيسة وأنزل كوبًا مَعدِنيًّا بحبلٍ في الماء بالأسفل. ودعاني للشرب. قال إنها بئرٌ مقدَّسة؛ فعندما جاء يسوع إلى مصر وهو طفل، شرِبَت منها أسرتُه. رفع الكأس لأعلى وارتشفتُ الماء البارد.
•••
في اليوم التالي، جاء جورج معي عندما ذهبتُ لمقابلة مجموعةٍ كاملة من الكهنة الأقباط، بإذنٍ من الأب يوأنس الذي جاء أيضًا. التقينا في قريةٍ ليست بعيدةً عن المنيا، في منزلٍ مُلحَق بكنيسة القرية. كان مُضيفنا رجلًا ذا لحيةٍ سوداء يُدعى الأب موسى، وجلس معنا أيضًا صديقٌ له يُدعى يونس. قال يونس مُعلقًا: «يعامِل الجيلُ الأكبر المسيحيِّين مثلَ إخوتهم. فمعظم أصدقائي مُسلمون. يأتون إلى أعيادنا ويُصلُّون في الكنيسة. يوجد هنا كاهنٌ يُخرِج الشياطين؛ وهو يحظى بشعبيةٍ كبيرة بين المسلمين وكذلك المسيحيِّين. ولكن بعد ذلك يأتي السلفيُّون من الجامعات. إن السلفيين والإخوانَ المسلمين هم مَن يُسيئون معاملةَ المسيحيين. يقولون للمسلمين ألَّا يُحيُّوا المسيحيين في الشارع. والجيل الجديد، أولئك الذين تتراوحُ أعمارهم بين الثمانيةَ عشْرة والسبعةِ وعشرين عامًا، هم جيلٌ سيئ. كان لديهم مُعلِّمون سيِّئون للغاية. بدأ الأمرُ مع السادات.» وأضاف أنه ظهَر تقليدٌ جديد يقضي بأن يضرب الأولادُ المسلمون المسيحيين في اليوم الأخير من الفصل الدراسي. قال يونس: «لا يبدو أن المُعلمين يُشجعون هذا الأمر، على حدِّ عِلمنا. فقد اعتاد الجنودُ على الذَّهاب إلى المدرسة لمنع ذلك، ولكن لا يمكنهم الوجود في كل مكان. وبعد سقوط الحكومة، لم تعُد توجد قواعدُ على الإطلاق. فهم لا يخافون الجنود، ولا يخافون الحراس، ولا يخافون الله.»
وافق موسى على أن التعليمَ هو المشكلة. فقد خدَم في الجيش، منذ ثلاثةِ عقود أو نحوِ ذلك، جنبًا إلى جنب مع رجلٍ من شمال مصر. وغالبًا ما يذهب المسلمون والمسيحيون إلى المدارس معًا، في مدارس حكومية (توجد مدارس يُديرها المسيحيُّون أنشأها مُبشِّرون غربيُّون في القرن التاسعَ عشَر، لكنها تفوق قدرةَ الأقباط الأفقرِ على تحمُّل تكاليفها؛ فهي تُلبي احتياجاتِ الأقباط والمسلمين من الطبقة فوق المتوسطة). ولأن المسيحيين على مرِّ التاريخ كانوا في أغلب الأحوال يعيشون في الجنوب، فإن هذا الرجل الشماليَّ لم يكن قد التقى أحدًا منهم من قبل. وعندما رأى الصليبَ الذي كان يرتديه موسى، ابتعد عنه في خوف. وسأل موسى: «ما هذا الصليب؟» وأضاف: «لقد تعلَّمتُ أنه رمزٌ شيطاني.» وفي استطلاعٍ للرأي أجراه مركزُ بيو للأبحاث بين عامَي ۲۰۱۱ و۲۰۱۲، قال اثنان وعِشرون بالمائة فقط من المسلمين المصريين إنهم يعرفون أيَّ شيء عن المعتقدات أو الممارسات المسيحية — فالمناهجُ الدراسية لا تُقدم فَهمًا كافيًا لأديانٍ أخرى غير الإسلام — ويعتقد ستةٌ وتسعون بالمائة أن المسيحيِّين سيذهبون إلى النار.
ورغم قصصِهم، فإنَّ هذه المجموعة من الأقباط ما زالت تتمتَّع بحبٍّ كبير تجاهَ بلدها. كانت ابنة موسى البالغةُ من العمر تسع سنوات جالسةً في زاويةٍ من الغرفة، تكتب على ورقة، وعندما نظرتُ إلى ما كتبَتْه، وجدتُ أنها كتبَت باللغة الإنجليزية، بأقلامٍ مختلفةِ الألوان، ما يلي: «مصر هي أمي. مصر هي دمي. أحبُّكِ يا مصر.» قلتُ لجورج أثناء رحلة عودتنا إلى المنيا للمرة الأخيرة إنه، مع ذلك، كان الأقباط يرحلون عن مصر. قال جورج: «سيرحل الجميعُ إذا سنَحَت لهم الفرصة. والمسلمون أفضلُ حظًّا بقليلٍ من المسيحيين لأنهم يستطيعون العملَ في المملكة العربية السعودية. والأمنُ يُمثل مشكلةً خاصة للمسيحيين، لكنه سيئٌ على الجميع. فلَديَّ مسكنٌ جيد وعمل جيد، لكنني مستعدٌّ أن أتخلى عنهما غدًا للذَّهاب إلى أمريكا والعملِ في مطعم، إذا كان هذا سيوفِّر لابني مستقبلًا جيدًا آمنًا.» الهجرة إلى الغرب هي السبيلُ المفضَّل للأقباط للخروج من مصر. يوجد في الولايات المتحدة أكثرُ من مائتي كنيسةٍ قبطية وما يُقدَّر بثلاثة أرباع مليون قبطي.
في اليوم التالي ركبتُ القطار البطيء عائدًا إلى القاهرة. كان ثمة شيءٌ آخرُ يجب أن أفعله قبل مغادرة مصر. ركبتُ مترو المدينة وعدتُ إلى كنيسة سانت تريزا، بعد أربعةَ عشر عامًا من زيارتي الأخيرة. وصلتُ أثناء إقامة قدَّاس. كان الأب بولس هناك يتلو القدَّاس، وكان رجلان أعرفُهما، أشرف ومجدي، يقومان بدور الشَّماسين؛ يضربان بالصنوج في أقدسِ اللحظات، تمامًا كما كان يفعل أسلافُهما لآلاف السنين. لحقتُ بالثلاثة بعد القدَّاس وهم يتَّجهون نحو بيت الكاهن. انحنى ظهرُ الأب بول انحناءةً طفيفة، وكسا الشَّيبُ شعرَ أشرف، لكنهم تذكَّروني. سألت: أين سميح؟ قالوا إنه ذهب إلى أمريكا للدراسة، وانتهى به الأمر بالبقاء هناك. وماذا حدَث لماجي؟ تزوَّجَت رجلًا فرنسيًّا وذهبَت إلى باريس. وأين وائل؟ كان قد تبع حُلمه في أن يصبح عارضَ أزياء في بيروت. قلتُ في نفسي إن الأقباط لم يكونوا هم مَن سيَخسر من كل هذا التدفُّق للمواهب للخارج؛ وإنما كان الخاسر هو مصر.
عدتُ إلى الكنيسة. كان توجد امرأةٌ ترتدي نقابًا إسلاميًّا أسود، لا يظهر منه سوى عينَيها فقط، وانتظرَت انتهاءَ القداس قبل أن تتقدم من مقعدها في الخلف. وأشعلَت إحدى الشموع الرفيعة التي كانت موضوعةً في صينية من الرمل بجانب عمود، ثم نزلَت ببطء على الدرجات التي كانت تؤدي إلى غرفة الدفن الموجودةِ تحت الأرض. تبعتُها لأودِّع القديسة التي يرقد تمثالُها هناك. وبينما كنا نقف أمامه، انحنَت المرأة المسلمة ولمست جانب القديسة تريزا.